الفهم الجديد للوحي في الإسلام الهندي١
(١) مدرستا الإسلام الهندي
إسلام تعدُّدي وإسلام أُحادي
تمرَّست الأديانُ في الهند في قبول المختلف في المعتقَد، بعد أن تخلَّصت منذ مدة طويلة من حروبها وصراعاتها؛ لذلك أصبحت أكثرَ خبرة في العيش المشترك، لا يُقصي بعضُها بعضَها الآخر في أكثر مراحل التاريخ. هناك ميراثٌ روحيٌّ ورمزيٌّ في هذه الجغرافيا الدينية، لا تنابذ وتضادَّ في معظم الأزمان، تلك ميزةُ الفضاء الميتافيزيقي والثقافي الهندي، الحافل بالتعدُّد. هناك تفاعلٌ وتأثيرٌ وتأثرٌ متبادَل متواصل بين ثقافات الإثنيات والأديان في الهند، حتى إن الرُّموزَ والشعائرَ في هذه الأديان تتوارث وتتناغم فيما بينها، وتتخاطب بلغةٍ رمزيةٍ تنتمي إلى جغرافيا يتناغم إيقاع الأرواح فيها.
وذلك ما تفتقر إليه السياقاتُ الدينية والثقافية في الجزيرة العربية وتضاريسها الصحراوية القاحلة؛ لذلك ظلَّ الفضاء الديني فيها يمثِّل البيئةَ الأمثل لنموِّ وترعرعِ التيار السلفي، الذي كان وما زال فقيرًا ميتافيزيقيًّا، كافتقار الصحراء وطبيعتها وتضاريسها لتنوُّع الكائنات والبشر والأديان والثقافات، ولبث الأشد حرفية في تفسيرِه للنصوص، والأكثر تبسيطًا في فهمِه للدين؛ لذلك توالدت فيه مقولاتُ وآراءُ وفتاوى لا تنتمي للواقع البالغ التعقيد والتركيب الذي يعيشه المسلمُ، ولا تحكي متطلَّباتِ حياته، ليس لأنَّها لا تستجيب لها، بل لأنَّها على الضدِّ منها.
غالبًا ما أخفق أكثرُ علم الكلام الذي نشأ متأخِّرًا عن عصرِ الوحي في تمثُّل روح الوحي، وطالما مكث أسيرًا للفهم التبسيطيِّ للنُّصوص الدينية، وعجز عن أن يرتقي بتأويلِ تلك النُّصوص، واستبصارِ آفاقها، واكتشاف لغة القلب والروح فيها، عبر التوغُّل في أعماقها، وما يمكن أن تضيفه من دلالاتٍ جديدة، تبعًا لما يستجدُّ من مقتضياتِ العُمران، واختلافِ وتنوُّع أنماطِ عيشِ الإنسان، والتحوُّلِ في رؤيته للعالَم.
هذا تيارٌ تعدُّدي في الإسلام الهندي، يتفهَّم تنوُّعَ المعتقدات والمقدَّسات والطقوس بتنوع الأديان، ولا يستهجنها، ويتقبل بروحٍ إيجابيَّة الاختلافَ في الفضاء الديني، ويتعايش مع مختلف التجارب الدينية؛ لذلك لا تستفزُّه المقدَّساتُ والطقوسُ المختلفةُ للهندوسية وغيرِها من الأديان المتنوِّعة في الهند.
وتيارٌ آخر أُحادي في الإسلام الهندي، غيرُ متفاعلٍ مع الفضاء الديني المتنوع، ولا يتقبل بروحٍ إيجابية تنوعَ المعتقدات والمقدَّسات والطقوس بتنوع الأديان، ولا يتفهَّم تعددَ التجارب الدينية. تيارٌ شديدُ الوفاء للرؤيةِ الكلامية ولأحكامِ المدوَّنة الفقهية. تسلَّطت على ذهنية تيار الإسلام الأُحادي مدرسةُ الحديث، فاضمحلَّ حضورُ العقل في تفكيره، وصار لا يفهم النصوصَ إلا فهمًا حرفيًّا. لذلك لا يطيق التعايشَ مع المُختلِف دينيًّا وثقافيًّا، ويتشبَّث بآراءِ المتكلِّمين وفتاوى الفقهاء في مواقفه من المعتقَدات والمقدَّسات والطقوس المختلفة للهندوسية وغيرِها من الأديان في الهند. اهتمَّ هذا التيارُ بإقصاء الاجتهادات التي لا تنسجم مع رؤيته لولي الله الدهلوي، وانتقاء بعض مقولاته ومفاهيمه، وإعادة إنتاج فهمها في سياق غريب عن منظومته الفكرية الكلية.
مدرسةُ «وليِّ الله الدهلوي – أحمد خان – محمد إقبال – فضل الرحمن» تنتمي للتيار التعدُّدي في الإسلام الهندي؛ لذلك كانت الأقلَّ حضورًا في التفكير الديني في المجال العربي؛ لأنَّ نمطَ فهم الجماعات الدينية ومنهجَها الحرفي في تفسير القرآن، واسعُ الانتشار وبالغ التأثير في التديُّن السلفي، لا يستسيغ منطقَ التفكير العقلاني المركَّب في فهم الدين، ولا يتذوق النكهةَ العرفانيةَ، ولا يتفاعل مع الرَّائي الذي يعرف أسرارَ الروح، ويفقه لغةَ القلوب، ويستفزُّ عقلَه الحديثي الحرفي تأويلُ النصوص، أو أيُّ اجتهاد في الاعتقاد. ذلك ما تسبَّب بنفور الجماعات الدينية العربية من اللغةِ التي تتحدَّثها أعمالُ هذه المدرسة في التفكير الديني الحديث في الهند؛ فمثلًا لم يُعرف محمد إقبال لدى أكثر قرَّاء العربية مُجدِّدًا، بل يعرفونه شاعرًا. ولم أجد إحالةً لكتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلام» في أدبيَّات الجماعات الدينية، وظلَّ هذا الكتابُ مُهمَلًا سنواتٍ طويلة، على الرغم من أنه تُرجم ونُشر بالعربية قبل أكثر من نصف قرن.
أبو الأعلى المودودي
استعارتِ الجماعاتُ الدينيةُ في بلادنا العربية من الإسلام الهندي ما هو أكثرُ وفاءً للرؤيةِ المغلقة لأهل الحديث، وما يتكلَّم لغتَها ويفكِّر بطريقتها، وما ينشد استئنافَ دولةٍ ما قبل الدولة الوطنية الحديثة التي تحلُم بها. استعارت كتاباتِ التيار الأُحادي في هذا الإسلام، الذي أنتجه منهجُ تفكير ورؤية مدرسة «دار العلوم بديوبند»، و«ندوة العلماء في لكنهو»، والأخيرة كان أكثر رجالها ممن درسوا على شيوخ دار العلوم بديوبند، ولبث أبو الحسن الندوي رئيسًا لندوة العلماء سنين طويلة.
لم يبتعد تفكيرُ أبي الأعلى المودودي عن منهج دار العلوم وندوة العلماء ورؤيتهما. وإن طغى حضورُه على حضورِهما وتأثيره على تأثيرهما المباشر وغير المباشر على الجماعاتِ الدينيةِ في بلادنا العربية. كثَّفَ المودوديُّ كتاباتِه وأحاديثَه وجهوده لتفسير آيات القرآن الكريم تفسيرًا سياسيًّا، وكرَّس حياتَه من أجل استئناف دولة تتأسَّس على التراث الكلامي والفقهي. كان المودودي الأعمق أثرًا في أدبيات الجماعات الدينية العربية، وإن كان لا يظهر أثرُ مفاهيمه بوضوح، بنحوٍ صارت مفاهيمُه إحدى البنى الأساسية لهذه الأدبيات. تبنَّت أدبياتُ هذه الجماعات مفاهيمَه، فكانت تشبه منطقَ التفكير المتسلِّط على ذهنية مؤسِّسي هذه الجماعات ومنظِّريها، وتحاكي اللغةَ التي تتحدَّثها أدبياتُها، وتغويها شعاراتُ استعادةِ نموذج الدولة الذي ينتمي إلى مرحلةِ ما قبل الدولة الوطنية الحديثة، كما نلحظ ذلك بوضوح في كتاباتِ سيد قطب، وغرامِه بنموذج دولة متخيَّلة لا تشبه أية دولة حديثة، ومقتِه للفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع، ولمشروع الدولة الوطنية الحديثة ودساتيرها ونظمها وقوانينها، بعد أن تشبَّع ذهنُه بقراءة المودودي السياسية للتوحيد، وغرق تفكيرُه بالتفسير السياسي الذي اخترعه المودودي للمصطلحات الأربعة في القرآن الكريم: «الإله»، و«الرَّب»، و«العبادة»، و«الدين»، فاشتق منها أفكاره الأساسية، وارتكز إليها كمفاهيم مفتاحية لتفسيره للقرآن، بحيث صار سيد قطب لا يفكِّر إلا في آفاق رؤية المودودي، وتسرب تفسير سيد قطب إلى معظم أدبيات الجماعات الدينية في عالَم الإسلام سُنِّية وشيعية.
كتبَ أبو الأعلى المودودي رسالة «المصطلحات الأربعة في القرآن»، ونشرها على شكل مقالات متسلسلة في مجلة «تُرجمان القرآن»، الصادرة في باكستان العام ١٩٤٧م، ثم جُمِعت هذه المقالاتُ وطُبِعت في كرَّاسٍ. تُلخِّص هذه المصطلحاتُ قراءةَ المودودي السياسية لعقيدة التوحيد، وكيف فرضت هذه القراءةُ فهمًا لا يرى في التوحيد شيئًا خارج الدولة المتخيَّلة في ذهنه، وتسرَّبت رؤيتُه لأدبيات الجماعات الدينية بمختلف مذاهبها وتسمياتها. أعاد المودودي إنتاج دلالات مصطلحات «الإله، والرب، والدين، والعبادة» سياسيًّا خارج سياقها القرآني، وفرَّغها من مدلولها الميتافيزيقيِّ والقيمي، وفسَّرها في ضوء أحلامِه بتأسيس دولة تنبثق من تأويله لهذه المصطلحات، ويعتمد دستورُها ونظمُها وقوانينُها المتنوعة على التراث. أخرج تلك المصطلحات القرآنية من دلالاتها الميتافيزيقية والقيمية، وأسقط عليها ما يريد أن يراه فيها من دلالات، تنفي أيَّ حقٍّ للبشر في بناء دولة حديثة على أساس الفكر السياسي ومكاسبه الكبيرة في العالَم الحديث، وما صنعتْه تجاربُ الإنسان المتراكمة منذ آلاف السنين في بناء أنماطٍ متعدِّدة للدول.
ذهب المودودي إلى أنَّ إنشاءَ الإنسان لدولةٍ في الأرض من دون العودة إلى الله وبتفويض منه، وبلا وضعه هو تعالى لخرائط السلطة والحكومة والدولة، ضربٌ من الشرك والعدوان على الله. يفتعل المودودي، بسبب فهمه السياسي للتوحيد، مغالطةَ تضادٍّ بين حاكمية الله وحاكمية الإنسان، فيعدُّ ذلك عدوانًا على الربوبيَّة. الإنسانُ كما يرى المودودي بطبيعته قاصرٌ عن اكتشاف النظام المناسب لإنشاءِ سلطةٍ وحكومةٍ ودولةٍ تضمن حقوقَه وحرياته وتؤمِّن متطلبات عيشه الكريم، وليس هناك إلا الدولة المتخيَّلة التي يحلم هو بها. الإنسانُ لا يمكنه بناءُ سلطةٍ وحكومةٍ ودولةٍ وممارسةُ السياسة من دون أن يكون ممثلًا لله ومفوضًا منه. استقى المودودي المضمونَ الاعتقادي للتوحيد من ابن تيمية، وأفرغه من مضمونه الميتافيزيقي وأشبعه برؤيته السياسية.
رأى المودودي صورةَ الله في السلطة والحكومة والدولة، ولم يرَ تجلياتِها في الوجود، واحتجب عليه حضورُها في الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية. اللهُ يحتجبُ عن كل مَن يعبثُ بصورته، أو يسقطها على البشر فيضعهم بمنزلة الله، ويقرأ كلماتِهم وكأنها كلماتُ الله، ويرى مواقفَهم وكأنها مواقفُه، وأفعالَهم وكأنها أفعالُه، وسلوكَهم وكأنه سلوكُه. اللهُ يحتجبُ عن كل مَن ينساه، اللهُ يُنسي كلَّ مَن ينساه نفسه، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ (الحشر: ١٩).
يستأنف المودوديُّ صورةَ الإله السياسي الذي اخترعه الحكَّام في وقت مبكر من نشوء الدولة في المجتمعات البشرية، لتسويغ تسلُّط الحاكم على الناس. تسيَّدت صورةُ الإله السياسي في دولة المدينة في بلاد سومر القديمة، وهو النمطُ الأسبق لظهور الدولة في التاريخ، وترسَّخت هذه الصورةُ واتَّسعت واتخذت صيغتها اللاهوتية المركَّبة في الحكم الثيوقراطي، حسب مصطلح جوزيفوس فلافيوس (٣٨–١٠٠ﻫ) في القرن الأول الميلادي، وهو حكمٌ يستمدُّ سلطته من الله، ومشروعيته من الكتاب المقدَّس. تبنَّت الكنيسةُ هذا الشكلَ للحكم في القرون الوسطي في أوروبا، وتسيَّدت الكنيسة باسم الإله السياسي، واتخذت من هذا الشكل المتجبِّر للحكم أداةً لاستعباد المجتمعات مدة طويلة.
تختبئ وراءَ صورة الإله السياسي لدى المودودي وغيره من كتَّاب الجماعات الدينية في القرن العشرين عقيدةُ الجبر وتعطيلُ فاعلية الإنسان، وسلبُ الإنسانِ حريةَ اختياره وإرادته وقدرته في الأرض. تغلَّب على تفكير المودودي وامتلك مشاعره واختصر أحلامَه ميلادُ دولة تتأسس على هوية قومية دينية تختص بالمسلمين، وذلك ما أعماه عن رؤية أية صورة لله خارج السياسة والحكم والدولة.
أهدر المودوديُّ المعنى الذي يمنحه الدينُ للحياة، وأقحم هو، ومَن سقط في شِباك قراءته للتوحيد، الإسلامَ في مأزق حضاري، عندما خلعَ على القرآن الكريم جِلبابًا أهدر الأبعادَ الميتافيزيقيةَ للتوحيد، والمعاني الروحية والأخلاقية والجمالية التي يمنحها الدينُ للحياة، ووقع في مأزق إسقاطِ قراءةٍ على القرآن بعيدة عن لغة القلب والروح والعاطفة التي يتحدَّثها. الدينُ بلا قلبٍ وبلا روحٍ وبلا عواطفَ يفتقرُ للمنابع العميقة التي تمنحُ حياةَ الإنسان معناها الوجودي، الذي تفتقده في أي منبع آخر. المودودي في قراءته للتوحيد أفرغ الدينَ من معناه، وأحالَ الإسلام إلى: دينٍ بلا روحٍ، دينٍ بلا قلبٍ، دينٍ بلا عاطفة، دينٍ بلا عقل.
وحيد الدين خان
درسَ وحيدُ الدين خان (١٩٢٥–٢٠٢١م) في جامعة الإصلاح العربية الإسلامية بالهند، وعملَ لعدة سنوات في لجنة التأليف التابعة للجماعة الإسلامية، ثم المجمع الإسلامي العلمي التابع لندوة العلماء بلكنهو. ونشر كتاباته في عدة صحف ومجلات، وأصدرَ مجلةَ «الرسالة» الشهرية، وهي مطبوعةٌ مستقلةٌ تلقَّاها القراءُ باهتمام، وتواصل صدورُها سنوات عديدة.
حاول وحيد الدين خان محاكاةَ ما بدأه محمد إقبال شكليًّا في «تجديد التفكير الديني في الإسلام»، لكن كتاب «الإسلام يتحدَّى» وكتابات وحيد الدين الأخرى أخفقتْ في تمثُّل رؤى إقبال الفلسفية الحرَّة في بناء فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. لبث وحيد الدين خان يفكِّر في إطار علم الكلام التقليدي؛ لذلك لا نقرأ في كتابه «الإسلام يتحدَّى» أو غيره من كتاباته رؤيةً اجتهادية تتخطى آفاقَ التفكير التقليدي، وترتقي به للتفكير في الأُفق الرحب لعلم الكلام الجديد. على الرغم من أن كتاب «الإسلام يتحدَّى» تُرجم إلى العربية ونُشر قبل أكثر من أربعين عامًا، إلَّا أنه لم يجد صدًى له في الدراسات الدينية حتى اليوم بالعربية.
لا ينطبق على أعمال وحيد الدين خان المعيارُ الذي ذكرناه لتحديد علم الكلام الجديد، وكيفية التعرُّف على المتكلِّم الجديد، الذي يتمثَّل في كونه يجتهد في إعادةِ بناءِ فهمٍ للوحي، بالشكل الذي لا يكرِّر فهم مؤسِّسي الفِرق، وفهم المتكلِّمين التقليدي.
كما لا يصحُّ توصيفُ وحيد الدين خان بالمتكلِّم الجديد، أو إدراج أعماله في علم الكلام الجديد، كذلك لا يصحُّ إدراج أعمال أكثر المفكرين الذين يصنَّفون خطأ لدى بعض الباحثين على الكلام الجديد، لأنها تكرِّر الفهم التقليدي للوحي، ولا تقول شيئًا مختلفًا يخرج على تكرار اجتهادات مؤسِّسي الفِرَق ومجتهديها القدماء. على الرغم من الطريق المستقل في التفكير الديني الذي سعى أن يختطَّه وحيد الدين خان إلا أنَّه وقعَ تحتَ تأثير تيار أهل الحديث الذي تفشَّى في الإسلام الهندي في القرن الأخير، وأحدث انسدادًا في التفكير الديني. حاول وحيد الدين خان في دعوته الإصلاحيَّة اعتمادَ المناهج والأدوات والمقولات التراثية ذاتها، فلبثَ كمعظم المصلحين الذين يبدءون بدعاوى وشعارات لافتة، لكنَّ تفكيرهم فيها سرعان ما يقع أسيرًا لمنطق التراث وأدواته ورؤيته للعالَم، فيظلون يدورون في حلقة مفرغة.
(٢) الإرهاصات الأولى لعلم الكلام الجديد
وليُّ الله الدهلوي: الوحيُ ثمرةُ القدرات العقلانية وعون الملاك
الفضلُ يعود للإسلام التعدُّدي الهندي في نشأة علم الكلام الجديد؛ لأنَّ مؤسِّسيه الأوائل كانوا من أبرزِ مفكِّري الإسلام في شبه القارة الهنديَّة، ثم انتقل بعد ذلك إلى إيران فاتَّسعتْ آفاقُ التجديد أفقيًّا ورأسيًّا، ثم العالَم العربي، وبدأ الاهتمامُ به أخيرًا يتمدَّدُ في كلِّ عالَم الإسلام.
اهتمَّ وليُّ الله الدهلوي بالكشف عن تعبير الشرائع عن مجتمعاتها، واصطلح على تعبير الشَّرائع عن مجتمعاتها ﺑ «الارتفاقات»، وهي تعني أنَّ شرائع النبوات تتناسب وإيقاع حياة ونمط عيش المجتمعات التي ظهرت فيها، ولا تخرج إلا بشكل محدود عن طبيعة حياتهم وظروفهم وعاداتهم وتقاليدهم. بمعنى أنَّ هناك «ارتفاقًا»، أي تناغمًا بين الشريعة وحاجات المجتمع، إذ تنسجم الشرائع مع الأحوال الاجتماعية وطبائع الأقوام؛ لذلك تختلف وتتفاوت تبعًا لاختلاف المجتمعات، وقد بحث الدهلوي هذا الموضوع بشكل موسَّع في المبحث الثالث من كتابه «حجَّة الله البالغة».
مصائرُ الأفكارِ لا تنتمي لبداياتها؛ فقد انتهتْ آراءٌ عقليَّةٌ حرَّة إلى مصير مريع، بعد أن أمستْ مغلقةً مفرَّغةً من أيَّة بصمة للعقل. هذا هو المآلُ الذي انتهى إليه ميراثُ وليِّ الله الدهلوي في شبه القارة الهندية؛ فقد استحوذ عليه وشوَّهَهُ تيارُ أهل الحديث السلفي المناهضُ لكلِّ أشكال التفكير العقلي، والذي رفض حتى علم الكلام. آراءُ الدهلوي كانت مُلهِمةً لجماعة من مفكِّري الإسلام في الهند لاحقًا مثل أحمد خان، ومحمد إقبال، وفضل الرحمن، على اختلافٍ بينهم في بيانِ مفهومِهم للوحي وحقيقتِه ومدياتِه، وإن كانوا يتَّفقون على الدور الفاعل للنبي الكريم ﷺ في الوحي.
ومثلما كان الإسلامُ التعدُّدي الهندي سبَّاقًا في تجديد علم الكلام والخروج على علم الكلام التقليدي، كان الإسلامُ الأُحاديُّ الهندي حريصًا على استئناف التراث كما هو، وبعث مقولاته المناهضة لبناء دولة حديثة نصابها المواطنة، والتشديد على الدعوة لدولةِ ما قبل الدولة الوطنية الحديثة، تستنسخ نموذجَ دولةِ ما قبل الدَّولة في العصر الحديث، وتعلن مناهضة ما يمثِّل الدولة الحديثة من دساتير ونظم وقوانين وحريات وحقوق. وذلك ما شدَّدَت عليه كتاباتُ أبي الأعلى المودودي، التي أضحت ملهمةً لأدبيات الجماعات الدينية في العالَم العربي.
سيد أحمد خان: الوحي هو العقل الإلهيُّ في النفس
ظهرت الإرهاصاتُ الأولى لعلمِ الكلام الجديد في الهند في العصر الحديث في القرن التاسع عشر مع سيد أحمد خان (١٨١٧–١٨٩٨م) الذي رأى ضرورةَ إعادة بناء نظام التربية والتعليم للمسلمين في الهند في إطارٍ يتَّسع لاستيعاب العلوم والمعارف الحديثة. تنبَّه لذلك بعد أن اكتشف النظامَ التعليمي الجديد في جامعتَي «أكسفورد» و«كمبردج» في بريطانيا، فأسَّس «دارَ العلوم الشرقية الكبرى» سنة ١٨٧٢م في مدينة «عليكره»، وفي سنتِها الأولى لم ينخرط فيها إلا عددٌ قليل من التلامذة، ثم تحوَّلت إلى «الكلية الشرقية الأنجلوإسلامية» سنة ١٨٧٥م فأقبل على الدراسة فيها كثيرون، وخصَّصَها لتعليم المسلمين العلوم والمعارف الحديثة، واستعان بأساتذةٍ أوروبيين لأداء هذه المهمة، ثم تطوَّرت هذه الكليةُ لاحقًا إلى جامعة عليكره سنة ١٩٢٠م.
لم يفتقر أحمد خان للتكوين والإمكانات اللازمة للقيام بهذه المهمة؛ فقد تعلَّم تعليمًا دينيًّا جادًّا على أيدي الشيوخ في الهند، واكتسب خبرةً واسعةً في العلوم والمعارف الحديثة، كان شجاعًا في الإعلان عن مواقفه الصَّادمة، التي تَمَايَزَت عن مواقفِ كلِّ مُعَاصِريه من المفكِّرين ورجال الدِّين المسلمين في الهند؛ فهو أولُ مفكِّرٍ مسلمٍ في العصر الحديث يتبنَّى تفسيرًا مختلفًا للوحي يخرج فيه على المفهوم المتوارَث للمتكلِّمين.
كان أحمد خان يرفض التمسُّكَ بالإجماع بوصفه دليلًا في الشريعة، ويشدِّد على مرجعيَّة العقل. وعلى الرغم من حماسه للإسلام، لكنه كان يرفض القولَ، الذي صار شعارًا للمصلحين في عصره، والذي يتمثَّل في ضرورة العودة لإحياء معارف التراث وعلومه؛ لأنَّ معاصريه يرون أن لا سبيل لنهوض الأمَّة اليوم إلا بما كان سببًا لنهوضها أمس، وإحياء معارف التُّراث وعلومه يتكفَّل الاستجابةَ لمتطلَّبات المسلم اليوم، ويتضمَّن الحلولَ لمشكلات العصر.
لم يُقلِّد أحمد خان آراءَ متكلِّمي الإسلام؛ لذلك قدَّم اجتهادًا مختلفًا لعقائد ومقولات كلاميَّة أساسية. ذهب أحمد خان إلى تاريخيَّة أكثر أحكام الشريعة، بوصفها أحكامًا مرحليَّة تعبِّر عن عصر البعثة. وكانت له رؤيتُه الخاصَّةُ في تفسير القرآن، فأعاد النظرَ في فهم آيات الأحكام، وأثارت آراؤه الكثيرَ من ردود الأفعال الصادمة، خاصَّة رأيه في حكم الجهاد في القرآن، الذي يقول بمرحليته وتعبيره عن حاجة الدعوة عصر البعثة.
لم ينشغل بالدعوة لاتِّحاد المسلمين تحت رايةِ خلافةٍ جامعة، بل كتب رسائلَ يذمُّ فيها الخلافةَ العثمانية ويرفضها، في الوقت الذي كان شبلي النعماني وسيد أمير علي (١٨٤٩–١٩٢٨م) في الهند يدافعان عن اتحاد المسلمين وهذه الخلافة.
أشاعتْ آراءُ أحمد خان واجتهاداتُه في إعادة فهم المقولات الكلامية عاصفةً من الجَدَل والمناظرات، أيقظتِ التفكيرَ الكلامي السَّاكن، وأقحمتِ العقلَ المسلمَ في شبه القارة الهندية في فضاءٍ يموج بأسئلة وجدالات مختلفة، لم يألفْها هذا العقلُ الذي كان يتلقَّى اجتهاداتِ مؤسِّسي الفِرق وعلماء الكلام بوصفها اجتهاداتٍ أبديَّةً.
أحمد خان، أوَّلُ متكلِّم مسلم في العصر الحديث، لم يخرج على علم الكلام القديم برأيه في الوحي فحسب، بل خرج بآراءٍ عديدة في العقيدة، وأبواب متنوِّعة في الشريعة، واتَّخذ موقفًا صارمًا حيال الحديث، رفض فيه توثيقَ أية سلسلة لروايته. ومع إيمانه بختم النبي محمد ﷺ للنبوة، لكن نسبَ إليه بعضُهم القولَ باستمرار النبوة، ولعله كان يرى استمرارَ الوحي بنحو يمكن فيه لمن لديه استعدادٌ وارتياضٌ روحي أن يعيش تجربةَ الوحي، ليس وحي التبليغ برسالة إلهية، بل هو ضربٌ من البصيرة الروحية السامية؛ لأنَّ «الوحي ليس شيئًا ينزل على النبي من الخارج» كما يقول، ولا يعني ذلك أنَّ استمرارَ الوحي هو استمرارُ وحي الرسالة والتبليغ.
(٣) نشأة علم الكلام الجديد في الهند
محمد إقبال: ختمُ النبوة يعني استغناءَ العقل عن النبوة
محمد إقبال (١٨٧٧–١٩٣٨م) أوَّلُ مَن استأنف طريقةَ تفكيرِ سيد أحمد خان، وترسَّم نهجَه التأويليَّ بمنطقٍ أعمق، ورؤًى أكثفَ وأبعدَ غورًا؛ فقد سعى لزحزحة علم الكلام القديم، وتمحورتْ جهودُه حول محاولةِ بناءِ فلسفةٍ بديلة للدين، ليستْ مكتفيةً بذاتها، بل اغتنت بما استوعبتْه وتمثَّلتْه من معارف الآخر. وقد تنوَّعت مرجعياتُ التفكير الكلامي عند إقبال؛ فهو تارةً يستلهم مقولاتِ الفلاسفة، وأخرى يتعاطى مع خبرةِ اللاهوت المسيحيِّ الجديد، وثالثة يستعين بعلمِ النفس، أو الاجتماع، ورابعة ينهل من العرفان. وهو بذلك يتخلَّص من حالة الوَجَل والخوف حيال معطيات اللاهوت الجديد، والعلوم الإنسانية الحديثة، هذا الخوف الذي استبدَّ بتفكير معظم الإسلاميين.
كثيرًا ما يتعاطَى إقبال مع الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة بمجرد إشارات عاجلة؛ إذ لم تنعكس في آثاره بوضوح بياناتٌ تشي بتكوين معمَّق فيها، ولا نجده يوظفها بشكل تظهر فيه براعته وقناعته بضرورة استعمال مناهجها وأدواتها في فهم التراث وتحليله ونقده، وإعادة بناء التفكير الديني في الإسلام في ضوئها. غير أنَّه عندما ينتقل إلى آثار العرفاء كجلال الدين الرومي، نجده يغوص في الأعماق، وكأنَّ الرومي تجلَّى فيه، كما يلمح لذلك، مثلما تجلَّى ابنُ عربي بالرومي، فتسامت روحُه في عوالم المعنى، إلى الحدِّ الذي يصف إقبالُ أثرَ جلال الدين فيه بقوله:
إن محمد إقبال لم يطوِّر أفكارَه التي تحدَّث عنها في «تجديد التفكير الديني في الإسلام»، وكأنه لم يشأ ذلك، أو لم تسعفه حياتُه أن يثري جهودَه نظريًّا، ولم يكتشف مساراتِها وتطبيقاتِها في معارف الدين.
وقع تفكيرُ محمد إقبال ضحيةَ أحلامِه السياسية، ونزعته العرفانية، وانفعالاته الشاعرية، فتراجع لديه حضورُ العقل بعد طغيان الحماسة العاطفية، واحتجبت عنه أحيانًا مقاصدُ الدين الكلية، وفقدَ القدرةَ على رؤية الأبعاد الكونية والأبديَّة في رسالة الإسلام القيمية، فتشوَّشت رؤيتُه لحظةَ قرأ النصوصَ الدينية في أفق انتظار الوعود المؤجَّلة لمسلمي شبه القارة الهندية، وشغفِهم بدولةٍ يستقلون بها عن موطنهم التاريخي والجغرافي الذي تعايشوا فيه قرونًا طويلة مع مختلف الأديان والإثنيات والثقافات في الهند، فسقط فكرُ محمد إقبال في أفق تطلُّعات الهوية الدينية، وأصبح من أكثر مفكِّري الإسلام في العصر الحديث اهتمامًا وأحرصهم تنظيرًا وأشدهم حماسًا لبناء هوية قومية للمسلمين الهنود تقوم على الانتماء الديني، ويتأسَّس عليها وطنٌ مادتُه وسرديته وجغرافيته دينية، فأثمرت جهودُه تأسيسَ الوطنِ القومي للمسلمين في مشرق ومغرب الجغرافيا الهندية الذي أُعلِن باسم دولة باكستان.
مفارقة فِكر إقبال أنه فِكر مزدوج، تلتقي فيه عناصرُ متضادة ينفي أحدُها الآخرَ؛ فهو من جهة من أنضج مفكِّري الإسلام في زمانه لبناء رؤية نظرية لتجديد التفكير الديني، وأكثرِهم براعةً في الكشف عن الأبعاد الكونية للقيم الروحية والأخلاقية في الإسلام، وبناءِ فهمٍ للوحي وختمِ النبوة، لا يصادر فيه الوحيُ العقلَ، ويضع ختمَ النبوة في السياق التاريخي لتطوُّر الوعي البشري وبلوغ العقل رشده وكماله. إلا أن إقبال من جهةٍ أخرى يقف على الضد من عقلانيته؛ فهو الذي صاغ فكرةَ الهوية القومية الدينية للدولة ورسَّخها في ضمير المسلمين في الهند، وهو أولُ مَن أنشأها على الأرض، فنشأ نموذج دولة باكستان الذي أسهم بتأسيسه عبر ولادة مُجهضة، وكان وما زال نموذجًا هَشًّا مُعوَّقًا مُشَوَّهًا.
في الوقت الذي يُعلِن الفكرُ الدينيُّ لمحمد إقبال عالميتَه، وتشديده على كونية العناصر الجوهرية للقيم الدينية، وتجاوزها للخصوصيات المحلية والعرقية والثقافية والدينية، فجأة ينكفئ فكرُه على ذاته فيتَّخذ من بناء هوية قومية دينية للدولة الهدفَ الأعظم الذي ينشده، ويظل مسكونًا بهذا الهاجس، الذي يكرِّس كلَّ جهوده وحياته اللاحقة من أجله.
الإسلام الهندي التعدُّدي الذي كان يتبنَّاه إقبال ويدعو إليه، وانشغلت كتاباتُه في الكشف عن منابعه وإعادة بناء أسسه، لا يلتقي وفكرةَ الهوية الدينية للدولة، وكلَّ مقولاتِ أدبيات التيار الأُحادي في الإسلام الهندي، الذي كرَّس أبو الأعلى المودودي كلَّ كتاباته لصياغة مفاهيمه المركزية المشتقة من مدوَّنتي علم الكلام والفقه في التراث، بغيةَ تأسيسِ دولةِ ما قبل الدولة الوطنية الحديثة. في ضوء هذه المفاهيم أسَّسَ المودودي الجماعةَ الإسلامية وأعلن هدفها الأكبر وهو تأسيس دولته المنشودة، وأوقف لها كلَّ جهوده وأنفق حياته في سبيل إقامتها، حتى تأسست هذه الدولةُ الحلم على أرض باكستان، ومنذ تأسيسها حتى اليوم ظلت باكستان: قلقة سياسيًّا، مضطربة أمنيًّا، فقيرة اقتصاديًّا، يتضخم تخلفُها، يتفشى فيها التيارُ السلفي المتشدد، وتضمحلُّ فيها حقوق المواطن وحرياته تدريجيًّا. تُفقِر الحياةَ الروحية والأخلاقية لمسلمي باكستان اليوم السلفيةُ، التي تصر على الانغلاق وتضييق هامش الحريات والحقوق فيها.
فضل الرحمن: القرآنُ بتمامه كلامُ الله، وبتمامه كلامُ محمد
فضلُ الرحمن — كما يؤكد تلامذتُه ومريدوه — مثالٌ أخلاقي للمثقَّف المسلم؛ فقد كان تفكيرُه مرآةً لالتزامِه وشجاعتِه، والتزامُه وشجاعتُه مرآةً لتفكيره. وما أقلَّ هذا المثال في حياتنا اليوم. ظلَّ فضلُ الرحمن وفيًّا لأفكاره، ولم يتراجع قطُّ أو يراوغ أو يتردَّد، على الرغم مما تعرَّض له من هجمات قاسية في باكستان، اضطرَّته أخيرًا لمغادرة موطنه والهجرة إلى الولايات المتحدة العام ١٩٦٨م، والتي مكث فيها أستاذًا وباحثًا حتى وفاته في العام ١٩٨٨م.
كان فضل الرحمن خبيرًا بالتراث، بجوار تكوينه الأكاديمي الرصين واللغوي المتنوع، اهتمَّ بتطوير آراء اجتهادية جريئة. ومع أنَّ آراءَ فضل الرحمن لم تبتعد كثيرًا عن الروح الحرَّة لمحمد إقبال، لكنها لم تقلِّده أو تحاكِ تفكيرَه، أو تُمْسِ صدًى لها في كلِّ ما قاله، بل تكرَّست واغتنت آراءُ إقبال من خلال فكر فضل الرحمن. كانت أعمالُ فضل الرحمن أشملَ وأوسعَ من أعمال إقبال، لكنَّها لم تذهب بعيدًا في تأويلها للقرآن، ولم تتحرَّر كليًّا من سطوة التراث، كما هي أعمال إقبال وروحه الشاعرية المشبعة بنكهة العرفان، وعقله الحر الذي كان أكثر قدرةً على التفكير خارج أسوار التراث؛ لذلك صارت رؤى إقبال أنفذَ بصيرةً وأكثفَ حضورًا وأشدَّ رسوخًا.
أعمالُ فضل الرحمن تتوكَّأ على القرآن، وتتَّخذه دليلًا إلى ما تبحث عنه وترشد إليه من مفاهيمَ ومواقفَ. وهي ميزة لا نعثر عليها في أكثر أعمال غيره، في ما يكتبه ويتحدَّث به عن الدين والإسلام والقرآن من المفكِّرين الجدد خارج الفضاء اللغوي للعربية.
لو قارنَّا أعمال فضل الرحمن بأسلافه من المجدِّدين في الهند نراها الأكثرَ إحالةً على القرآن، كما نجده لا يغفل توظيف السُّنة النبوية، والإفادة منها في كتاباته. كان فضل الرحمن الأكثر براعةً في التحرر من منطق تفكير أهل الحديث؛ فقد ظلَّ وفيًّا لمرجعية القرآن، ومكتشفًا ذكيًّا لقيمه الكلية، وإن لم يستطِع التخلُّص من ترسُّبات ثقافته الدينية في بيئته الأولى وآثار تكوينه المبكر. وكثيرًا ما كان توظيف السُّنة على حساب مرجعية القرآن في الإسلام الهندي الحديث، إلى الحدِّ الذي اضمحلَّ فيه حضورُ القيم الكونية الكلية للقرآن عند أغلب مفكري الإسلام الهندي المتأخرين، بعد اجتياح تيار أهل الحديث للتفكير الإسلامي في شبه القارة الهندية، وتفشِّي السلفية المتشددة.
بقدرِ ما نرى هذه الطريقة في التفكير والكتابة ميزةً تسود كتابات فضل الرحمن، نجده لا يجرؤ أحيانًا على عبور آراء متكلِّمي الإسلام ومفسِّريه ومحدِّثيه، أو يشتق لاجتهاده طريقًا مغايرًا لا يكرِّر آراءً تعبِّر عن وقائع وأحوال عصرهم؛ لذلك نرى بعض آرائه أسيرةَ تفكير انتهى زمانُه. عندما نقرأ مجموعة أعماله نجدها تفتقر في مواطن متنوِّعة منها لتوظيفِ المكاسب الحديثة للفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع في دراسة الظواهر الدينية، والكشف عن الجوهر العميق للتجارب الروحية، وقلما نجده يتعاطَى مع المناهج الجديدة للتفسير في فهم القرآن وقراءة السُّنة، وتكاد بعض آثار فضل الرحمن تبدأ بالتراث وتنتهي بالتراث.
على الرغم من النقد المهم الذي يسدِّده فضلُ الرحمن لتراث التفسير، والحديث، وعلم الكلام، الأشعري خاصة، والفقه وأصول الفقه، والفلسفة والتصوف، وإلحاحه على ضرورةِ إعادة اكتشاف رسالة الإسلام الأخلاقية في سياق قرآني، وبناءِ فهم للتوحيد في سياق قرآني، وإنتاج فقه في سياق قرآني، إلا أنَّ فضلَ الرحمن لم يحدِّثنا في آثارِه عن آليةٍ للتعاطي مع القرآن، تكشف لنا طاقتَه الحيويةَ، ونتبصَّر رسالتَه الأخلاقية؛ أي إنَّه لم يقترح أدوات نظر ومناهجَ بديلة، يتحرَّر بها فهمُ القرآن من أدوات نظر ومناهج القدماء وإنتاجها لكلِّ ذلك التراث، الذي يطالب فضلُ الرحمن بعبوره؛ لأنه لا ينتمي إلى عصرنا بل إلى عصر إنتاجه بكل ملابساته، ولأنه لم ينطق بروح القرآن ويبح بما ينشده، بل عمل على إهدار طاقة القرآن الأخلاقية الروحية الخلَّاقة. لا يمكن أن ننتج رؤيةً جديدةً للقرآن عبر استعمال أدوات النظر والمناهج الموروثة للمفسرين والمحدِّثين والمتكلِّمين والأصوليين والفقهاء والمتصوفة والفلاسفة والمناطقة والنحويين والبلاغيين. إن الفهمَ الجديدَ الذي يصرُّ عليه فضلُ الرحمن يتطلَّب الانتقالَ من زاوية نظر القدماء إلى زاوية نظرٍ تتموضع في الأفق التاريخي الذي نعيشه، وتوظِّف علوم ومعارف عصرنا كما وظَّف الآباء علوم ومعارف عصرهم، وأنتجوا في ضوء منطقها منطقَهم لفهم الدين وتفسير الكتاب والسُّنة.
لا شكَّ أن حجرَ الزاوية في الفهم الجديد هو قدرتُنا على تطوير وتوظيف منطق بديل في الفهم، وأدوات جديدة في قراءة النصوص الدينية، فمشكلةُ تفكيرنا الديني أنه لا يزال عاجزًا عن عبور أسوار التراث المغلقة، وما دمنا نجول في مدارات هذه الأسوار لن نتبصَّر الطريقَ الذي يقودنا للخلاص.
خاتمة
حاولت أن أستعرضَ بإيجازٍ أمثلةً على المعيار الذي اقترحته في الفصل الأول لعلم الكلام الجديد، والذي يتمثَّل في الفهم الجديد للوحي خارج التراث الكلامي، فتحدَّثت في تسلسل تاريخي، عن التفسير الجديد للوحي في الإسلام الهندي لدى مجموعة من المفكرين، وهم: ولي الله الدهلوي، وأحمد خان، ومحمد إقبال، وفضل الرحمن. الفضلُ يعود للإسلام الهندي في نشأة علم الكلام الجديد؛ لأن مؤسِّسيه الأوائل كانوا من أبرز مفكري الإسلام في شبه القارة الهندية، ثم انتقل بعد ذلك إلى إيران، والعالَم العربي، وبدأ الاهتمامُ به أخيرًا في كلِّ عالَم الإسلام.
مثلما كان الإسلام التعدُّدي الهندي سبَّاقًا في الاجتهاد الكلامي خارج علم الكلام التقليدي، كان الإسلام الأُحادي حريصًا على استئناف التراث كما هو، وبعث مقولاته المناهضة لبناء دولة حديثة نصابها المواطنة، والتشديد على الدعوة لدولةٍ تستنسخ نموذجَ دولةِ ما قبل الدولة في العصر الحديث، وتعلن مناهضة كلِّ ما يمثل الدولة الحديثة من دساتير ونظم وقوانين. وذلك ما شدَّدت عليه كتابات أبي الأعلى المودودي، التي أضحت ملهمةً لأدبيات الجماعات الدينية في بلادنا العربية.
مقولاتُ مدرسة الإسلام الهندي التعدُّدي التي يمثلها «ولي الله الدهلوي – أحمد خان – محمد إقبال – فضل الرحمن»، خاصةً ما أنجزه محمد إقبال من فهمٍ ﻟ «الوحي، وختمِ النبوة، والتجربةِ الدينية، والاجتهاد بوصفه مبدأَ الحركة في الإسلام»، استأنفها أحدُ تيارات التفكير الديني في إيران، فبنى على شيء منها وأعاد إنتاجها كلٌّ من مرتضى مطهري، وعلي شريعتي، وعبد الكريم سروش، ومحمد مجتهد شبستري. كلٌّ على شاكلته، ووفقًا لقراءته؛ فمطهِّري وظَّفَ فكرة «الاجتهاد مبدأ الحركة في الإسلام» لإقبال، وشريعتي اهتمَّ بفكرة «ختم النبوة». عبد الكريم سروش، ومحمد مجتهد شبستري كانا الأكثرَ اهتمامًا بآراء مدرسة الإسلام الهندي التعدُّدي، والأبعد مدًى في قراءة مقولاتها المركزية، والبناء عليها أفقيًّا ورأسيًّا، خاصة المفهوم الجديد للوحي في الإسلام الهندي التعدُّدي، ويمثل هذان المفكِّران أبرزَ مَن تجلَّت في آثارهما هذه المدرسة في التفكير الديني في إيران، وأصبح فكرُهما أحدَ التيارات الفاعلة والمؤثِّرة اليوم، وكانا الأكثرَ براعةً في توظيفِ مقولاتِ مفكِّري الإسلام التعددي الهندي، وبناءِ رؤًى محوريةٍ عليها في علمِ الكلام الجديد، بعد أن عملا على توسيع آفاقها وتطويرِها وإثرائِها.