الفصل الرابع

الفهم الجديد للوحي في الإسلام الهندي١

(١) مدرستا الإسلام الهندي

إسلام تعدُّدي وإسلام أُحادي

تمرَّست الأديانُ في الهند في قبول المختلف في المعتقَد، بعد أن تخلَّصت منذ مدة طويلة من حروبها وصراعاتها؛ لذلك أصبحت أكثرَ خبرة في العيش المشترك، لا يُقصي بعضُها بعضَها الآخر في أكثر مراحل التاريخ. هناك ميراثٌ روحيٌّ ورمزيٌّ في هذه الجغرافيا الدينية، لا تنابذ وتضادَّ في معظم الأزمان، تلك ميزةُ الفضاء الميتافيزيقي والثقافي الهندي، الحافل بالتعدُّد. هناك تفاعلٌ وتأثيرٌ وتأثرٌ متبادَل متواصل بين ثقافات الإثنيات والأديان في الهند، حتى إن الرُّموزَ والشعائرَ في هذه الأديان تتوارث وتتناغم فيما بينها، وتتخاطب بلغةٍ رمزيةٍ تنتمي إلى جغرافيا يتناغم إيقاع الأرواح فيها.

وذلك ما تفتقر إليه السياقاتُ الدينية والثقافية في الجزيرة العربية وتضاريسها الصحراوية القاحلة؛ لذلك ظلَّ الفضاء الديني فيها يمثِّل البيئةَ الأمثل لنموِّ وترعرعِ التيار السلفي، الذي كان وما زال فقيرًا ميتافيزيقيًّا، كافتقار الصحراء وطبيعتها وتضاريسها لتنوُّع الكائنات والبشر والأديان والثقافات، ولبث الأشد حرفية في تفسيرِه للنصوص، والأكثر تبسيطًا في فهمِه للدين؛ لذلك توالدت فيه مقولاتُ وآراءُ وفتاوى لا تنتمي للواقع البالغ التعقيد والتركيب الذي يعيشه المسلمُ، ولا تحكي متطلَّباتِ حياته، ليس لأنَّها لا تستجيب لها، بل لأنَّها على الضدِّ منها.

غالبًا ما أخفق أكثرُ علم الكلام الذي نشأ متأخِّرًا عن عصرِ الوحي في تمثُّل روح الوحي، وطالما مكث أسيرًا للفهم التبسيطيِّ للنُّصوص الدينية، وعجز عن أن يرتقي بتأويلِ تلك النُّصوص، واستبصارِ آفاقها، واكتشاف لغة القلب والروح فيها، عبر التوغُّل في أعماقها، وما يمكن أن تضيفه من دلالاتٍ جديدة، تبعًا لما يستجدُّ من مقتضياتِ العُمران، واختلافِ وتنوُّع أنماطِ عيشِ الإنسان، والتحوُّلِ في رؤيته للعالَم.

يتنافسُ في الإسلام الهنديِّ تيَّاران؛ تيارُ إسلام تعدُّدي، يستقي من رؤى العرفاء، ويسترشد برؤية الشيخ محيي الدين بن عربي في «تعدُّد الطُّرق إلى الله»، وعدمِ احتكار الطريق إلى الحقَّانية والنجاة والخلاص، وعدمِ اختصاصِ النجاة بديانةٍ أو فِرقةٍ أو مذهبٍ أو طائفةٍ أو جماعة؛ لأنَّها ضربٌ من احتكار رحمة الله. ابنُ عربي يستهجن عمليةَ الاحتكار هذه، ويصنِّفها على أنها ردٌّ على كتاب الله، وضربٌ من التحجير على رحمته عندما يقول: «إن ذلك ردٌّ على كتاب الله، وتحجير على رحمة الله أن تنال بعض عباد الله.»٢

هذا تيارٌ تعدُّدي في الإسلام الهندي، يتفهَّم تنوُّعَ المعتقدات والمقدَّسات والطقوس بتنوع الأديان، ولا يستهجنها، ويتقبل بروحٍ إيجابيَّة الاختلافَ في الفضاء الديني، ويتعايش مع مختلف التجارب الدينية؛ لذلك لا تستفزُّه المقدَّساتُ والطقوسُ المختلفةُ للهندوسية وغيرِها من الأديان المتنوِّعة في الهند.

وتيارٌ آخر أُحادي في الإسلام الهندي، غيرُ متفاعلٍ مع الفضاء الديني المتنوع، ولا يتقبل بروحٍ إيجابية تنوعَ المعتقدات والمقدَّسات والطقوس بتنوع الأديان، ولا يتفهَّم تعددَ التجارب الدينية. تيارٌ شديدُ الوفاء للرؤيةِ الكلامية ولأحكامِ المدوَّنة الفقهية. تسلَّطت على ذهنية تيار الإسلام الأُحادي مدرسةُ الحديث، فاضمحلَّ حضورُ العقل في تفكيره، وصار لا يفهم النصوصَ إلا فهمًا حرفيًّا. لذلك لا يطيق التعايشَ مع المُختلِف دينيًّا وثقافيًّا، ويتشبَّث بآراءِ المتكلِّمين وفتاوى الفقهاء في مواقفه من المعتقَدات والمقدَّسات والطقوس المختلفة للهندوسية وغيرِها من الأديان في الهند. اهتمَّ هذا التيارُ بإقصاء الاجتهادات التي لا تنسجم مع رؤيته لولي الله الدهلوي، وانتقاء بعض مقولاته ومفاهيمه، وإعادة إنتاج فهمها في سياق غريب عن منظومته الفكرية الكلية.

مدرسةُ «وليِّ الله الدهلوي – أحمد خان – محمد إقبال – فضل الرحمن» تنتمي للتيار التعدُّدي في الإسلام الهندي؛ لذلك كانت الأقلَّ حضورًا في التفكير الديني في المجال العربي؛ لأنَّ نمطَ فهم الجماعات الدينية ومنهجَها الحرفي في تفسير القرآن، واسعُ الانتشار وبالغ التأثير في التديُّن السلفي، لا يستسيغ منطقَ التفكير العقلاني المركَّب في فهم الدين، ولا يتذوق النكهةَ العرفانيةَ، ولا يتفاعل مع الرَّائي الذي يعرف أسرارَ الروح، ويفقه لغةَ القلوب، ويستفزُّ عقلَه الحديثي الحرفي تأويلُ النصوص، أو أيُّ اجتهاد في الاعتقاد. ذلك ما تسبَّب بنفور الجماعات الدينية العربية من اللغةِ التي تتحدَّثها أعمالُ هذه المدرسة في التفكير الديني الحديث في الهند؛ فمثلًا لم يُعرف محمد إقبال لدى أكثر قرَّاء العربية مُجدِّدًا، بل يعرفونه شاعرًا. ولم أجد إحالةً لكتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلام» في أدبيَّات الجماعات الدينية، وظلَّ هذا الكتابُ مُهمَلًا سنواتٍ طويلة، على الرغم من أنه تُرجم ونُشر بالعربية قبل أكثر من نصف قرن.

أبو الأعلى المودودي

استعارتِ الجماعاتُ الدينيةُ في بلادنا العربية من الإسلام الهندي ما هو أكثرُ وفاءً للرؤيةِ المغلقة لأهل الحديث، وما يتكلَّم لغتَها ويفكِّر بطريقتها، وما ينشد استئنافَ دولةٍ ما قبل الدولة الوطنية الحديثة التي تحلُم بها. استعارت كتاباتِ التيار الأُحادي في هذا الإسلام، الذي أنتجه منهجُ تفكير ورؤية مدرسة «دار العلوم بديوبند»، و«ندوة العلماء في لكنهو»، والأخيرة كان أكثر رجالها ممن درسوا على شيوخ دار العلوم بديوبند، ولبث أبو الحسن الندوي رئيسًا لندوة العلماء سنين طويلة.

لم يبتعد تفكيرُ أبي الأعلى المودودي عن منهج دار العلوم وندوة العلماء ورؤيتهما. وإن طغى حضورُه على حضورِهما وتأثيره على تأثيرهما المباشر وغير المباشر على الجماعاتِ الدينيةِ في بلادنا العربية. كثَّفَ المودوديُّ كتاباتِه وأحاديثَه وجهوده لتفسير آيات القرآن الكريم تفسيرًا سياسيًّا، وكرَّس حياتَه من أجل استئناف دولة تتأسَّس على التراث الكلامي والفقهي. كان المودودي الأعمق أثرًا في أدبيات الجماعات الدينية العربية، وإن كان لا يظهر أثرُ مفاهيمه بوضوح، بنحوٍ صارت مفاهيمُه إحدى البنى الأساسية لهذه الأدبيات. تبنَّت أدبياتُ هذه الجماعات مفاهيمَه، فكانت تشبه منطقَ التفكير المتسلِّط على ذهنية مؤسِّسي هذه الجماعات ومنظِّريها، وتحاكي اللغةَ التي تتحدَّثها أدبياتُها، وتغويها شعاراتُ استعادةِ نموذج الدولة الذي ينتمي إلى مرحلةِ ما قبل الدولة الوطنية الحديثة، كما نلحظ ذلك بوضوح في كتاباتِ سيد قطب، وغرامِه بنموذج دولة متخيَّلة لا تشبه أية دولة حديثة، ومقتِه للفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع، ولمشروع الدولة الوطنية الحديثة ودساتيرها ونظمها وقوانينها، بعد أن تشبَّع ذهنُه بقراءة المودودي السياسية للتوحيد، وغرق تفكيرُه بالتفسير السياسي الذي اخترعه المودودي للمصطلحات الأربعة في القرآن الكريم: «الإله»، و«الرَّب»، و«العبادة»، و«الدين»، فاشتق منها أفكاره الأساسية، وارتكز إليها كمفاهيم مفتاحية لتفسيره للقرآن، بحيث صار سيد قطب لا يفكِّر إلا في آفاق رؤية المودودي، وتسرب تفسير سيد قطب إلى معظم أدبيات الجماعات الدينية في عالَم الإسلام سُنِّية وشيعية.

كتبَ أبو الأعلى المودودي رسالة «المصطلحات الأربعة في القرآن»، ونشرها على شكل مقالات متسلسلة في مجلة «تُرجمان القرآن»، الصادرة في باكستان العام ١٩٤٧م، ثم جُمِعت هذه المقالاتُ وطُبِعت في كرَّاسٍ. تُلخِّص هذه المصطلحاتُ قراءةَ المودودي السياسية لعقيدة التوحيد، وكيف فرضت هذه القراءةُ فهمًا لا يرى في التوحيد شيئًا خارج الدولة المتخيَّلة في ذهنه، وتسرَّبت رؤيتُه لأدبيات الجماعات الدينية بمختلف مذاهبها وتسمياتها. أعاد المودودي إنتاج دلالات مصطلحات «الإله، والرب، والدين، والعبادة» سياسيًّا خارج سياقها القرآني، وفرَّغها من مدلولها الميتافيزيقيِّ والقيمي، وفسَّرها في ضوء أحلامِه بتأسيس دولة تنبثق من تأويله لهذه المصطلحات، ويعتمد دستورُها ونظمُها وقوانينُها المتنوعة على التراث. أخرج تلك المصطلحات القرآنية من دلالاتها الميتافيزيقية والقيمية، وأسقط عليها ما يريد أن يراه فيها من دلالات، تنفي أيَّ حقٍّ للبشر في بناء دولة حديثة على أساس الفكر السياسي ومكاسبه الكبيرة في العالَم الحديث، وما صنعتْه تجاربُ الإنسان المتراكمة منذ آلاف السنين في بناء أنماطٍ متعدِّدة للدول.

ذهب المودودي إلى أنَّ إنشاءَ الإنسان لدولةٍ في الأرض من دون العودة إلى الله وبتفويض منه، وبلا وضعه هو تعالى لخرائط السلطة والحكومة والدولة، ضربٌ من الشرك والعدوان على الله. يفتعل المودودي، بسبب فهمه السياسي للتوحيد، مغالطةَ تضادٍّ بين حاكمية الله وحاكمية الإنسان، فيعدُّ ذلك عدوانًا على الربوبيَّة. الإنسانُ كما يرى المودودي بطبيعته قاصرٌ عن اكتشاف النظام المناسب لإنشاءِ سلطةٍ وحكومةٍ ودولةٍ تضمن حقوقَه وحرياته وتؤمِّن متطلبات عيشه الكريم، وليس هناك إلا الدولة المتخيَّلة التي يحلم هو بها. الإنسانُ لا يمكنه بناءُ سلطةٍ وحكومةٍ ودولةٍ وممارسةُ السياسة من دون أن يكون ممثلًا لله ومفوضًا منه. استقى المودودي المضمونَ الاعتقادي للتوحيد من ابن تيمية، وأفرغه من مضمونه الميتافيزيقي وأشبعه برؤيته السياسية.

رأى المودودي صورةَ الله في السلطة والحكومة والدولة، ولم يرَ تجلياتِها في الوجود، واحتجب عليه حضورُها في الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية. اللهُ يحتجبُ عن كل مَن يعبثُ بصورته، أو يسقطها على البشر فيضعهم بمنزلة الله، ويقرأ كلماتِهم وكأنها كلماتُ الله، ويرى مواقفَهم وكأنها مواقفُه، وأفعالَهم وكأنها أفعالُه، وسلوكَهم وكأنه سلوكُه. اللهُ يحتجبُ عن كل مَن ينساه، اللهُ يُنسي كلَّ مَن ينساه نفسه، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ (الحشر: ١٩).

يستأنف المودوديُّ صورةَ الإله السياسي الذي اخترعه الحكَّام في وقت مبكر من نشوء الدولة في المجتمعات البشرية، لتسويغ تسلُّط الحاكم على الناس. تسيَّدت صورةُ الإله السياسي في دولة المدينة في بلاد سومر القديمة، وهو النمطُ الأسبق لظهور الدولة في التاريخ، وترسَّخت هذه الصورةُ واتَّسعت واتخذت صيغتها اللاهوتية المركَّبة في الحكم الثيوقراطي، حسب مصطلح جوزيفوس فلافيوس (٣٨–١٠٠ﻫ) في القرن الأول الميلادي، وهو حكمٌ يستمدُّ سلطته من الله، ومشروعيته من الكتاب المقدَّس. تبنَّت الكنيسةُ هذا الشكلَ للحكم في القرون الوسطي في أوروبا، وتسيَّدت الكنيسة باسم الإله السياسي، واتخذت من هذا الشكل المتجبِّر للحكم أداةً لاستعباد المجتمعات مدة طويلة.

تختبئ وراءَ صورة الإله السياسي لدى المودودي وغيره من كتَّاب الجماعات الدينية في القرن العشرين عقيدةُ الجبر وتعطيلُ فاعلية الإنسان، وسلبُ الإنسانِ حريةَ اختياره وإرادته وقدرته في الأرض. تغلَّب على تفكير المودودي وامتلك مشاعره واختصر أحلامَه ميلادُ دولة تتأسس على هوية قومية دينية تختص بالمسلمين، وذلك ما أعماه عن رؤية أية صورة لله خارج السياسة والحكم والدولة.

خلع المودودي السياسةَ على صورة الله، فصارت هذه الصورة في ذهنه كأنها طاغوتٌ مستبدٌّ أعار جلبابَ سلطنته وألبسه لهذه الصورة، ولم يشأ المودودي أن يتدبَّر الحضورَ المكثَّفَ لله في القرآن، وما يحيل إليه هذا الحضورُ من دلالاتٍ ميتافيزيقيةٍ وقيمية لا تنضب، لا صلةَ لها بأي شكلٍ بقراءته لآيات القرآن. لم يرد اسمُ «الله» ومرادفاته وصفاته بالمعنى السياسي الذي فسَّره المودودي خارج سياقاته، وتسرَّب تفسيرُه لأدبيات الجماعات الدينية في البلاد العربية. ولم أرَ صورة الإله السياسي في القرآن، الإله الذي استعاره المودوديُّ من التراث وأنزله على واقع غريب عليه. ورد ذكرُ اسمِ «الله» ٢٦٩٩ مرةً في آيات القرآن الكريم، ولو أضفنا لذلك عددَ أسماءِ الله وصفاتِه المتنوِّعةِ في القرآن لتجاوز هذا العددَ بكثير؛ فمثلًا تكرَّر ذكرُ كلمة «رب» فقط ١٢٤ مرة.٣

أهدر المودوديُّ المعنى الذي يمنحه الدينُ للحياة، وأقحم هو، ومَن سقط في شِباك قراءته للتوحيد، الإسلامَ في مأزق حضاري، عندما خلعَ على القرآن الكريم جِلبابًا أهدر الأبعادَ الميتافيزيقيةَ للتوحيد، والمعاني الروحية والأخلاقية والجمالية التي يمنحها الدينُ للحياة، ووقع في مأزق إسقاطِ قراءةٍ على القرآن بعيدة عن لغة القلب والروح والعاطفة التي يتحدَّثها. الدينُ بلا قلبٍ وبلا روحٍ وبلا عواطفَ يفتقرُ للمنابع العميقة التي تمنحُ حياةَ الإنسان معناها الوجودي، الذي تفتقده في أي منبع آخر. المودودي في قراءته للتوحيد أفرغ الدينَ من معناه، وأحالَ الإسلام إلى: دينٍ بلا روحٍ، دينٍ بلا قلبٍ، دينٍ بلا عاطفة، دينٍ بلا عقل.

وحيد الدين خان

درسَ وحيدُ الدين خان (١٩٢٥–٢٠٢١م) في جامعة الإصلاح العربية الإسلامية بالهند، وعملَ لعدة سنوات في لجنة التأليف التابعة للجماعة الإسلامية، ثم المجمع الإسلامي العلمي التابع لندوة العلماء بلكنهو. ونشر كتاباته في عدة صحف ومجلات، وأصدرَ مجلةَ «الرسالة» الشهرية، وهي مطبوعةٌ مستقلةٌ تلقَّاها القراءُ باهتمام، وتواصل صدورُها سنوات عديدة.

أمضى وحيدُ الدين خان خمس عشرة سنة من حياته عضوًا في الجماعة الإسلامية، غير أنَّه انفصل عنها بعد ذلك، وقدَّمَ نقدًا جريئًا لفهم المودودي للدين، وتفسيره لآيات القرآن الكريم، بعنوان: «خطأ في التفسير».٤ يقول وحيدُ الدين خان في مقدمة كتابه هذا: «نظرًا للعلاقة التي كانت تربطني بالجماعة، والتي استمرَّتْ خمس عشرة سنة، فقد رأيتُ أن للجماعة عليَّ حقَّ النصح لها، ولا يمكن القيام بهذا العمل وأنا في وسط الجماعة، ممَّا اضطرني للانفصال عنها لأداء هذه الفريضة … بقيت في الجماعة الإسلامية مرتبطًا بها طيلة خمس عشرة سنة، ثم قدمتُ استقالتي في ١٥ أكتوبر ١٩٦٢م لكنها لم تُقبل إلا في ٢٥ أبريل ١٩٦٣م».٥
تنبَّه وحيد الدين خان للتمييز بين الدين بوصفه نظامًا دستوريًّا قانونيًّا وسياسيًّا، والذي هو مظهرٌ للدين وحيثيةٌ إضافية، وبين الدين بوصفه علاقة بين الله والإنسان، وهي الحيثية الأساسيةُ التي أهملها المودوديُّ، يقول وحيد الدين في بيان ذلك: «الأصل في الدين هو كونه عنوانَ العلاقة بين الرب وعبده. إنَّ الدين ليس محض نظام دستوري قانوني وسياسي، على غرار سائر الأنظمة الدنيوية، بل هو مظهر العلاقة النفسية للعبد مع الله. إنَّ الدين عند تنفيذه يشمل عناصرَ كثيرة، يمكن أن يطلق على مجموعتها بأنها «نظام الحياة»، ولكن هذا مظهر من مظاهر الدين، وحقيقة من حقائقه. إنها حيثية إضافية من حيثيات الدين، وليست هي الحيثية الأساسية … إنَّ جميع هذه الأخطاء قد وقع فيها التفسير آنف الذكر للإسلام. لقد جعل هذا التفسير النظامَ محورَ التصور الديني وحكمته الجامعة، ولذلك أصبح (النظام) الحيثية الأولى للإسلام في هذا التفسير، فلم يَعُدْ بالإمكان فهمُ الإسلام إلا في ضوء النظام.»٦ وضع فهمُ الدين الذي نضجَ لدى وحيد الدين خان تفكيرَه في طريق مستقل مغاير لتفكير المودودي وجماعته، بعد أن طلَّق هذا الفكر، ورحل إلى فضاءٍ أرحبَ في فهمه للدين وحدود رسالته وتفسيره للقرآن، كما انعكس ذلك بوضوح على نوع كتاباته في السنوات اللاحقة من حياته الطويلة التي امتدت إلى سنة ٢٠٢١م. وضع فهمُ الدين الذي نضجَ لدى وحيد الدين خان تفكيرَه في طريق مستقل مغاير لتفكير المودودي وجماعته. طريقٌ أدرك فيه الحاجة إلى إعادة بناء الفكر الكلامي في الإسلام؛ ففي عام ١٩٦٤م أوضح في مقدمة كتابه «الإسلام يتحدَّى» المسوِّغات التي دعته لتأليف كتابه هذا، فشدَّد على ضرورة التحرُّر من منهج علم الكلام القديم؛ لأن «طريقة الكلام وأسلوبه قد تغيَّرا بتغير الزمن، ولذلك علينا أن نأتي بعلم كلام جديد لمواجهة تحدِّي العصر الحديث.»٧ لكنَّ كتابه هذا لم يكن سوى محاولةٍ للتوفيق بين الدين والعلم، والتمسك بشيء من مكاسب العلوم الطبيعية في الاستدلال على وجود الله. ولم يفلح في استبصار أُفقٍ بديل للتفكير خارجَ الكلام القديم، ولم نرَ فيه ضوءًا يدلُّنا على قول جديد في الوحي، أو ما يكشف عن محاولةٍ شجاعة لبناء أسس كلام جديد.
وبعد ذلك بسبعة أعوام أصدر وحيد الدين خان كتابه الكلامي الثاني «الدين في مواجهة العلم»،٨ وأردفه بعد مدة بمقالةٍ أعدَّها بعنوان «نحو علم كلام جديد»، ألقاها في ندوة «تجديد الفكر الإسلامي» التي عقدتها الجامعة الملِّية الإسلامية بدلهي في ٢٧ ديسمبر ١٩٧٦م.٩

حاول وحيد الدين خان محاكاةَ ما بدأه محمد إقبال شكليًّا في «تجديد التفكير الديني في الإسلام»، لكن كتاب «الإسلام يتحدَّى» وكتابات وحيد الدين الأخرى أخفقتْ في تمثُّل رؤى إقبال الفلسفية الحرَّة في بناء فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. لبث وحيد الدين خان يفكِّر في إطار علم الكلام التقليدي؛ لذلك لا نقرأ في كتابه «الإسلام يتحدَّى» أو غيره من كتاباته رؤيةً اجتهادية تتخطى آفاقَ التفكير التقليدي، وترتقي به للتفكير في الأُفق الرحب لعلم الكلام الجديد. على الرغم من أن كتاب «الإسلام يتحدَّى» تُرجم إلى العربية ونُشر قبل أكثر من أربعين عامًا، إلَّا أنه لم يجد صدًى له في الدراسات الدينية حتى اليوم بالعربية.

لا ينطبق على أعمال وحيد الدين خان المعيارُ الذي ذكرناه لتحديد علم الكلام الجديد، وكيفية التعرُّف على المتكلِّم الجديد، الذي يتمثَّل في كونه يجتهد في إعادةِ بناءِ فهمٍ للوحي، بالشكل الذي لا يكرِّر فهم مؤسِّسي الفِرق، وفهم المتكلِّمين التقليدي.

كما لا يصحُّ توصيفُ وحيد الدين خان بالمتكلِّم الجديد، أو إدراج أعماله في علم الكلام الجديد، كذلك لا يصحُّ إدراج أعمال أكثر المفكرين الذين يصنَّفون خطأ لدى بعض الباحثين على الكلام الجديد، لأنها تكرِّر الفهم التقليدي للوحي، ولا تقول شيئًا مختلفًا يخرج على تكرار اجتهادات مؤسِّسي الفِرَق ومجتهديها القدماء. على الرغم من الطريق المستقل في التفكير الديني الذي سعى أن يختطَّه وحيد الدين خان إلا أنَّه وقعَ تحتَ تأثير تيار أهل الحديث الذي تفشَّى في الإسلام الهندي في القرن الأخير، وأحدث انسدادًا في التفكير الديني. حاول وحيد الدين خان في دعوته الإصلاحيَّة اعتمادَ المناهج والأدوات والمقولات التراثية ذاتها، فلبثَ كمعظم المصلحين الذين يبدءون بدعاوى وشعارات لافتة، لكنَّ تفكيرهم فيها سرعان ما يقع أسيرًا لمنطق التراث وأدواته ورؤيته للعالَم، فيظلون يدورون في حلقة مفرغة.

(٢) الإرهاصات الأولى لعلم الكلام الجديد

وليُّ الله الدهلوي: الوحيُ ثمرةُ القدرات العقلانية وعون الملاك

الفضلُ يعود للإسلام التعدُّدي الهندي في نشأة علم الكلام الجديد؛ لأنَّ مؤسِّسيه الأوائل كانوا من أبرزِ مفكِّري الإسلام في شبه القارة الهنديَّة، ثم انتقل بعد ذلك إلى إيران فاتَّسعتْ آفاقُ التجديد أفقيًّا ورأسيًّا، ثم العالَم العربي، وبدأ الاهتمامُ به أخيرًا يتمدَّدُ في كلِّ عالَم الإسلام.

لعل وليَّ الله الدهلوي هو أول مَن عمل على ترسيخ أُسُسِ الإسلام التعدُّدي الهندي، والذي تكرَّست بنيتُه لاحقًا في أعمال: أحمد خان، ومحمد إقبال، وفضل الرحمن. كان وليُّ الله الدهلوي (١٧٠٣–١٧٦٢م)، الذي يسمِّيه بعضُ الباحثين مجدِّدَ القرن الثامن عشر، يمتلك رؤيةً تتَّسع لعبور التراث، رؤيةً تحاول أن تعيدَ قراءةَ القرآن والحديث في ضوءِ الأُفُقِ التاريخي لعصر البعثة. أزاح وليُّ الله شيئًا من رُكام التفاسير المكرَّرة والشروح التي دفنت المعاني الأخلاقية والروحية في القرآن الكريم وغيَّبت المقاصدَ الكليةَ لرسالته القيمية، وحاول أن يرى النصَّ القرآني بلا وسائط تحجبه. على الرغم من أنَّ برامجَ التعليم الديني لوليِّ الله ركَّزت على الحديث والعلوم التقليدية، لكنَّه شدَّد على ضرورة التعامُل مع القرآن مباشرةً خارج التفاسير، ولم يقبل من التفسير إلَّا بحدودِ ما يشرح معاني الألفاظ وإعرابَها نحويًّا. كما أدرج التصوُّفَ في نهاية برنامجه التعليمي، وهو ما لم تألفه برامجُ التعليم الديني من قبلُ في شبه القارة الهندية.١٠ ولعله تلقَّى التصوُّفَ من والده الذي كان متصوفًا كبيرًا. لوليِّ الله أثرٌ ملموسٌ في انتشارِ دراسة الحديث أيضًا، وهيمنةِ المدرسة الحديثيَّة، هذه المدرسة التي انتهت إلى مواقفَ سلفيةٍ متشدِّدة في شبة القارة الهندية لاحقًا.
نعثر على شذراتٍ في آثار الدهلوي تلمح إلى آراءٍ اجتهادية، لا تكرِّر المكرَّر في التُّراث. أضاءت هذه الآراءُ لبعض مفكِّري الإسلام الهندي في القرنين التاسع عشر والعشرين شيئًا من عتَمَة حاضرهم، وأسهمتْ في توجيهِ بوصلةِ تفكيرهم الديني، حتى وصف محمد إقبال الدهلويَّ بقوله: «أول مفكِّر مسلم حاول إعادةَ بناء الفكر الديني في الإسلام.»١١

اهتمَّ وليُّ الله الدهلوي بالكشف عن تعبير الشرائع عن مجتمعاتها، واصطلح على تعبير الشَّرائع عن مجتمعاتها ﺑ «الارتفاقات»، وهي تعني أنَّ شرائع النبوات تتناسب وإيقاع حياة ونمط عيش المجتمعات التي ظهرت فيها، ولا تخرج إلا بشكل محدود عن طبيعة حياتهم وظروفهم وعاداتهم وتقاليدهم. بمعنى أنَّ هناك «ارتفاقًا»، أي تناغمًا بين الشريعة وحاجات المجتمع، إذ تنسجم الشرائع مع الأحوال الاجتماعية وطبائع الأقوام؛ لذلك تختلف وتتفاوت تبعًا لاختلاف المجتمعات، وقد بحث الدهلوي هذا الموضوع بشكل موسَّع في المبحث الثالث من كتابه «حجَّة الله البالغة».

يمكن العثور على إرهاصات الكلام الجديد وإشاراته المبكرة في آثارِ وليِّ الله الدهلوي، الذي يرى أن دورَ النبي في تلقِّيه الوحي لم يكن سلبيًّا؛ فهو ليس مجردَ صدى تمرُّ من خلاله كلماتُ الله، ﻓ «عندما يريد الله إيصالَ هدًى معيَّنٍ، يقدَّر له أن يدوم إلى نهاية العالم، يخضع نفس الرسول ليرسل الكتاب الإلهي في قلبه الطاهر، بطريقة خفيَّة وشاملة … فتنطبع الرسالةُ في قلب الرسول كما وجدت في العالم السماوي. وهكذا يعرف الرسولُ ويقتنع بأنَّ ذاك هو كلام الله … بعد ذلك، وتبعًا للحاجات ينطق الرسول بخطاب بديع الصنعة، هو ثمرة لقدراته العقلانية، ولعون الملاك.»١٢ ويعتقد الدهلوي بأنَّ وحيَ القرآن إنما يحدث في «قالب كلمات واصطلاحات وصياغات سبق أن وُجِدَت في ثقافة النبي».١٣ في ضوء هذا الفهم لم يكن النبيُّ منفعلًا سلبيًّا بل فاعلًا أيضًا، ونقرأ ما يشير إلى شيء من هذا الفهم أخيرًا لدى محمد مجتهد شبستري؛ إذ يعكس الوحيُ في رأيه أصداءَ ثقافةِ النبي ورؤيتِه للعالَم، وهو ما شرحه بالتفصيل في سلسلة محاضراته الموسومة: «القراءة النبوية للعالَم».١٤

مصائرُ الأفكارِ لا تنتمي لبداياتها؛ فقد انتهتْ آراءٌ عقليَّةٌ حرَّة إلى مصير مريع، بعد أن أمستْ مغلقةً مفرَّغةً من أيَّة بصمة للعقل. هذا هو المآلُ الذي انتهى إليه ميراثُ وليِّ الله الدهلوي في شبه القارة الهندية؛ فقد استحوذ عليه وشوَّهَهُ تيارُ أهل الحديث السلفي المناهضُ لكلِّ أشكال التفكير العقلي، والذي رفض حتى علم الكلام. آراءُ الدهلوي كانت مُلهِمةً لجماعة من مفكِّري الإسلام في الهند لاحقًا مثل أحمد خان، ومحمد إقبال، وفضل الرحمن، على اختلافٍ بينهم في بيانِ مفهومِهم للوحي وحقيقتِه ومدياتِه، وإن كانوا يتَّفقون على الدور الفاعل للنبي الكريم في الوحي.

ومثلما كان الإسلامُ التعدُّدي الهندي سبَّاقًا في تجديد علم الكلام والخروج على علم الكلام التقليدي، كان الإسلامُ الأُحاديُّ الهندي حريصًا على استئناف التراث كما هو، وبعث مقولاته المناهضة لبناء دولة حديثة نصابها المواطنة، والتشديد على الدعوة لدولةِ ما قبل الدولة الوطنية الحديثة، تستنسخ نموذجَ دولةِ ما قبل الدَّولة في العصر الحديث، وتعلن مناهضة ما يمثِّل الدولة الحديثة من دساتير ونظم وقوانين وحريات وحقوق. وذلك ما شدَّدَت عليه كتاباتُ أبي الأعلى المودودي، التي أضحت ملهمةً لأدبيات الجماعات الدينية في العالَم العربي.

سيد أحمد خان: الوحي هو العقل الإلهيُّ في النفس

ظهرت الإرهاصاتُ الأولى لعلمِ الكلام الجديد في الهند في العصر الحديث في القرن التاسع عشر مع سيد أحمد خان (١٨١٧–١٨٩٨م) الذي رأى ضرورةَ إعادة بناء نظام التربية والتعليم للمسلمين في الهند في إطارٍ يتَّسع لاستيعاب العلوم والمعارف الحديثة. تنبَّه لذلك بعد أن اكتشف النظامَ التعليمي الجديد في جامعتَي «أكسفورد» و«كمبردج» في بريطانيا، فأسَّس «دارَ العلوم الشرقية الكبرى» سنة ١٨٧٢م في مدينة «عليكره»، وفي سنتِها الأولى لم ينخرط فيها إلا عددٌ قليل من التلامذة، ثم تحوَّلت إلى «الكلية الشرقية الأنجلوإسلامية» سنة ١٨٧٥م فأقبل على الدراسة فيها كثيرون، وخصَّصَها لتعليم المسلمين العلوم والمعارف الحديثة، واستعان بأساتذةٍ أوروبيين لأداء هذه المهمة، ثم تطوَّرت هذه الكليةُ لاحقًا إلى جامعة عليكره سنة ١٩٢٠م.

تنبَّه أحمد خان إلى أنَّ عملية البناء تبدأ بالتربية والتعليم، الذي يراه المنبعَ الحقيقي لتكوين ثروة الأمم في مختلف مجالات الحياة وتراكمها باستمرار، وهذا ما دعاه لتكثيف جهوده في هذا المجال؛ فهو يقول: «انظروا إلى إنجلترا، لقد كانت ثروتها تتماشى يومًا فيومًا مع تربيتها، فكلما زادت تربيتُها زادت ثروتُها، وقد كانت منذ قرون وأمامها من العقبات والصعاب التي تعوق التربية أكثر ممَّا عندنا.»١٥
عارض دعوةَ أحمد خان كثيرٌ من مُسلِمي الهند، وواجهوه «بالسخرية والاستخفاف، وكثر في شأنه اللغط والإرجاف. لكنَّ الرجلَ لم يثنِ عزيمتَه عن الإصلاحِ الإرجافُ، وما قوبل به من الاستخفاف. فانتشر رأيُه رويدًا رويدًا، كما هو الشأن في كل موضوع مفيد، وكان هو المبدأ لهذه النهضة الحاضرة في الهند، والمفيض لروح التربية والتعليم على جثمان تلك الممالك.»١٦
كان أحمد خان عالمًا مسلِمًا يمتلك وعيًا وبصيرةً بعصره يفتقر إليه أكثرُ معاصريه، فطالما كان أحمد خان يستفزُّ مشاعرَ المسلم بمواقف وآراء شديدة الإثارة؛ فمثلًا كان موقفُه على الضدِّ من المقاومة المسلَّحة للاستعمار، ولم يراهن عليها في نهوض مجتمع متخلِّف؛ لأنه يرى أن بناءَ الوعي، وتهذيبَ الأخلاق، وترسيخَ قيم التسامح والعيش المشترك، تسبق الاستقلالَ السياسيَّ، ولم يتردَّد في القول: «إنَّ المستقبل يكمن في تلاقُح العبقرية الإسلامية في الهند، مع الحالة الحضارية المتقدِّمة للإنجليز.»١٧ كان يرى أن نهضةَ مسلمي الهند ينجزها إيقاظُ عقل المسلم الهندي وتهذيبُ أخلاقه، وهو ما فشل التعليمُ التقليدي في تحقيقه. وهذا ما دعاه لأن يكثِّف جهودَه في التربية والتعليم الحديثين، ويحرص على إعادة بناء التفكير الديني في الإسلام، الذي ظلَّ رهانَه الأعظمَ حتى آخر حياته.

لم يفتقر أحمد خان للتكوين والإمكانات اللازمة للقيام بهذه المهمة؛ فقد تعلَّم تعليمًا دينيًّا جادًّا على أيدي الشيوخ في الهند، واكتسب خبرةً واسعةً في العلوم والمعارف الحديثة، كان شجاعًا في الإعلان عن مواقفه الصَّادمة، التي تَمَايَزَت عن مواقفِ كلِّ مُعَاصِريه من المفكِّرين ورجال الدِّين المسلمين في الهند؛ فهو أولُ مفكِّرٍ مسلمٍ في العصر الحديث يتبنَّى تفسيرًا مختلفًا للوحي يخرج فيه على المفهوم المتوارَث للمتكلِّمين.

يرى أحمد خان النبوَّةَ ملَكةً طبيعيةً يتطلَّب تحقُّقها بيئةً ومناخًا خاصَّين؛ إذ يقول: «إنَّ النبوَّةَ ملَكةٌ طبيعية خاصة، كسائر القوى البشرية التي تتفتَّق عند توفر ظروفها ومناخاتها وبيئتها، مثلما هي ثمار الأشجار … الوحي ليس شيئًا ينزل على النبي من الخارج، بل هو عبارة عن نشاط العقل الإلهي في النفس والعقل القدسي البشري.» يرى أحمد خان أنَّ الوحي كان بالمعنى وليس باللفظ، أي إنَّ مضمونَ الوحي إلهي، أما اللفظُ فبشريٌّ، بمعنى أن النبيَّ محمدًا هو مَن صاغ مضمونَ الوحي الإلهي بألفاظٍ عربيَّة هي القرآن؛ إذ يقول: «التنزيل وحيٌ إلهي، ولكن ليس باللفظ بل بالمعنى، نزَّله الله على قلب نبيِّه محمد.»١٨
أفاد أحمد خان من أسلافه، وأظن أنه بنى تفسيره للوحي على ما ألمح إليه وليُّ الله الدهلوي، مثلما أفادَ من تفسير أحمد خان مَن جاء بعده؛ فقد نسب مصطفى عبد الرازق إلى محمد عبده رأيًا في تفسير الوحي يذهب إلى أنَّ «الوحي عرفانٌ يجده من نفسه، مع اليقين بأنه من قِبل الله، بواسطة أو بغير واسطة، والأول بصوتٍ يتمثل لسمعه، أو بغير صوت، ويفرِّق بينه وبين الإلهام؛ بأنَّ الإلهام وجدانٌ تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلب على شعور منها.»١٩ لعلَّ في هذا التفسير إشارة تلتقي مع توصيف أحمد خان السابق للوحي بأنه «نشاط العقل الإلهي في النفس والعقل القدسي البشري». وإن كنا لم نعثر على أصداء لرأي محمد عبده هذا ينعكس على آثاره.

كان أحمد خان يرفض التمسُّكَ بالإجماع بوصفه دليلًا في الشريعة، ويشدِّد على مرجعيَّة العقل. وعلى الرغم من حماسه للإسلام، لكنه كان يرفض القولَ، الذي صار شعارًا للمصلحين في عصره، والذي يتمثَّل في ضرورة العودة لإحياء معارف التراث وعلومه؛ لأنَّ معاصريه يرون أن لا سبيل لنهوض الأمَّة اليوم إلا بما كان سببًا لنهوضها أمس، وإحياء معارف التُّراث وعلومه يتكفَّل الاستجابةَ لمتطلَّبات المسلم اليوم، ويتضمَّن الحلولَ لمشكلات العصر.

لم يُقلِّد أحمد خان آراءَ متكلِّمي الإسلام؛ لذلك قدَّم اجتهادًا مختلفًا لعقائد ومقولات كلاميَّة أساسية. ذهب أحمد خان إلى تاريخيَّة أكثر أحكام الشريعة، بوصفها أحكامًا مرحليَّة تعبِّر عن عصر البعثة. وكانت له رؤيتُه الخاصَّةُ في تفسير القرآن، فأعاد النظرَ في فهم آيات الأحكام، وأثارت آراؤه الكثيرَ من ردود الأفعال الصادمة، خاصَّة رأيه في حكم الجهاد في القرآن، الذي يقول بمرحليته وتعبيره عن حاجة الدعوة عصر البعثة.

ألَّف أحمد خان كتبًا عديدة، من أشهرها «تفسير القرآن وهو الهدى والفرقان»،٢٠ الذي اتَّخذ فيه الواقعَ أساسًا في التفسير، وعمل على تأويلِ آياتِ القرآن في ضوءِ المعارف الحديثة. واقترح في كتابه «تبيان الكلام» نظريةً لإرساء أسس التفاهم بين الأديان اصطلح عليها ﺑ «إنسانية الأديان».

لم ينشغل بالدعوة لاتِّحاد المسلمين تحت رايةِ خلافةٍ جامعة، بل كتب رسائلَ يذمُّ فيها الخلافةَ العثمانية ويرفضها، في الوقت الذي كان شبلي النعماني وسيد أمير علي (١٨٤٩–١٩٢٨م) في الهند يدافعان عن اتحاد المسلمين وهذه الخلافة.

شبلي النعماني لم يكن منسجمًا مع أكثر آراء أحمد خان الجديدة؛ لذلك رفض التدريسَ في عليكره ابتداءً عندما دعاه أحمد خان، إلا أنه استجاب لاحقًا بعد إصرار الأخير عليه، فأسند إليه كرسيَّ اللغة العربية والفارسية. يصف شبلي النعماني علاقته بأحمد خان بقوله: «طالما كان النِّزاع بيني وبين السيد أحمد شديدًا في آرائه الدينية، وطالما فنَّدتُ آراءَه، ومع هذا لا أنكر فضلَ أسلوبه العالي الذي استخدمه في شرح أفكاره، فكان أسلوبًا رائعًا منقطعَ النظير، مملوءًا بالفكاهة الحلوة، والتندُّر الظريف.»٢١
لم يشأ أحمد خان اللقاءَ بجمال الدين الأفغاني (١٨٣٨–١٨٩٧م) حين أقام مدةً في الهند، للاختلاف الواسع بين رؤيتيهما للإصلاح والتجديد. وتجلى التعبيرُ عن اختلاف الرؤيتين بكتابة الأفغاني رسالةَ «الرد على الدهريين»٢٢ في نقد أفكار أحمد خان.

أشاعتْ آراءُ أحمد خان واجتهاداتُه في إعادة فهم المقولات الكلامية عاصفةً من الجَدَل والمناظرات، أيقظتِ التفكيرَ الكلامي السَّاكن، وأقحمتِ العقلَ المسلمَ في شبه القارة الهندية في فضاءٍ يموج بأسئلة وجدالات مختلفة، لم يألفْها هذا العقلُ الذي كان يتلقَّى اجتهاداتِ مؤسِّسي الفِرق وعلماء الكلام بوصفها اجتهاداتٍ أبديَّةً.

أحمد خان، أوَّلُ متكلِّم مسلم في العصر الحديث، لم يخرج على علم الكلام القديم برأيه في الوحي فحسب، بل خرج بآراءٍ عديدة في العقيدة، وأبواب متنوِّعة في الشريعة، واتَّخذ موقفًا صارمًا حيال الحديث، رفض فيه توثيقَ أية سلسلة لروايته. ومع إيمانه بختم النبي محمد للنبوة، لكن نسبَ إليه بعضُهم القولَ باستمرار النبوة، ولعله كان يرى استمرارَ الوحي بنحو يمكن فيه لمن لديه استعدادٌ وارتياضٌ روحي أن يعيش تجربةَ الوحي، ليس وحي التبليغ برسالة إلهية، بل هو ضربٌ من البصيرة الروحية السامية؛ لأنَّ «الوحي ليس شيئًا ينزل على النبي من الخارج» كما يقول، ولا يعني ذلك أنَّ استمرارَ الوحي هو استمرارُ وحي الرسالة والتبليغ.

أحمد خان، مفكِّرٌ شجاعٌ صريحٌ في الإعلان عن آرائه ومواقفه الشديدة الإثارة، الخارجة على التفكير الديني التقليدي، يمتلك شخصيةً فاعلةً مؤثِّرة، تفرض احترامَها حتى على من يختلف معها. يصف أحمد أمين شجاعته وصراحته بقوله: «شجاعته التي لا تُحدُّ في تنفيذ خطته، وصراحته البالغة في الجهر برأيه، وعدم اعتداده بنقد الناقدين على اختلاف ألوانهم، وإصراره على ألا يسمع إلا لصوت ضميره، ينقد الإنجليز في ترفُّعهم، والمواطنين في تخلُّفهم، ورجال الدين في جمودهم، ورجال السياسة في تخيلهم على حد سواء.»٢٣ لذلك انبرى للردِّ عليه أكبرُ حسين الإله آبادي (١٨٤٦–١٩٢١م)، وجمال الدين الأفغاني، وشبلي النعماني، وغيرُهم. كلٌّ منهم يناقشه من موقع؛ فمنهم مَن رأى في فهمه للوحي تجديفًا، ومنهم مَن وجد رأيَه باستمرار النبوة مروقًا مهَّدَ لادِّعاء بعض المدَّعين للنبوة، ومنهم مَن وصف رفضه المقاومةَ المسلحة للاستعمار بالعمالة للإنجليز، ومنهم مَن فسَّر عدمَ حماسه لاتحاد المسلمين تحت رايةِ خلافةٍ جامعةٍ خيانةً.
وعلى الرغم من كل تلك المعارضة الشديدة لأحمد خان، لكنَّ بصمة فهمه للوحي وغيره من آرائه المثيرة ظهرت في أعمالِ أكثر من مفكِّر مسلم فيما بعدُ في الهند وباكستان وإيران والبلاد العربية. وبلغ التأثير الذي أحدثه أحمد خان في حياة مسلمي الهند أن وصف قبرَه أحدُ الشخصيات الذين اشتركوا في دفنه بقوله: «هذا قبرُ أمتنا.»٢٤

(٣) نشأة علم الكلام الجديد في الهند

محمد إقبال: ختمُ النبوة يعني استغناءَ العقل عن النبوة

محمد إقبال (١٨٧٧–١٩٣٨م) أوَّلُ مَن استأنف طريقةَ تفكيرِ سيد أحمد خان، وترسَّم نهجَه التأويليَّ بمنطقٍ أعمق، ورؤًى أكثفَ وأبعدَ غورًا؛ فقد سعى لزحزحة علم الكلام القديم، وتمحورتْ جهودُه حول محاولةِ بناءِ فلسفةٍ بديلة للدين، ليستْ مكتفيةً بذاتها، بل اغتنت بما استوعبتْه وتمثَّلتْه من معارف الآخر. وقد تنوَّعت مرجعياتُ التفكير الكلامي عند إقبال؛ فهو تارةً يستلهم مقولاتِ الفلاسفة، وأخرى يتعاطى مع خبرةِ اللاهوت المسيحيِّ الجديد، وثالثة يستعين بعلمِ النفس، أو الاجتماع، ورابعة ينهل من العرفان. وهو بذلك يتخلَّص من حالة الوَجَل والخوف حيال معطيات اللاهوت الجديد، والعلوم الإنسانية الحديثة، هذا الخوف الذي استبدَّ بتفكير معظم الإسلاميين.

كثيرًا ما يتعاطَى إقبال مع الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة بمجرد إشارات عاجلة؛ إذ لم تنعكس في آثاره بوضوح بياناتٌ تشي بتكوين معمَّق فيها، ولا نجده يوظفها بشكل تظهر فيه براعته وقناعته بضرورة استعمال مناهجها وأدواتها في فهم التراث وتحليله ونقده، وإعادة بناء التفكير الديني في الإسلام في ضوئها. غير أنَّه عندما ينتقل إلى آثار العرفاء كجلال الدين الرومي، نجده يغوص في الأعماق، وكأنَّ الرومي تجلَّى فيه، كما يلمح لذلك، مثلما تجلَّى ابنُ عربي بالرومي، فتسامت روحُه في عوالم المعنى، إلى الحدِّ الذي يصف إقبالُ أثرَ جلال الدين فيه بقوله:

صَيَّرَ الرُّومِيُّ طِينِي جَوْهَرَا
مِنْ غُبَارِي شَادَ كَوْنًا آخَرَا
كتب محمد إقبال «تجديد التفكير الديني في الإسلام»، وهو أولُ نصٍّ في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد في الإسلام الحديث، لكنَّ حضورَه وتأثيرَه ما زال هامشيًّا في الدراسات الدينية بالعربية. في كتابه هذا خصَّص إقبال فصلًا عالج فيه «التجربة الدينية»، وصاغ مفهومًا للوحي يتمحور حول هذه التجربة، وميَّز بين تجربة الأنبياء وتجربة العرفاء؛ ذلك أنَّ الثانيةَ يبقى صاحبُها حبيسًا فيها ولا يخرج من فضائها، فيما يتخطى النبيُّ تجربتَه الشخصية، لأنها تمنح شخصيتَه إرادةَ تغيير العالم.٢٥ جعل إقبال الحاجةَ لوحي الرسالة الإلهيَّة تختصُّ بمرحلةٍ من مراحل الوعي البشري، فإذا بلغ العقلُ رشدَه اعتمد على نفسه، ولم يَعُد بحاجةٍ إلى ما هو خارج عنه كي يتطوَّر ويتكامل، بل يعتمد عقلَه ووعيَه وتجاربَه وخبراتِه المتراكمة. ذلك ما لخَّصه محمد إقبال بقوله: «إنَّ النبوَّة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها. وهو أمرٌ ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدًا إلى الأبد على مقودٍ يُقاد منه، وأن الإنسان، لكي يحصل كمال معرفته لنفسه، ينبغي أن يُترَك ليعتمد في النهاية على وسائله هو.»٢٦
الحقيقة الدينية والقيمية أدركها الإنسانُ بالتَّدريج عبر التاريخ؛ فقد لبثت البشريةُ آلافَ السنين يرشدها العقلُ وتهتدي بالنبوَّة في إدراك الحقيقة الدينيَّة والقيمية، إلى أن خُتمت النبوةُ بمحمد . وبمرور الزمن اتضحت رؤيةُ الإنسان ونضجتْ وتكاملتْ، تبعًا لنُضْجِ وتَكَامُل العقل والوعي ومناهج وأدوات المعرفة التي يوظِّفها في الفهم، بنحوٍ تتمكَّن فيه البشريةُ أن تعتمدَ في المعرفة على ميراث الأديان والنبوات، وما تراكم خلال تاريخها الطويل من جهود الفلاسفة والعلماء. ما دامت حاجاتُ الروح واحدةً، حيثما وأنَّى كان الكائنُ البشريُّ؛ فلم تَعُد هناك حاجةٌ لأنبياء جدد أو كتبٍ مقدَّسة إضافية بعد ختم النبوة.٢٧

إن محمد إقبال لم يطوِّر أفكارَه التي تحدَّث عنها في «تجديد التفكير الديني في الإسلام»، وكأنه لم يشأ ذلك، أو لم تسعفه حياتُه أن يثري جهودَه نظريًّا، ولم يكتشف مساراتِها وتطبيقاتِها في معارف الدين.

إقبال شاعرٌ ظلَّت روحُه تكتوي بآلام المسلمين في موطنه وعالَم الإسلام، والشاعرُ بطبيعته الانفعالية المفرطة الحساسية لا يغويه العملُ الفكريُّ الذي يتطلَّب صمتًا متأمِّلًا، وجَلَدًا متريثًا، وصبرًا طويلًا. ولعلَّ انهماكَ إقبال في تأسيسِ وطنٍ قوميٍّ للمسلمين في باكستان، واختصارَ كلِّ أحلامه في ذلك الوطن، واستهلاكَ طاقته في العمل السياسي، وجَّه اهتماماته لمسار آخر، وأقعده عن خلقِ امتدادٍ حيوي لآفاق الوعي الذي كان يَعِدُ به، وتأسيس مدرسة فكرية تعمل على إعادة بناء التفكير الديني، مثلما فعل مواطنه المودودي في تأسيس جماعته المعروفة ﺑ «الجماعة الإسلامية»، وإن كانت ظروفُ وعوامل بناء المدارس الفكرية تختلفُ عن بناء الجماعات السياسية. الجماعاتُ السياسية لا تتطلَّب سوى شخصية تمتلك براعةً في مخاطبة مشاعر الناس وإثارة عواطفهم وتحريض هوياتهم، في حين تتطلَّب المدارسُ الفكرية شخصياتٍ استثنائيةً في نبوغها العقلي، وقدرتها على إحداث اختراق في بنية النظام المعرفي المتسلِّط، وصياغة رؤية لنظام معرفي بديل. على الرغم من كلِّ ما تميز به التفكيرُ الديني لمحمد إقبال من بصيرةٍ مُلهِمة، لكنَّه ربما كان أولَ مفكرٍ مسلمٍ يخترع هويةً دينيَّةً للدولة، ويكرِّس كلَّ جهوده من أجل وجودها، إلى أن ظفرَ بذلك سنة ١٩٤٧م عند تأسيس دولة باكستان.٢٨

وقع تفكيرُ محمد إقبال ضحيةَ أحلامِه السياسية، ونزعته العرفانية، وانفعالاته الشاعرية، فتراجع لديه حضورُ العقل بعد طغيان الحماسة العاطفية، واحتجبت عنه أحيانًا مقاصدُ الدين الكلية، وفقدَ القدرةَ على رؤية الأبعاد الكونية والأبديَّة في رسالة الإسلام القيمية، فتشوَّشت رؤيتُه لحظةَ قرأ النصوصَ الدينية في أفق انتظار الوعود المؤجَّلة لمسلمي شبه القارة الهندية، وشغفِهم بدولةٍ يستقلون بها عن موطنهم التاريخي والجغرافي الذي تعايشوا فيه قرونًا طويلة مع مختلف الأديان والإثنيات والثقافات في الهند، فسقط فكرُ محمد إقبال في أفق تطلُّعات الهوية الدينية، وأصبح من أكثر مفكِّري الإسلام في العصر الحديث اهتمامًا وأحرصهم تنظيرًا وأشدهم حماسًا لبناء هوية قومية للمسلمين الهنود تقوم على الانتماء الديني، ويتأسَّس عليها وطنٌ مادتُه وسرديته وجغرافيته دينية، فأثمرت جهودُه تأسيسَ الوطنِ القومي للمسلمين في مشرق ومغرب الجغرافيا الهندية الذي أُعلِن باسم دولة باكستان.

يصف فضل الرحمن الدورَ الكبير لتعاليم إقبال في نشأة باكستان، وأثرها في ضمور النزعة العقلانية، بقوله: «إن تعاليم إقبال بقدرِ ما كانت مؤثِّرة، بل ومؤثِّرة بصورة عميقة وبعيدة المدى إلى درجةِ أنها كانت القوة الرئيسة وراء نشأة باكستان، بقدرِ ما كانت ترمي بكامل ثِقلها على الجانب الإحيائي النزعة، بحيث كانت تؤوَّل على أنها تمثِّل الاتجاه المضاد للنزعة العقلانية. والملاحظ أن العقيدة العملية الحيوية والحركية التي دافع عنها إقبال وجدت لها مثل هذه الاستجابة الضخمة الواسعة، بحيث أدَّت بالجهود العقلية الجديرة ببالغ الاعتبار التي جاءت منها هذه العقيدة، أدَّت بها إلى الانتحار في خضمِّ هذه العملية.»٢٩

مفارقة فِكر إقبال أنه فِكر مزدوج، تلتقي فيه عناصرُ متضادة ينفي أحدُها الآخرَ؛ فهو من جهة من أنضج مفكِّري الإسلام في زمانه لبناء رؤية نظرية لتجديد التفكير الديني، وأكثرِهم براعةً في الكشف عن الأبعاد الكونية للقيم الروحية والأخلاقية في الإسلام، وبناءِ فهمٍ للوحي وختمِ النبوة، لا يصادر فيه الوحيُ العقلَ، ويضع ختمَ النبوة في السياق التاريخي لتطوُّر الوعي البشري وبلوغ العقل رشده وكماله. إلا أن إقبال من جهةٍ أخرى يقف على الضد من عقلانيته؛ فهو الذي صاغ فكرةَ الهوية القومية الدينية للدولة ورسَّخها في ضمير المسلمين في الهند، وهو أولُ مَن أنشأها على الأرض، فنشأ نموذج دولة باكستان الذي أسهم بتأسيسه عبر ولادة مُجهضة، وكان وما زال نموذجًا هَشًّا مُعوَّقًا مُشَوَّهًا.

في الوقت الذي يُعلِن الفكرُ الدينيُّ لمحمد إقبال عالميتَه، وتشديده على كونية العناصر الجوهرية للقيم الدينية، وتجاوزها للخصوصيات المحلية والعرقية والثقافية والدينية، فجأة ينكفئ فكرُه على ذاته فيتَّخذ من بناء هوية قومية دينية للدولة الهدفَ الأعظم الذي ينشده، ويظل مسكونًا بهذا الهاجس، الذي يكرِّس كلَّ جهوده وحياته اللاحقة من أجله.

وكأنَّ فكرَ إقبال يحكم على نفسه بالنَّفي؛ لأنَّ فكرةَ الهوية القومية الدينية للدولة، التي عمل على صياغتها والدعوة إليها، ثم أسهم بتنفيذها، تمثِّل خلاصةَ دعوة الجماعات الدينية، فخلاصة فكرة هذه الجماعات تبتني على خلع هوية دينية على كلِّ شيء في حياة الفرد والمجتمع والدولة، وما تنشده هذه الجماعاتُ هو تعميمُ الهويةِ الدينية للعلوم والمعارف والآداب والفنون،٣٠ وإدراج كلِّ شيء في الحياة في إطار تلك الهوية.
في المقابل نجد فكرَ إقبال يهتم باكتشاف الأبعاد الكونية للقيم الروحية والأخلاقية في الإسلام، العابرة للخصوصيات الدينية والقومية والإثنية والثقافية، وهي القيم المشتركة مع ما يماثلها من قيمٍ يتضمَّنها جوهر الأديان. هذه القيمُ هي اللغة الموحَّدة الضامنة لتفاهم الأديان، فلولاها لما أمكن حماية التنوع في بلاد شاسعة، تتسع لديمغرافيا سكانية عظيمة، يعيش فيها أكثر من مليار وثلث مليار مواطن،٣١ ولولاها لما تحقَّق العيشُ المشترك في العالَم الهندي الذي يسوده التعدُّد والاختلاف الإثني والديني واللغوي والثقافي. غير أنَّ دولةً أساسُها الهويةُ الدينية المشتقة من علم الكلام والفقه، لا تتجسَّد فيها أُسُس العيش المشترك؛ لأن أهدافها يختصرها تطبيق أحكام المدوَّنة الكلامية والفقهية التراثية حرفيًّا، وهذه الأحكام تميِّز في الحقوق والمسئوليات بين المسلم وغيره، والحر والعبد، والرجل والمرأة.٣٢
كان فكرُ إقبال مرآةً للفضاء الديني والروحي والرمزي المركَّب والمتنوع في الهند. يكتب فضل الرحمن: «إقبال، وبغضِّ النظر عن محتوى فلسفته، هو شخصية مركَّبة في طبيعته الذهنية والروحية والعقلية. وهذا العقل المُدرك الأصيل والعقلاني المؤثِّر الجاد، استهجن النزعة العقلية والعقل لعدم جدواهما، وأكد على الإيمان مرشدًا وحيدًا … يركز إقبال على الإيمان والحَدْس، بدلًا من العقل أحيانًا، وأحيانًا أخرى عند توسيع العقل، بحسب السياق الذي يردان فيه، ونوع المخاطب … أمَّا إذا كنا نأخذ ألفاظه، وبخاصة في أشعاره، على نحو منفصل وخارجي، فإننا نقع على جملةِ تناقضات. ولم يقُم إقبال بأي محاولة نظرية جادة لصياغة موقفه المركَّب الأساسي، ولحل متناقضاته الظاهرة.»٣٣
لم ينفرد فكرُ إقبال بذلك؛ إذ نجدُ مفارقةَ التضاد حاضرةً في كتابات جماعة من مفكِّري الإسلام، الذين تُعلِن المفارقةُ في فكرهم عن حضورها بشكلٍ واسعٍ ومكشوفٍ. فإن كانت مفارقةُ التضاد هذه مضمرةً في فكر محمد إقبال، فإنها ظاهرةٌ وصريحةٌ في فكر علي شريعتي وحسن حنفي وغيرهما.٣٤

الإسلام الهندي التعدُّدي الذي كان يتبنَّاه إقبال ويدعو إليه، وانشغلت كتاباتُه في الكشف عن منابعه وإعادة بناء أسسه، لا يلتقي وفكرةَ الهوية الدينية للدولة، وكلَّ مقولاتِ أدبيات التيار الأُحادي في الإسلام الهندي، الذي كرَّس أبو الأعلى المودودي كلَّ كتاباته لصياغة مفاهيمه المركزية المشتقة من مدوَّنتي علم الكلام والفقه في التراث، بغيةَ تأسيسِ دولةِ ما قبل الدولة الوطنية الحديثة. في ضوء هذه المفاهيم أسَّسَ المودودي الجماعةَ الإسلامية وأعلن هدفها الأكبر وهو تأسيس دولته المنشودة، وأوقف لها كلَّ جهوده وأنفق حياته في سبيل إقامتها، حتى تأسست هذه الدولةُ الحلم على أرض باكستان، ومنذ تأسيسها حتى اليوم ظلت باكستان: قلقة سياسيًّا، مضطربة أمنيًّا، فقيرة اقتصاديًّا، يتضخم تخلفُها، يتفشى فيها التيارُ السلفي المتشدد، وتضمحلُّ فيها حقوق المواطن وحرياته تدريجيًّا. تُفقِر الحياةَ الروحية والأخلاقية لمسلمي باكستان اليوم السلفيةُ، التي تصر على الانغلاق وتضييق هامش الحريات والحقوق فيها.

فضل الرحمن: القرآنُ بتمامه كلامُ الله، وبتمامه كلامُ محمد

وُلد فضلُ الرحمن في العام ١٩١٩م في الهند، لأب وأم متديِّنين، كانا منبعًا لإلهامِ حياته الروحية في طفولته، وبناءِ معتقداته، وأخلاقياته، وشخصيته. يصف فضلُ الرحمن ما استلهمه من أبويه بقوله: «كان لوالدتي ووالدي تأثيرٌ حاسم في تكوُّن طباعي ومعتقداتي الأولى. فقد تعلَّمتُ من والدتي فضائل الصدق والرحمة والثبات، وقبل ذلك الحب. وكان والدي باحثًا دينيًّا مطَّلعًا على الفكر الإسلامي التقليدي، على النقيض من معظم الباحثين الإسلاميين التقليديين في ذلك الوقت، الذين كانوا يعتبرون التعليم الحديث هو سمٌّ للإيمان والأخلاق على السواء. كان والدي مقتنعًا بأنه ينبغي على الإسلام التعامل مع الحداثة بأنها تَحَدٍّ وفرصة في الوقت نفسه. وما زلت أشاطر والدي الرأي نفسه حتى يومنا هذا.»٣٥

فضلُ الرحمن — كما يؤكد تلامذتُه ومريدوه — مثالٌ أخلاقي للمثقَّف المسلم؛ فقد كان تفكيرُه مرآةً لالتزامِه وشجاعتِه، والتزامُه وشجاعتُه مرآةً لتفكيره. وما أقلَّ هذا المثال في حياتنا اليوم. ظلَّ فضلُ الرحمن وفيًّا لأفكاره، ولم يتراجع قطُّ أو يراوغ أو يتردَّد، على الرغم مما تعرَّض له من هجمات قاسية في باكستان، اضطرَّته أخيرًا لمغادرة موطنه والهجرة إلى الولايات المتحدة العام ١٩٦٨م، والتي مكث فيها أستاذًا وباحثًا حتى وفاته في العام ١٩٨٨م.

كان فضل الرحمن خبيرًا بالتراث، بجوار تكوينه الأكاديمي الرصين واللغوي المتنوع، اهتمَّ بتطوير آراء اجتهادية جريئة. ومع أنَّ آراءَ فضل الرحمن لم تبتعد كثيرًا عن الروح الحرَّة لمحمد إقبال، لكنها لم تقلِّده أو تحاكِ تفكيرَه، أو تُمْسِ صدًى لها في كلِّ ما قاله، بل تكرَّست واغتنت آراءُ إقبال من خلال فكر فضل الرحمن. كانت أعمالُ فضل الرحمن أشملَ وأوسعَ من أعمال إقبال، لكنَّها لم تذهب بعيدًا في تأويلها للقرآن، ولم تتحرَّر كليًّا من سطوة التراث، كما هي أعمال إقبال وروحه الشاعرية المشبعة بنكهة العرفان، وعقله الحر الذي كان أكثر قدرةً على التفكير خارج أسوار التراث؛ لذلك صارت رؤى إقبال أنفذَ بصيرةً وأكثفَ حضورًا وأشدَّ رسوخًا.

اقتفى فضلُ الرحمن نهجَ أحمد خان وإقبال في بيان حقيقة الوحي. لا يكرِّر فضلُ الرحمن مفهومَ المتكلِّمين القديم للوحي، بل يصوغ مفهومَه الذي يقترب من مفهوم بعض العرفاء؛ فالوحي — كما يرى — تجربةٌ عميقةٌ يتفاعل معها النبي، وتعمل على إعادة بناء البعد الروحي لشخصيته. يكتب فضلُ الرحمن: «إن تجارب الوحي تشمل تمدُّدًا أو توسُّعًا لذات الرسول، التي بواسطتها استطاع أن يطوِّق كل الحقيقة في شموليتها.»٣٦ أما القرآنُ فهو من منظور فضل الرحمن كلُّه كلمةُ الله وكلُّه كلامُ محمد إذ يقول: «القرآن بتمامه كلام الله، وهو بالمعنى الحقيقي بتمامه كذلك كلام محمد.»٣٧ كأنه يريد القولَ إن القرآنَ كتابٌ يتجلَّى فيه اللهُ للناس، كما تتجلَّى فيه شخصيةُ النبي محمد للناس أيضًا؛ ففيه نستمع لصوت الله بأصداءِ روح النبي الكريم، وملامح رؤية النبي للعالَم، وانعكاسِ صورة الواقع الذي يعيش فيه. كان فضلُ الرحمن قد تحدَّث مبكِّرًا عن مسألة الوحي في كتابه «الإسلام»، فأصبحت، بموازاة آراء أخرى له، الوثيقةَ الأبرزَ لإدانته من التيار التقليدي، ومنها رأيه في الفوائدِ المصرفية، وتنظيمِ الأسرة، والذبحِ الآلي. تشبَّث خصومُ فضل الرحمن بتفسيره للوحي، واتُّهم بأنه يقول إنَّ القرآنَ كتابٌ اشترك النبيُّ فيه مع الله. وقد كتب فضلُ الرحمن مدافعًا عن موقفه هذا قائلًا: «دافعت عن فكرة أن القرآن نزل بوحي شفوي، وهو الاعتقاد الكونيُّ. لكن بدا لي أنَّ الروايات التقليدية المتداولة عن الوحي تنقل صورةً ميكانيكية وخارجية وظاهرية عن العلاقة بين محمد والقرآن. يأتي جبريل وينقل إليه رسائل الله، وكأنه ساعي بريد يقوم بتوصيل الرسائل. يورد القرآن أنَّ المَلاك «نزل على قلب» محمد.٣٨ لقد قلتُ إن القرآن هو بكامله كلمة الله، بما يعني أنه معصومٌ عن الخطأ وخالٍ من الزُّور، لكنه جاء بكامله على لسان النبي وهو نابع من قلبه.»٣٩ وكأننا مع كلام فضل الرحمن نتحسَّس أصداءَ صوت محيي الدين بن عربي، الذي لم يجعل النبيَّ متلقِّيًا ميكانيكيًّا سلبيًّا للوحي، والذي اختصر مفهومَه للوحي بقوله: «فمن شجرةِ نفسِه جنى ثمرة غرسه.»٤٠ ونجد ما يحاكي هذا الفهمَ فيما سمَّاه عبد الكريم سروش: «بسط التجربة النبوية»، وهو يتحدَّث عن كيفية تلقِّي النبي للوحي، وكيف أنَّه كالنحلة التي تعيد تكوينَ الرحيق عسلًا، وليس كالببغاء التي هي تكرِّر ما تسمع.٤١ و«القبض» و«البسط» مصطلحان يستعيرهما سروش من المعجم الصوفي.٤٢

أعمالُ فضل الرحمن تتوكَّأ على القرآن، وتتَّخذه دليلًا إلى ما تبحث عنه وترشد إليه من مفاهيمَ ومواقفَ. وهي ميزة لا نعثر عليها في أكثر أعمال غيره، في ما يكتبه ويتحدَّث به عن الدين والإسلام والقرآن من المفكِّرين الجدد خارج الفضاء اللغوي للعربية.

لو قارنَّا أعمال فضل الرحمن بأسلافه من المجدِّدين في الهند نراها الأكثرَ إحالةً على القرآن، كما نجده لا يغفل توظيف السُّنة النبوية، والإفادة منها في كتاباته. كان فضل الرحمن الأكثر براعةً في التحرر من منطق تفكير أهل الحديث؛ فقد ظلَّ وفيًّا لمرجعية القرآن، ومكتشفًا ذكيًّا لقيمه الكلية، وإن لم يستطِع التخلُّص من ترسُّبات ثقافته الدينية في بيئته الأولى وآثار تكوينه المبكر. وكثيرًا ما كان توظيف السُّنة على حساب مرجعية القرآن في الإسلام الهندي الحديث، إلى الحدِّ الذي اضمحلَّ فيه حضورُ القيم الكونية الكلية للقرآن عند أغلب مفكري الإسلام الهندي المتأخرين، بعد اجتياح تيار أهل الحديث للتفكير الإسلامي في شبه القارة الهندية، وتفشِّي السلفية المتشددة.

بقدرِ ما نرى هذه الطريقة في التفكير والكتابة ميزةً تسود كتابات فضل الرحمن، نجده لا يجرؤ أحيانًا على عبور آراء متكلِّمي الإسلام ومفسِّريه ومحدِّثيه، أو يشتق لاجتهاده طريقًا مغايرًا لا يكرِّر آراءً تعبِّر عن وقائع وأحوال عصرهم؛ لذلك نرى بعض آرائه أسيرةَ تفكير انتهى زمانُه. عندما نقرأ مجموعة أعماله نجدها تفتقر في مواطن متنوِّعة منها لتوظيفِ المكاسب الحديثة للفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع في دراسة الظواهر الدينية، والكشف عن الجوهر العميق للتجارب الروحية، وقلما نجده يتعاطَى مع المناهج الجديدة للتفسير في فهم القرآن وقراءة السُّنة، وتكاد بعض آثار فضل الرحمن تبدأ بالتراث وتنتهي بالتراث.

على الرغم من النقد المهم الذي يسدِّده فضلُ الرحمن لتراث التفسير، والحديث، وعلم الكلام، الأشعري خاصة، والفقه وأصول الفقه، والفلسفة والتصوف، وإلحاحه على ضرورةِ إعادة اكتشاف رسالة الإسلام الأخلاقية في سياق قرآني، وبناءِ فهم للتوحيد في سياق قرآني، وإنتاج فقه في سياق قرآني، إلا أنَّ فضلَ الرحمن لم يحدِّثنا في آثارِه عن آليةٍ للتعاطي مع القرآن، تكشف لنا طاقتَه الحيويةَ، ونتبصَّر رسالتَه الأخلاقية؛ أي إنَّه لم يقترح أدوات نظر ومناهجَ بديلة، يتحرَّر بها فهمُ القرآن من أدوات نظر ومناهج القدماء وإنتاجها لكلِّ ذلك التراث، الذي يطالب فضلُ الرحمن بعبوره؛ لأنه لا ينتمي إلى عصرنا بل إلى عصر إنتاجه بكل ملابساته، ولأنه لم ينطق بروح القرآن ويبح بما ينشده، بل عمل على إهدار طاقة القرآن الأخلاقية الروحية الخلَّاقة. لا يمكن أن ننتج رؤيةً جديدةً للقرآن عبر استعمال أدوات النظر والمناهج الموروثة للمفسرين والمحدِّثين والمتكلِّمين والأصوليين والفقهاء والمتصوفة والفلاسفة والمناطقة والنحويين والبلاغيين. إن الفهمَ الجديدَ الذي يصرُّ عليه فضلُ الرحمن يتطلَّب الانتقالَ من زاوية نظر القدماء إلى زاوية نظرٍ تتموضع في الأفق التاريخي الذي نعيشه، وتوظِّف علوم ومعارف عصرنا كما وظَّف الآباء علوم ومعارف عصرهم، وأنتجوا في ضوء منطقها منطقَهم لفهم الدين وتفسير الكتاب والسُّنة.

لا شكَّ أن حجرَ الزاوية في الفهم الجديد هو قدرتُنا على تطوير وتوظيف منطق بديل في الفهم، وأدوات جديدة في قراءة النصوص الدينية، فمشكلةُ تفكيرنا الديني أنه لا يزال عاجزًا عن عبور أسوار التراث المغلقة، وما دمنا نجول في مدارات هذه الأسوار لن نتبصَّر الطريقَ الذي يقودنا للخلاص.

خاتمة

حاولت أن أستعرضَ بإيجازٍ أمثلةً على المعيار الذي اقترحته في الفصل الأول لعلم الكلام الجديد، والذي يتمثَّل في الفهم الجديد للوحي خارج التراث الكلامي، فتحدَّثت في تسلسل تاريخي، عن التفسير الجديد للوحي في الإسلام الهندي لدى مجموعة من المفكرين، وهم: ولي الله الدهلوي، وأحمد خان، ومحمد إقبال، وفضل الرحمن. الفضلُ يعود للإسلام الهندي في نشأة علم الكلام الجديد؛ لأن مؤسِّسيه الأوائل كانوا من أبرز مفكري الإسلام في شبه القارة الهندية، ثم انتقل بعد ذلك إلى إيران، والعالَم العربي، وبدأ الاهتمامُ به أخيرًا في كلِّ عالَم الإسلام.

مثلما كان الإسلام التعدُّدي الهندي سبَّاقًا في الاجتهاد الكلامي خارج علم الكلام التقليدي، كان الإسلام الأُحادي حريصًا على استئناف التراث كما هو، وبعث مقولاته المناهضة لبناء دولة حديثة نصابها المواطنة، والتشديد على الدعوة لدولةٍ تستنسخ نموذجَ دولةِ ما قبل الدولة في العصر الحديث، وتعلن مناهضة كلِّ ما يمثل الدولة الحديثة من دساتير ونظم وقوانين. وذلك ما شدَّدت عليه كتابات أبي الأعلى المودودي، التي أضحت ملهمةً لأدبيات الجماعات الدينية في بلادنا العربية.

مقولاتُ مدرسة الإسلام الهندي التعدُّدي التي يمثلها «ولي الله الدهلوي – أحمد خان – محمد إقبال – فضل الرحمن»، خاصةً ما أنجزه محمد إقبال من فهمٍ ﻟ «الوحي، وختمِ النبوة، والتجربةِ الدينية، والاجتهاد بوصفه مبدأَ الحركة في الإسلام»، استأنفها أحدُ تيارات التفكير الديني في إيران، فبنى على شيء منها وأعاد إنتاجها كلٌّ من مرتضى مطهري، وعلي شريعتي، وعبد الكريم سروش، ومحمد مجتهد شبستري. كلٌّ على شاكلته، ووفقًا لقراءته؛ فمطهِّري وظَّفَ فكرة «الاجتهاد مبدأ الحركة في الإسلام» لإقبال، وشريعتي اهتمَّ بفكرة «ختم النبوة». عبد الكريم سروش، ومحمد مجتهد شبستري كانا الأكثرَ اهتمامًا بآراء مدرسة الإسلام الهندي التعدُّدي، والأبعد مدًى في قراءة مقولاتها المركزية، والبناء عليها أفقيًّا ورأسيًّا، خاصة المفهوم الجديد للوحي في الإسلام الهندي التعدُّدي، ويمثل هذان المفكِّران أبرزَ مَن تجلَّت في آثارهما هذه المدرسة في التفكير الديني في إيران، وأصبح فكرُهما أحدَ التيارات الفاعلة والمؤثِّرة اليوم، وكانا الأكثرَ براعةً في توظيفِ مقولاتِ مفكِّري الإسلام التعددي الهندي، وبناءِ رؤًى محوريةٍ عليها في علمِ الكلام الجديد، بعد أن عملا على توسيع آفاقها وتطويرِها وإثرائِها.

يعود ذلك إلى وجودِ سياقاتٍ تاريخية متفاعلة وفضاء روحي مشترك للإسلامين الهندي والإيراني، وتناغم الفضاءُ الثقافيُّ والأدبيُّ والفنيُّ والروحيُّ الهندي والإيراني، منذ العصرِ الساساني وظهورِ مدرسة جندي سابور، وانتقالِ الثقافة الهندية وآدابها إلى الفارسية في العصر العباسي عبر الترجمة، وتغلغلِ الثقافة الفارسية وآدابها في الهند في عصور لاحقة.٤٣ ففي الهند تنوُّعٌ ميتافيزيقي، وعقلٌ تركيبي، يثريه تراكمُ تجارب الأديان وتلاقُحها. وفي إيران نجد صدًى لهذا التنوُّع والتركيب، وشيئًا من آثار هذه الروح.
١  «المؤتمر السابع للعلوم الاجتماعية والإنسانية»، الذي عقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة – قطر، ٢٣–٢٥ / ٣ / ٢٠١٩م.
٢  ابن عربي: «الفتوحات المكية»، باب ٥٠، ج٢، ص١٠٠.
٣  الرفاعي، عبد الجبار: «الدين والكرامة الإنسانية»، ص٦٧–٧٠، ط٢، ٢٠٢٢م، مركز دراسات فلسفة الدين ودار الرافدين ببغداد.
٤  خان، وحيد الدين: «خطأ في التفسير»، صدرت طبعتُه الأولى بالأردية ١٩٦٣م، وبالعربية ١٩٩٢م. هذا الكتاب نقدٌ ذكي لفكر المودودي، كتبه خبيرٌ بفهم المودودي للدين ومنهجه في التفسير.
٥  خان، وحيد الدين: «خطأ في التفسير»، ص١٢، ١٧.
٦  . خان، وحيد الدين: «خطأ في التفسير»، ص١٢٧–١٢٨.
٧  خان، وحيد الدين: «الإسلام يتحدَّى: مدخل علمي للإيمان»، تعريب: ظفر الإسلام خان، مراجعة وتحقيق: عبد الصبور شاهين، الكويت، دار البحوث العلمية، ط٦، ١٩٨١م، ص٢٤.
٨  نقل هذا الكتاب إلى العربية نجل المؤلف، ظفر الإسلام خان، ونشرته دار الاعتصام بالقاهرة سنة ١٩٧٢م.
٩  نقل هذه الدراسة إلى العربية نجل المؤلف: ظفر الإسلام خان، ونشرتها دار النفائس في بيروت، في كتابٍ يضمُّ مجموعات دراسات أخرى للمؤلف بعنوان «الإسلام والعصر الحديث» سنة ١٩٨٣م.
١٠  للشاه وليِّ الله الدهلوي سندٌ معروف في كتاب «الفتوحات المكية» للشيخ محيي الدين بن عربي. وألَّف الدهلوي ١٢ كتابًا في التصوف، معظمها بالفارسية، ومنها: «ألطاف القدس»، «شفاء القلوب»، «لمعات»، «الهوامع»، «فيوض الحرمين» (راجع: الشاه ولي الله الدهلوي: «الفضل المبين في المسلسل من حديث النبي الأمين»، تحقيق: محمد عاشق إلهي البرني المدني، دار الكتاب ديوبند، ١٤١٨ﻫ، حديث مسلسل بالأشاعرة، ص٦٣). ويجدر أن يتصدَّى أحد الباحثين المختصين بآثار محيي الدين بن عربي وولي الله الدهلوي، لاكتشاف منابع إلهام فهم الدهلوي للوحي في آثار ابن عربي.
١١  رشيد بن زين: «المفكِّرون الجدد في الإسلام»، نقله عن الفرنسية: حسان عباس. تونس، دار الجنوب للنشر، ٢٠٠٩م، ص١٨. الآثار التي تتضمن رأي وليِّ الله الدهلوي بالوحي لم نعثر عليها، على الرغم من البحث الواسع عنها؛ لأنها مطبوعة منذ مدة طويلة في الهند، فلم نجدها لا ورقية ولا إلكترونية على الإنترنت، وهكذا الحال مع آثار سيد أحمد خان؛ لذلك اضطررنا للنقل غير المباشر عنهما.
١٢  رشيد بن زين: «المفكِّرون الجدد في الإسلام»، نقله عن الفرنسية: حسان عباس، مصدر سابق، ص١٣٦–١٣٧، عن كتاب الدهلوي: «فيوض الحرمين». يقول وليُّ الله الدهلوي في «فيوض الحرمين»: «فكما أن خيال الإنسان يتمثل فيه لذةُ جذب نفع أو دفع ضر، ثم يصطفي الخيال خلاصةَ هذه الصورة فيلقيها في تلك القوة فتنبعث القوة فيحصل العزم فيحصل تحريك العضلات إلى الفعل المطلوب، فكذلك النفس القوية المتجردة يتمثل عندها همةُ ظهور واقعة في الناسوت، فتصطفي خلاصة تلك الصورة المطلوبة فتحملها مع معرفتها بربها إلى تلك الحضرة، فينبعث القضاء من قلب الطبيعة الكلية وتحصل صورة الواقعة في المثال، ثم إذا جاء وقتُ حدوث الواقعة في الناسوت أحدثها الله كما خلقها في المثال، وفطنت أن تأثيرًا إلهيًّا بالوجه الذي ذكرنا هو كمال الإنسان، وأنه معد لصيرورة النفس جارحة من جوارح الحق في البرزخ» (الدهلوي، وليُّ الله: «فيوض الحرمين»، مع ترجمة أردو سعادت كونين، دهلي، مطبع أحمدي، بدون تاريخ، ص٦٩–٧٠).
١٣  المصدر السابق، ص١٣٦ عن كتاب الدهلوي: «شطحات».
١٤  ترجمت ونشرت مجلة قضايا إسلامية معاصرة سلسلةَ هذه المحاضرات في الأعداد: ٥٣–٦٨، الصادرة في السنوات ٢٠٠١–٢٠١٧م.
١٥  أمين، أحمد: «زعماء الإصلاح في العصر الحديث»، بيروت، دار الكتاب العربي، ص١٢٦.
١٦  مجلة المنار، س١، ع٢٠ (أغسطس ١٨٩٨م).
١٧  رشيد بن زين: «المفكِّرون الجدد في الإسلام»، نقله عن الفرنسية: حسان عباس، مصدر سابق، ص٤٧.
١٨  خرمشاهي، بهاء الدين: «تفسير وتفاسير جديد»، ص٦٠.
١٩  عبد الرازق، مصطفى: «الدين – الوحي – الإسلام»، مصدر سابق، ص٧٦.
٢٠  يقع هذا التفسير في مجلدين.
٢١  أمين، أحمد: «زعماء الإصلاح في العصر الحديث»، ص١٣٦.
٢٢  «الرد على الدهريين» رسالةٌ صغيرة بالفارسية كتبها جمال الدين الأفغاني، وترجمها للعربية محمد عبده بمساعدة أبي تراب الأفغاني، صدرت طبعتها الثالثة في القاهرة سنة ١٣٢٠ﻫ. يمتلك جمال الدين كاريزما وقدرة فذة في الخطابة والتأثير على عواطف مَن يستمعون إليه وإيقاد مشاعرهم، وإن كان يفتقر لموهبة الكتابة، والتكوين المعرفي العميق، الذي يتناسب مع التأثير السياسي والاجتماعي والثقافي الديني الفعَّال الذي أحدثه في حياته. لا تكشف رسالة «الرد على الدهريين» عن رؤية فلسفية أو كلامية عميقة لجمال الدين.
٢٣  أمين، أحمد: «زعماء الإصلاح في العصر الحديث»، ص١٣٧.
٢٤  مجلة المنار، س١، ع٢٠ (أغسطس ١٨٩٨م).
٢٥  يستمد محمد إقبال هذا التفسيرَ من «الأسفار الأربعة» عند العرفاء، التي يكمل فيها النبي هذه الأسفار، فيما يمكث غيرُه في السِّفر الثالث لا يتخطَّاه. يكون السِّفر الأول من الخلق إلى الحق بالحق، والسِّفر الثاني: من الحق إلى الحق بالحق، والسِّفر الثالث: من الحق إلى الخلق بالحق، والسِّفر الرابع: من الخلق إلى الخلق.
٢٦  إقبال، محمد: «تجديد التفكير الديني في الإسلام»، ترجمة: عباس محمود، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ٢٠١٧م، ص١٩٨.
٢٧  تحدثت عن ذلك بتفصيل واسع وتنويعات متعدِّدة في كتاب: «الدين والظمأ الأنطولوجي»، بيروت، دار التنوير، بغداد، مركز دراسات فلسفة الدين، ط٣، ٢٠١٨م.
٢٨  اسم باكستان مقتبَس من كلمتين فارسيتين؛ كلمة «باک» تعني الطاهر، و«استان» تعني بلدًا، فيكون معناها «البلد الطاهر» باللغة الأردية والفارسية (ويكيبيديا).
٢٩  فضل الرحمن: «الإسلام»، ترجمة: حسون السراي، مراجعة وتقديم: عبد الجبار الرفاعي، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث، ومركز دراسات فلسفة الدين، ٢٠١٧م، ص٣٤٨.
٣٠  تحدَّثت عن ذلك في الفصل الرابع تحت عنوان: «عندما يتجاوز الدينُ حدودَه»، من كتاب: «الدين والاغتراب الميتافيزيقي»، ط٣، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين ودار الرافدين ببغداد، ص١٢١–١٤٤.
٣١  في سنة ٢٠١٩م بلغ عدد سكان الهند ١٣٧٣٦٠٥٠٦٨.
٣٢  تحدَّثت عن ذلك في الفصل الثالث من كتاب: «الدين والاغتراب الميتافيزيقي»، ط٣، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين ودار الرافدين ببغداد، ص٩١–١٤٦.
٣٣  فضل الرحمن: «الإسلام»، ص٣٤٦–٣٤٧.
٣٤  راجع كتاب جورج طرابيشي «المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي»، بيروت، دار رياض الريس للكتب والنشر، ١٩٩١م؛ وكتاب «الدين والظمأ الأنطولوجي»، فصل ٤، المثقف الرسولي علي شريعتي؛ وكتاب «الدين والنزعة الإنسانية»، فصل ٤، اختزال الدين في الأيديولوجيا: لاهوت التحرير عند علي شريعتي وحسن حنفي، بيروت: مركز دراسات فلسفة الدين ودار التنوير، ط٣، ٢٠١٨م.
٣٥  بيري، دونالد: «الإسلام والحداثة من خلال كتابات المفكِّر فضل الرحمن»، ترجمة: ميرنا معلوف ونسرين ناضر، تنقيح لغوي: رياض عثمان، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ٢٠١٣م، ص٥٧. عن سيرة ذاتية كتبها فضل الرحمن بعنوان: «شجاعة الاقتناع».
٣٦  المصدر السابق، ص١٩٥.
٣٧  ورد في ص٣٠ من الطبعة الإنجليزية لكتابه «الإسلام»، لندن، ١٩٦٦م.
٣٨  نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (الشعراء: ١٩٣–١٩٤).
٣٩  بيري، دونالد، مصدر سابق، ص٦٤.
٤٠  القيصري، داود: «شرح فصوص الحِكم»، تحقيق: حسن حسن زاده آملي، قم، ١٤٢٤ﻫ، ج١، ص٣٨٦.
٤١  خصَّصنا محور العدد الخامس عشر الصادر ٢٠٠١م، من مجلة قضايا إسلامية معاصرة لمناقشة نظرية القبض والبسط لسروش، كما خصَّصنا ملفًا في عددٍ لاحق لمناقشة: «بسط التجربة النبوية».
٤٢  «قال القشيري: فإذا كاشف العبدَ بنعت جماله بسطَه، وإذا كاشفه بنعت جلاله قَبضه. فالقبض يوجب إيحاشَه، والبسط يُوجب إيناسه» (راجع: القشيري «شرح أسماء الله الحسنى»، تحقيق: عبد الرءوف سعيد وسعد حسن محمد علي، القاهرة، دار الحرم، ١٤٢٢ﻫ، ص٢١٧).
٤٣  تُرجم للفارسية كتاب شبلي النعماني، «علم الكلام الجديد»، وصدر سنة ١٩٥٠م، لكنه لم يصدر بالعربية إلا سنة ٢٠١٢م؛ أي بعد ٦٢ سنة من صدوره بالفارسية، وهذا يؤكد تناغم الإيقاع الثقافي في الفضاءين الهندي والإيراني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤