إيقاظ المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي للدين في علم الكلام الجديد
الدينُ يجيبُ عن سؤال المعنى
الدينُ هو الاستجابةُ العميقةُ الوحيدة لحاجة الكائن البشري لتخليد وجوده بطورٍ وجودي آخر. إن ثقةَ الإنسان بخلوده هي ما تسكن بها روحُه، ويطمئن بها قلبُه، بغضِّ النظر عن كيفية تصوير هذه الاستجابة وأشكال صياغاتها، ومدى مطابقتها للواقع؛ إذ يتنوَّع تصويرُ الخلود ويتعدَّد التعبيرُ عنه بتعدُّد وتنوُّع الأديان.
الدينُ حياةٌ في أُفُق المعنى، الحياةُ الروحية والأخلاقية والجمالية هي المجال الذي يتحقَّق فيه الدين. الدينُ نظامٌ لإنتاج معنًى روحي وأخلاقي وجمالي للحياة، تفرضه حاجةُ الكائن البشري الأبديةُ للمعنى في حياته الفردية والمجتمعية. لا يمكن أن يستغني هذا الكائنُ عن المعنى الذي يمكِّنه من إنقاذِ نفسه من الاغتراب والقلق الوجودي، وحمايتِه من فائض الخوف الذي يهدِّد أمنَه النفسي على الدوام، والظفرِ بسكينة الروح وطمأنينة القلب، والتغلبِ على كثير من الدوافعِ العدوانية المترسِّبة في أعماقه، وكلِّ ما يدعوه للتعصب والعنف ضدَّ الآخر.
ليس كلُّ ما ينتج معنًى في حياة الإنسان دينًا، الفنُّ يُنتِج معنًى يشبع حاجةَ الإنسان للجمال، إلا أنه لا يجيب عن سؤالِ الموت والخلود، ومعنى وجود الكائن البشري في العالَم. لا يمكن أن يكون الفنُّ بديلًا عن الدين، على الرغم من قيمتِه الأساسية وأثرِه الفائق الأهمية في الحياة؛ لأن الإجابةَ عن أسئلة الوجود والموت والخلود خارج ادعاءاته. يهتم الفنُّ بتخليد ذاكرة الإنسان، لكنه لا يسعى لتخليد وجوده، الكائن البشري بطبيعته مسكونٌ بتخليد وجوده. يهمُّ الإنسانَ تخليدُ ذكراه، لكنه لا يتوق لتخليدها لذاتها، بل بوصفها وسيلةً لتخليد وجوده.
مفهوم المقدَّس
المقدَّسُ يشعرُ القلبُ بهيبته ورهبته وقوَّته، ويتلذَّذُ مَن يعتقد به بالتواصل معه وتحسُّس حضورِه. المقدَّسُ تجاوزيٌّ، عابرٌ للزمان والمكان. وإن كان العقلُ يجهلُ ماهيةَ المقدَّس، غير أنه يكتشفُ تجلياتِه وتمثلاتِه، وشيئًا من فاعلياته في إثارة عواطف الناس، وطاقته المثيرة بتأجيج مشاعرهم وإيقادها.
مَن يعتقد بمقدَّسٍ معيَّن يراه متجاوزًا للمادة، ولكلِّ حدودها وأبعادها وكيفياتها وأشكالها وأحوالها. فضاءُ المقدَّس رحبٌ لا يخضع لشيءٍ من قيود ومضايق المحسوس. المقدَّسُ عابرٌ للمتناهي والمحدود والحسِّي.
مَن يعتقد بمقدَّس يفتِّشُ عن ماهيته خارج حدود المكان، خارج حدود الزمان، خارج حدود الواقع المحسوس، خارج حدود التاريخ. يحتفظ المقدَّس بقداسته الأبدية، ويظلُّ عصيًّا على الفهم، كنهُه مبهم خفي. المقدَّس متلفِّع بالغموض، كأنه سرٌّ أبدي، يتغلب على الهشاشة والفناء.
ما يمكن أن يتقدَّس
أكثرُ الملوك والأباطرة والزعماء في التاريخ خلقوا لأنفسهم هالةً مقدَّسة؛ إذ صوَّروا أنفسَهم وهم يقفون بمحاذاة الآلهة؛ فمثلًا نرى حمورابي ملك بابل (١٧٩٢–١٧٥٠ق.م) يقف بمحاذاة إله الشمس «شمش» الجالس، ليتسلم منه الشرائع المدوَّنة على المسلة المعروفة باسمه، والمشهورة بأنها أقدم وأوسع وأثرى شريعة مدوَّنة من ذلك العصر في تاريخ الحضارات البشرية.
لم تتبدَّد هالةُ الملوك والأباطرة والزعماء التي يصنعونها لأنفسهم حتى اليوم، فما زال بعضُ الناس يشعرُ بهالة ورهبة وسطوة زعماء سياسيين، مثل لينين وماو تسي تونغ وهتلر وكاسترو وغيرهم، ويشعر كثيرٌ من أتباع الزعماء الروحيين في الأديان السماوية والأرضية بأن مرجعياتِهم شخصياتٌ استثنائية مقدَّسة.
ربما لا يستغني عن المقدَّسِ إنسانٌ، حتى الملحد أحيانًا لديه مقدَّساتُه الخاصة، أحيانًا يراه في شخصيات استثنائية، يعتقدُ أنَّها خارقةٌ تتجاوز تناهي الكائنِ البشري وقدراتِه المحدودة وقصوره، ويتخيَّلُ أنها عابرةٌ لحدود الطاقة البشرية. يتخيَّلُ رموزًا وأشياء متنوعة يحسب فيها تمثُّلاتٍ للمقدَّس، وإن كان يُعلِن عن تنكُّره لذلك. لا يقع المقدَّس موضوعًا للعقل النقدي، أو موضوعًا للعلم؛ لأن المقدَّسَ خارج حدود العلم وأدوات كشفه، ولا يخضع ﻟ «معيار قابلية التكذيب». كلُّ فكرةٍ لا تقبل الدحضَ والإبطالَ والتكذيبَ لا ينطبق عليها عنوانُ العلم، على وفق «منطق الكشف العلمي» لكارل بوبر.
المؤتلِفُ والمختلِفُ في الدينِ والمقدَّس
يلتقي الدينُ بالمقدَّس، لكنهما لا يتطابقان مفهومًا، ولا يتحدان مصداقًا دائمًا؛ إذ تتقدَّس أشياء خارجَ الدين، كما أن هناك أشياءَ في الدين ليست مقدَّسة. المقدَّسُ والدين أحيانًا تتحد وظيفتُهما، ويلتقيان ببعض مصاديقهما، وأحيانًا تتنوع وظيفتُهما، ويختلف كلٌّ منهما عن الآخر في مصاديقَ أخرى.
ليس كلُّ مقدَّس دينًا، وليس كلُّ ما في الدين مقدَّسًا. في كلِّ دينٍ ما هو مقدَّسٌ وما هو غيرُ مقدَّس. حضورُ المقدَّس محدودٌ جدًّا في الأديان أو نادرٌ لحظةَ نشأتِها، لكنَّ المقدَّسَ يتوالد بالتدريج بمرور الأيام، تبعًا لتضخُّمِ المخيلة، وتوسُّع الميثولوجيا لدى أتباع الدين. كلما اتسع فضاءُ الميثولوجيا في الدين اتسع فضاءُ المقدَّس، وكلما غاص الدينُ في باطنيةٍ غائمة تنامى فيه حضورُ المقدَّس؛ لذلك نرى لدى الفِرق الباطنية في الأديان تضخمًا للمقدَّس وإبهامًا والتباسًا في الرؤية، إلى الحدِّ الذي يصل أحيانًا إلى أن يبتلعَ المقدَّسُ الدينَ كلَّه، فلا نجد شيئًا في الدين الباطني إلا مقدَّسًا.
إذا غابت العقلانيةُ النقديةُ تقدَّس غيرُ المقدَّس وتملَّكَ مشاعرَ الناس، واستحوذَ على عواطفِهم، واستعبدَ عقولَهم. وتزامن مع ذلك تفشِّي الجهلِ في المجتمع، وانهيارُ أنظمة التربية والتعليم، وتجفيفُ روافد العلم والمعرفة. تضخُّمُ المقدَّس وتغوُّله، وتمدُّدُه أُفقيًّا ورأسيًّا، يفرضُ سطوتَه بضراوة على الحياة، بنحوٍ يسقطُ كلُّ شيء في قبضة المقدَّس، ويستحوذ عليه مَن ينطق باسم المقدَّس. يستنزف تقديسُ غير المقدَّس طاقاتِ الفرد والمجتمع، ويستعبدُ العقلَ، ويعطِّلُ قدراتِ الإبداع، والتفكيرَ الخلَّاق، ويطفئ جذوةَ الروح، ويستلبُ الضمير.
نشأة الدين والمقدَّس
لحظةَ ظهور الأديان غير السماوية في آسيا، كالبوذية والكونفوشيوسية وغيرها، لا نرى فيها ما هو مقدَّس، كان مؤسِّسوها حكماء، لم يقولوا إنهم يتصلون بالغيب، تعاليمُهم أقرب لحكمة الثقافة منها إلى روح الدين. لم يكن أشخاصُ المؤسِّسين مقدَّسين؛ بوذا أو كونفوشيوس، ولا كتبُهم، ولا إرشاداتُهم أو وصاياهُم وتعاليمُهم، ولا رفاقُهم، ولا أيُّ شيءٍ ينتسب إليهم. إلا أن ذلك لم يستمر طويلًا، فكلَّما ابتعد الدينُ عن لحظة التأسيس لم يعُد الواقعُ كافيًا لإشباع مخيلة الأتباع؛ لأنهم يرون الواقعَ ضحلًا واضحًا لا يبوح بسر، ولا لغز فيه، والإنسانُ الدينيُّ مولعٌ بالأسرار، وبما هو ساحرٌ مُلغَّز، ينجذب لما ينطوي على غموضٍ وحيرةٍ وإبهام.
الواقع المحسوس الذي يعيش فيه الإنسانُ لا سحرَ ولا إبهامَ ولا دهشةَ فيه. المخيلةُ تتغذَّى على ما هو: غامض، مبهم، خفي، مدهش، مُلغَّز، غريب، أخَّاذ، جذَّاب، ساحِر، فاتِن، آسر … لذلك تنزع المخيلةُ لتوليدِ الميثولوجيا، وتضخيم المقدَّس بوصفه رديفًا لها. المقدَّسُ يتصل بالميثولوجيا اتصالًا عضويًّا، يتغذَّى منها وتتغذَّى منه، لا ميثولوجيا بلا مقدَّس ولا مقدَّس بلا ميثولوجيا.
الطبيعة الإنسانية منبع الحاجة للدين
لا أرفض ابتداءً التفسيراتِ التي تذهب إلى أنَّ الدينَ يرسِّخ حضورَه الجهلُ والخوفُ والفقرُ والصِّراعُ الطبقي بصورة مأساوية. ما أرفضه من هذه التفسيرات هو أنَّها لا تقدِّم لنا تفسيرًا لأصل الحاجة للدين وراء كل ذلك، وللجذورِ البعيدةِ المتوغلةِ في الطبيعة الإنسانية للدين خارجَ الإطار الاجتماعي.
هذه العوامل تعمل على تحقُّقِ الدين في حياة الفرد وحضورِه في المجتمع بأسوأ أشكاله، وذلك ما ينتهي إلى استثمارِه واستغلالِه بخبثٍ لاستعبادِ العقل والروح والقلب، كما يحدث في الصِّراع الطبقي الذي يشرحه ماركس بذكاء، ويفضح كيف يستغل القويُّ الضعيفَ وينوِّمه عبر استثمار الدين، كي يخضعه وهو طائعٌ، ويمتطيه بسهولة من دون أن يرفض ذلك.
وقوفُ هذه التفسيرات عند تمثُّلات الدين وتجلياته في حياة الفرد والجماعة، أوقعها في أُحادية واختزال يحجب الأصلَ الوجودي للحاجة إلى الدين في كينونة الكائن البشري.
لا أنفي أن تمثُّلاتِ الدين وتحقُّقه في الواقع تخضع للخوف والجهل والفقر والصراع الطبقي، وبها يُستغَل الدين ويتمثَّل بأشكال مريرة. كما توظِّف كلَّ ذلك وتستثمره بأشكال مريعة المعتقداتُ والأيديولوجياتُ والهوياتُ في النزاعات والحروب وكلِّ أنواع الشر. مع قبولي لكلِّ ذلك، غير أني أرى أن الكائنَ البشري، حتى لو فرضنا اختفاءَ الجهل والخوف والفقر والصراع الطبقي من حياته كلِّيًّا، يظلُّ بحاجة إلى الدين، بوصف أصل هذه الحاجة ناتج من سبب عميق وراءَ كلِّ ذلك، وأعني به فقر الكينونة الوجودية للكائنِ البشري، بالمعنى الفلسفي للكينونة الوجودية، وليس بالمعنى السايكولوجي، أو المعنى السوسيولوجي، أو المعنى الأنثروبولوجي.
الهشاشةُ في كينونة الكائن البشري تدعوه ما دام حيًّا لطلب الكمال. الهشاشةُ أمرٌ يختصُّ بوجوده الماديِّ، وذلك يعني أنَّ الكمالَ الذي يطلبه لا بدَّ أن يكون وجوديًّا؛ أي من جنسه هو أيضًا. ولما كان أصلُ الحاجة وجوديًّا، فهي تضعف وتشتدُّ عند البشر، تبعًا لمختلف العوامل الفاعلة والمؤثِّرة في حياة هذا الكائن إثباتًا ونفيًا، مضافًا إلى أنَّها تتنوَّع بتنوُّع طبائع البشر وثقافاتهم وإثنياتهم.
في ضوء ذلك يمكننا فهمُ تنوع وتعدُّد الأديان، وفي ضوء ذلك أيضًا يمكننا أن نهتدي لمعرفة وظيفة الدين في حياة الفرد والجماعة، وكيف يكون الدينُ ترياقًا تسكن به الروحُ ويطمئن به القلبُ ويستفيق به العقل، عندما تتكرس وظيفتُه بتحقيق الكمالِ الوجودي، وتحرير الكائن البشري من الاغتراب الميتافيزيقي، وكيف يكون الدينُ سُمًّا مميتًا عندما ينسى وظيفتَه، وينشغل بالصراعات العنيفة على المال والثروة والسلطة.
الدِّين يعالج الاغترابَ الوجودي
الوجود الحقُّ، المستغني بذاته عن كلِّ شيء سواه، هو الله أو الإله أو الربُّ أو الروح الكلِّي أو الروح المطلَق أو روح العالَم، وغير ذلك، بمختلف تسمياته المتنوِّعة بتنوُّع الأديان والثقافات واللغات، الذي هو الله في الأديان السماوية، بتنوُّع تصوراته في اليهودية والمسيحية والإسلام، تبعًا للاختلاف في رسم صورة الله لدى فِرقها اللاهوتية والكلامية.
وهو «براهما» الكائن الأعلى في الهندوسية، ويتمثَّل بآلهةٍ أصغر، مثل فيشنو وشيفا وشاكتي ولاكشمي وساراسفاتي، وغيرها. وهو «الطاو» في الطاوية. و«ماهابراهما» في البوذية، الذي تُولد آلهةٌ أخرى كوزراء له، وإن كانت البوذيةُ في نشأتها لا تعتقد بخالقٍ للعالَم، بل هي ثقافةٌ تحولت بالتدريج إلى ديانةٍ ازدهر فيها إنتاجُ المقدَّس لاحقًا، مثلها في ذلك مثل الكونفوشوسية. وهو «أهورا مَزدا» إله النور والخير عند الزرادشتية، و«أهريمان» إله الشر في هذه الديانة، التي تشيرُ بعضُ الدراسات إلى أنها أقدمُ ديانةٍ توحيدية. ثنائيتُها تعكس محاولةً لحلِّ «مشكلة الشر» بنفيه عن إله النور والخير واختصاصه بالإله الآخر.
وهكذا تختلف التسمياتُ وتتعارض تصوراتُ الآلهة في الأديان، بنحوٍ نقرأ صورًا متضادَّة للآلهة أحيانًا، لا يجمعها إلا الإيمانُ بوجودٍ غني بذاته، يستلهم منه وجودُ الكائن البشري المحدود الهشِّ الضعيف كثافةَ وجوده وغناه.
وهي كلُّها تعبِّر عن تلك الحاجةِ العميقة المعبِّرة عن القصورِ الذاتي للكينونة الوجودية للإنسان، الذي يجعله ضحيةَ اغترابٍ وجودي مُنهِك، وظمأ أنطولوجي لا يرتوي إلا بالإيمان بوجودٍ حقٍّ غني بذاته. الإيمانُ الذي أعنيه هنا هو ضربٌ من الاتصال الوجودي خارج إطار الوجود المادي.
استعمال الدِّين خارج مجاله
يشغلني حضورُ الدين بوصفه حاجةً وجوديةً للإنسان، لا يكتمل تكوينُ معنًى للحياة من دونها. لقد خلصتُ إلى أنَّ الإنسانَ لا يصنع حاجتَه للدين، بل يصنعُ أنماطَ تديُّنهِ وتعبيراتِه وتمثُّلاتِه المتنوعةَ والمختلفةَ للدين، على وفق اختلاف أحوال البشر وبيئاتهم وثقافاتهم. الدينُ يولدُ في عصر مؤسِّسه ولادةً تنشدُ إلهامَ حياة الإنسان بالمعنى، لكن يظلُّ الدينُ يتخلَّقُ وينمو في صيرورةٍ لا تتصرَّم عبر الزمان والمكان، ويخضع لسياقات النسيج المعقَّد لمتطلَّبات الحياة المتنوِّعة للإنسان فردًا وجماعةً، وما تفرضه العلاقاتُ العضوية بين السلطة والمعرفة، وكيف أنَّ السلطة تنتج معرفةً من جنسها والمعرفةَ تنتج سلطةً من جنسها، كما يشرح ذلك ميشيل فوكو.
الدينُ لحظةَ تأسيسه انبجاسٌ غزيرٌ لينبوع المعنى، يتدفق كالشلال ليرتويَ به ظمأُ الإنسان الوجودي، الذي نضبت منابعُ إلهام المعنى في حياته. لكنه يتحول إلى تهديدٍ عاصفٍ لحياة الفرد والجماعة، لو لم يتموضع في حقله الروحي والأخلاقي والجمالي، فيصبح أخطرَ ما يهدِّد بنيةَ المجتمعات البشرية. عندما يخرج الدينُ من حقله الطبيعي، ويجتاح حقولَ الحياة الأخرى خارج مجاله، يصادرُ كلَّ ما هو من اختصاص العقل والعلوم والمعارف والخبرات البشرية، ويعمل على إنهاكها وتبديدها. يتحوَّلُ الدينُ من كونه حياةً في أُفق المعنى، وإشباعًا للحاجة الوجودية للكائن البشري، وضمانًا للحياة الروحية والأخلاقية والجمالية، إلى مشكلةٍ تعطِّل العقلَ، وتحول دون تراكم الخبرة البشرية. وهو ما نشاهد آثارَه الفتاكةَ وصورَه المفزعةَ لدى الجماعات المتشدِّدة في كلِّ الأديان.
كلُّ تفسير خارج التفسير الكلامي والفقهي للدين منبوذٌ في ماضينا وحاضرنا. هذا التفسير للدين هو الشائع في مجتمعات عالَم الإسلام أمس واليوم. أعادت إنتاجَ هذا التفسير الجماعاتُ الدينية بصيغةٍ سطحية، منسلخةٍ من أسسِه العقلية في آثار المتكلمين، وأصوله المترسِّخة وفروعِها المتشعِّبة في آثار الفقهاء والأصوليين.
تقرأ أدبياتُ الجماعات الدينية التفسيرَ الكلامي والفقهي للدين قراءةً مبسطة، تنتج نسخةً تفتقر لمضمون روحي وأخلاقي وجمالي للحياة. ما يصوغ الرؤيةَ للعالَم هو فهمٌ هشٌّ لمقولات المتكلِّمين الاعتقادية، وتلقٍّ بلا نظر واجتهاد لمدوَّنة أصول الفقه والفقه، وهذا النوع من التلقِّي والفهم السطحي هو ما يغذي وعيَ مَن ينخرط في هذه الجماعات.
منطقُ التفكير المُنتِج للتراث أنتجه الإنسان
ما أعنيه أختصره بجملة قصيرة؛ هي أن الحلقةَ التكرارية التي يدور فيها منطقُ الإصلاح في عالَم الإسلام تُوقعه في مفارقة، تتمثل في انتقالِ التقديس من تقديسِ كلِّ التراث لدى السلفيين، إلى تقديسِ المنطق والمناهج والأدوات المولَّدة للتراث لدى المصلحين، على الرغم من أنها تشكِّل البنيةَ التحتية للتراث، مَن يرمي إلى إصلاح التراث عليه أن يبدأ بإصلاح مرتكزاتِه وبنيتِه العميقة ومناهجه، وعليه ألَّا يقرأ التراث قراءةً تراثية.
نقدَ العديدُ من المصلحين تراثَ التفسير وعلم الكلام والفقه والفلسفة والتصوف والعرفان، وعلوم اللغة وآدابها، ودعوا إلى إصلاحها، غير أنهم لم يتنبَّهوا إلى أنَّ المنطقَ الذي أنتجها يتطلَّب نقدًا وإعادةَ تفكيك وغربلة، فكما أنَّ التراثَ أنتجه بشرٌ، كذلك منطقُ التفكير المنتِج له أنتجه بشرٌ أيضًا، وكلُّ شيء ينتجه البشرُ يخضع للمراجعةِ والنَّقد، والعبورِ إلى ما هو أنضج وأكمل.
أعني بمنطق التَّفكير المنتِج للتراث المنطقَ الأرسطي الذي تتحرَّك كلُّ معارف التراث في إطاره، مضافًا إلى المقولاتِ الاعتقادية في علم الكلام التي تتشكَّل رؤيةُ المسلم للعالَم في آفاقها، وقواعدِ أصول الفقه المتحكِّمة بطريقةِ قراءةِ الفقيه لآيات الكتاب الكريم والسُّنة الشريفة، وصياغةِ كيفيةِ تعامُله مع أدلة الأحكام المتنوعة، وتوجيهِ بوصلة الاستنباط الفقهي، وفرضِ نتائج محدَّدة على عملية الاستنباط، على وفقِ ما تقود إليه بوصلتُها. حتى النحو وعلوم اللغة تشعَّبت وتطوَّرت في إطارِ المنطقِ الأرسطيِّ، وآفاقِ الرؤية الكلاميَّة للعالَم؛ لأنَّ النحوَ وعلوم اللغة معارفُ تخضع لمشروطيَّات إنسانية أرضية.
التراثُ مرآةٌ تعكس العصرَ الذي تشكَّل فيه
كي نتحرَّر من سطوة التراث وسلطته على كلِّ شيء في تفكيرنا، نحتاج منهجًا علميًّا لكيفية التعاطي معه، يحرِّرنا بالتدريج من وصايته. في التراث عناصرُ مميتة، وعناصرُ ميَّتة، وهي تحتلُّ مساحةً ليست قليلة منه. التراثُ مرآةٌ تعكس العصرَ الذي تكون فيه، بكلِّ ما يحفل فيه ذلك العصرُ، التراث ينتمي للنظام المعرفي الذي كوَّنه وتكوَّن فيه. الإفادةُ مما هو حيٌّ في التراث، بعد إعادة بنائه، ليس عقبة، ما شكَّل عقبةً هو ترسُّخُ هذه الحالة إلى الحدِّ الذي يدعو فيه كثيرون إلى استعادة كلِّ ما استوعبه التراثُ كما هو، بالكيفية التي كان عليها.
مشكلتنا تتمثَّل في عبء تراثنا الهائل كميًّا وكيفيًّا، التراثُ الذي لبثنا عدَّةَ قرون غارقين فيه، وما زلنا حتى اليوم. تراثُنا ينتمي لمراحل مختلفة في أزمنة الإسلام، وترتسم فيه كلُّ صور ازدهار حضارتنا، وكلُّ صور انحطاطِها، ويعكس كلَّ تشوُّهات وعاهات وأمراض التخلُّف منذ عدة قرون.
أكثر مَن يتبنى العودةَ إلى التراث يرفض الانتماءَ للعصر، ويناهض كلَّ مكاسب المعارف والعلوم المختلفة؛ لأنَّ لديه شعورًا كاذبًا بالاستغناء والاكتفاء الذَّاتي عن كلِّ شيء بما وصله من الماضي. عندما يبلغ الموقفُ هذا الحدَّ ينتهي إلى الانغلاق على الذات، ويتحوَّل إلى ما يمكن تسميته ﺑ «التراثية»، وهي رؤيةٌ للعالَم، وبنيةٌ فكرية ونفسية وعاطفية راسخة، كأنها وعاءٌ يمكن أن يحتضن أيَّ معتقد أو أيديولوجيا أو ثقافة، سواء أكان مَن يعيش هذه الحالة قوميًّا أو ماركسيًّا أو دينيًّا.
الآباءُ صنعوا معارفَهم وفهموا الدينَ ونصوصَه في فضاء محيطهم وأسئلتهم ومشكلاتهم، ومستوى تطوُّر العلوم والمعارف في عصرهم، فعلى الأبناء اليوم أن يصنعوا معارفَهم وفهمَهم للدين ونصوصه في ضوء ما يتطلَّبه هذا العصرُ، وما انتهت إليه العلومُ والمعارفُ البشرية من نتائج.
لا تجديدَ من دون استيعاب نقدي للتراث
منهجي في بناء علم الكلام الجديد ينطلق من فهم التراث واستيعابه، لكنه لا ينتهي بالتراث. رأيي هو رأي الشيخ أمين الخولي، الذي لخَّص البدايةَ بقوله: «أول التجديد قتْل القديم فهمًا.» لا تجديدَ من دونِ استيعابٍ نقديٍّ للتراث، الاستيعاب النقدي يعني الفهمَ والتحليلَ والغربلة والتمحيص. لا تجديدَ من دون عبور، والعبورُ لا يتحقَّق من دون تفكيكِ ونقدِ ما ينبغي أن نعبره.
هناك مَن يدعو للانطلاق من التراث والعودة إليه، وبتعبيره «إعادة بناء التراث». لا أريد إعادةَ بناء التراث، أريد إنتاجَ فهمٍ للدين ونصوصه يحرِّره من غُربة الزمان الذي يعيش فيه المسلمُ اليوم، ويحرِّر المسلمَ من غربة إكراهات التراث. مناهجُ التفكير وأدواتُ النظر جزء أساس من التراث، إنها مكوِّن لبنية التراث التحتية، وهي مَن يتحكَّم برؤيته للعالَم. أكثر مَن يتحدَّثون عن الإصلاح والإحياء والتجديد، لا يتوغَّلون في البنية التحتية المنتِجة للتراث، التجديد يتطلَّب اكتشافَ نظرية المعرفة التي تشكَّلت في ضوئها علومُ الدين. علمُ الكلام في رأيي يمثل نظريةَ المعرفة، وفي ضوء هذه النظرية تشكَّل علمُ أصول الفقه وعلومُ الحديث وعلومُ القرآن والتفسير. المهم تجديدُ أدوات إنتاج المعرفة، وبحسب تعبير القدماء أدوات النظر المنتِجة لعلوم الدين ومعارفه. علم الكلام القديم وأصول الفقه وعلوم القرآن والحديث وقواعد تفسير النصوص الدينية الموروثة، هي التي تفرض علينا نمطَ الفهم الذي تنتجه، وفي ضوئها تتشكَّل رؤيتُنا للعالَم. وكلُّ هذه العلوم أنتجها مجتهدون بتوظيف المنطق والفلسفة والعلوم والمعارف المتاحة في عصرهم.
منهجي ينطلق من قراءة النصوص الدينية والتراث بمناهج الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع، وما انتهت إليه المعارفُ الحديثة. أدعو لتوظيف المنطق والفلسفة والعلوم والمعارف في عصرنا، كما فعل المجتهدون في الماضي، وكان فِعلُهم متناغمًا مع إيقاع زمانهم. وذلك يعني ضرورةَ الاجتهادِ في كلِّ علوم الدين، والانتقالِ من علم الكلام القديم إلى علم الكلام الجديد، ومن أصول الفقه وعلوم القرآن وعلوم الحديث، وقواعد تفسير النصوص الدينية الموروثة إلى المناهج التأويلية الحديثة في قراءة النصوص الدينية.
لا أتفق مع منهج قراءة التراث بالتراث؛ إذ لا يمكن قراءةُ النصِّ الديني بعيون العصر، ونحن منخرطون في رؤيةِ التراث للعالَم، ومنطقِ تفكيره ومناهج الفهم السائدة فيه. تفتقر المناهجُ التراثية لما راكمته الفلسفةُ وعلومُ الإنسان والمجتمع في دراسة أسرار الطبيعة الإنسانية ومكنوناتها. الدين الذي يريد أن يجعل حياةَ الإنسان أجملَ في الأرض، عليه معرفةُ هذا الإنسان وطبيعته المركَّبة العميقة أولًا، قبل معرفة طرق السموات وعوالم الملكوت.
من أجل أن يستفيق المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي في النص الديني ينبغي أن نرتقي للأفق الزماني الذي نحن فيه، كي ينطق النصُّ بالمعنى الدينيِّ الذي تفرضه علينا متطلباتُ الحياة وتعقيداتُها المذهلة اليوم.
قراءة العلم بعقلٍ دينيٍّ ليست علمية
تنطلق هذه الدعوةُ من مسلَّمة تبتني على حضور هوية عقائدية للعلم والمعرفة؛ فكلُّ حضارة تصنع علومَها ومعارفَها المشتقةَ من رؤيتها للعالَم ومعتقداتها وثقافتها ومختلف العوامل المولدة للعلم والمعرفة في بيئتها الحاضنة. والادِّعاءُ بأن استعارةَ منطق التفكير ومناهج البحث العلمي من الغير يقود إلى اغتراب المسلم عن عقيدته وهويته وتراثه.
هذه المسلَّمة لا تصدقها نشأةُ العلم والمعرفة ومسارُ تطورها في التاريخ، كما تنطوي على موقفٍ أيديولوجيٍّ متصلِّب مغلق، يؤشر إلى أن كلَّ علم ومعرفة ينتجها الإنسانُ تخضع لما تفرضه عليه ديانتُه وعقيدته، وكأن كلَّ ديانة وعقيدة تنتج علومَها ومعارفَها الخاصة.
إن أكثرَ دعاة البحث عن هوية دينية للعلوم والمعارف الحديثة في بلادنا هم ممَّن تأثرتْ مواقفُهم، بوعيٍ وبلا وعيٍ منهم، برؤية المودودي وسيد قطب المتشدِّدة للفلسفة والعلوم والمعارف الحديثة، وتوصيفهما لها بأنها «جاهلية». وتُعدُّ جماعةُ «إسلاميَّة المعرفة» أبرزَ مَن ألحَّ على ذلك في المجال العربي الإسلامي. دعوتُهم تجد تسويغَها في بصمةِ البيئة الحضارية في المعرفة، والتشديدِ على غواية العلوم والمعارف الحديثة ومادِّيتها وضلالها، بوصفها ظهرت في بيئة خارج الفضاء الحضاري الإسلامي.
لا أنفي الأثرَ النسبي للبيئة في المعرفة، لكلِّ بيئة حضارية بصمتُها، غير أن هذه البصمةَ لا تبلغ الحدَّ الذي يجعل كلَّ بيئة وديانة ومعتقد وثقافة تنتج علومَها ومعارفَها التي تتفرد بها، خارجَ سياق نشأة وتراكم وتطور العلوم والمعارف البشرية.
قراءةُ تاريخ العلم والمعرفة بعقل ديني قراءةٌ ليست علمية، تاريخُ نشأة العلم والمعرفة وتطورُها يكذِّب هذا الادعاء. العلوم الصرفة والطبيعية والتطبيقية مُشترَك بشري كوني، فليست هناك رياضيات وفيزياء وكيمياء وطب وهندسة مسيحية، وأخرى إسلامية، وثالثة بوذية. لا تخلو الفلسفةُ وعلومُ الإنسان والمجتمع من بصمة نسبية للبيئة، غير أن تأثيرَها يظلُّ محدودًا، لا يلغي البعدَ الكوني فيها الذي يتمحور حول الكشف عن ما هو كلِّي مشترك بين الناس، ويتناغم وطبيعةَ الإنسان ومتطلَّباته الأساسية الواحدة التي لا تتخلَّف ولا تختلف باختلاف البشر، ولا تتنوَّع بتنوُّع ظروف عيشهم وأديانهم وثقافاتهم. المنطق الأرسطي مثلًا، على الرغم من أنَّه وُلد في أثينا اليونانية، غير أنه كان وما زال يفرض على العقل في الإسلام قواعدَ التفكير المرسومة فيه منذ المعلِّم الأول، والقوانين الكلية للفهم في منطقه. خضع التفكيرُ الديني في الإسلام منذ عصر الترجمة لمنطق المعلِّم الأول، وتوالدت في إطار أشكال قياساته، وطرائق استدلالاته، وصور مقدِّماته ونتائجه، مختلفُ علوم الدين، وكلُّ العلوم والمعارف لدينا. ومنذ ذلك العصر كانت الفلسفةُ اليونانية أيضًا ينبوعًا استقت منه كلُّ مدارس التفكير الفلسفي في الإسلام.
منذ القرنِ التَّاسع عشر ونحن نكرِّر ذلك، بعد أكثر من مائتي عام، لا نحن أنتجنا العلمَ والمعرفةَ الخاصَّين بنا، وتحرَّرنا من علوم ومعارف الغرب الممقوتة عند أكثر أنصار تحيُّز المعرفة وأسلمتها، ولا استطعنا أن نبرهن عمليًّا على هذه الدعوة المكرَّرة، فنبني مناهجَنا النابعة من ديننا وتراثنا وتفكيرنا الخاص، والغريب أن أكثرَ المشتغلين بالتراث ما زالوا حتى اليوم مَن يردِّدون هذا الكلام الملتبس الممل.
التنويرُ موقفٌ فلسفي ورؤيةٌ عقلية للعالَم
لا أظنُّ أن البحثَ عن تنويرٍ في التراث يعمل على انبثاقِ تنويرٍ ديني اليوم، يغنينا عن بناءِ علمِ كلامٍ جديد؛ فمنذ أكثر من قرنين ونحن نسعى بلا جدوى من أجل اكتشاف طريقنا للعصر برؤية التراث، لكنَّ كلَّ محاولاتنا ذهبت عبثًا، وعجزنا حتى اليوم عن الحضور العلمي والمعرفي الفاعل والمؤثر في العالَم الجديد.
العقلانيةُ الكلامية غيرُ العقلانية الفلسفية، عقلانية المعتزلة كلامية، وعقلانية الغزالي كلامية، وإن كنتُ أرى أن عقلانيةَ الغزالي ضدُّ العقل، خلافًا لعقلانية المعتزلة، على الرغم من أنها كلامية أيضًا لكنها أرحب من ضيق أُفق عقل الغزالي ووثوقيته الصارمة. في العقلانية الكلامية التفكيرُ له حدود؛ لأنه يتحرَّك في فضاء لا يتخطَّاه، التفكيرُ في علم الكلام يظلُّ تحت سقف الإيمان بالله والوحي والنبوة، يجتهد المتكلِّم دائمًا داخلها، ولو خرج عنها لم يعُد مؤمنًا بالإسلام.
الشكُّ عند ديكارت فلسفيٌّ، وهو لا يرادف شكَّ الغزالي، شكُّ الغزالي أشبه بالوسواس السايكولوجي. التفكيرُ في العقلانية الفلسفية لا يخضع لحدودٍ مرسومةٍ، لا تتحكَّم فيه أيةُ مسلَّمات سابقة، ليس محكومًا بمرجعيات اعتقاديَّة لا يتخطَّاها. صاحبُ «تهافت الفلاسفة» كثيرُ التهافت، فكره يتضمَّن مفارقاتٍ، ومُؤسَّس على مُصادَرات، تتطلَّب نقاشًا ونقدًا وتفكيكًا. وذلك ما أنجزه ابنُ رشد في «تهافت التهافت»، الذي كشف لنا مفارقات ومصادرات فكره. كان الغزاليُّ منطقيًّا ضدَّ المنطق، فيلسوفًا ضدَّ الفلسفة، متكلِّمًا ضدَّ عقلانية علم الكلام. لا أنكر أن آثارَ الغزالي غزيرةٌ وغنيَّة ومتنوعة، وأنَّ الحكمَ على فكره ينبغي أن يرصد المراحلَ المتعدِّدة التي مرَّ بها، وكيف تناغمت مواقفُه فيها وتنوَّعت بتنوُّع إيقاع محطات حياته الفكرية والعاطفية والسايكولوجية، ومنحنى تطوُّر تجربته الروحية. الشكُّ الذي عاشه الغزالي يعكس حالتَه الروحية، وانفعالاتِه العاطفية والسايكولوجية، وسيرتَه الذاتية، أكثر مما يعكس موقفًا فلسفيًّا، ورؤيةً عقلانية للعالَم. كان شكُّ ديكارت فلسفيًّا، مُؤسَّسًا على رؤية عقلانيَّة للعالَم؛ لذلك صار منطلقًا للعقلانيَّة الفلسفيَّة الحديثة.
شعارُ التنوير بحسب كانط يتلخَّص بقوله «تجرأ على استخدام فهمك الخاص»، الذي أضحى شعارًا للموقف الفلسفي للحداثة. الغزالي وغيرُه، يفكرون في إطار النصوص، وهي تمثِّل مرجعيةً نهائيةً للتفكير عنده، لا يمكنه التفلُّتُ كليًّا من دلالاتها، والخروجُ من فضائها، والانسياقُ مع فهمه الخاص.
الفهمُ ضربٌ من ظهور الموجود وانكشافه
رفضُ التعدُّد والتنوُّع في الفهم يعني أنَّ الواقعَ يلبثُ ساكنًا، والقرآنَ يظلُّ صامتًا، لا يبوحُ برؤيةٍ يتكشَّف فيها المعنى الذي يستجيبُ لما تفرضه حياةُ الإنسان وأنماطُ عيشه المتغيرة. كأنَّ الإنسانَ مكثَ منذ لحظة وجوده في الأرض كما هو؛ لا يتحرك، لا يتحوَّل، لا يتغيَّر، لا يتطور. واقعُ حياة الإنسان في الأرض يكذِّب ذلك. الإنسانُ يختلفُ عن الحيوان، الحيوانُ يستمرُّ كما هو في حياته مهما كان عمرُه، لا يخرجُ على ما فعله نوعُه بأيِّ شيء. كلُّ نسخة من ذلك النوع مطابقةٌ لأول نسخة منه بكلِّ شيء، لا يتغيَّرُ سلوكُه، حتى لو مضت آلافُ السنين ولبثَ حتى نهاية الحياة في الأرض. طبائعُ النَّمل مثلًا وسلوكُه في: تأمينِ قوته، وحمايةِ نفسه، وحفرِ ملاذاته، كانت وما زالت وتبقى كما هي، منذ وُجدتْ أولُ نملة في الأرض.
في الدِّين الحقيقةُ واحدةٌ في ذاتها، إلا أنَّها نسبيَّةٌ في معرفتها. نسبيةٌ بمعنى تنوُّعِ وجوهها، تتعدَّد الطرقُ إليها، ويختلفُ تصوُّرُها باختلاف الطرق الموصلة إليها. يحتكرها مَن يقول بأنَّ الطريقَ إليها واحدٌ لا يقبلُ التعدُّد، عندما يرى كلَّ طريق آخر، خارج ما يؤمن به، لا يوصلُ إليها. يعودُ هذا الموقفُ إلى فهمٍ لا يقبل التنوعَ في إدراك صور الله. التصوُّرُ المتعدِّد لإدراك الحقيقة الدينية ينشأ من القولِ بتنوع إدراك صور الله، وعدمِ احتكار طرق الوصول إليه بطريق واحد. يرى هذا القولُ الأديانَ طرقًا تتكشَّف فيها تجلِّياتٌ متنوعة للحقيقة الدينية، يقرأ فيها كلُّ دينٍ تعبيراتٍ متنوعة لوجوه هذه الحقيقة، ويتخذ أساليبَه الخاصة للتعبير عنها. على أساس هذا الفهم يمكن القولُ بتنوع طرق الوصول إلى الله. هذا هو معنى الاعتراف بحقِّ الاختلاف في المعتقَد، الذي هو أساسُ قبول التعدُّدية الدينية والعيش المشترك.
أبديَّةُ الكتب المقدسة لا يحقِّقها في مختلف الأزمان إلا تعدُّدُ قراءتها وتنوُّعُ فهمها. تفسيرُ النصوص الدينية لا يمكنه أن يواصلَ الحضورَ إن لم يتأسَّس على تعدُّد الفهم وتنوعه، تبعًا لتعدُّد وتنوع الأحوال والأزمان؛ لذلك تتوقَّف المعرفةُ عندما تكفُّ عن الاستمرار في توالد الفهم وتعدُّد المعنى وتنوُّعه.
تفسيرُ القرآن وكلِّ الكتب المقدَّسة في الأديان، أفهمه فلسفيًّا بوصفه تحقُّقًا أنطولوجيًّا لذاتٍ تمارس الفهم. الفهمُ ضربٌ من ظهور الموجود وانكشافه، إنه تحقُّقٌ للذَّات بطورٍ وجوديٍّ جديد. تكرارُ الفهم ذاته في كلِّ زمان تعبيرٌ عن تكرارِ الموجود لذاته، وتعطُّلِ حركته الجوهرية وصيرورته الوجودية. وهذا يعني توقُّف توالدِ المعرفةِ ونموِّها، بعد أن يكفَّ الفهمُ عن التعدُّد والتنوع. تكرارُ فهمٍ واحد لآيات الكتاب الكريم في كلِّ زمانٍ ينتهي إلى تكرار المعرفة. تكرارُ المعرفة يعني توقُّفَها، وتوقُّفُها يعني غيابَ آيات الكتاب عن مواكبة الواقع المتغير، وجفافَ منابع إلهام المعنى الديني الذي تتطلَّبه الحياةُ في مختلف الأزمان والأحوال والوقائع.
أبديَّةُ معاني القرآن وعبورُها الزمان والمكان قائمةٌ على تعدُّد قراءتها وتنوُّع فهمها، وتعدُّد المعنى الذي يتلقاه القارئ لها، بالانطلاق من تساؤلات الذات الواعية لمناهج الفهم والقراءة. لا ديمومةَ لفهمٍ يدَّعي الفهمَ النهائي والأبدي للقرآن.
مفهومُ الذات يتوفَّرُ على إمكانٍ وجودي، يوفِّر هذا الإمكانُ الفهمَ، وعملياتِه المختلفة: التفكير، التساؤل، مكوِّنات التساؤل، الأفهام العلمية السابقة لهذا الفهم، شبكة العلاقات بين مكونات الفهم، بنية الفهم، منطق الفهم، وغيرها. يبدأ الفهمُ بفهمنا لذواتنا، الذاتُ بوصفها مرآةً تنكشف فيها لنفسها. هذا النحو من الانكشاف للذات هو وجودها بطورٍ جديدٍ في كلِّ عمليةِ فهمٍ، وتحقُّقها داخلَ عملية الفهم الذي تنتجه وجوديًّا، أي إنَّ الذات تشتبك وجوديًّا مع النَّصِّ حالةَ الفهم. الفهمُ يشاكلُ الذات، الفهمُ ضربٌ من تحقُّقِها بوجودٍ جديد. هذه هي تجربةُ الفهم بما هي صيرورةٌ وجودية يعيشها قارئُ النص الحاذق.
كلُّ ذات في الوقت الذي تكتشفُ فيه النصَّ تتكشَّفُ هي أيضًا فيه؛ لذلك تتغير انطلاقًا من الفهم الجديد الذي تنتجه هي. نرى هنا معادلةً أطرافها ثلاثة: «الذات – الفهم – التغيُّر».
- (١)
اختلاف الذوات.
- (٢)
اختلاف المنظورات.
ما تقدَّمَ ملخَّص شديد لرؤيتي لتنوُّعِ فهم القرآن الكريم وتفسيره، ومواكبةِ المعنى الديني فيه لتنوُّع وتعدُّد العصور. ومن دون ذلك لا يمكننا القولُ باستمرار القرآن لإنتاج معنًى روحيٍّ وأخلاقي وجمالي للحياة، تبعًا لاختلاف الأحوال والأزمان والواقع. وهي رؤية تتكشَّف فيها الإمكاناتُ المعرفية والإبستيمولوجية لكلِّ القراء، لبناء فهمهم المتجدِّد لآيات القرآن، وهكذا غيره من الكتب المقدَّسة في الأزمنة المتوالية.
ملخَّص الفهم الجديد للوحي
- (١)
من حيث المصدر فهو إلهيٌّ، أي إنَّ مصدرَ الوحي الله وليس وحيًا نفسانيًّا، أو غير ذلك من آراءٍ تنفي صلةَ الوحي بالله.
- (٢)
من حيث كون الوحي ظاهرةً غيبيَّة عبَّرت عن نفسها في شخصية النبي الكريم ﷺ فظهر فيها أثرُ شخصيته، أي تَشَكَّلَت صورةُ الإلهي وانكشفت عبر البشري، وتَشَكَّلَ البشريُّ وتحقَّق عبر شهوده الإلهي وتجليه له بأجمل صورة. تَشَكُّلُ الإلهي وانكشافُه في الأرض من خلالِ البشريِّ يعني أنَّه يتحدَّد بحدود البشري، ويعبر عن ذاته بما هو بشريٌّ.
- (٣)
من حيث كون الوحي ظاهرةً غيبيَّة عبَّرت عن نفسها في الواقع، فظهر فيها أثرٌ للواقع المحلي الذي احتضن الرسالةَ وعاشه النبيُّ الكريم ﷺ إذ انعكس في القرآن الكريم أثرُ بيئةِ مجتمع الجزيرة العربية؛ لذلك يرتسم في القرآنِ شيءٌ من صورةِ ذلك المجتمع وثقافتِه ونمطِ عيشه وعلاقاتِه المتنوِّعة، وكأنَّه مرايا لبعض ملامح الحياة العربية في عصر البعثة النبوية الشريفة.
ملخَّص القول: إن كلَّ مَن يقدِّم تفسيرًا جديدًا للوحي، بشرط أن يكون مؤمنًا بمصدره الميتافيزيقي، يمكن أن يُصنَّف تفسيرُه على أنه علمُ كلامٍ جديد. أما مَن يقدِّم تفسيرًا جديدًا للوحي، لكنَّه لا يؤمن بالله، أو يؤمن بالله لكنه لا يؤمن بمصدرٍ إلهيٍّ للوحي والنبوة والقرآن، فهو ليس متكلمًا جديدًا، يمكن أن يكون فيلسوفَ دينٍ لأنَّ المتكلمَ غير فيلسوف الدين، فيلسوفُ الدين يُفكِّر خارجَ إطار الدين، أما المتكلمُ فيُفكِّر في إطار الإسلام، كاللاهوتي في كلِّ دين الذي يُفكِّر في إطار ذلك الدين، وإن كان يستعير مناهجَ بحثه مما أنجزتْه العلومُ والمعارفُ البشرية.
تجديدُ علوم الدنيا يتكفَّل بتجديد علوم الدين
علوم الدين موضوعها الدين، وهي تتمحور في الإسلام حول القرآن الكريم. وعلوم الدنيا هي كلُّ علم ينتجه الإنسانُ خارج إطار الدين. الصِّلة بينهما عميقة؛ فكلُّ تطوُّر في علوم الدنيا يستتبعه تطوُّر في علوم الدين. هذا ما دلَّلَتْ عليه فلسفةُ العلم الحديثة، وما كشف عنه تاريخُ نشأة وتطوُّر العلوم والمعارف كلها.
كنتُ أعتقد بأنَّ تجديدَ علوم الدين يتكفَّل بتجديد علوم الدنيا، لكني اكتشفتُ لاحقًا أنَّ هذه المعادلةَ مقلوبةٌ؛ إذ إن تجديدَ علوم الدنيا هو الذي يتكفَّل بتجديد علوم الدين. فكلُّ تحوُّل في علوم الدنيا يستتبعه تحوُّلٌ في علوم الدين.
لا أظنُّ أنَّ علومَ الدين التقليديَّة ستصمد طويلًا في المستقبل؛ لأنَّ منعطفاتِ التطوُّر في العلوم، والتحوُّلات العميقة في حياة الناس، والحاجات المُلِحَّة للمعنى الروحي والأخلاقي والجمالي، تفرض على علوم الدين الاستجابةَ لها. عندما يزحف التاريخُ يزحف معه كلُّ شيء في الحياة البشرية، التاريخ قطار يتحرَّك على الدوام بكلِّ عرباته، وإيقاعُ سرعته في زماننا يفوق كمًّا وكيفًا إيقاعَ سرعته في كلِّ زمان سابق بنحو كبير.
الدعوة لبناء علم كلام جديد يفرضها العقلُ الحديث، وما أنجزه من علوم ومعارف في مختلف مجالات الحياة. يكتسب علمُ الكلام الجديد فاعليتَه من فاعليةِ هذا العقل، وقدرتِه الخلَّاقة على اكتشافِ الطبيعة الإنسانيَّة واحتياجها لمعنًى خارج الحاجات المادية، وما يمكن أن يتكفَّله الدينُ من تأمين ذلك المعنى الذي لا يمكن تأمينُه بوسائل أخرى.
أَثِقُ بالعقل الحديث وأراهن عليه في بناء علم الكلام الجديد، على الرغم من كلِّ النَّقد الذي صوَّبه له الفلاسفة، منذ نيتشه، وجماعة معهد العلوم الاجتماعية في فرانكفورت، ومفكِّري ما بعد الحداثة في الغرب. العقل الحديث يضيء لنا كلَّ يوم أفقًا في العِلم ومجالات المعرفة المختلفة، لينتقل بنا من الخطأ إلى الصواب ومن الظلام إلى النور. ميزةُ العقل الحديث تكمن في أنه يمتلك شجاعةً فذَّةً في مراجعةِ ونقدِ نفسه وغربلةِ وتمحيص ما يقوله على الدوام.
لا أترقَّب ظهورَ أنبياء أو فلاسفة أو مصلحين اليوم يغيِّرون العالم؛ لأن صيرورةَ التاريخ ومعادلات التغيير تبدَّلت، بعد أن دخلت التقنياتُ الجديدةُ للجينات والمعلومات والاتصالات والنانو، بوصفها عناصرَ حاسمة في صيرورة التاريخ وإعادة رسم معادلات التغيير. مَن يعاند صيرورةَ التاريخ تعانده، ولن تتوقَّف طويلًا لتترقَّب التحاقَه بها، مَن يصارع التاريخَ يصرعه.
علمُ الكلام الجديد ضدُّ التكفير
التكفيرُ معضلةُ الأديانِ كلِّها، ظهر التكفيرُ في الإسلام في وقتٍ مبكر. ليس هناك استثناءٌ في التكفير لدى الفِرَق في الإسلام، في كلِّ الفِرَق نجد مَن يكفِّر المختلفَ في المعتقد، وإن كانوا يختلفون في عدد مَن يقول بالتكفير ودرجة تشدُّده وحدوده. ويرتب الفقهاءُ على ذلك أحكامًا وفتاوى تقيِّد التعاملَ مع المحكومين بالتكفير. بعضُ الفِرَق تمادت واتَّسعتْ مساحةُ التكفير فيها، ولم يُستثنَ مختلِفٌ في معتقَده من تكفيرها، لكن قلَّما نجد مَن تورَّط بالتكفير من المعتزلة. ولم أعثر على أحد من العرفاء يُكفِّر المختلِف.
علمُ الكلام الجديد يحاول أن يخلِّصنا من التكفير الذي يحجر على المسلم الفضاءَ الاجتماعي، ويضيِّق مساحةَ علاقاته بغيره، عندما يسجنه في حدود معتقَده، ويحدُّ من حريته في بناء علاقات إنسانية مع مختلِف الناس، ويضيِّق على حدود تعامله معهم في إطار إنساني أخلاقي مشترك، إن كانوا يعتقدون بغير معتقَده.
لا هُوِيَّةَ مذهبية لعلم الكلام الجديد
في علم الكلام الجديد يُعَادُ اكتشافُ صورة الله، وفي ضوء هذه الصورة يُعاد بناءُ صلة الإنسان بالله، وهي صلةٌ تتحرَّر من رُكام العبوديات بمختلف أشكالها. لذلك يهتم علمُ الكلام الجديد بالاستنارة الروحية، وهي أجملُ ما أنجزه العرفانُ في كلِّ الأديان. في الإسلام كانت الاستنارةُ الروحية منبعًا غزيرًا لتحوُّل الصلة بالله من علاقةٍ يحكمها الخوفُ إلى صلةٍ تتكلَّم لغةَ المحبة.
في علم الكلام الجديد يُعاد تعريفُ الوحي في الأديان، بوصفه حقيقةً واحدة، ونورًا إلهيًّا تجلَّى في روح الأنبياء، فعبَّر عن نفسه بعدة لغات، كمرآةٍ تعكس كلَّ ذلك. تجلَّى ذلك النورُ في روحِ كلِّ واحدٍ منهم على شاكلته، وعلى وفق لغته وثقافته، ودرجة تطوُّر الوعي والحضارة لعصره.
في ضوء هذا التعريف يمكن أن يكون الوحيُ أوسعَ من النبوَّات الكتابية، وذلك يمكننا من أن ننفتح على الأديان الأخرى خارج أسوار علم الكلام القديم، ومن دون أن تضعنا مقولاتُ «الولاء والبراء» وغيرُها من مواقف المتكلمين في عزلةٍ عن كلِّ الأديان.
وفي ضوء هذا المفهوم للوحي يمكننا فهمُ التعدُّدية الدينية من منظورٍ خارج مقولات احتكار الحقانية والنجاة والخلاص. وأن نرتقي بالحوار بين الأديان، فبدلًا من أن يظلَّ حوارُنا في إطار المجاملات والعلاقات العامة، يصير حوارًا بنَّاءً مثمرًا، منتجًا لأسس السلام ومبادئ العيش المشترك.
من دون تكريم كلِّ الناس لا تتحقَّق الكرامة
في علم الكلام الجديد يُعاد تعريفُ الإنسان بالشكل الذي يذهب إلى أن إنسانيتَه لا تتحقَّق إلا عند تحقُّق كرامته. الكائنُ البشري يستمدُّ قيمتَه من إنسانيته، ويستمدُّ إنسانيتَه من كرامته، أية محاولة لإهدار كرامة الإنسان تنتهي إلى إهدار إنسانيته.
الكرامةُ الإنسانية قيمةٌ إنسانيةٌ عُليا، هي مقصدُ مقاصدِ كلِّ دين وجوهرُ إنسانيته، معناها واحدٌ صريحٌ يتساوى فيه كلُّ الناس، بغضِّ النظرِ عن دينهم وثقافتهم وجنسهم وموطنهم ولونهم ومهنتهم. تكريمُ الإنسانِ بوصفه إنسانًا واجبٌ أخلاقي وليس مِنَّةً أو تفضُّلًا من أيِّ أحد. حمايةُ كرامة النَّاس معناه حمايةُ كرامتنا من الانتهاك؛ لأنَّ الكرامةَ واحدةٌ لا تتجزَّأ، كرامتُنا لا تتحقَّق من دون تكريم كلِّ الناس.
في علم الكلام الجديد يُعَادُ بِنَاءُ مفهوم الفرد. لا معنى لمجتمع تعدُّدي من دون بناءٍ لمعنى الفرد. ما لم يتحقَّق معنى الفرد لن يتحقَّقَ معنى التعدُّد والتنوع والاختلاف.
كلُّ تعدديةٍ سياسية وثقافية ودينية لا بدَّ أن تبدأ بتشكيل مفهوم الفرد في أيِّ مجتمع، وتعمل على تجذيره تربويًّا ونفسيًّا وثقافيًّا. بناءُ ثقافةٍ تقوم على الحقِّ في الاختلاف هي الأساسُ الذي يولد في فضائه ويتشكَّل مفهومُ الفرد. لا معنى لمفهوم الفرد، كما لا معنى لمجتمع تعدُّدي متنوع من دون تكريس الكرامة البشرية واحترامها بوصفها قيمةً مرجعيةً تعلو على كلِّ قيمة.
في مجتمعنا المسئوليةُ الفرديةُ مُستلَبة، أنت مسئولٌ عن الكلِّ من دون أن تكون مسئولًا عن نفسك، والكلُّ مسئولٌ عنك من دون أن تكون مسئولًا عن نفسك. علمُ الكلام الجديد يهتمُّ ببناءِ مفهوم الفرد، وتكريسِ مسئوليته الفردية. القرآنُ الكريم يتحدَّث عن المسئولية الفردية في آياتٍ متعدِّدة، وفي سياقاتٍ متنوِّعة، منها هذه الآيات: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (المدثر: ٣٨)، وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (فاطر: ١٨)، وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ (الأنعام: ١٦٤)، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (فصلت: ٤٦)، وَخَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (الجاثية: ٢٢).
التجديدُ في الإسلام يبدأ بتجديد علم الكلام
التخلفُ العلمي في أي مجتمع لا يسمح بنموِّ وتطوُّر المعرفة الدينية؛ لأن هذه المعرفةَ فرعُ العلوم والمعارف المتنوِّعة. في مجتمعات عالَم الإسلام ما زال الإبداعُ في الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع نادرًا، وما زال إنتاجُ العلوم الصرفة والطبيعية والتطبيقية فقيرًا. كلُّ ما يُدَرَّسُ في الجامعات الحديثة لدينا، إمَّا مستعارٌ من التراث، أو مستعارٌ من الغرب، وغالبًا ما تخضع هذه الاستعاراتُ لقراءاتٍ تخرجها من سياقها التاريخي، وتقطعها عن بنيتها المعرفية، وتكون أسيرةَ إسقاطات وتأويلات لا تتحدَّث لغتَها، ولا تحيل إلى رؤيتها للعالَم.
ما يعيق نموَّ واتساعَ الكلام الجديد تجذُّرُ الاستبداد، وشيوعُ التسلُّط في العلاقات الاجتماعية في العائلة والمجتمع والدولة ومؤسَّساتها. الاستبدادُ عدوُّ البحثِ العلميِّ الحرِّ في الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع، ولا تنمو وتتطور المعرفةُ الدينية ما لم تنمُ وتتطوَّر هذه المعارف.
علمُ الكلام الجديد عدوُّ الاستبداد بكلِّ أنماطه، والاستبدادُ تختنق فيه الحياةُ في بلاد المسلمين بكلِّ مجالاتها. في الاستبداد يضمحلُّ حضورُ الكرامة البشرية، وإذا ترسَّخ شعورُ الإنسان بأنه بلا كرامة، وأنه شخصيةٌ تافهة، فإنه يعجز عن الإسهام بأيِّ عملية بناء، أو الاضطلاع بمهمَّات خلَّاقة في الحياة.
الاستبدادُ لا يقبل إلا أن يصير الناسُ عبيدًا أذلَّاء للمستبِد، وعلم الكلام الجديد يهدف إلى تحرير الإنسان، يبدأ الكلامُ الجديدُ عمليةَ التحرير بإعادة بناء صلة الإنسان بالله، بنحوٍ تتقوَّم فيه هذه الصلةُ بتكريم الله للإنسان، وتتكرَّس بالمحبَّة المتبادلة بينهما يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (المائدة: ٥٤). يرفض الكلامُ الجديدُ كلَّ أشكال العبوديات المُشبَعة بمعاني الاضطهاد والتضحية بالكرامة، المترسبةِ في اللاشعور الجمعي، والموروثةِ من تسلُّط الخلفاء والحكَّام المستبدِّين.
الدعوةُ لتوطين علم الكلام الجديد في الدراسات الدينية، والكتابةُ فيه، والكشفُ عن أسسه وأركانه وأهدافه وخرائط سيره وما يهتدي به، هي خطوةٌ أولى على طريقٍ طويل لا تُطوى محطَّاتُه سريعًا، ولا يمكن بلوغُ أقصى مدياته، أو الوصولُ لنهاياته في وقت قريب. أمامنا طريقٌ شاقٌّ منهكٌ، ينبغي أن تتضافر فيه جهودُ أكثر من جيل من الباحثين الخبراء بالتراث والفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع لنيلِ ما ننشده.
قبل أكثر من ٣٠ عامًا بدأتُ الحديثَ لتلامذتي في دروسي ولزملائي في الحوزة عن فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. كنتُ أُشَدِّدُ على أن الآراء والمقولات الاعتقادية لمؤسِّسي الفِرق والمتكلِّمين الأوائل تفرض حضورها في تشكيل صورة الله وصياغة رؤية المسلمين للعالَم؛ لأنها ما زالت متجذِّرةً في أعماق لا شعورهم. وكل تجديد في علوم الدين لا يبدأ بفتح باب الاجتهاد في علم الكلام ينتهي إلى طريق مغلق.
ثم انتقلتُ لكتابة ونشر وترجمة بعض المقالات والكتب باللغة العربية في ذلك. كان القراء من تلامذة وأساتذة الحوزات ومعاهد التعليم الديني وأقسام الفلسفة في الجامعات يتساءلون عن معنى هذين المصطلحين. أسئلةُ أكثرهم لا تخلو من تشكيكٍ وارتياب؛ لأن هذه الدعوةَ أزعجت تلامذةً وأساتذةً من الأصدقاء وغيرِهم، بل استفزَّتِ الضميرَ الديني للمنغلق عقلُه منهم.
بمثابرةٍ صبورة واصلتُ كلَّ هذه السنوات جهودي بهدوء وإصرار، من دون أن ألتفت إلى كتابات وأحاديث وثرثرة يتداخل فيها الارتيابُ بالاستهجان والاتهامات المبتذلة. انتقلتُ من مرحلة الكلام إلى العمل، فأسَّست «مركزَ دراسات فلسفة الدين»، وأصدرتُ مجلةَ «قضايا إسلامية معاصرة» قبل ٢٥ عامًا. تناولتْ محاورُ أعداد هذه المجلة منذ صدورها بحثَ وتحليلَ ونقدَ موضوعات فلسفة الدين والكلام الجديد، كما نشر المركزُ عِدَّةَ سلاسل كتب تتناول هذه المواضيع بمداخل متنوعة ومعالجات مختلفة، بلغت نحو ٣٠٠ كتاب.
انتقلنا منذ سنوات إلى محطَّة جديدة، تَوَطَّنَتْ فيها فلسفةُ الدين وعلمُ الكلام الجديد الدراساتِ الدينيةَ والفلسفيةَ العربية، فصدرت عدَّةُ دوريات متخصصة في ذلك، وانفتحت أقسامُ الفلسفة في الجامعات على هذه الموضوعات في الدرس الأولي والعالي، وتنامى إنتاجُ بحوث ورسائل الدراسات العليا. حتى بعضُ الحوزات ومعاهد التعليم الديني الحَذِرَة من أية محاولةٍ للانفتاح على ما هو جديد، اهتمَّتْ بتعليمها ومناقشتها ونقدها. واتسع نطاقُ التعليم والبحث والكتابة في ذلك إلى الحدِّ الذي تغافل فيه أشدُّ المناهضين للتجديد عن مواقفهم المتشدِّدة، وفرض عليهم الواقعُ غضَّ النظر عنها، بعد أن تمدَّد حضورُ فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد وتعزَّز، فتنامى عموديًّا وأفقيًّا في الفضاء العربي.
سأظلُّ كما كنتُ وفيًّا لهذه المهمة، مهما كانتْ ضريبةُ البحث العلمي والكتابة والنشر فيها، لقناعتي بأنَّ انخراطَ التعليم الديني والدراسات الإسلامية في هذا المسار الصعب هو ما يمنح الحياةَ معناها الديني الذي يتناغم لحنُه واحتياجاتِ روح وقلب وعقل المسلم اليوم، ويحميه من التشدُّد والعنف اللذين أَهْدَرَا كلَّ طاقات الدين الخلَّاقة، وَبَدَّدَا قيمَه الإنسانيَّة الكونية.