هذا مذهبي
مذهبي في الحياة أن لا مذهب لي فيها؛ فكلُّ أعمالي خبْص في خبْص، ما أريده لا أفعله، والشيء الذي لا أريده إياه أصنع. أحسبني كرةً في يد لاعبٍ جبَّار يقذفها في الفضاء، فلا هو ولا هي تدري أنَّى تتوجَّه، وأين يكون مستقرها! فالحياة في نظري لعبةٌ تتلهَّى بها قوةٌ سرمدية أزلية تُخرج منها أنماطًا لا تُدرَك، ولا يزال في قرارتها غرائب وعجائب لا نهاية لها، كلَّما تزاوجت أَنْسَلَت أقزامًا وعماليق، وكلما انفعل الكائن الأزلي تفجَّرت قواه اللامتناهية، وانبثق إلى الوجود ما يحيِّر كلَّ موجود.
في مذهبي أنَّ الدماغ البشريَّ هو المستودَع النائمة فيه — إلى حين — أسرار الطبيعة، وقد عاينته، يُبرزها إلى الوجود واحدًا واحدًا في سبعين عامًا، فما كان مستحيلًا أمسى ممكنًا.
لا أتمثَّل الحياة إلا مدرسة لا نهاية لدروسها، خرِّيجها يتوارى في الظلمة قبل أن يرى النور الذي ينتظر، ومع ذلك أراني أُومن بالحياة إيمانًا عميقًا لا قرار له، وأحبها محبةً كليَّةً ولكنَّها بدون رجاء.
أُومن بالإنسان، ابنها الوحيد، الخالق الأعظم المنبثق من الأرض والسماء، فهو جِرمٌ أرضي سماويٌّ في وقت معًا. إني أرى الأرض مصدر كلِّ خيرٍ وبركة، ومع ذلك يكفر بها الناس، وينكرون فضلها عليهم، ويُفتِّشون عن سعادتهم في غيرها، أما أنا فمذهبي في الحياة هو مذهب طَرَفة القائل:
لا أُومن إلا بأنِّي سوف أموت، ولا يعنيني كل ما يُقال عني بعد ذلك.
مذهب غيري: القناعة غنًى. أما أنا فشعاري الطمع في هذه الحياة، وأرى القناعةَ من طباع البهائم. أنا في محبة الدنيا على دين معاوية؛ أودُّ لو تكون في يدي بيضة نِمْبَرَشت فأحسوها كما هي دفعة واحدة.
مذهبي في الحياة أن أعمل دائمًا، وهَمِّي أن أسبقَ مَنْ قبلي وأُعجِز مَنْ بعدي، ولكن يا ليت!
أكره القمر ولا أفرح بولادته؛ لأنه بشير زوال، وأنا لا أريد أن أزول قريبًا. وأحبُّ الشمس لأنها رمز الديمومة.
أتَعُدُّ هذا فلسفة؟ أنا لا فلسفة لي في الحياة ولا أُومن بالفلسفة، وأعتقد أنني حجر في مِقْلاع الجبَّار العنيد، فتارةً يضربني وآونة يضرب بي، فخير ما أعمل هو أن أعمل بلا انقطاع؛ لأجد اللذَّة فيما أعمل لا فيما أُفكِّر.
لي في حياتي مذاهب تتغيَّر وتتقلَّب مع الأنوار والظلمات، ومع الحر والبرد، وفي العسر واليسر، ولكنَّ الشيء الذي لا يتغيَّر هو الانصراف إلى العمل الذي ينسيني جميع شئوني وشجوني.
فكل أمنيتي ألَّا أذيب شخصيَّتي في مستنقعات الآخرين، وأن أظلَّ منسجمًا مع ذاتي، وأن أبقى ساذَجًا لا تكلُّف ولا تعقيد في حياتي، وألَّا أتخلَّى عن شيء من بساطةٍ أَوْرَثَنِيها المربِّي، فأكرهُ شيء إليَّ التقليد.
لا تسلني عن مذهبي في حياتي؛ لأني لا أعرف ذلك المذهب لأحدِّثك عنه؛ فكل ما أعرف أنني بدَّلت أثوابًا كثيرةً، ولم يبقَ لي ثوب لأقول هذا يعجبني، فأمري ليس في يدي.
فكل ما أعرفه هو أنني نشأت نشأةً زميتةً في كنف رجل يرى الضحك جريمة، فكان يهز لي العصا كلما خفَّ وقاري فأعود إلى الترصُّن، وكان صباي وشبابي رصانةً لا قيمة لها؛ لأنها مصطنعة وضد طبعي، فأضعت ذاتي زمنًا طويلًا ولم أعثر عليها إلا في ظهر العمر، وصرت أخيرًا كما يقول أبو نواس: «وشيبي بحمد الله غير وقار.»
أرأيت أنني كلما قلت لك مسيَّر لا مخيَّر؟ كثيرًا ما أحاول أن أعدي عن الهزل، ثم لا أجدني إلا انْبَرَيْت له، فكأني أو كأن الحياة تُريد أن تعوِّض عليَّ ما حُرِمته في صباي وفتوَّتي.
يظهر أن هذا الضحك نافعي، يجب أن نضحك كثيرًا حتى نقابل جهومة الشيخوخة العتيدة، ونرعبها فترتد على أعقابها وتختفي علاماتها من أمام أعيننا.
ومذهبي الأخير — أقول الأخير الآن، فربَّما كان لي غدًا مذهب غير هذا — هو أن أستهزئ بالموت. وإني لأعجب كيف يخاف الموتَ مَن لا يرى أمامه حقيقة ثابتة غيره! نعلم أننا ميِّتون، وإذا حصل الموت قمنا وقعدنا وتفجَّعنا كأنما قد حلَّ بنا أمر غير مُنْتَظر ولا مُقدَّر، فمن لي بمن يضحك ويقهقه يوم أتوارى؛ لتقرَّ بذلك عيني وتطيب نفسي، كممثِّل هزلي يُسدَل عليه الستار بين تصفيق النظَّارة وعربدتهم الضاحكة؟ وهل الحياة غير رواية هزلية؟!
لا أتمنى على جسدي إلا أن يظلَّ خادمًا أمينًا لما خُلق له، وإلَّا يُنْذِرني قبل أن يخذلَني، وإن كان لا بدَّ من عمر طويل فأرضى أن أعيش ما ظللت قادرًا على العمل … ولو كنت واثقًا من أنني أطالع وأكتب في دنياي الجديدة، لما طلبت المزيد من حياتي هذه، ولكنني أخشى أن يصحَّ ما يقولون وأمسي وأصبح في جنة لا عمل فيها، من هذا خوفي لا من الموت.
يشغل بال البشرية تطويل العمر، أما أنا فأرى أنَّ محاولة هذا التطويل تحول دون التمادي في العمل، والذي يستريح ليطيل عمره يكون قد قصَّره من حيث لا يدري؛ فالعمر الذي لا يملؤه العمل هو عمر أجوف كالقصبة. ولعلَّ لي رأيًا يُخالف رأي غيري، فأنا لا أشغل نفسي بإصلاح ما بعُد عنِّي إلا بعدما أُصلِح ما قرُب مني وأبدأ بنفسي؛ ولذلك أحاول دائمًا أن أُنمِّي رأسمالي الأدبي لعلمي الأكيد أنَّ ما يبنيه الاتفاق يهدمه الاستحقاق.
وأخيرًا لست أدري إذا كنت أعربت عن مذهبي، ولكن من أين لي المذهب وأنا — كما قلت — تلك الكرة التي تتقاذفها يدُ القدر؟ ما قالت الناس عبثًا «نحن في التقدير والله في التدبير.»
فليدبِّر ما شاء، وإذا حالت مشيئته دون مرامي فما في ذلك كبير شأن، ما زلنا نقول إنه ضابط الكلِّ، ووسِع كرسيُّه السموات والأرض.