الحظُّ أعمى
يمشي الإنسان من المهد إلى اللحد، ويعيش معه ثلاثة؛ اثنان لا يُفارقانه أبدًا، وواحدٌ قد يُدركه وقد لا، أمَّا الأول وهو الأمل فمستقرٌّ أبدًا في هوَّة الفكر الإنساني التي لا قرار لها، يظلُّ يُمَنِّينا ويحثُّنا ويطوِّل لنا الحبل وينخسنا دائمًا بمهمازه، ويدفعنا إلى السعي وراء الشخص الثالث المجهول محل الإقامة، ولا يعلم إلا الله متى نلتقي به.
أمَّا الثاني فنراه معنا حيث نكون، وهو ذو أسماء متعددة، يسمَّى في المصائب الصبر، ويُدعى في الأعمال الثبات، ويقال له في الشدائد الحزم، فحيثما مشى الإنسان مشى معه الأمل والصبر لعلَّهم يلتقون بالحظ الرفيق الشارد، كثيرون زعموا أنهم ماتوا وما التقوا به، وأشهر هؤلاء شاعرنا المتنبي الذي قال في رثاء جدته: «طلبت لها حظًّا ففاتت وفاتني …» بعدما قال أيضًا في شرخ شبابه:
كما قال أيضًا:
لا بدَّ أن تتساءل: وكيف تفْضُل العينُ أختها؟ وكيف يكون اليوم سيدًا في الأيام؟ اسمع أقُل لك؛ يسودُ اليوم إذا وقع فيه حادثٌ خطير وأصبح عيدًا، فيصير الأربعاء مثلًا سيد الخميس أفلا يوجد سادة إلا في البشر؟ إنَّ لكل شيء سادة حتى النمل كما روى الجاحظ. أما كيف تفضُل العينُ أختها فهذا يقع كثيرًا، كأن يكون الرجل مارًّا فتصيبه ضربةٌ تذهب بإحدى كريمتيه فتفضل السليمة أختها المصابة، وهذا عمل الحظِّ عند المتنبي. قضى المتنبِّي حياته القصيرة يُطاعن خيلًا من فوارسها الدهر، وهو يرى أنَّ الدهر والحظَّ متحالفان على قهره، وقد بلغ هذا الاعتقاد الأَوْج حين قصد مصر وتمثَّل له شخص كافور، فغضب على الدهر تلك الغضبة الكبرى، رأى الحظَّ يجعل من العبد كافور سيدًا صاحب حوْل وطوْل يقهر القاهرة، ويضرب من الكِنانة بأسهم، فصرخ:
لم يُشبع المتنبِّي ما ناله من مجدٍ أدبيٍّ فظلَّ يشكو وهذا شأن البشر، فما أقل الذين يرضون بقسمتهم ونصيبهم! كلُّ واحدٍ يرى أنه مظلومٌ من دنياه، فلا تسمع على الألسنة إلا سبَّ الدهر وابنه الحظ، فكل من يُقصِّر يجعل خطيئته في رقبة الدهر الذي لم يسلمه رَسَن الحظ …
إذا قصَّر أحدُنا تأفف وقال: «حظ.» وإذا سعى وراء مطلب وخاب يقول: «حظ.» حتى إذا ضربتَ له موعدًا وفاته لأنه أبطأ وتكاسل يقول: «حظ»! فتأمل يا صاحبي كم في ذمَّة الدهر والحظِّ من ضحايا! لقد قلَّ في الناس من رضي بحظِّه، فالبُحْتُريُّ الذي قطع درب الرزق على ابن الرومي حتى استأثر بجميع الجوائز، لم يقنع بكلِّ ما أصاب من الخلفاء فراح يقول لنا في سينيته المشهورة بعدما شبع مالًا واعتبارًا:
وإذا تركنا البحتريَّ يسقيه ابنه أبو الغوث في أبيض المدائن ليتسلَّى عن الحظوظ، رأينا خصمه ابن الرومي الشاعر البائس الجوعان العريان يصرخ في كسر بيته إن كان أرجع إليه:
أفلا تحار مثلي في تعليل ما قاله البحتريُّ بعدما سمعت قول معاصره المسكين …؟ وأعجب من هذا وذاك قول شاعر النيل حافظ إبراهيم في سقوط السلطان عبد الحميد:
ماذا تُراه يطلب حافظ من الحظوظ أن تعمل ليرعى عهدها؟ أيطلب للسلطان عبد الحميد حكمًا أطول من ثُلُث قرن يكمن فيه الموت بين شفتيه؟
وشاعر العرب الذي قال:
كيف استولى عليه اليأسُ والقنوط في ساعة لم تهضم فيها معدته ما أكل؟ حتى راح يجترُّ فكرته الكبرى وقال:
أشهد أنَّ المتنبِّي على محبتي له قد ضلَّ هنا، وإذا صدَّقناه أن الحظَّ والفهم لا يجتمعان احتقرنا النبوغ في جميع ميادين الحياة، كان هدف المتنبِّي المال والحكم ولأجلهما سبَّ الدهر وغضب على الحظِّ، وهو لو لم يدرك ما تمنَّى ولم تجرِ الرياح بما لا تشتهي السفن كما قال لكان أتعس الناس حظًّا وما كان فاز بهذا الخلود، لقد كان الحظُّ في خدمة المتنبِّي، والمتنبِّي لا يدري، وهكذا كان يشقى في النعيم بعقله كما قال.
والذي يتراءى لي من حديث البشر عن الحظِّ هو أنهم لا يعنون إلا المادة، فما سمعناهم قالوا عن رجلٍ كبير العقل وافر العلم أنه صاحب حظٍّ إذا لم يكن في يده المال، فالإنسان في عُرفهم لا يكون محظوظًا ما لم يحصل على المال من أيَّة الطرق كانت، فكأنَّ العقل لا قيمة له في نظرهم. إذا أثرى واحد كان عند هؤلاء من الذين خدمهم الحظُّ، أمَّا كيف أثرى ومن أين، فهذا لا وزن له ولا اعتبار، يقولون لك: «حظ»! فاسرق وانهب ولا ترد يدك عمَّا تصل إليه ليسمُّوك صاحب حظٍّ، فهم لا يفكرون قط بما قاله عاشق الحظ:
وبعدُ، فلماذا كثر ذكرُ الحظِّ في أدبنا وخصوصًا الشعر منه؟ ما وجدتُ لذلك سببًا غير تواكل شعرائنا وأدبائنا حتى ملئوا شعرهم أنينًا وطنينًا، والذي يظهر لي أننا نحن جميعًا اتِّكاليُّون ننتظر أن يأتينا الرغيف إلى البيت ثم لا نُكلِّف أنفسنا غير أكله …
قلت في نفسي: لعلَّ الشعر الشرقي كله يتحدَّث عن الحظ تحدُّث شعرائنا ويعزو إليه الإخفاق في الحياة، فرحت أنظر في كلام شعراء التوراة فما رأيت كلمة الحظِّ وردت فيها — على ضخامتها — إلا أربع مرَّات:
واحدة عن أيوب: «وفوق الظهيرة يقوم حظُّك»، وأخرى في سِفْر الأمثال: «عندي الغنى والكرامة قنية فاخرة وحظ»، وثالثة في سِفْر الأمثال أيضًا: «التابع للعدل والرحمة يجد حياةً، حظًّا وكرامة»، ورابعة في شعر أشعيا: «هذا نصيب ناهبينا وحظُّ سالبينا.»
أمَّا كلمة نصيب كما يفهمها الناس اليوم — أي بمعنى الحظ — فلم ترد قطُّ عندهم، وهذا ما جعلني أعتقد أنَّنا نحن وحدنا نؤمن بالحظِّ هذا الإيمان المطلَق فنعزو إليه كلَّ توفيق وكلَّ إخفاق.
ولا تنسَ تكالبنا على حطام الدنيا فهو الذي يجعلنا نسمِّي النذل صاحب حظٍّ إذا وقع على المال الحرام ولم يعفَّ عنه، لستَ من أصحاب المروءة إذا أكلت مال السُّحْت، وأنت أتعس الناس إذا اؤتمنت وخنت، فنِعمَ الحظ حظك إذا كان ما أصبته حلالًا زُلالًا! وما أتعس جدك إذا فرحت بلقطة وقعت في يدك فالتهمتها وعددت ذلك حظًّا وحلَّلتها، بينما ضميرك يصرخ: رُدَّها …!
وبعدُ، فأنا لست ممن يؤمنون بالحظِّ، لا أُومن إلا بكلمةٍ واحدة، أُومن بليس للإنسان إلا ما سعى.
أنت تؤمن بالحظِّ وكأني بك تومئ برأسك: نعم، إذن الدنيا في رأيك قسمةٌ ونصيب، وعلى هذا اتفقنا يا صاحب، فأرجو منك ألا تقومَ من فراشك غدًا، ابقَ نائمًا، ومتى غابت الشمس نتحاسب، أريد أن أعرف أي حظٍّ ساق إليك الرزق إلى البيت، وماذا سقط عليك من السماء من منٍّ وسلوى، وماذا أطلعت لك الأرض من خيرات … طبعًا لا شيء، إذن الإيمان بالحظِّ خرافة كبيرة، وليس الرزق مطرًا تجود به السماء.
الرزق يا صاحبي كامنٌ بين مخالب المصاعب، ولا ينتزعه من بين براثنها إلا كلُّ جبَّار، فإذا كنت تشكو قلةً فداوِ نفسك بالكدِّ والجدِّ، إياك أن تقف! فالوقوف موتٌ، اعمل ولا تيأس.
لا تصدِّق ذلك الخامل ابن الرومي فلو كان سعى كان رعى، ولكن ابن الرومي يريد العصفور محلوقًا منتوفًا مشويًّا ملفوفًا برغيف، ولولا القليل لالتمس من يمضغه له، وما هكذا تكون الرجال.
فبحياتك إذا كنت ذا أولاد لا تذكر الحظ على مسامعهم لئلا تُربِّي شبابًا فاترين مائعين يُقصِّرون في أول العقبة، خبِّرهم عن الذين خابوا في الحياة وأبوا أن يتراجعوا، حدِّثهم عن الذين سقطوا في الميدان مرات ثم نهضوا وجروا وظلُّوا يقعون ويقومون حتى بلغوا الغاية.
وإذا حاجُّوك في أناسٍ يُطعن في حظهم، فقل لهم: «ليس هؤلاء في الحساب، ولا نريد أن نكون منهم.»