بين الأذن والفم
شكت إليَّ أذني ثرثرة فمي فقلت لها: عجيبة شكواكِ! إنه لا يصلني شيء مما تدَّعين.
ثم تفكَّرت مليًّا في ما قالت فوجدتها مصيبة، وأدركت شرَّ المصيبة المضحكة.
سمعت الناس كثيرًا ما يقولون «خداع النظر»، وقلَّما سمعتهم يقولون «خداع السمع»، إني أحسبهم مخطئين فما أقلَّ الذين تخدعهم أعينُهم! أمَّا الذين تخدعهم آذانهم فأكثر عددًا من الرمل، إن فيَّ وفيك شيئين قريبين بعيدين، أتَحْزِر ما هما؟
هما أذناي وأذناك وفمي وفمك، ألا ترى كيف نُصِبَت الأذنان كبوقين على جانبي قمة رأسي ورأسك؟ ألا تراهما ككِفَّتي ميزان، وخصوصًا إذا كانتا طويلتين، ننتقل بهما من مجلسٍ إلى مجلس، ومن نادٍ إلى ساحة، لقد خُلِقتا ميزانًا لأنفسنا أولًا، ولكننا لم ننتفع بهذا الميزان؟
وكأنى بك تعترض عليَّ قائلًا: أليس للحيوان أذنان وفم؟ فماذا اخترعت بسؤالك هذا؟
– أي نعم يا سيدي، نحن والحيوان وكلُّ من يسعى إلى رزقه في هذا سواء، إنما هناك فرق: الحيوان — أجَلَّك الله — تُصدِّق أذناه جميع ما ينطق به فمه، فلا ينافق متى تكلَّم بلغته، لا يكذب الحيوان على قانيه إذا كان داجنًا، ولا على فريسته متى تهدَّد وتوعَّد، إذا كان آبدًا. أمَّا أنا وأنت فما أبعد فمِنا عن آذاننا! إنَّ أعمالنا تؤكد لمن يسمع أقوالنا أنَّ آذاننا في وادٍ وفمنا في واد، مع أنه ليس بينهما قدر أربع أصابع مسافة.
غريبٌ، عجيبٌ! كيف يُصبُّ في هذين القُمْعين كلُّ ما في الدنيا من كلام؟! كيف تلتقطان كلَّ حرفٍ من حديث النمَّامين الكذَّابين والهمَّازين اللمَّازين، ثم لا يبلغهما شيء من الفم الذي لا يبعد عنهما إلا قِيد كفٍّ؟! …
جعلت الطبيعة الأذنين جارَين للفم، بابهما مشرعٌ دائمًا وأبدًا، ومع ذلك تبدو هذه الشُّقَّة بعيدة جدًّا كأنها صحراء مد النهار، نحتاج إلى تليفون لاسلكي لنبلِّغ أذنينا ما ينطق به فمنا، أليس هذا عجيبًا غريبًا؟
لقد حان لي أن أقول لك: كيف تقعد يا صاحبي تعجن الناس وتخبزهم، ثم تضع المقليَّ على النار وتدبُّ بالحطب ثم لا تدري أنك ما تطبخ إلا نفسك؟ فأنت الطابخ والمطبوخ … وتحسَب أنَّ الناس لا يعرفون ما عندك.
أنت مغفَّلٌ يا صاحبي إذا غرَّك منهم إصغاؤهم إليك، وأنت أبله إذا ظننت أنَّ كلامك جاز عليهم لأنهم أقبلوا عليك بوجوهٍ تحيَّر فيها ماء الهُزْء والسخرية، ليتك تعرف يا مغرور ماذا قال أحد الحكماء، قال: «لو درى كلُّ الناس بما يقوله كلُّ الناس عن كلِّ الناس لما خاطب أحدٌ أحدًا!»
كم رأيتك ورأيتني قاعدين نتحدَّث كأننا ذوو سلطان نُصدر أحكامًا صارمة كأننا شركاء العزَّة في تدبير الكون، ومن كان يعرفنا ورآنا على تلك الحال يتأكَّد أننا لا نسمع ما نتكلَّم به، تقول أنت مثلًا: لو كنت ممن ولي الأحكام لعملت كيت وكيت، وفعلت كذا وكذا، بينما أنت تعرف أنَّك عاجزٌ عن إدارة أهلك، وتدبير شئون بيتك، وتعمير عقارك. وإذا غرَّتك عينُك بالسامعين تقذف حنجرتك رعودًا إصلاحية تغصُّ بها الأودية المجاورة، ولكن صداها — ويا للمصيبة — ينبو عن وادييك المتفتحين على جانبي فمك الذي ترمي أواذيه العابرين بالزَّبَد.
زرت رجلًا عُهِد إليه قضاء صغار الحاجات، فابتدأ يصف لي عظيم شأنه وأنا أعرف مَنْ هو، ثم استرسل في محاضرةٍ غير قصيرة موضوعها إخلاصه وتفانيه في خدمة الأمة، وحرصه الشديد على قضاء حوائج الناس فورًا، فهو لا يريد أن يؤجِّل عملًا، فليس الناس عبيد أبيه ليروحوا ويجيئوا. وفيما هو يُصارع أمواج موضوعه المتلاطمة دخل علينا صاحب حاجة فقال له: «مشغول الآن، غدًا.» فوجم الرجلُ كأنه يعتب صامتًا، فقال له هو: «غدًا، انتهينا.» ودقَّ على ظهره يسترضيه، فما كاد يخرج هذا حتى أطلَّ آخر فسدَّ الباب فقال له فورًا: «بعد يومين إن شاء الله.» وجاء ثالث فنهض، وفيما هو يقفل الباب بوجهه قال: «تعالَ بعد الظهر.»
فقلت وأنا أتهيَّأ للذهاب: «عرقلنا السير … أزعجناك، أودعناك.» فأمسك صاحبنا بطرف ثوبي وقال: «اقعد، هذا شغلٌ لا نهاية له، ولولا «بكرة وبعد بكرة» البقية بحياتك، كنا فطسنا من عشرين سنة …»
لا إخالك نسيت ما كان يقول منذ لحظات، أفتقول بعد هذا إنَّ أذنَي صاحبنا قريبتان من فمه؟ أنا لا أُصدِّق ذلك، ولا أصدِّقك إن خالفتني.
وإذا سمعت أنانيًّا جشِعًا يندلع لسانه كالنار، ويتدهور كلامه في أذنيك كما تتدهور مياه الشلَّال يُحدِّثك عن طهارة النفس واليد، ويتغنَّى بمحبَّة القريب والغريب، وأنت تعرف أنَّ قلبه قُدَّ من الصوَّان، يسلخ جلود اليتامى ويهتك سِتر الأرامل، ويستحلُّ رغيف المسكين، أفتقول إنه سمِع ما قال وإنَّ أذنيه قريبتان من فمه؟
وإذا جمعك سوءُ البخت بشيخ مُهدَّم تعلم أنه لا يضحك إلا للفلس حرامًا كان أو حلالًا، ثم قعد يصف لك تكالب الناس واقتتالهم على جِيَف المادة، وأنت تعلم أنه أكلب خلق الله؛ فما عساك تفعل؟ أتنتظره حتى يسدَّ بوزه؟ ما أراك إلا هامًّا بصفعه لتهشِّم أنفَه وتذهب بما بقي في فمه من أسنان، ومع ذلك أقول لك: اصبر عليه، فلو أردتَ أن تكنس المجتمع لوجب عليك أن تزرع العامر والغامر من الأرض بما يصلح مكانس لتكسح المدن والقرى. ولكن بحياتك قل لي بكم من آلاف الكيلومترات تُقدِّر مسافة البعد ما بين أذنَي هذا الوقِح وفمِه؟!
ما لنا نترك ما يعنينا؟ فلنعد إلى مهنتنا، إذا سمعت معلِّمًا يحثُّ تلاميذه على الجدِّ والكدِّ وسهر الليالي والإقبال على الدرس بثغور باسمة ووجوه تقطر نشاطًا وأعين وأيدٍ تكاد تلتهم الكتب والأوراق، ثم رأيته في الغد يُقبل على عمله كالبغل الكئيب؛ أفتقول إنَّ أذنيه حدَّ فمه؟
وإذا رأيت من انتدَب نفسه مختارًا لا مُكرَهًا ولا مُجبرًا ليكون للناس معلِّمًا ومشيرًا، ثم سمعته يحضُّهم على فضائل تنكَّر هو لها، ولم يستحِ ممن يُنكرون عليه ما تُنكر لأنهم يعرفونه حلَّةً ونَسَبًا؛ أفلا تهم بالدنوِّ منه لتقرَّ في أذنيه هذا المثل: اقعد أعوج واحكِ مقومًا؟
وبعدُ، فقد تكون سئمت القعودَ ومجيء الناس إلينا، فقم نتمشَّ، سوف نمشي على المقربة — القادومية — فنقدُّ السوق قدًّا، انظر هذا الذي كان يوصي الناس بالراكضين خلف الرغيف والإحسان إليهم، فها هو يساور حمَّالًا من أجل نصف قرش سقط من كيسه فوقع في عبِّ العتَّال.
تبصَّر ترَ هناك الذي كان يُحدِّثنا أمس عن المساواة والتواضع، تأمَّل كيف يهشُّ بعصاه على البؤساء ويطردهم من أمامه كأنهم الذِّبَّان الأزرق!
وهذاك اسمعه كيف يساوم رجلًا مضطرًّا في حاجةٍ دفعته إلى بيعها الحاجة القصوى، يريد أن يستغلَّ خصاصته ويغبنه في متاعه كأنه لا يذكر شيئًا مما رواه لنا أمس من أحاديث وآيات، نسي الرجلُ أنه روى لنا البارحة حديثًا شريفًا، وهو «ارحموا غنيَّ قومٍ افتقر، وعزيزَ قومٍ ذلَّ.»
أمَا هو الذي كان يحضُّنا أمس على المعروف حتى خِلنا أنه يتقاضى عن وعظه أجرًا أو أنه من حزب الله؟
وأخيرًا ألتفتُ إلى صاحبي أسأله: ما تقول في هؤلاء؟ فامتعض وأجاب: أتطلب من الناس صمت الأبد؟
قلت: ومن قال ذلك؟ ولكن الكلام يا صاحبي كالنقد الدارج اليوم، إذا لم يُدعم بما يقابله من العين فأيَّة قيمة له؟ فمن يرجو أن يتبعه الناس فليؤمن هو أولًا بما يقول.
سُئل النبي الكريم عن علامات المنافق فقال: «ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان.» فالله نسأل أن يُقرِّب ما بين أفواهنا وآذاننا لكيلا ننطق إلا بالحق ولا نتكلَّم إلا صادقين!