أكلة لحوم البشر
فكَّرت أيامًا في موضوعٍ أكتبه فما اهتديت إلى واحدٍ يعجبني، ولكنَّ المصادفة كما يقولون خير من الميعاد، فجاءني الموضوع إلى البيت، ففي ليلة جيبها مزرورٌ ونجمها مغموم، وقد أعددت لها كافات الحريري السبعة إلا واحدًا، دخل عليَّ رجل ليسهر عندي، فتعجَّبت كيف قطع مسافة ميلين وأكثر في هاتيك الليلة السوداء، ولكني عظَّمت أجره وشكرت سعيه. هذا الرجل يطلقون عليه في جوارنا لقب منشار الصقَّالة، له لسانٌ كمدقَّة الطبل يضرب به دائمًا على قفا كلِّ غائب من جيرانه وإخوانه، وبينما كنت أتأهَّل كل به قلت في نفسي: هذا هو موضوعي.
وقعد قبالتي على موقد يطحر ويزحر مصارعًا البرد فتعدَّل الحِمل، وبعد أن فتل شاربيه ورفع بأصبعيه أرنبة أنفه افتتح الحديث بالمقبلات: أخبار خارجية وأخبار محلية وأخبار أطول منها نفَسًا، ثم عاد إلى الداخل فبدأ على خيرة الله، بعدما ألحَّ صوبي ومدَّ عنقًا كعنق السلحفاة، وقال: عندك للسرِّ مَطْرَح؟
قلت كما يقولون: بئر عميق، هات ما عندك.
فقال: منذ أيام كان فلان جارك عندنا فقال عنكم كيت وكيت، فقلت: من كان مثلك يا رجل لا يتطاول إلى من هم أكبر منه، وأنا أعرف أنَّ من تسبُّه عندنا محسنٌ إليك، فقال: محسنٌ إليَّ! من قال؟ أنا صاحب الفضل لا هو.
فقلت: يا بو عزيز، الكلام صفة المتكلِّم.
فصاح: معلومٌ معلومٌ معلومٌ، ولكن أنا يقهرني نُكران الجميل.
فقلت: هذا مرضنا يا عمِّي بو عزيز، كلُّنا في الهوى سوا.
فقال: الحقُّ معك، هذا مرضنا، والبرهان على ذلك أن فلانًا الذي هو من عظام الرقبة ظلَّ يحكي طول النهار ولكن عمك عم، سد بوزه بأجلك الله، فلفَّ ذنَبه وراح. وتصديقًا لقولك إننا كلنا في الهوى سوا، أمس كان فلانٌ يروي أخبارًا وحكايات عن شخصٍ محترم جدًّا فما احتملت سفاهته، ولو لم يقفوا بيني وبينه كنت خطفت روحه.
فقلت: نشكر الله على أنها انتهت عند هذا الحدِّ ولم ترتكب جنايةً.
فأجاب وهو مصدِّق نفسه: وأنا شكرت ربي، ولكن طبعي لا يحتمل.
وحاولت أن أقلب الأسطوانة، ولكنَّ صاحبنا يلَذُّ له هذا النغم فعاد إليه، وأراد أن يوقع بيني وبين صديقٍ حميم أعرف حقَّ المعرفة أنه لي غائبًا وحاضرًا، فقال: صديقك فلان، آه! الله لا يغرك منه، هذا قال كذا وكذا، فقلت له: عيب علينا أن نشرب من البئر ونرمي فيه حجرًا!
وبينا هو في الحديث إذا بصاحبنا الذي وضعه على طاولة التشريح يقرع الباب ويدخل، فقال في سره: يا مسا القرد! ثم نهض أبو عزيز يعانقه حتى كاد يخنقه، وبعد أن جلس أطرق أبو عزيز هنيهة ثم رفع رأسه وحدَّق إليَّ بعينيه البيضاوين وقال مشيرًا إلى صاحبي: هذا صديق لا يُثمَّن، وهنيئًا لمن عنده صاحب مثله، ليت لنا في جيراننا وأهلنا واحدًا مثله! الأقارب عقارب كلهم يشتهون لنا الضرر، ويفرحون في قلوبهم حين تُصيبنا مصيبة، هل سمعت في عمرك ودهرك أنَّ من نقاسمه اللقمة إذا اعتاز يتمنَّى أن تكون فقيرًا مثله؟! هؤلاء أقاربنا وجيراننا.
فقلت له: ولكن ابن عمِّك بطرس رجلٌ طيب يا بو عزيز.
فقال: «بلا طيب بلا بلوط، ليس في الحيَّات صالحات، خبيثٌ قلبه أسود مثل الزفت!»
وهكذا قضى صاحبنا السهرة الطويلة ولم يقف لسانه لحظة، كان ينتقل بسرعة من ظهرٍ إلى ظهر ومن قفا إلى قفا، لا يهدأ كأن محرِّكًا يديره. ولما طالت الجلسة نهض صاحبنا الذي أرسله الله لإنقاذي وقال: «تفضَّل نم عندنا يا بو عزيز.»
فضرب براحته الأرض وقال: «نومتي هنا.»
وما ذكر كلمة النوم حتى نهضتُ وقلت: «دُلَّه على الغرفة يا …»
وفي الصباح أراد أن يجرش عظام من بقي ممن يعرفهم ونعرفهم فما أفسحت له مجالًا، ونويت إذا ما عاد إلى مثلها أن أعمل كما عمل عبد الملك بن مروان؛ قال له رجل: «إني أريد أن أُسِرَّ إليك شيئًا.»
فقال عبد الملك لجلسائه: «إذا شئتم.»
فنهضوا، وأراد الرجل الكلام فقال له عبد الملك: «لا تمدحني فأنا أعلم بنفسي منك، ولا تكذبني فإنه لا رأي لمكذوب، ولا تغتب عندي أحدًا.»
فقال الرجل: «يا أمير المؤمنين، أفتأذن لي بالانصراف؟»
قال له: «إذا شئت.»
لقد أحسن ذلك الخليفة الجبَّار، فهذه ثلاث خصال قلَّما يُفلح من يتصف بها، وما أكثر انتشارها عندنا! فلا يدير أحدنا ظهره حتى تتناوشه سهام وسنان الألسنة التي لا التئام لجراحها.
فلا تسُلُّوا خناجر الاغتياب لتمزِّقوا بها أعراض إخوانكم وبني عمِّكم وجيرانكم، فليس العِرْض ثوبًا يرتق بعد الخزق، ولا غصنًا يزداد نموًّا إذا شُذِّب، إنَّ انتقاصكم من قدر إخوانكم غائبين لا يجعلكم أسياد الحضرة، ليس بالكلام يبلغ المقام، جاء في المثل: «من غربل الناس نخلوه»، فحذار حذار! وتذكَّروا قول الشاعر:
قد استفحل أمر الاغتياب عندنا حتى صار رواية تُمثَّل في كل محضر، إنها لمأساة فاجعة أبطالها نحن رجالًا ونساءً، وللنساء الباع الطويل على هذا المسرح، وهنَّ الحائزات قصب السبق في هذا الميدان، فلا تسمع بتهمةٍ أو اغتياب تقوم لهما الناس وتقعد إلا كان أبطالها نساء أو أشباه النساء، فمتى اجتمعن — ولا أعني الراقيات المهذَّبات منهنَّ — فلا تسل عن موضوع حديثهنَّ، فهو أنا وأنت وهو. وأغلب جلوسِهنَّ يكون قبالة النوافذ لينظرن الجائي والرائح، استمدادًا للوحي والإلهام، فيُفصِّلن لكل رجل ثوبًا، ولكل أنثى إذا كانت أجمل منهنَّ فساطين مختلفة الأزياء والألوان … ثم لا يقفن عند حدٍّ من الكلام، ولا تفرغ جعبتهنَّ من السهام، فلو وهب الله خطيبًا سرعة خاطرهنَّ وفصاحتهنَّ في مثل هذه المواضيع، لكان يقتل الناس بكلامه ولا ينتهي.
ومن تقصَّى في البحث عن غايتهنَّ من الاغتياب علم أنها بسيطة، فهنَّ لا يقصدن — غالبًا — غير التسلية، وتلك سجية طُبِعنَ عليها. أمَّا الرجال فهم أصحاب الغايات، وهم الذين يغتابون تشفِّيًا وانتقامًا. وإذا أمعنَّا النظر عرفنا أنَّ المتاجرين بهذه البضاعة هم الجبناء الذين يطعنون في الظهور لا في الصدور، يكبِّرون العيوب بنظَّارة لومهم فيظهر القذى جِذْعًا عريضًا، ناهيك بما يخلقون منها، وما أقدرهم على الخلق والإبداع! إنهم يتوسَّلون بذلك إلى مدح أنفسهم، ولو فطِنوا لعرفوا أنَّ طول لسانهم لا يزيد في علوِّ قدرهم شعرة. ولو كانت هذه الآفة في غصنٍ من الأغصان لقطعناه واعتضنا عنه بغيره، ولكنها سوس مندس في قلب الجِذْع، فلا يفيق الولد ويفهم معنى الكلام حتى يسمع أمه في اجتماعاتها مع الجارات تُطلق للسانها العنان في ميدان الطعن بفلان وفلانة، فتنطبع إذ ذاك هذه الصورة على لوح فؤاده، ثم تكبر وتتجسَّم كلَّما كبر وشبَّ إلى أن تُصبح عادة يصعب استئصالُها.
فلنصن ألسنتنا نأمن شرَّها، وما أصدقَ المثلَ العاميَّ القائل: «لسانك حصانك، إن صنته صانك، وإن خنته خانك.»