الصبر مفتاح الفرج
لا شكَّ في أنَّك تقول حين تقرأ هذا العنوان: عنوانٌ مبتذَل.
نعم يا سيِّدي هذا صحيح، ولكنَّ هذا المفتاح العتيق الذي أكَله الصدأ يجب أن يكون في يدك أو في عبِّك ليلًا نهارًا، فأنت محتاجٌ إليه في كل ساعة: في السوق، في المنزل، وفي السيارة وعلى الطريق وحيثما تنتقل، وإذا متَّ — بعد ألف عمر طويل — فأوصِ الورثة أن لا يستأثروا به بعد، بل فليضعوه تحت مخدَّتك في التابوت، فلربَّما احتجت إليه في المطهر أو عند الحوض، وعسى ألا يكون حوضك محلَّقًا كحوض الفرزدق.
الصبر يا أخي سلاح العباقرة في معارك الإبداع والاختراع، فلولا صبرهم وثباتهم ما حقَّ لهم علينا هذا الاحترام، ولا فازوا بهذا التعظيم والإكرام.
هذا في الأمور الجسام، أما في توافه الأمور فيجب أن يكون مفتاح الفرج في زنَّارك، فحين تصطدم بلئيم فمن يفتح لك الباب لتفرَّ من المأزق غير الصبر؟ إنَّ في الحياة مزالق لا ينجِّينا من شرِّ عواقبها شيءٌ غير الصبر، فلا تهزأ به إذا شئت أن تحيا سليمًا من الأذى.
أما في عظائم الأمور فالصبر أمضى سلاح، قال نابليون: إنما يُدرك النصر من هو أشدُّ صبرًا وثباتًا، أمَا رأينا دودة القزِّ تقضي أيامًا لتنسج شرنقتها المُحكَمة التي تصير فيما بعد زينةً للحسان وحُلَّةً لصاحب التاج والصولجان؟ أمَّا الدودة الخائرة القوى التي لا تستطيع الثبات حتى تُحْكم عملها فلا تترك إلا فيلجة رخْوة قذِرة لا تقبض عليها إلا وفي يدك من نتنها عود.
قال أحد الفلاسفة: «إنَّ النجاح في معظم الأمور يتوقَّف على أن يعرفَ الإنسان إلى متى يجب أن يصبر حتى يفوز، فالأعصاب التي لا ترتخي، والعين التي لا تكلُّ، والفكر الذي لا يتشتَّت هي التي تُحرِز الغلبة دائمًا، فلا بدَّ لنا من الصبر حتى نُدرك أمانينا. وإذا كنت تنتقل في أعمالك كالشمس من بُرج الجَدْي إلى برج الثور، مردِّدًا قول الطغرائي «إنَّ العزَّ في النُّقَل»، فاعلم أنك لن تبرع وتمتاز.»
قال كارليل: «اعرف عملك وثابر عليه، واعمل فيه كجبَّار.»
فيا ليت شعري كيف ينجح طالب أي عملٍ وفنٍّ إذا كان يريد التفوُّق وهو ملول سريع السأَم قريب الضجر، لا يثبت في عمله ولا يصبر عليه؟! إنَّ العبقرية تشبُّ بين ليلة وضحاها وتستعجل الأمور قبل أوانها ثم تكلُّ، أمَّا الثبات فإنه يعمل رويدًا رويدًا ويُدرك أخيرًا ما يسعى إليه.
كثيرًا ما يهولك ما ينتظرك من أعمال فتجبن وتخاف أمام هذه الكثرة فتتردَّد، وإذا لم ينجدك الصبر خسرت المعركة، وتتراجع وتظل تحوم حول مكتبك حتى يضيع يومك، أما إذا ابتدأت حين تفتكر فإنك ترى نفسك أكبر من عملك، إنَّك تظلُّ أصغر منه حتى تشرعَ به؛ ولذلك قالت العوامُّ: «العتبة نصف الطريق.»
قال أحدُ الكُتَّاب: «إنَّ من يتردَّد دائمًا بين عملين لا يدري أيهما يفعل أولًا، ومن يعزم ثم يرضى أن يتغيَّر عزمه لأول معارضة يلقاها من صديقٍ له وينتقل من رأيٍ إلى رأي ومن خُطَّة إلى أخرى؛ لا يعمل شيئًا عظيمًا أو مفيدًا، فالثبات هو الذي بنى الأهرام وقلعتَي بعلبك وتدمُر التي زعم النابغةُ أنها من عمل الجنِّ، وأي جنيٍّ أعظم من الإنسان إذا صمَّم وثبت وصبر؟ وهل بغير الصبر والثبات وصل الإنسان إلى القطب الشمالي وتسلَّق أعلى الجبال؟»
وهؤلاء العلماء الذين يحاولون اليوم فتح السماء فما قولتك فيهم؟ إنهم صابرون ومصرُّون وسيصلون، فكلُّ ما في هذا الكون من اختراعات وعجائب لم يكن لولا الصبر والثبات، إن المصادفات لم توجِد شيئًا عظيمًا كما يخبرنا إديسون، فهو لم يخترع اتفاقًا إلا الفونغراف كما قال، أمَّا جميع اختراعاته الأخرى فهي بنت الثبات والصبر والجهاد المستمر.
إنَّني أقدِّم إلى جلالتكم صورة العشاء السرِّي بعد أن واصلت العمل فيها كلَّ يومٍ تقريبًا مدَّة سبع سنوات.
وأبو الفرج الأصبهاني الذي خلَّده كتابه الأغاني قد صرف في تصنيفه معظم عمره.
ربَّما قلتَ لي: «كيف أثبت وأنا بائس؟» فأقول لك: إنَّ الأحوال المعاكسة تولِّد القوة، والمعاكسة تصيِّرنا أقدر على المدافعة، والتغلُّب على عقبةٍ واحدةٍ يزيدنا قوةً للتغلُّب على عقباتٍ عديدة، فكم صبر كولومب وكم صبر غيره من الرجال العِظام حتى بلغوا الأماني! أفتريد — وأنت الناشئ — أن تُدرك فورًا ما أدركه من شابت نواصيهم في طلبه؟! لا تكن رخْوًا، قل: لا بدَّ لي من أن أصلَ، ثم واصِل سيرك تبلغ المدى، أمَّا إذا قعدت حسيرًا تنتظر مركبة إيليا النارية وبساط الريح، فإنك تظلُّ حيث أنت؛ لأنك طلبت المدَدَ من غير نفسك فقصَّرت كحمار الشيخ في العقبة.
إنَّ الفضل الأكبر في نجاح الرجال العظام يعود إلى صبرهم وثباتهم أولًا وإلى مواهبهم الطبيعية ثانيًا.
فالعبقرية ترتعش أمام الصبر والكدِّ، والمواهب السامية تُلقي سلاحها عند أقدام الاجتهاد العظيم؛ ولذلك قالوا: «العبقرية صبرٌ وثباتٌ ونبوغٌ.»
ألا يعجبك تلميذ يُقصِّر مثل أناتول فرانس ثم لا ينثني عن دخول الامتحان مرات، ويظلُّ مصرًّا على ذلك سنوات حتى ينالَ درجته العلمية؟
لا شكَّ في أنَّ زهير بن أبي سلمى هو الذي جعل الشعرَ العربيَّ فنًّا بثباته وصبره على تنقيح قصيدته عامًا كاملًا، ومثل هذا رُوي عن ديكنز، سُئل مرةً أن يقرأ على جمهرةٍ قطعةً من روائعه فأجاب إنه لا يتلو قطعةً على الناس قبل أن يُكرِّر تلاوتها لنفسه يوميًّا ستة أشهر.
قال شاعرٌ إيطاليٌّ: «إنَّ الصبر هو الشجاعة العُظمى التي يمتاز بها المنتصر، وهو الفضيلة الكبرى التي يتسلَّح بها الرجل المجاهد ضد الحظِّ.» وقد قال المتنبِّي:
إنَّ هذا الرجل العظيم يعلِّمنا دروسًا كثيرةً مفيدةً أهمها الثبات، فهو كالسنديانة الجبَّارة المنتصبة في وجه العواصف لا تنحني ولا تلين، ألم يقل ويا نِعمَ ما قال:
فأيُّ مخترعٍ لم تكن عدَّته الصبر؟ وأيُّ فنَّانٍ مبدعٍ يستطيع أن يخرج للناس رائعةً إذا لم يستعن بالصبر؟ وهل أعظم من اصطبار الأمِّ على أولادها لتقوِّم ما اعوجَّ من سلوكهم وتخلق منهم رجالًا؟ وهل مِنْ صبرٍ أعظم من صبر المثَّال على الحجر ليدبَّ إليه جدولًا من ينابيع الحياة؟
والمؤلف المبدع ألا يظلُّ سنوات يكتب ويمزِّق ويكتب ويُنقِّح ليُخرج للناس كتابًا يقرءونه في بضع ساعات؟ أما بقي مونتسكيو يكتب ويُفكِّر عشرين عامًا حتى أخرج كتابه الخالد «روح الشرائع»؟
وكم بات دوستوفسكي وغوركي على مضض! وكم قاسيا من شقاءٍ وآلام! وكم صبرا على الفاقة والمرض حتى أخرجا كتبهما الخالدة!
اسمع يا صاحبي إذا كنت من الفاشلين، أراك كأنَّك تقول لي: «الحكْيُ هيِّن، والصبر ما الصبر؟ الدنيا حظٌّ.» لا يا عزيزي، لا تعْزُ فشلَك إلى سوء بختك، بل انسِبْه دائمًا إلى قلة جَلَدِك وانصرافك عن عملك، فعدمُ ثباتنا هو الذي يحول دون التقائنا بالحظ، فنقصِّر عن إدراك العظائم، وقد يطرحنا في أبعد مهاوي البؤس واليأس، فلنثبت بوجه المصاعب تندحر هي أمامنا، كما قال شاعرنا: