مختصر مفيد
يقول العوامُّ: «مختصر مفيد» وهم يعنون بذلك أن يكون كلامُهم ضمن حدود البلاغة القائمة على قول الفصحاء: «خير الكلام ما قلَّ ولم يُمَلَّ.»
إنَّ أكثر الناس يعرفون هذا، ومع ذلك تجد بعضنا إذا صادفك في الشارع يمدُّ من ذراعيه سياجًا في طريقك ليوقفك بين زحمة من السيارات وهدير الترام واصطدام المارَّة بالمناكب والتفاف الساق على الساق، ثم لا يعنيه إلى أين يكون المساق … يستوقفك ليبدي على قارعة الطريق أشواقه القلبية، ويُظهر لك في ذلك المحشر عواطفه الأخوية، ولا يعنيه إن كانت الشمس تكوي العصفور، يبتدرك أولًا بالسؤال عن صحتك الغالية: كيف صحة الجناب؟ كيف حال العائلة الكريمة؟ فتجيب، ثم يُعيد الكَرَّة: الهمة مليحة إن شاء الله؟
ثم يرجع إلى الصحة يستفسر عنها باهتمام زائد، حتى إذا ما اطمأنَّ إليها توغَّل في أدغال العيال وشئون البيت وشجونه ليطمئنَّ قلبُه المحروق … ومن أهل البيت لا بدَّ من الانتقال إلى أولاد العمِّ وأولاد الخال، وإذا كان يعرف أحدًا من الجيران فلا بدَّ من أن يستطلع أخبار الجميع واحدًا واحدًا، أليس الكريم من يسأل عن جيرانه؟
وتحاول أن تهربَ فلا يدعك، يستمهلك ليفرِغَ جرابه، وجرابه هاوية هيهات أن يُدرَك آخرها، وإذا ضاق الحرف معه عاد إلى صحتك الغالية فيسأل عنها، وقد لا ينسى في ذاك المضيق أن يسأل عن كل ما عندك من مال ناطق وصامت، وعليك أن تجيبه على كلِّ سؤال، وإلا فأنت متكبِّر لا تُكلِّم الناس إلا من فوق. كلُّ هذا وهو ممسكٌ بيدك الكريمة لا يُفلتها، بل يظلُّ يعصرها حتى لا يُبقي في عنقودها غير العماشيش.
وقد تكون على موعد فتحاول أن تتفلَّت منه، ولكن من أين لك ذلك وقد علِقت في شِراكه عُلُوق الذبابة في عشِّ الرُّتيلاء؟
هذه ضروب العناء التي تُصادفها مشيًا. أمَّا إذا رمَتْك الأقدار بزائرٍ يرى من الضرورة أن يقصَّ عليك تاريخ حياته منذ دبَّ وشبَّ واكتهل وشاخ، وما صادف من أهوال وما فعل من فعلات كبار في حياته، فهناك الويل والبلاء فإنه يصل بعض أقاصيصه ببعض لا يقسمها كشهر زاد؛ لأنه يعتقد أنَّ زيارته لك يجب أن تكون حافلةً بالأعاجيب السندبادية، فينتقل بك من حكايةٍ إلى حكاية يصلها ببراعة عجيبة، بينما تكون أنت ساهيًا صامتًا تنتظر النهاية ولا نهاية.
وماذا تقدر أن تعمل؟ هل تتركه في مكتبك أو في بيتك وتودِّعه على أمل اللقاء؟ أمَّا هو فلا يدعك حتى يشبع، وإذا تحلحل للذهاب وقلت له: اقعد، أناخ عليك بكلكل ليل امرئ القيس.
عدت مرةً سيدة ثرثارة، وكنت آنذاك مقيَّدًا بمواقيت معيَّنة لا تستقدم ولا تستأخر، فغاصت حضرتها في بحر الحديث وراحت تصارع غماره، فلا تذهب موجةٌ حتى تجيء واحدةٌ أكبر منها. وظللت أنتظر النهاية وأنظر إلى عقارب الساعة ولا أدري ماذا أصنع، وبماذا أحتال لأخرج من هذا البحر الهائج، فمن قلَّة الذوق والكياسة أن تودِّع محدِّثك وتنصرف وهو في منتصف حديثه. وبينما كنت أنا في التفكير كان الله في التدبير، جاءتها نوبةٌ حادَّةٌ من السعال فتعذَّر عليها الكلام، واغتنمت الفرصة وودَّعت معتذرًا: «صار الوقت …» وخرجت أُهرول، كنت لا أزال شابًّا فقطعت في خمس دقائق مسافة يُقتضى لها ربع ساعة، وهكذا لم يفتني قطار المدرسة ونجوتُ من لوم مديري.
وإذا دخَلْتَ دكَّانًا لتشتري حاجةً — ولو صغيرة — اضطررت إلى الوقوف ساعة تقضيها في المساومة، ويدقُّ قلبك تسعين دقَّة، وتروح وتجيء حتى ينزل السعر نصف قيمته إن لم يكن ثلاثة أرباعه، فكأنَّ صاحبَ ذلك الدكَّان لا شغل له، وهو ينتظر رجلًا يباحثه ويجادله فلا يبيعه شيئًا إلا بعد كرٍّ وفرٍّ في الجدال والنضال، فلو قال صاحبنا هذه الكلمة الفصل أمَا أراح واستراح؟
وكما في البائعين كذلك في الشارين أناسٌ يعتقدون أنَّ كلمة «السعر محدود» خلطة، أو أنَّها أُحبولة تصطاد بها الزبائن؛ ولذلك يُقبل بعضنا على المخازن التي تساوم فيكرُّ فيها ويفرُّ، ويُفتح ميدان الكذب من الجانبين والله ينصر من يشاء.
تلك حالات من أحوالنا وعادات من عاداتنا، نحب تكرار الكلام، ونعتقد أنه ضربٌ من الوفاء والإخلاص والفصاحة واللسن، ولو عدلنا لأقللنا من هذه العبارات المملولة التي هي على حدِّ قول جميل بثينة: «لكل خطابٍ يا بثينَ جواب.» فما أجمل الحديث متى كان أخذًا وردًّا، وليس فيه من التكرار الذي يفلق السامع وقائله يظنُّ أنه السحر والدُّر!
يقول شيشرون أمير المنابر: «الاختصار هو خير الكلام لمن كان عضوًا في مجلس الأعيان أو خطيبًا في المحافل.» أمَّا أنا فأقول: «الإيجاز أوجب ما يكون في السوق، وفي الطريق إلى مراكز الأعمال، وفي الزيارات في مكاتب الأشغال، فقد يكون الرجل الذي تفجَّر على رأسه هذه القنابل الشفوية قد جاء متأخِّرًا عن موعده لسببٍ من الأسباب، فكيف نزيد في طينة تهاونه بلَّة؟!»
قال أحدهم: «الكلمات كأوراق الأشجار، فحيثما تتلبَّد يندر أن يكون تحتها ثمر.» إن لوثر المصلح الديني المشهور يرى أنَّ الصلاة الأكثر اختصارًا هي الأشد وقْعًا لديه تعالى.
فلنعتمد الإيجاز في جميع أغراضنا، فإذا كتبنا فلنسر توًّا إلى غرضنا، فلا نقتل من نكتب إليه بالمقدِّمات والخاتمات التي كثيرًا ما تجيء أشبه بالأذناب. وإذا خطبنا فلنقصر مسافة الكلام، إنَّ الكلام المختصر أفعل في النفوس من الكلام المبسَّط الممدَّد، أمَا جاء في المثل: «شبر من الملي ولا ذراع من المرقوق؟» فلماذا لا نصوِّب كلامنا كالسهام أو نجعله مندفعًا كالشلَّال ليفعل في النفوس ويؤثِّر بها؟
كان أحد المشاهير يقول لزائريه: «اختصروا فالوقت ثمين.» إنَّ المحافظة على المواقيت والنشاط في العمل وتعمُّد الإيجاز، هي كلمات السرِّ في هذه الحياة.
وقد كتب أحد كبار الرجال رقعةً وضعها في مكتبه على أعين الناس: «على من يطيل الإقامة عندي أن يساعدني على إتمام عملي.»
أمَّا نحن فنحسب مراكز الأعمال ناديًا للتسلية، ونَعيب على صاحبه إذا قصَّر بواجبات الترحيب وجرَّ الحديثَ إلى أقاصي المسكونة، فليت أصحاب الأعمال يكتبون «الوقت محدود» كما يكتب بعض التجَّار «السعر محدود»، شرط أن يكون هذا السعر بلا حسم، كما يفعل بعضُهم إرضاءً للزبائن …
فإذا كتبت إلى رجل عمل فاختصِر ما استطعت إذا كنت تربأ بكتابك ألا يُطرح في سلَّة المهملات، وفي كل حال الإيجاز موهبة نادرة، تأمَّل الناس تجد أنَّ القليل منهم من يسلَم حديثُه من عبارة تردُّد، أو كلمة يقفون عليها فيشجُّون رأسك بها، فبعد كلِّ جملة — مثلًا — يقول لك واحد: فهمت؟ وآخر: فاهم يا سيدي؟ وثالث: نعم، فتسمع منه ألف نعم في حديثه، وما تكون هذه النعم إلا نقَم.
قال فنلون: «إنَّ حسن الذوق الخالص يقتضي أن نقول كثيرًا في كلماتٍ قليلة.» وحكماء اليونان السبعة كان السبب الأهم في ما حصلوا عليه من شهرة هو إيراد كلٍّ منهم جملةً واحدةً في كلمتين أو ثلاث؛ ولذلك نرى حكمة الشعوب مدرجة في أمثالها المختصرة.
ولساننا العربي يؤثر الإيجاز دائمًا، وقد أطلق السلف الصالح على الكلمات المختصرة المفيدة اسم «جوامع الكلم» ولذلك قالوا: «إذا كان الكلام من فضَّة فالسكوت من ذهب.» حتى بالغوا في هذا فقال شاعرهم إنَّ اللبيب من الإشارة يفهم، «وإذا نطقت فلا تكن مكثارًا.»
فما بالنا نحن نُحمِّل من نخاطبه أثقالًا باهظةً في حديثنا ورسائلنا وخُطبنا، فإذا وقفنا على منبر لا نتحوَّل عنه حتى تنوء بنا أعواده، وتتثاءب الجدران من حولنا؟ يضجُّ سامعونا متململين، ونحن لا نرى تلك الأفواه تُفتح وتُغلق أمامنا، فكأنَّ لنا عيونًا ولا تبصر وحواس ولا تشعر! ومن هؤلاء الخطباء المصاقع من يُهَمْهِم له سامعوه ولا يهم هو بقضب حبله الطويل، فكأنَّه جرَّاح لا يدَع ضحيته مهما تألَّمت وتوجَّعت! فالله نسأل أن يُنجِّي المسامع من كلام يقع عليها كالمقارع!