المطالعة غذاء الموهبة
كما يحتاج جسدك إلى مواد مختلفة ليتغذَّى وينمو، كذلك يحتاج عقلك إلى غذاء ينمِّيه، وما المناهج المدرسية إلا خطوط ومعالم للطريق التي يجب أن تسير عليها لتحسن المطالعة وتستفيد منها فائدةً كاملةً غير منقوصة، وكما تتعرَّف إلى أشخاص كثيرين في حياتك العملية فإنك في قراءتك الكتب القيِّمة تتعرف بأصحابها، فمنهم من يصير لك صديقًا حميمًا يُمِضُّك الابتعاد عنه، ومنهم من لا ترغب فيما بعد أن ترى له صورةَ وجه. فالكتب، وقد كفانا وصفها أبو الأدب العربي أستاذنا الجاحظ، هي الأصدقاء الذين يخلصون لنا النصح، ويعطوننا كنوز المعرفة بسخاءٍ لا نظير له.
وقد اختلف كبار الأدباء في وصف القراءة، فمنهم من عدَّها الرذيلة التي لا عقاب عليها، وأكثرهم قالوا إنها التحدُّث إلى أشرف أهل القرون الخالية. إنَّ الرأيين لعلى صواب، فالقراءة ككل الأشياء ذات وجهين مختلفين، فالقنبلة الذريَّة تُستعمل للإبادة فتفني بالجملة، وهي لو سُيِّرت في سبيل النفع لأتت بأجزل الخيرات وأهمِّها.
فمتى استُعملت القراءة للهو والتخدير والتواري من وجه العمل فهي رذيلة دون شكٍّ، فمن يقرأ لأنه يحب أن يقرأ ليتناسى الأعمال وهموم الحياة فهذا لا تفيده قراءته، ومثل هذا إذا فاته الكتاب المفيد تناول جريدةً صدرت منذ أشهر وأخذ يقطع أنهارها، تارةً يأتي النهر من قُبُل وحينًا من دُبُر فهو لا يعنيه إلا أن يقرأ.
وهناك قارئٌ آخر هو من شُغِف بالمطالعة ووجد فيها متعةً عظمى، وهذا خيرٌ من الذي تقدَّم وصفه؛ لأنه يتوخَّى الاستفادة جهده، فيقابل ويعلِّل ويحلِّل ويستخرج العبَر.
وهناك قارئٌ ثالث وهو الممتهِن — وأعني به الطالب — فهذا يبتغي من قراءته معلومات معيَّنة لا بدَّ له منها لإتمام تكوينه العقلي، فهو كحصان العربة يسير توًّا على طريقه المعبَّدة — أي المنهاج — ولا يستطيع التحوُّل عنها، وإن خرج عنها يمينًا أو شمالًا تدهورت عجلته، ولم تصل سالمةً إلى ساحة الامتحان حيث تلقي أثقالها. فإن كنت أيها القارئ طالبًا فعليك أن تقرأ والقلم بيدك والدفتر عن يمينك، وتلخِّص للمراجعة حين تأتي ساعة الامتحان الرهيبة.
أمَّا إذا كنت مؤلِّفًا فإنك لا تحتاج إلى إرشاد؛ لأنَّ لكل مؤلف طريقته. وعلى كلٍّ فلا غنًى لأحد عن القلم والورق مهما كانت ذاكرته حادَّةً جبَّارة. إن للقراءة كغيرها من الأعمال الأخرى قواعد لا بدَّ من اتباعها، فعلينا أولًا أن نقرأ الكتاب أكثر من مرة، وقراءة غير سطحية؛ لأنَّ محاسن الأدب كالجمال تبدو لك وتزداد كلَّما ازددت تأمُّلًا، كما قال أبو نواس في وجهٍ أحبَّه:
وعلينا أن نؤثر الفصول أو الكتب أو الأبحاث الجيدة على غيرها، سواء أكانت لكُتَّاب معاصرين أو قدماء.
ليس في الأدب قديمٌ وجديد، بل فيه ممتع وطريف، فكم من قديم ينبض بالحياة! وكم من جديدٍ مات ساعة خُلِق!
واعلم يا صاحبي أنك لا تستطيع أن تقرأ كلَّ كتاب، فاختر — وخصوصًا في الكهولة — أنفع الكتب وأمتعها. إنَّ مشاهير الأدباء والعلماء والفلاسفة معروفون، ومع ذلك ترى من يُفضِّل هذا على ذاك، والأذواق والمشارب مختلفة فاختر لنفسك ما يحلو.
قد يقول لك واحد: أعظم الكُتَّاب فلان فلا تطيب لي غير مطالعته، فترجع أنت إليه فتجد أنَّ كاتبك المحبوب هو غيره، اتَّبع إذن هواك إن كنت عارفًا وصاحب ذوقٍ سليم، وحذارِ أن تنخدع كغيرك! فأكثر الناس يظنُّون أنهم يقرءون حيث اتَّفق لهم ذلك، لا تُصدِّق هؤلاء، القراءة المنتجة تحتاج إلى خلوة هادئة كالتآليف، أمَّا إذا قرأت في كل مكان ففائدتك من قراءتك ضئيلة جدًّا.
أَهِّب نفسك لتستطيع قراءة أسمى الكتب وأفضلها، وهذا لا يكون إلا بالتدرُّج، حتى إذا تعوَّدت مجالسة هذه الفئة من البشر تصبح في قابل مستطيعًا أن تفهم حديث الكبار منهم؛ لأنَّ الفكرة الإنسانية تمرُّ عندهم جميعًا، وكلٌّ يعبِّر عنها بما أوتي من بلاغة.
وهناك مطالعة ضارَّة وكُتبها معروفة، فهذه أحذرك منها أولًا، وإذا كنتُ أحذرك أنت منها فكيف بأولادك ذكورًا وإناثًا؟
اسهر على أولادك واعرف بطريقٍ غير مباشرة ما يقرءون، فإن كانوا يُؤْثرون هذه الكتب فجرِّب بدهائك أن تُنفِّرهم منها، إياك والعنف! فإنه يزيدهم رغبةً فيها وإقبالًا عليها، إنَّ هذه الكتب التي تؤجِّج العواطف تُلقي الشباب في مهاوي الرذيلة، فاسهر على أولادك.
لا تقل إنَّ ابني راغبٌ جدًّا في القراءة لا يفلت الكتابُ من يده، إلا بعد أن تعرفَ ما يقرأ، قد يكون يقرأ ما حذَّرتك منه، وليس هذا مما يُفرح قلوبنا نحن الآباء.
وبالاختصار إنَّ القراءة باب المعرفة، وعلينا أن نُحسن الدخول من هذا الباب لنستفيد، وما دور الكتب إلا مطاعم كبرى تُقدِّم لك الغذاء المرِيِّ النافع بالمجَّان، فلا تحرمها من زياراتك ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، وإذا كنت من الذين لا يطالعون فاعلم أنَّك كما قال أبو نواس: «أخو الحبِّ لا يموت ولا يحيا.»