حارب على جبهةٍ واحدة

الرائج اليوم في الحياة المعاشية هو أن ينصرف الإنسان إلى شيءٍ واحدٍ دون سواه فيختص به ويسعى إلى التفرُّد به، تقرأ هنا وهناك وهنالك لافتات كُتب عليها: فلان الفلاني إخصائي بكذا، وتقرأ فوق أبواب المخازن: نبيع كذا. وفي الغرب رجال علم اختصُّوا بفرعٍ من العلوم لم يتعاطوا سواه، وكذلك في الأدب فإن بعض مشاهير الأدباء العالميين يصرفون العمر كله في درس موضوعٍ ما.

ما هي النملة؟ وأية فائدة جُلَّى يرجوها الباحثون من درْس طبائعها ومراقبة حركاتها؟ ومع ذلك نجد علماء كبارًا وقفوا عمرهم عليها وكتبوا المجلَّدات الضخمة عن هذا الكائن الحقير. وما أظن هذه الاختراعات الجليلة التي دفعت الإنسانية خطوات كبرى في سبيل التمدُّن والحضارة إلا بنت الاختصاص، فعنه وحده أتت هذه العظائم التي حكَّمت الإنسان في رقاب العناصر، فقيَّدها بسلاسل العلم وسيَّرها في ركابه.

فالحكمة كلَّ الحكمة في الحياة هي أن نحصر قوانا في منطقة صغيرة؛ لأننا لا نستطيع أن نبحث في كلِّ فنٍّ ومطلب، ولا أن نتاجر في جميع السلع، إنَّ الضرر كلَّ الضرر هو في تفريق قوانا حتى نضعف فنموت ولا نؤدِّي عملًا على حقِّه.

فمن يتطلب في حياته شيئًا واحدًا لا يتعدَّاه إلى سواه يقدر أن يُنجزَه قبل أن ينقطع حبلُ حياته، وأمَّا من يطلب كلَّ شيء فلا يحصد من الآمال التي يزرعها هنا وهناك إلا حسرات عميقة.

فالذي يقضي به الوقت الحاضر هو أن يعمل الإنسان عملًا واحدًا بملء قواه، لا أن يتحوَّل إلى أعمال عديدة فيعملها كيفما اتفق له عملها أي بدون إتقان.

كنا فيما مضى نجد في حانوتٍ ما أو مخزن واحد جميع ما نحتاج إليه … أما في هذا العصر فقد اختص كلُّ مخزن ببضاعة، وكل سوق بأصناف دون سواها، لا يعني من يتاجر بها إلا التجويد وانتقاء الأفضل.

كان الطبيب فيما مضى يُعالج المرضى بالجملة، يكتفي بجسِّ النبض والإنصات إلى دقَّات القلب، ثم يصف الدواء والله الشافي من كلِّ داء … أما في هذا الزمن فأصبح لكل عضو طبيب وإلى جانبه من يفحص له كلَّ مادة؛ ولهذا قلَّ الموت وطالت الأعمار وتدارك الناس الخطر قبل استفحاله.

كلُّ هذا بفضل الاختصاص الذي عمَّ كلَّ شيء في هذا الكون حتى لم يبق سبيلٌ إلى النجاح بدونه، فإذا أردت أن تفوزَ في معركة فهيِّئ لها سلاحًا ماضيًا من الاختصاص.

أمَّا من يتبع الخطط القديمة كأن يكون نجَّارًا وحدَّادًا وخيَّاطًا وطيَّانًا وبنَّاءً، فهو لا يجيد عملًا من هذه الأعمال.

أعرف كاهنًا كان ثاقب العقل وقد اشتُهر بحدَّة الذهن وسرعة الفهم، كان خطَّاطًا ومصوِّرًا ودهَّانًا وعالمًا وكاتبًا وشاعرًا يتكلَّم ستة ألسن وما أكل بواحد منها خبزًا، لم يتقن عملًا من أعماله، ولا لغةً من اللغات التي ألمَّ بها، فكان من المصوِّرين الدون يرسم أشباحًا، وقد قال له أحدُهم مرة: هذه ليست صورة والدي، فأجابه بروحه الخفيفة: تتعوَّد عليه، ومع مرور الزمن يصير …!

وكان دهَّانًا أقلَّ من وسط، وخطَّاطًا عاديًّا، وشاعرًا رديئًا، وكاتبًا مبتذلًا، وعارفًا باللغات معرفةً أقل من سطحية، وأخيرًا مات وما على جلده قميص؛ لأنه أراد أن يكون كلُّ شيء فكان لا شيء.

قال الإمام علي: «من أومأ إلى متفاوت خذلته الحيَل.» أي من أراد إدراك كلِّ شيء لا يُدرك شيئًا.

وقال كارليل: «إنَّ أضعف مخلوق يستطيع أن يعمل عملًا إذا جمع قواه حول موضوع واحد، في حين أنَّ أقوى الناس إذا وزَّع قواه على مواضيع متعددة لا يكون نصيبه إلا الفشل والخيبة، فالقطرة بتكرار سقوطها على الصوَّان تُبقي عليه أثرًا، وأما السيل السريع فإنه يكرُّ على الصخور بضجيجٍ وصخب ويذهب كأنه لم يمر فوقها.»

فما جبابرة الإنسانية ونوابغها إلا رجالٌ جمعوا قواهم وضربوا ضربات شديدة حول نقطة واحدة فأفلحوا وفازوا. إنَّ الناجحين هم الذين يُصوِّبون عزيمتهم نحو هدفٍ واحدٍ. فالطريقة المفيدة في القراءة — مثلًا — هي أن تنصرف بكل قواك حتى تنتقل مع الكاتب إلى المكان الذي يصفه لك فتراه كأنك فيه حقًّا.

وقد سُئل بيكنس — الأديب العظيم — عن سر نجاحه، فأجاب: «إنني ما مددت مرةً يدي إلى أمرٍ لا أقدر أن أنصرف إليه بكلِّيتي»، ومار توما الإكويني الذي صار من أئمة الفلسفة العالميين كان طالبًا لا يُرجى منه خير سمَّاه رفاقه الثور ولم يبال بهزئهم به وظلَّ منكبًّا على درسه، وأخيرًا فهم ما استعصى عليه ونطق بعد ذلك الصمت، ولاحت بشائر عبقريته في الفلسفة اللاهوتية فما استطاع أستاذه أن يكتم إعجابه به وقال لرفاقه: سيعجُّ هذا الثور ويملأ خواره أقطار المسكونة، وهكذا كان. إنَّ حصر القوى العقلية يفعل العجائب، أمَّا رجل الأحلام الذي يتنقَّل كالعصفور على الأغصان فلا يكون نصيبه إلا حبَّة يلتقطها أو برغشة يتصيدها.

إنَّ من يفعل هكذا وشعاره «إنَّ العزَّ في النُّقَل» فهو يشبهنا يوم كنا صغارًا ننقل قضيب الدِّبْق إلى حيث نرى عصفورًا قد سقط، ثم ننتظر عودته فلا يعود، ولكننا نعود نحن إلى البيت غير فائزين إلا بتمزيق ثيابنا.

فأكثر فشل الناس متأَتٍّ عن تجزئتهم عنايتهم بمواضيع شتَّى، يريدون أن يكونوا على حدِّ قولنا: «عنده من كلِّ فن خبر.» فإذا بهم يعرفون شيئًا من كلِّ شيء، ولكنهم لا يعرفون شيئًا كما يجب أن يُعرف.

قد يقرع الشاب أبوابًا كثيرة ولا تفتحها له شهاداته الضخمة ولا أصله وفصله، وهَبْ أن الشهادة فتحت الباب فهي لا تمكِّنه من الرسوخ على الكرسيِّ الذي قُدِّم له إذا كان لا يُحسن عملًا، أما إذا كان من ذوي الاختصاص انفتحت بوجهه الأبواب على مصراعيها ومشى في ميادين العمل قُدُمًا، وأغلب الناجحين ليسوا من حملة الألقاب العلمية بل من العاملين الذين صعدوا في السلَّم درجةً درجة …

قد نُضيِّع الوقت في اختيار الأعمال ثم لا نقع على عمل، وما ذلك إلا لأننا صالحون لكل الأعمال ولا نصلح لعملٍ ما بعينه، فلو كان لنا مدارس توجيهية تقوم بدرس مواهب كلِّ شخص وتُوجِّهه في الطريق السويِّ، لَمَا كان شبابنا حائرًا أو لَمَا أضاع السنين من عمره مفتِّشًا عن الموضع الذي يجب أن يستقرَّ فيه.

إنَّ تعيين القصد والغرض والسعي هو طريق التفوُّق والنجاح، فعليك أن تنصرف بكليتك إلى عملك لتبرز فيه. وليس يعني كلامنا هنا أننا إذا سعينا سعيًا حثيثًا في طلب المستحيل أدركناه، ولكننا ندرك ما يستطيع الإنسان أن يدركه إذا حصرنا قوانا في نقطةٍ ما، فالعدسة البلَّوْرية لا تحرق ما لم تنحصر أشعَّة الشمس في بؤرتها، فلنحصر قوانا لكي ندرك ما نبتغي.

إنَّ الحكَّ — البوصلة — لا يتجه إلى جميع أجرام السماء باحثًا عن أيِّها أفضل ليومئ إليه، فجميعها تحاول أن تجذبه، ولكنه لا يتجه إلا نحو هدفه، إنَّ خاصيته تُوجِّهه دائمًا إلى الغرض، إلى القطب فيومئ إليها ولو برقعتها الغيوم بسدولها الكثيفة أو ألقت الشمس عليها رداءها.

فالإنسان الواحد لا يستطيع أن يقوم بكل الأعمال، بل لا يصلح لها جميعًا، فعلينا أن نختار منها ما يلائم ميلنا وذوقنا ومعارفنا لنقوم حقَّ القيام بواجبنا الإنساني. قد وُجدنا لنعمل، فلنختر من الأعمال ما تحتمله طاقتنا، ولنضع كلَّ جهودنا ومقدرتنا فيه ولو كان تافهًا، فالأمر التافه المتقَن الصُّنع أفضل كثيرًا من أمرٍ سامٍ رفيع غير مُتقَن، فكم من طبيبٍ أو محامٍ أو صاحب مهنة حرة سامية لم يبلغ ما بلغه من اختصَّ وعُرف بإتقان عمل ما مهما كان تافهًا حقيرًا! فكم من دهَّان مُجيد أثرى! وكم من رسَّام بين بين لم يأكل من فنِّه رغيفًا أسود! وما ذلك إلا لأنه لم يجعل كلَّ وَكْدِه فيه.

فإذا رأيت ابنك يدرس ويتحدَّث مع الساهرين، فاعلم أنه لا في العير ولا في النفير، لم يذق لذَّة السمر وفاتته فائدة الدرس، لم يحصر قواه فيما يعمل ليفوز وتقرَّ به عينك.

إنَّ النهر الجاري على الحصباء مترنِّمًا ومزغردًا لا يدير محرِّكًا مهما غزرت مياهه، أمَّا الشلَّال المحصور فمهما قلَّ ماؤه فهو الذي يولِّد ويحرِّك.

وإني لأوثر أن تكون شلَّالًا صغيرًا محصورًا يدير، ولا تكون نهرًا تخوضه الأرجل ولا تهابه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤