إلى كل امرأة
إنَّ موقفي منكِ يا سيِّدتي في هذه الكلمة سيكون كموقف الطبيب الصادق من مريضه، لا يقول له: قلبك مثل الحديد وأعصابك فولاذ وصدرك كير حدَّاد، فينام على صوف ثم لا يستيقظ إلا على صوت جرس القطار فيسافر بلا حقيبة وبدون جواز سفر.
حفظكِ الله ومتَّعني بربع رضاكِ! كنت بالأمس يا سيِّدتي أمنا وأختنا، كنت قعيدة البيت وصرت اليوم قائدًا يحمل البند والعلم في ساحة الدفاع عن الوطن، قال عمرو بن كلثوم:
أمَّا اليوم فقد أمسينا نقول:
ويقول بعد بيته ذاك:
أمَّا اليوم فصرنا شركاء في النضال والدفاع، وليس هذا بشيء جديدٍ. كذلك كنت يا سيدتي في الزمن الأبعد، كذلك كنت يوم خُلقت جدتك حوَّاء وجدُّنا آدم، أمَا تنعَّما معًا في الفردوس ثم عصيا وطُردا من جنة ربهما؟ إذن هذه المساواة بيننا قديمة العهد؛ ولذلك سموك شريكة الحياة.
حسبكِ يا سيدتي أن ينتصر لكِ السيد المسيح، فيقول لمضطهديك: «من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر.» أمَا جاء رسول الله محمد — عليه الصلاة والسلام — ففرض لك وأعطاك ما أنتِ جديرة به من حقوق؟ وقد سمَّاكِ قارورة فلا تجعلي نفسك خابية لاذقانية …
فلو اعتبرتكِ التوراةُ أقل عقلًا من الرجل، ما حمَّلتكِ مسئولية المعصية حين أكلتِ تلك التفَّاحة فوقع القِصاص عليكما معًا.
منذ البدء يا سيدتي ويدك في يد ابن عمِّك الرجل، كنتِ إلى جانبه في ظُلمة الكهف تحتملين المشاق وتناضلين، وحين بنيتما القصور اتَّكأْت على الخزِّ والديباج وجعلتِ بيتكِ جنة ذات حور وولدان، فلله أنتِ صالحة! فلولاك كان الوجود حِملًا ثقيلًا، وكانت الأرض جهنم حمراء.
تقول التوراة إنَّ يهوه رأى الوجود ناقصًا فخلق المرأة، وهكذا تكون المرأة الوتر الذي تمَّت به آلة التكوين الشجية الألحان، ولولا هذا الوتر لظلَّت شوهاء جوهاء جوفاء.
فإن صحَّت رواية أنها ضِلعٌ من أضلاع الرجل، فيكون الله — جلَّت قدرته — قد شرَّفها منذ البدء بهذا الخلق، وشتَّان ما بين التراب واللحم …!
وإذا كانت لم تُخلق على هذه الصورة، فيكون القالبان قد صُبَّا في وقتٍ معًا، ولا مجال إذن لهذا التفريق بين المخلوقين.
إنَّ حكاية الفردوس الأرضيِّ تؤكد لنا المساواة بين الرجل والأنثى، فلو اعتبرها المشترع أقل عقلًا من أخيها الرجل لما عوقبت مثله، فنهضة المرأة للمطالبة بحقوقها ليست بدعة جديدة وُجدت يوم استبدَّ الرجل بالأمر، وما أشدَّ استبداد الرجال ما دام شعارهم «إنما العاجز من لا يستبدُّ!»
كان الرجل والمرأة قبل الشرائع والقوانين متساويَيْن، لم تُحبس في قفصها الذهبي إلا عندما مدَّت المدنية البشرية أسلاكها الشائكة حول البيوت … فأنانية الرجل حملته على حَبْك ما حَبَك من قيود القوانين، فالشرائع كلها من صنع الذكور، ومن يكون الدفتر في يده ويكتب نفسه من الأشقياء؟!
يظنُّ الناس أنَّ المدنية والرُّقي قاما على أكتاف الرجال، أمَّا الواقع فيُكذِّب هذا الزعم، فإذا عدنا إلى فجر التاريخ رأينا المرأة والرجل، آدم وحوَّاء، راحيل ورفقا، ويعقوب وإسحاق يضربان معًا في مجاهل الأرض عرضًا وطولًا، وكم رأينا الرجل عاجزًا في بعض الميادين فتجاهد المرأة وتحفظ الأمة والوطن!
ولكنَّ الرجالَ يقولون بلا روية ولا تفكير: «الرجل أفضل من المرأة.» أمَّا التاريخ فينتصب على قدميه ويقف ليقول لنا: إنَّ أسمى الدرجات الإنسانية هي النبوءة، وكان من النساء نبيَّات، كانت حَنَّة نبية وبذلك تعترف توراة موسى، ودبورة أيضًا كانت نبية شهيرة وقاضية، وفيها يقول سِفْر القضاة (ف٤، ص٥): «وكانت دبورة تحت نخلة بين الرامة وبيت إيل في جبل إفرائيم، وكان بنو إسرائيل يصعدون إليها لتقضي لهم، وهي التي دفعت باراق لقتال سيسرا فظفر به.»
بدأت بالأمر دَبورة النبية القاضية وأتمَّته ياعيل بنة حابَر القيني، فقتلت سيسرا حين دخل خيمتها فارًّا، وأذلَّت الكنعانيين أمام شعبها إسرائيل.
وإذا توغَّلنا في استقراء التوراة رأينا خلوة النبية محترمة من الرجال جميعهم، يخضعون لها ويعملون بما تقول.
قالت التوراة: «جاء حلقيا مرسَلًا من يوشيا ملك أورشليم يستشيرها فيما يفعل، فقالت للرسول: قولوا للرجل — أي الملك — الذي أرسلكم إليَّ: كذا قال الربُّ إله إسرائيل: هذا جالب شرًّا على هذا المكان وعلى سكَّانه، فأهب غضبي عليه ولا ينطفئ. أما ملك يهوذا الذي بعثكم لتسألوا فكذا تقولون له: إنَّ الله يضمك إلى آبائك فتنضوي إلى قبرك بسلام، ولا ترى عيناك هذه البلايا؛ لأنَّ قلبك لان للربِّ إلهك.»
هؤلاء هنَّ النساء النبيات، أمَّا المنقذات فحسبي أن أذكر منهن يهوديت التي قتلت أليفانا الأشوري وأنقذت شعبها، وأستير صالبة هامان، ودليلة مُذلَّة شمشون.
هذه هي المرأة، وسوف لا أتعدَّى حدودَ التوراة إلا قليلًا، فالحديث شجون والزمان طويل. ولكنني أقابل قليلًا بين التوراة وبين قوانين نابليون الحديثة العهد:
ترى قوانين نابليون أنه لا يسوغ أن يتولَّى الوصاية والعضوية في المجالس العائلية القُصَّر والمحجور عليهم والنساء، وكلُّ من اشتُهر بسوء السيرة، ويقول أيضًا: «لا تستطيع المرأة الحضور في المرافعات أمام هيئة القضاة بلا تفويض من زوجها.» وفي المادة ٢١٧ يقول: «لا تستطيع المرأة أن تهبَ ولا تبيع ولا تقتني من غير إذن زوجها ومشاركته.»
بينا نرى في التوراة أن إحدى نساء إسرائيل بعد أن رفض زوجها أن يُرسل زادًا إلى داود عندما كان فارًّا من وجه شاول، جاءت هي إليه تحمل الزاد والخمر.
وفي المادة ٢٢٢ يقول: «إذا كان الزوج محجورًا عليه أو غائبًا، فإنَّ في استطاعة القاضي أن يُفوِّض المرأة في المثول أمام القضاء.»
ويقول في المادة ٢٢٤: «إذا كان الزوج قاصرًا فلا بدَّ للمرأة من الحصول على تفويض من القاضي، للحضور أمام هيئة القضاء لإبرام عقد.»
وهذا ما حمل رينان الفيلسوف الفرنسي على الإعجاب بشرائع موسى بشأن المرأة ففضَّلها على شرائع أمته؛ إذ قال: «إنَّ هذه الشريعة أكثر إنسانية وعدالة من كل ما كُتب في ذلك العهد.»
ولشعراء العهد العتيق — أي شعراء التوراة — أقوال طيبة في المرأة المنشودة، وإني لأكتفي ببعض كلمات مراعاةً للمقام:
لقد أطريتكنَّ نعتًا فلا يغرَّكنَّ ثَنائي، أمَّا طلب بعضكنَّ أن تخاطبن بالواو والميم بدلًا من التاء والنون فهذا شطط، إنه لطمع تأباه موسيقى لغتنا، فنعومة التاء وليونة النون أليق بكنَّ من خشونة الميم والواو؛ ولهذا خصَّكُنَّ سلفاؤنا الأذكياء بهذين الحرفين؛ ليتلاءما مع أنوثتكنَّ، ولم يُقصِّر لغويُّونا الألبَّاء عن نحاتنا فقالوا: صفَّقت الرجال وصفَّحت النساء. فلا تطلبن الزيادة لئلا تقعن في النُّقصان.
ها هو باب الحياة قد فُتح بوجوهكنَّ، فإلى العمل المُجدي، لقد أعطاكنَّ لبنان جميع الحقوق فأرونا أنكنَّ جديرات ولا تُخيِّبن الآمال.