طيش الأمَّهات

الله — جلَّ جلاله — بدأ بالرجل فخلقه، هكذا تقول التوراة، أمَّا أنا يا سيدتي فأريد أن أبدأ بكِ؛ لأنَّ تقاليد العصر وآداب سلوكه قد تغيرت، أمَا صرتِ تقدمين علينا في المجالس وتسلِّمين علينا قاعدةً، تمدِّين نحونا يدك كما يمدُّها إقطاعيٌّ عتيق إلى فلَّاحيه وشركائه؟

سيدتي

لا أسمع من الإذاعات ولا أقرأ في الصحف إلا هذه العناوين: حقوق المرأة، يجب أن تُعطى حقوقها، لا رقي ما لم ينل شطرنا الآخر حقوقه، وما سمعت أحدًا وجَّه إليكِ ملاحظةً يا مولاتي، تُرى هل صارت كلُّ أنثى كاملةً ولا تقصير عندها؟ تُرى ألا ينقص البيت شيء، أما أنتِ ربَّته لا الرجل؟

أنا يا مولاتي، وإن كنت شيَّخت، فلي لسان حال يردِّد ما قاله البهاء زهير منذ بضعة قرون:

ونعم كبرت وإنما
تلك الشمائل باقية
ويميل بي نحو الصبا
قلبٌ رقيقُ الحاشية
فيه من الحبِّ القديم
بقية في الزاوية

إذن أرجوك وأتضرَّع إليكِ أن تحملي كلماتي على محمل الصدق والإخلاص، إنَّ ثقتي بمجموعكنَّ كبيرة، ولست أعني ولا أصف أو أصوِّر في حديثي هذا إلا نموذجًا واحدًا الآن، وما أكثرَ نماذج الحياة وصورها!

فإلى تلك المعتكفة في غرفة الزينة تائهةً بين مرآتين، تتأمَّل قوامها من الجهات الستِّ وكأنها مصوِّر ينظر في إحدى روائعه التي يريد أن يتقدِّم بها إلى معرض عتيد، إلى تلك المنكبَّة بيديها الثنتين على دَلْك خدَّيها وتزجيج حاجبيها وتكحيل عينيها؛ أسوق هذا الحديث وإن ثقُل عليها.

سيدتي، أنتِ أمٌّ أفلا تسمعين ضجيج أولادكِ المكوَّمين حواليكِ؟ ألا ترينهم يتنازعون أذيالكِ من هنا وهناك، ويتجاذبونكِ كأنهم يحاولون إبعادكِ عن حبيبة قلبكِ المرآة؟

ألا تسمعين لسان حالهم يناديكِ: كفى يا أماه! تكفيكِ ساعة، نراك تخلقين شخصًا جديدًا! لقد تنكَّرتِ حتى كدنا نحن أولادك لا نعرفك! ألا تعلمين يا أمَّاه أنَّ لنا حصة من وقتك؟ فهذه شمس العمر قد مال ميزانها ورجحت كفة المشيب، فما لك اليوم وهذا الإلحاح؟! خمس دقائق تكفي، أنتِ ربَّة بيت عليكِ مسئولية إدارته فما بالكِ تُغمضين عينيك عن كلِّ غرف البيت ولا تنفتحان إلا في غرفة الزينة، حيث المرآة والملاقط والمقاريض والمشدَّات … والمساحيق والعطور …

يا أمي، ما لتلك الأواني مبعثرة على الأرض وقد ارتدت ثوبًا سميكًا من الغبار حتى أوشك أن يأكلها الصدأ والزنجار؟ أفلا تستحق بعضًا من بعض عنايتكِ بوجهك وأظافركِ؟! ما لدارنا غير منظمة كبيت جارتنا مع أنه حقير إذا قيس ببيتنا الرفيع؟!

الجواب عندي يا بُنيَّ، اسكت حتى أخبرك: جارتكم يا بنيَّ لا تعتني بطُرَّتها وتجعيد شعرها، وإنْ فعلت فهي لا تُقدِّم ذلك على تنظيم بيتها وترتيب منزلها، تلك الجارة يا بني إن وقفت أمام المرآة لمحة أقامت في المطبخ حينًا لترتِّبه وتنظِّفه، وفي المنزل زمنًا طويلًا لتدبِّره، تلك ما زالت على البَرَكة ولهذا تحتضن أولادها وتناغيهم، وتحرص على تربيتهم وترشدهم إلى واجباتهم.

ولكن الولد ككل ولدٍ يريد أن يُثرثر فقاطعني وراح يناجي والدته قائلًا: ما بالكِ يا أماه تقصينا عنكِ؟ لماذا لا تطبعين على أوجهنا قبلات الأم كما تفعل جارتنا؟ أليس في قلبكِ ما في قلبها؟ تلك تقابل زوجها والابتسامة ملء فمها، فما بالكِ أنتِ لا تقابلين الوالد إلا حامضة الوجه؟! وقصارى الحديث أن بيتنا وبيت جارتنا لا يتفقان بشيء، فمرأى ذلك ينشرح له الصدر وينفتح له القلب، أما منظر بيتنا فكئيب محزن، فهل لكِ أن تخبريني السبب؟

خلصت يا بني، أمُّك مشغولة لا يسمح لها الوقت بالجواب فخذه مني، أمك مع السينما على موعد فما عندها وقت لتردَّ عليك، فأعرني أنا أذُنًا مُصغيَة فأخبرك: أمك أسكرتها خمرة التشبه، وانطبعت في مُخيِّلتها صور السيدات الغربيات، فقلَّدت أزياءهن وحركاتهنَّ حتى فقدت لذة الأمومة، فلا تطلب منها أن تحملك متى قصَّرت عن مماشاتها، إنها تنتقك نتْقًا لتمشي معها مشية الغزال الشارد، إنَّ المَشدَّ يمنعها أن تنحني للأخذ بيدك أو لمِّ شعث الأمتعة المتفرقة في زوايا البيت، ورائحة العطور والطيوب لا تتفق ورائحة المطبخ! أمك تبغي حمل الحقيبة في يد والمظلَّة في يدٍ أخرى، ومن أين لها يد ثالثة لتداعبك بها؟ أمك ألهاها اللهو والطرب والرقص واللعب، أمك أشغلها التقليد عن واجبات ربَّة البيت والتشبُّه أعمى بصيرتها، ألهاها إصلاح هندامها عن ترتيب منزلها وتدبيره، لقد صارت تعد ذلك عارًا فعهدت إلى الخدم والحشم بكل شئون البيت حتى تربيتك، ومتى كانت الخدم تربِّي أسيادًا؟! …

وأبوك وا أسفاه عليه! يحتمل المشقات ويريق ماء وجهه، ليحصِّل المال ويعدَّ لكم مستقبلًا سعيدًا، ولكنه مغلوب على أمره مكثور عليه؛ لأن أمك تبدِّد ما يجمع على الكماليات، فكلما رأت زيًّا جديدًا تجتهد أن تكون سبَّاقة إليه، وقلَّما تدوم الأزياء من الصباح إلى المساء، ويا ويل أبيك إذا لم يماشِ الموضة! إن غاظها تُجرِّعه المر، تلبس وجهها بالمقلوب، ولا تكلِّمه إلا نبْرًا، وإذا كبر رأسه فهي تعلم بما تُصغِّره …

المرأة يا عزيزي عمود البيت وأساسه، وبها — إن كانت صالحةً — تصلح أحواله وإدارته وتتوطَّد دعائمه، إنها تربِّي له من يسنده إذا هبَّت عليه رياح العسر، وهي تلك المنارة التي تهدي إلى ميناء البر والفضل عقول أولادها التائهة، وباقتصادها يمكنها أن تدَّخر لمنزلها ما يقيه وطأة الأزمات الطارئة، وبتعقُّلها ترفع رأس زوجها، فهي بما تدَّخر للأيام السود تعمر بيتها وتكفي زوجها ذلَّ السؤال، وبإسرافها وتبذيرها تضع على كتفيه أحمالًا ثقيلة، وهكذا ينعق البوم في زوايا البيت. وإذا رزقها الله ابنة فهناك الطامَّة الكبرى، فإنها تتلقَّى عليها علوم التبرُّج والتزيُّن عن صغر استعدادًا لدكِّ البيت العتيد الذي تدخله!

وبعدُ، فقد كان الزواج منذ عشرات السنين من أسباب الغِنى، أمَّا اليوم فقد أمسى مخوفًا كثغرٍ ترابط فيه الأعداء، الشاب اليوم يدق قلبه حين يُقدم على الزواج؛ خوفًا من فقرٍ يجر إليه التشبه، إنه يهرب منه هربه من القَيد، لا يخفِّف رهبة هذا القيد إلا حكمتك يا سيدتي وقناعتكِ بما تيسَّر من الكماليات، أما سمُّوك شريكة الحياة؟ أليس على الشريك أن يُنمِّي هذه الشركة؟ وإلا ففسخ هذه الشركة المغفَّلة أمرٌ واقع ويا للدمار!

هذي هي الحلقة الأولى من هذه السلسلة، وكأني أسمع بعض سيداتي يقلن: ما أثقل دمه! هذا كلام مثل وجهه، ماذا تطلب من رجلٍ يابس العود؟

كلُّ هذا منتظر يا سيدتي، فأنتنَّ تعودتنَّ التقريظ والثناء، أما أنا فعددت العشرة قبل أن أكتب هذا الحديث، الحمد لله على أني أرمل دهر وليس عندي امرأة! وإلا لكان استقبالي في البيت صارخًا، وكانت النومة عند الجيران إن لم تكن في الشارع …!

وإلى اللقاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤