مأوى عجَزَة
فكَّر وزير الصحة والإسعاف العام ببناء مستشفيات في جهات عديدة، وشكَّل وزير الشئون الاجتماعية لجنة تعيد النظر بقانون العمل بشكلٍ يؤمِّن للعامل — في أطواره كافَّة — جميع الحقوق التي تُطبَّق على العمال في البلدان الأخرى.
ورصدت وزارة التربية الوطنية نصف مليون ليرة لبناء دار للمعلمين، وحسنًا صنعت فالمعلم حجر الزاوية في بنيان الأوطان.
إنَّنا في أمسِّ الحاجات إلى المعلِّمين، وبنيان معمل لهؤلاء ضروري جدًّا، ولكن الحكومة — حفظها الله — نسيت أمرًا مهمًّا جدًّا جدًّا، وهو أن تبني دارَ عجزة للمعلمين القدماء الذين قدَّموا لهذه الجمهورية العزيزة الرؤساء والوزراء والنوَّاب والقضاة وكبار الموظَّفين.
فممن نطلب نحن بعدما قرأنا — وإن كان حِبْرًا على ورق — نبأ استعداد جميع الوزارات، كل واحدة في نطاقها، لإنشاء ما يُرفِّه عن جماعتها؟
فهذه وزارة العمال تُعنَى في سَنِّ قانون لهم أعدل وأحسن، بينا نرى قانون معلِّمي المدارس الخاصة مدفونًا وليس من يضع على قبره زهرة، ولا من يسأل عنه في مقرِّه الأخير.
فبأي عدالةٍ اجتماعية يشتغل الرجل أربعين وخمسين سنة ولا يُعطى تعويضًا إلا عن عشرين عامًا فقط؟! وهذه العشرون عامًا يحاول قيِّم صندوق التعويضات باجتهاداته القانونية أن يُصيِّرها مثل «صبيرة طمسون».
إننا نراكم تفتكرون بكل شيء إلا بمعلم المدارس الخاصة، ولولا المدارس الخاصة لم يكن عندكم حاجب ولا بوَّاب.
قال المسيح: «من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر.» وأنا أقول: دلُّوني على أحدكم يا كبار موظفي لبنان لأرى إذا لم يكن من طلَّابنا، اذكروا أنَّ السيد قال: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.» فبحياتكم انظروا في قانون من قدَّموا خبز المعرفة وأبرزوه للوجود؛ لنراه ونهتف مع سمعان الشيخ: «أطلِق يا رب عبدك بسلام؛ لأنَّ عينيَّ أبصرتا خلاصك.»
لا تعلِّلونا بالآمال، ولا تقولوا رويدًا ينضج الطعام، بل كونوا كالخليفة ابن الخطَّاب الذي حمل على ظهره كيس الدقيق لتلك الأرملة.
قلت فيما مضى: «أشبعوا المعلِّم على الأقل»، والآن أقول: «إنَّ الكثيرين من المعلمين المحتاجين، الضعاف الوجدان، يتمثَّلون بقول المثل القائل: على قدر زوَّادتكم نرعى لكم دابَّتكم»، وإذا كان هذا هو الشعار فمصير الوطن إلى أين؟»
فإذا أردنا أن يكون لنا معلمون مخلصون محترمون بنَّاءون لا هدَّامون، فعلينا أولًا أن نكفيهم مئونة التفتيش عن الرغيف والكساء، علينا أن نحوط المعلم بالوقار والإجلال، وهذا لا يُدرَك إلا بالاستغناء عن السعي وراء اللقمة والكِسوة. أحْسَن جدًّا وزير الشئون الاجتماعية حين فكر بمساواة العمال بإخوانهم في البلدان الأخرى، فهل من يفكِّر بمساواة المعلم بالعامل؟! …
واشنطن، ٢٥ حزيران
أعلن اليوم أنَّ الجنرال دوايت أيزنهاور القائد العام الأكبر لقوات الحلفاء في حرب أوروبا، والذي قاد أعظم جيش عرفه التاريخ بعدده وعُدَده، واحتلَّ ألمانيا بعد كفاح سنة كاملة؛ قد قبِل أخيرًا أن يكون مديرًا وعميدًا لجامعة كولومبيا في نيويورك، وسوف يضطلع بمهام منصبه العلمي الجديد في مطلع السنة الجديدة.
وقالت وزارة الحربية: إنَّ الجنرال أيزنهاور — رئيس أركان حرب الجيش الأمريكي — قَبِلَ أن يكون مديرًا للجامعة بعد موافقة رئيس الولايات المتحدة ووزير الحربية.
أظنُّ أنَّ الجنرال أيزنهاور رأى أنه يعمل في أساس مهنته الحربية بإدارة أقدم جامعة في الولايات المتحدة، فمِنْ هناك تخرَّج الرجال الذين يقودون الأمة إلى جميع الساحات، أمَّا نحن فنرى أنَّ منصبًا كهذا لا يُعادل كرسيًّا صغيرًا في زاوية، يقبع عليه موظف كبير كالخنفساء.
نحن لا نلوم وزارة بعينها على هذا الإبطاء وعدم الافتكار بالمعلمين وقانونهم المضمر، ولكننا نلوم الوزراء جميعًا والنوَّاب جميعًا والموظفين ذوي الصلاحية، فمن منهم لم يتعلم عند معلم؟ ألا يقضي الواجب على كلِّ من تعلم أن ينصر قضية معلِّمه؟ ولو فكَّر بعضهم قليلًا لانحلَّت المشكلة في أقرب وقت.
والوزارة التي تفكِّر بالإنشاءات الضخمة أمَا عليها أن تفكِّر بالترميم؟ إنَّ المعلم جسرٌ عبروا عليه حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه، أيجوز ألا يُفكِّروا بترميمه كيلا يسقط؟
والأنكى في القضية أنَّ ذاك القانون الممسوخ يريد أن يمسخه من كُلِّفوا في تنفيذه حتى تكون حكاية المعلِّم كحكاية الجبنة التي تولَّى قسمتها القرد، فظلَّ يأكل منها حتى يعدل بين الاثنين، وأخيرًا أكلها هو ولم يذق منها صاحباها شيئًا.
وإذا سألناهم قالوا لنا: حتى يطلُعَ القانون الجديد فهو أحسن لكم.
لقد صحَّ أن نقول لهم أسطورة البقر: قالوا للبقر: متى متُّم نُكفِّنكم بحرير، فأجابت: نرضى أن تبقى جلودنا علينا.
فإذا كانت الحكومة تحسب معلمي المدارس الخاصة عاجزين عن مطالبتها، فلا أقل من أن تبني للقدماء منهم «مأوى عجزة» إلى جانب هذه الدور الفخمة التي تبنيها لإداراتها.
فإلى المسئولة الأولى، إلى وزارة التربية أوجِّه هذه الكلمة راجيًا أن تبعث القانون الدفين، وإذا لم تشأ أن تساوينا بمعلِّمي الدنيا فلتحسبنا عمَّالًا، وما نحن في الحقِّ إلا عمال في حقلٍ آخر.
إنَّ من يعمل خمسين عامًا يحق له أن يطالب بمساواته بغيره من خُدَّام الأمة.
إنَّ الشيخوخة رهيبة ولو كان الإنسان نائمًا حدَّ صندوق مشحون، فكيف بها إذا كان ينام ولم يدَّخر القرش الأبيض لليوم الأسود؟
ومن أين له ذاك القرش؟ أمن راتبه الضخم؟ أمِن تعويضه الذي يحاولون مسخه أكثر مما هو ممسوخ؟
لم يبقَ أمام المجاهدين القدماء إلا التأسُّف على زمنٍ أضاعوه، ووقتٍ في خدمة بني أمهم صرفوه، لا ينقذهم من هذه الورطة التي هم فيها ما دام «قانونهم» يعطيهم الخمسين عشرين إلا المأوى الذي اقترحناه على الوزارة.
فما رأي معالي الوزير؟