محل الامتحانات الرسمية
كان موسم امتحانات عام ١٩٥٤ ماحلًا، خاب فيه ظن أولياء الطلَّاب والمدارس والشباب، فصحَّ فيهم جميعًا قول المثل: «حساب الحقل لم يقوَّم على البيدر»، أجفل هؤلاء كأنما أحلَّت بهم أمُّ المنايا بناتها، وشاركتهم في هذا الارتياع بعض الصحف حتى خِلنا أنَّ الكارثة الكبرى نزلت بلبنان الأشمِّ … ولذلك نقول للجميع كلمة تعوَّد أن يعزِّي بها الفلَّاحون أنفسهم: «إذا فاتك عامٌ استبشر بغيره … الموعد قريب، والسنة خلف الباب.»
إنَّا لفي زمن عشق فيه التلميذ وذووه الشهادات عشقًا، تمَّ فيه قول ذلك العاشق المفتون: «جُنِنَّا بليلى وهي جُنَّت بغيرنا.» الشهادة عندنا أعذب الأماني وأحلاها طعمًا، وحسب الوالد فخرًا أن يجيب على سؤالك عن ولده: أخذ السرتيفيكا، ما رأيت صورته في الجريدة؟ معه بريفيه، معه بكالوريا …! فبعد أن كان يُدعى عندنا للفتى بفرحة العُرس أصبحوا يدعون له بفرحة الشهادة عروس الأحلام والأماني. وهكذا أصبح التلاميذ هواة لا محترفين، حسبهم الشهادة ولا بأس عليهم إن كانت كالبندقية الفارغة التي فزَّعت اثنين. ومن أغرب ظواهر جوِّنا الثقافي تهافُت الطلبة على جمْع ما هبَّ ودبَّ من هذه الشهادات، فكأنها طوابع بريد يتبعها الغاوون ويهيم وراءها فتياننا في أودية الدنيا وأنهارها … فالطالب الواحد يتقدَّم إلى البكالوريا اللبنانية والفرنسية والسورية والمتريك، ولو وجد بكالوريا يابانية أو صينية ما ارتدَّ عن اقتحامها ولو سيجت دربه بالعليق والقندول …
الشهادة أكبر هموم الفتى وأسرته، أمَا المدارس فحسبها أن تذيع في الجرائد: تقدَّم باسم المدرسة الفلانية إلى الامتحانات الرسمية خمسة عشر طالبًا فنجح عشرون، وإن استغربت شرحوا لك هذه الفلسفة الإكوينية التي تشغل اليوم بال شاعرنا سعيد عقل، ثم تُغدق الصحيفة مذيعة هذه البشرى الطريفة على تلك المدرسة عبارات الثناء والإطراء، فلا تدع واحدًا ممن لهم أصبع في تلك المؤسسة حتى تخصه بكلمة شكر. وهكذا يغمر طوفان نوح جديد جدران تلك المدرسة حتى يكاد يجرف أسوارها ويخرج من بوابتها عارمًا كأنه مياه مغارة «أفقا» إبَّان الربيع.
لفتت نظري كلمة في جريدة، هذه هي: كانت نتائج البكالوريا هذا العام من السوء والانحطاط بمكان … فمَن هو المسئول عن هذا التقهقر، الطالب أم المدرِّس أم المدرسة أم الوزارة التي تُجري الامتحانات؟
السؤال وجيه، وليس أجدر بالجواب عليه ممن خبر الطالب والمعلِّم والمدرسة والوزارة. ولكنَّ طارح هذا السؤال نسي مسئولًا آخر، وهو وليُّ الطالب، وبهذا أبدأ أنا:
فهؤلاء الأولياء من آباء وأمهات وأوصياء مزعجون، لا يؤاخذني أحدٌ إذا قلت إنهم ثقلاء مبرِمون أكثر من الذي قال فيه الشاعر:
إلى آخر القصيدة التي حفظتها صغيرًا.
إنَّ هؤلاء الأولياء يحبون الجمز، فإن قرر مدير المدرسة أن يعيد ابنهم صفَّه قامت قيامتهم وعلت ضجَّتُهم وملئوا الأرض احتجاجًا، فإن رأوا تصلُّبًا لجئوا إلى أصدقاء المدير وعادوا حاملين إليه رسائل توصية من مراجع مختلفة السمو والمقام، كأنَّ «المحروس» محكوم عليه بسجن القلعة … وإذا جابهت صخرة المدير معاولهم نقلوا ابنهم إلى مدرسة أخرى، فتفتح هذه له ذراعيها غير مهتمة لازدياد عدد طلابها واحدًا، هذا إذا كان الولد أعمى البصيرة أطرش الذهن، أمَّا إذا كان يتمتَّع بذكاء عادي طمع وليُّه بترقيته صفًّا أو صفَّين، وإن لم ترضخ أنت لإرادته أطاع غيرُك، فاختر لنفسك ما يحلو.
هذه مسئولية الأولياء، أمَّا مسئولية التلميذ فتنحصر في هذا المثل: «هاتيك الغبرة ورثت هذه الوحلة»، إنَّ الفوز الباهر في امتحانات البكالوريا الماضية قلَّل من اهتمام الطلاب حتى حسبوا البكالوريا أكلة بطيخ، ما عليك إلا أن تكسر الرأس، وما أهون شجَّه! ثم تأكل هنيئًا مريئًا. إذا كان الطالب ابن وجيه فما أغناه عن عبوسة وجه الكتاب! لينشغل بالوجوه المبَوْدرة المحمرة، والحواجب المزجَّجة، والعيون المكحلة، ليتحدَّث عن أفلام السينما بدلًا من أقلام تاريخ الأدب، وما له وللمتنبِّي والجاحظ فحديث جياد السبق أشهى وألذُّ؛ لينشغل بالتحدُّث عن سياسة فلان وفلان وتأييد «جناب حضرة» والده المحترم لهذا أو ذاك، فهي أجدى له في معركة الامتحان من درس سياسة الدولة الأموية والعبَّاسية. إنَّ الممتحنين ينتظرون إشارة أبيه ليُنقذوا الموقف، فهو لا يعنيه إلا الشهادة و«يوم الله يعين الله»، المركز محفوظ، والأسرة جمعاء في انتظار الساعة ليقبع الولد في كرسيِّ الوظيفة، الخطبة عُقِدت من زمان فأهلًا بعروس الأماني والأحلام.
أمَّا إذا كان الطالب من الأذكياء النبهاء ولا عضد له ولا سند، فيخدعه نجاح طالب مقصِّر سبقه إلى إكليل الغار، وظفر به بإحدى الرسائل المكتومة، فيتراخى ويتهاون ظانًّا أنَّ البكالوريا لا تقتضيه الدرس العنيف، يقول في قلبه: إن كان فلان — وهو لا يعرف الخمس من الطمس — أخذ البكالوريا، فأنا آخذها من درجة جيد إذا لم أفتح كتابًا، فلماذا كلُّ هذا التعب والسهر؟
كثيرًا ما كنت أسمع من أبطال البكالوريا: الوزير الفلاني أو النائب الفلاني صديق الوالد، قتلنا حالنا حتى نجَّحناه في الانتخابات، إنه ينتظر الساعة حتى يقوم بالواجب، إذا أمر صارت الخمسة خمسة عشر … الشهادة إذن في العب، وهكذا ينام صاحبنا على صوف ومهما حاولنا إيقاظه يظل يشخر وينخر ولا يستفيق إلا يوم تسودُّ وجوهٌ وتبيضُّ وجوه.
أمَّا زملاؤنا المعلمون فلا يعني بعضهم أو أكثرهم إلا أن يلمُّوا مما كُتِب هنا وهناك من قديم الأقوال وحديثها، يخيطون من كلِّ هذه الرقاع ثوبًا فضفاضًا يسمونه دروس البكالوريا، حتى إذا احتُضر العام المدرسي زوَّدوا تلاميذهم حين خروجهم إلى ساحة الامتحان بهنات هينات يسمُّونها «بلان»، فيبرز الطالب فيها بروز أبي دلامة، وسلاحه تلك الدجاجة التي سدَّ بها بوز قرنه، وأمِن شرَّ يومٍ كان يعده الأول من الآخرة والآخر من الدنيا.
لا يعني هذا الأستاذ الذي «يعمِّدونه» أستاذًا للأدب العربي، أن يُصلح ما فسد من لغة تلاميذه، لا تهمه سلامة التركيب وخطأ الإنشاء من الخطأ النحوي والصرفي، فيدخل تلميذه معترك البكالوريا كالحصان الأعرج يصك في كل سطرٍ صكَّات، يرفع المفعول ويجر الحال، ينصب المبتدأ ويجر التمييز، يفتح فم التاء ذراعين ويرسم الهمزة قاقًا، ويكتب الدال ضادًا، ثم يتألَّب الساعون بالخير على أعضاء اللجنة الفاحصة طالبين منها «السبعة عشر» علامة لهذا الأخفش المعاصر … وحجتهم أنه كتب سبع صفحات عن المتنبي، كأن مسافة الكلام تقاس بالباع والذراع! يقول لك أبو هذا الطالب: ابني — يخزي العين عنه — ما نسي كلمة سمعها من المعلِّم، ذاكرة عجيبة غريبة، كيف لا ينال علامة فوق الريح؟ …
الحقُّ معك يا صاحبي حَفِظَ ابنك — حفظه الله — كما قلت، ولكن المرشح للبكالوريا يجب أن يكتب صحيحًا، إن تلميذ الصفِّ السابع أصح عبارة من «المحروس» أقرَّ الله عينك به!
إذن على من يتولَّوْن تثقيف النشء أن يضربوا نطاقًا من الأسلاك الشائكة حول صفِّ البكالوريا.
فلنكهرب إذا اقتضى الأمر هذه الأشواك، فلنحاول تهذيب عبارة الطالب قبل أن نحشو مخَّه بروايات أساتيذ الأدب العربي وقولهم: امرؤ القيس أول من بكى واستبكى، وزهير أو النابغة أول من أكل بشعره في صحون من الفضَّة، وشعر ابن أبي ربيعة الفستق المقشَّر! وما علينا إذا قلنا جريًا على قياسهم: شعر ابن الرومي رز مغبر، وشعر أبي نواس سمن مكرر! فيحشو تلميذنا بهذا كرش دراسته المطلوبة. وهكذا تنضج طبخة البكالوريا وتُقام الولائم والأفراح إعلانًا لهذا النبوغ وإجلالًا لهذا الفوز.
إنَّنا في حاجةٍ إلى من يعبر عن فكره بلغة إن لم تكن فصيحة فلتكن على الأقل صحيحة، أمَّا أن يحمل البكالوريا اللبنانية من يهز كلَّما كتب حرفًا عظام الخليل وسيبويه، فهذا لا نرضاه للبنان الذي يسمُّونه منارة. لقد شحَّ الزيت فأدركوا هذا السراج بنقطة تبلُّ لسان الفتيلة …
أمَّا المشرفون على الامتحانات فنشكر لهم ما واجهوا به الطلاب من شدةٍ وتدقيق، فالشهادات العليا لا تُنثر كورق تشرين … إذا كانت المعامل المحترمة لا ترضى أن تُسجِّل «ماركتها» على بضاعة مشكوك في جودتها، فهل يليق بأمةٍ ما أن تطبع بطابعها الثقافي شبابًا لا يقرءون ولا يكتبون صحيحًا؟
إنَّ مستوى التعليم قد تدهور، إنه عندنا بين يدين: واحدة غافلة عن واجباتها لأنها تجهلها، وأخرى تستفزُّ التلاميذ ساعة الحاجة قضاءً لمآربها، فعسى أن تكون قلة الناجحين إنذارًا للشباب يصرفهم عن شئون السياسة وشجونها فلا يسوسون غير الدفاتر والكتب.
لا يُنكر أنَّ هناك حيفًا يلحق ببعض التلاميذ، وسببه اختيار مميزين لا يستطيعون التمييز والحكم فيما ليس من اختصاصهم، أقول هذا مع اعترافي بكفاءة بعضهم وإنكاري على فريقٍ منهم هذه القدرة.
وهناك قضية أخرى لا تعيرها الوزارة اهتمامًا، وهي اختلاف أذواق ومشارب هؤلاء المميزين، فإذا وقع طالب بين براثن متنطِّس متحذلق حطَّمه تحطيمًا لأنه لم يكتب كما يريد ذاك المميز، بينا رفيقه الذي هو دونه معرفةً ينفذ في المضيق لأنه وقع بين يدين ناعمتين أو غير متمكنتين! إنَّ الخير كله في الرجوع إلى تأليف لجان ثلاثية أو رباعية أو خماسية من عارفي المنهاج حق المعرفة لتميزَ الغثَّ من السمين وتُطبع على غرارٍ واحدٍ، فلا يُظلم طالب ويُرحم آخر، والظلم في السوية عدلٌ في الرعية، ناهيك أنَّ «وسطاء الخير» يعجزون عن الوصول إلى الخمسة واستجدائهم.
إنَّ الشاعر والكاتب والصحفي والموظَّف غير الأستاذ في الأدب، فلا تغرُّ الوزارة كفاءات لا معنى لها، إنَّ لهذه الكفاءات سماء تشعُّ فيها غير امتحانات البكالوريا.
أمَّا الأسئلة — وعسى أن تُحقِّق الوزارة ما نطلب — فأرى أن تكون أدق وأضيق نطاقًا، إنَّ أكثرها واسع فضفاض يضلُّ فيها الممتحِن والممتحَن، فيقع كلاهما في محنة لا مرجع «رسمي» يحلها، إننا محتاجون إلى اختصاصيين فاهمين العربية، أقول هذا وأنا واثق بأني تعرَّضت لغضب سيبويههم و«حرد» ابن أثيرهم …!
ولكنها حقيقة مؤلمة لا بدَّ من الجهر بها، ولتقع السماء على الأرض …
ما دام العارفون والمختصون غرباء عن أورشليم فلا أمل ولا رجاء، وهيهات أن تُثمر المؤتمرات الثقافية ثمارها المرجوَّة.
أمَّا الأهلون — أولياء التلاميذ — فأنصح لهم ألا يهبطوا العاصمة إبَّان الامتحانات، وأن يدَعوا الطواف واللفَّ والدوران وقرْع أبواب أصحاب النفوذ ليعينوهم على المميزين، ليدعوا التفتيش عن هؤلاء بالفتيلة والسراج ليستجدوهم علامةً تنوِّل أولادهم شهادة كاذبة.
إنَّ هذه الفوضى التي أراها في كل موسم امتحاني لا تشرِّف وطنًا يُردِّد صباح مساء: «ملء عين الزمن سيفنا والقلم.»
إذا كانت البكالوريا تُعطى وتوهب إكرامًا لسواد عيون هذا وذاك، وإذا كان النفوذ يزج في الثقافة والعلم، نصبح لا سيف ولا قلم ونسقط من عين الزمن.
إنَّ الزمن لا يرحم ولا يُحابي.