بواريد فاضية
حملت شهاداتي ورُحتُ أعرضها هنا وهناك حتى كادت تتمزَّق، وأخيرًا نصحني زميل لي قائلًا: «سائل المجرِّب ولا تسأل الحكيم، أنا كنت قبلك، اسمعْ مني واعملْ مثلما عملت، صورها، الرسوم الفوتوغرافية أخفُّ حملًا وأيسر تداولًا.» فحملتها ثاني يوم ورحت إلى المصوِّر، وما كان أشد دهشته حين رآها!
– حقًّا إنك نابغة! أنت حاصل على كل هذه الأوراق؟! حقيقة إنها «أوراق اعتماد»، قطيعة! بحياة أبيك قل لي أسماءها؟
فرحت أعدُّ باعتزاز واعتداد: بكالوريا لبنانية، بكالوريا فرنسية، بكالوريا سورية، هاي سكول، سوفومور …
– يا بارك الله! تريد صورًا عنها كلها؟ صورة واحدة أو ثنتين.
– لا، أريد أن أُفتِّش عن عمل.
فافتكر قليلًا وقال: ولماذا التعب؟ العمل موجود، أريد كاتبًا يمسك الدفاتر، ويكاتب الفبارك، ويُحسن الضرب على الآلة الكاتبة، ما رأيك؟
– لا أُحسن مسك الدفاتر ولا الضرب على الآلة.
– وماذا تُحسن؟
فأطرقت ورحت أحكُّ ذقني وأفكر، ثم لم أقل شيئًا.
فحوَّل المصور عني وجهه، ورفعت رأسي أنظر إلى قفاه فإذا بي أرى كلَّ جسده يهتز، حتى نضح منه الضحك وكدتُ أراه، ثم سمعته يقول ويغص: تعال غدًا خذ صور شهاداتك، بعد الظهر تكون حاضرة.
آلمني جدًّا ذلك الاستخفاف، ولكني سكتُّ.
وكتبت بعد يومين عدة رسائل طويتها على صور شهاداتي وبعثت بها في البريد مسجَّلة إلى دوائر عديدة، وقعدتُ أنتظر الجواب فلم يرد عليَّ أحد، وأخيرًا تذكرت مثلًا قرأته: «من سعى على رجله رعى»، فقمت أبرز نفسي وأصلح من هندامي، ثم حملت صور شهاداتي ورحت إلى إدارة إحدى الشركات الكبرى فقابلني مديرها باسمًا فاستبشرت وتجرأت عليه وعرضتُ مطلبي، فقال: نحن نُفتِّش عن شاب من مثلك أنيق لطيف حسن السَّمْت.
فأجبت على حديثه بحياء وخَفَر، فقال: أتعرف شيئًا عن الميكانيك المركَّز؟! محتاج إلى من يعرف شيئًا يسيرًا من هذا، عليك أن تُفْهِم المشترين شيئًا عن أسرار الماكينات والمحركات وغيرها.
فقلت: لا يا سيدي، ما علَّمونا هذا.
فسكتَ هنيهة ثم قال: إني آسف يا عزيزي.
فودَّعت وانصرفت لأدخل باب شركة زراعية إذا بمديرها يباحثني في الأسمدة الكيماوية والتربة والغَرْس والمكافحة والحرث، فوجدتني كالأطرش في الزَّفَّة … وخرجت من مكتبه يائسًا.
ونمت تلك الليلة قانطًا، وما أصبحت حتى تشددت فقصدتُ شركة تسفير فطفق مديرها يسألني عن الموانئ والمسافات بين القارَّات والأقطار فإذا بي لا أعي شيئًا، بل نسيت كلَّ ما أعددته من الجغرافيا لاجتياز الامتحان، مع أنه لم يمض على ذلك أكثر من ثلاثة أشهر.
وسمعت أنَّ أوتيلًا كبيرًا أجنبيًّا يحتاج إلى كاتب فأبرزت لمديره شهاداتي فقبلني بلا بحث، واشتغلت هناك أيامًا، ولمَّا استأنست صرت أشارك بعض الزبائن في الحديث عن الأدب والأدباء الكبار الذين درسناهم، وذات يوم بينما كنا نتحدَّث عن المتنبي إذا بالخواجا يتبرَّم، ولكنه انتظر انتهاء المؤتمر ليقول لي في مكتبي: ما هكذا يا عزيزي تُساس الفنادق، نحن هنا في أوتيل سان فنسان لا في شارع المتنبي … وحاولت أن أقنعه أنِّي أتحدث عن المتنبي لا عن شارعه المعروف ولكنه لم يفهم عني.
فأنِفْتُ أن أعمل في محل لا يفهم مديره الأدب ولا يعنيه منه شيء، أردتُ أن أُظهر ثقافتي التي أحرزت بها شهاداتي فإذا بي أخسر مركزي، فلا حول ولا …
وقصدتُ بعد أسبوع إدارة جريدة كبرى فأكبروا ما في يدي من صور شهادات، فكلَّفوني الكتابة، ثم الترجمة فرأوني ضعيفًا جدًّا، واستكتبوني في المواضيع المحلية والاجتماعية فما أعجبهم إنشائي لضعفه وركاكته وأخطائه الإملائية والنحوية. ولا تسل عن جرح قلبي البليغ حين سمعت رئيس التحرير يقول: عجيب! كيف نلت هذه الشهادات؟ أنا ليس في يدي شيء منها، وهذا إنشائي، اقرأ يا أستاذ.
فقلت له: كنا نكتب مقالات عن الشعراء والكُتَّاب وغيرهم، فتضاحك وقال: والإملاء يا عزيزي؟! لا تعتذر.
فوَجِعْت وأطرقت، أمَّا هو فقال: لا تيأسن، تتعلم في الحياة إن شاء الله، نصيحتي لك أن تُعلِّم في إحدى المدارس ما تعلَّمته فيها فبضاعتك تنفق هناك.
وأخيرًا وجدتُ عملًا في مدرسة ما، ولكنني وقعت في شباك التلاميذ لأني غير متمكِّن من الأصول واللغة، فشكرت لي المدرسة جهودي بعد شهر …
وأخيرًا توسَّط لي نائب كنا معه في الانتخابات، فعُيِّنت معلِّمًا في مدرسة رسمية، فنفقت شهاداتي حيث لا يُسأل أحد عما يُعلَّم ولا عما يُعلِّم … ولكن ما النتيجة؟! إذا اكتسيت جعت وإذا شبعت عَرِيت!
وقعدتُ ذات ليلة أحاسب نفسي فوجدت أن عاملًا في كاراج وخادمًا في مطعم أيسر مني حالًا، فقلت لوالدي: لو أعطيتني ما أنفقته على تعليمي ما لا ينفعني لكنت صرت غنيًّا مثل فلان الذي لا يعرف الخمس من الطمس.
فامتعض الوالد وكأنه اشتمَّ رائحة نُكران الجميل، ثم قال: ما الحق عليَّ ولا على العلم، كل الحقِّ على من علَّموك ما لا ينفعك في الحياة حتى كنت كذلك الشيء، لا مع اللحم ولا مع العظم …