المستقبل لا يُرتجل
سمُّوها وزارة المعارف يوم مولدها، ثم طاب لهم أن يسموها وزارة التربية الوطنية والشباب، ولكن كلمة «الشباب» ماتت مع فجر حياتها فصارت وزارة تربية وطنية بلا شباب، واليوم يقولون إنها ستصير وزارة «الجامعة اللبنانية» … قالوا: إذا غضب الله على قومٍ جعل صيفهم شتاءً، ونحن نقول: جعل وزارتهم مدرسة …
ما أعظم حيرتَنا في هذا البلد! وما أتعس حظَّ التربية عندنا! ما زلنا نبدِّل المناهج كأننا ننقل حجارة دومينو ولا نضع منهاجًا. وُضِع المنهاجُ أول مرة فضمَّ تاريخ أدبنا العربي كله، وظل كذلك أعوامًا، ثم اجتمعنا لتشذيبه فأبقينا على تسعة وعشرين أديبًا وشاعرًا، فتنفَّس الطلاب والأساتذة الصُّعَداء، وخفَّ من لا يفكرون إلا بجيوبهم فجمعوا النصوص، فما كان في «الروائع» نُقل عنه وما لم يكن فُتِّش عنه، فصار لنا كتاب يتدارسه المعلمون وطلابهم.
وقالوا بعد حين: هذا منهاجٌ ضخم يجب أن نُقلَّ من شحمه لأنَّ السِّمنة بشير الشيخوخة، فقعدوا يطبخونه في الخفاء، وأخيرًا طبعوه وقالوا: هذا هو المنهاج الجديد. ونظرنا فيه فإذا التسعة والعشرون عادوا كما كانوا أولًا — أي مائة وأكثر — واليوم يقولون: إنهم يعملون على تنظيمه وتعديله، ولكن ظنِّي — وظنِّي لا يخيب — أنهم لا يتعدون الخطة التي عرفنا، وإلا كسدت الكراريس المعلومة …
إنَّ ما نسميه وزارة التربية عندنا ليس إلا وزارة قراءة وكتابة في لغتنا القومية واللغات الأجنبية الأخرى، أمَّا خلق رجال يوافقون مقتضى الحال فهذا لا تحققه مناهجنا، ما زالت تُسيِّرها أيدٍ غريبة من وراء الستار، تنفخ في بوقها وبوقها يقيم القيامة وهو صامت.
إنَّ أهدافنا عتيقة جدًّا من عهد كانت وبستالوزي وغيرهما، وهذه لا تتفق أبدًا مع التربية التي يتطلَّبها زمننا الحاضر، فالتربية الوطنية لها هدف خاص — أي خلق رجال مختصين ببقعة من الأرض — فهل نعمل لهذا؟
أتستطيع الوزارة التي سميناها وزارة التربية الوطنية أن تقول لجميع مدارس الجمهورية اللبنانية: «افعلي هذا ودعي ذاك؟» وإذا كانت الوزارة وهي مستمدَّة قوتها من شكلها الرسمي ومهابة الكرسيِّ لا تستطيع ذلك، فكيف إذا صار الأمر إلى مدرسةٍ عليا سمَّيناها جامعة لبنانية …؟
هل تستطيع هذه أن تفرض إرادتها على الجامعتين الكبيرتين؟! أمَّا إذا كان القصد أن نبسط سلطاننا على المدارس الأخرى التي لا شأن لها وننتفش كديوك الحبش؛ فهذا شيء آخر.
يقول علماء التربية إنَّ التربية التي تصلح لأمة أو فرد قد تضرُّ بأفراد آخرين وبأمة أخرى، ومع ذلك نظلُّ نحن ننسخ برامجنا نسخًا ونسير على منهج لا يتصل بحياتنا، فإلى أين يا تُرى نحن واصلون؟
التربية الحق هي التي توحِّد عواطف الأمة وأفكارها فتُصيِّر الشعور واحدًا، فهل فكَّرنا في شيء من هذا إذا كنا نريد أن نبني وطنًا لا دولة؟ فالإنسان الذي تتطلبه تربية اليوم ليس ذاك الآدمي الذي أوجدته الطبيعة، بل الإنسان الذي تتطلبه الأمة، إنها تريده كما تقتضي ظروفها وأحوالها الطارئة فلكل عصرٍ رجال.
وإذا كان التعليم وسيلة تربوية فماذا تُربِّي لنا هذه المناهج المنسوخة الممسوخة؟ ألا يرى القارئ معي أن من نُربِّيهم بل قل نعلِّمهم يصلحون لكل مكان ولا يصلحون لمكان بعينه؟ فإذا كان هدفنا التربوي تربية رجال دوليين فلنسمِّ وزارتنا «وزارة التربية الدولية»، فهو أعمُّ وأفخم.
للطيور التي تعيش مجتمعة نظام اجتماعي موحَّد، فكيف بنا نحن البشر؟ أيظلُّ لبنان حائرًا؟
يقول دركايم: «إنَّ مجتمعًا يُعلِّم بدون عقيدة تربوية هو جسم بلا روح.» فما هي عقيدتنا التربوية يا تُرى؟
الجواب عند الجنسية والطائفية، فلكل مدرسة عندنا هدف، ولا يرتقي إنسانٌ ما إلا إذا استهدف غرضًا ساميًا.
وإذا سأَلْنا أستاذًا منا: ما هو هدفك يا صاحب من تعليمِك؟ أجاب: أصطبغ باللون المحلي؛ فأنا لاتيني عند اللاتين، وأمريكي عند الأمريكان، وسكسوني عند السكسون، ولبنان العروبة على الله …!
الاستيطان يمنح الحَجَل لون تربة البقعة وصخورها، وهكذا مدارسنا الرسمية؛ فهي مسيحية إذا كان المحيط مسيحيًّا، وإسلامية إن كان إسلاميًّا، وهكذا قل: أرمنيَّة ويهودية …
إننا نتشبَّث بلقب التربية لا لشيء سوى أنها هكذا سُمِّيت عند غيرنا، كما لم أُسمَّ مارون إلا لأني وُلدتُ يوم عيد ذلك القدِّيس.
إنَّ مهمة التوحيد عندنا شاقَّة، ونحن لسنا نطلبه كاملًا؛ لأن دولًا كثيرة لم تحققه بعدُ، فخيرٌ لنا أن نُسمِّي هذه الوزارة جمعية خيرية أو أخويات متحدة، تُصلِّي لله لأجل الوطن الحائر وبألسنة عديدة كتلاميذ المسيح حين حلَّ عليهم البارقليط في علية صهيون …
لقد أصبحت الوظائف والمعاهد عندنا «سيامة وعمادًا»! فمتى مسحناه بزيت «الواسطة» المقدَّس أمسى مكرسًا، أما سمَّيناها جامعةً لبنانية وهي دار معلِّمين؟ أمَا كان يجب أن يكون المشرف عليها من ذوي الكفاءات النادرة والشهادات الرفيعة؟ ومع ذلك سميناه وصار، واليوم ها هو يسعى ويحاول أن يسيطرَ على مقدَّرات البلاد الروحية والقومية علنًا؛ لأننا سكتنا امتثالًا ومجاملةً …
كانت غاية مدارسنا العتيقة أن تخلق منا أناسًا تقرأ وتكتب — واللغة كما يقرر علماء النفس أخطر عناصر التربية القومية — فخرجنا قارئين كاتبين، أما اليوم فالقراءة معدومة، وأساتذتنا يضيقون صدرًا بتعليم لغتنا العربية؛ فمن قائل بترك الأصول وعدم الاكتراث بها، ومن قائل باللغة العامية، ومن داعٍ إلى الكتابة بالحرف اللاتيني، وسبب ذلك هذه المناهج الموضوعة لنيل الشهادات لا أكثر، فالفرق بيننا وبين طلاب اليوم أننا تعلَّمنا لنعرف، واليوم يتعلَّمون ليطبِّقوا المنهاج.
كانوا يقولون فيما مضى: «فلان يُطبِّق المفصَّل.» واليوم يقولون: «طبق المنهاج وأخذ بكالوريا.» فهي مفتاح الأعمال وإن كانت بارودة فاضية!
شعر العرب أنَّ لكل إقليم خاصة، فقالوا في شعر ابن أبي ربيعة حين كان يقرزم الشعر: شعرٌ حجازيٌّ تحسُّ فيه البرد في تموز. أما لبنان فيدرس بنيه ما هبَّ ودبَّ! ولا عجب في ذلك فالمخلوطة أكلة لبنانية …
عندما اجتمعنا لترميم منهاج البكالوريا عام ١٩٣٢ كان مستشار المعارف المسيو كوانته يتجه دائمًا في اختيار من كتبوا عن الشرق من أدباء الفرنجة، أمَّا أعضاء «مجلس المعارف الأعلى» البلديون فكان لا يعنيهم في اختيار أدبائنا إلا نعراتهم الطائفية.
لست أتوقَّع حدوث العجائب إذا عُدِّل المنهاج، فمثل هذه المناهج — وخصوصًا منهاجنا — يقتل قوة الاستنباط والاستقلال العقلي، فلا يهمُّ شبابنا إلا اجتياز المحنة بسلام … إنَّ التفكير يُصيِّر التقليد والممارسة صالحين للزمان والمكان، فمن تُراه يفكِّر في إبداع ما يتفق وميول أبنائنا وطموحهم؟ الدنيا تتغير وتتحول ونحن ثابتون كالشمس، صامتون كالأرض، مع أنَّ هدف التربية خلق إنسان جديد لحياة جديدة.
نعم إنَّ الطفرة محال، وليس المستقبل قصيدة تُرتجل، بل هو الماضي تُصلح حجارته وتنقَّح لتلائم الطراز الحديث.
قال هانيكين: «ما من حادثة في الطبيعة كلها إلا تتولد من الماضي، وتكون في الوقت نفسه عاملًا مقوِّمًا وعلة مفيدة للمستقبل.»
أمَّا نحن وا أسفاه! فكل تجديدنا واهتمامنا في هذه التسمية، كانت تُسمَّى وزارة معارف فسمُّوها وزارة تربية وطنية، ثم كانت للشباب فأمست بلا شباب، واليوم يجب أن يُسمُّوها وزارة الجامعة اللبنانية إذا وقعت الكارثة.
إنَّ فكرة الاحتكار والاستغلال متمكِّنة منا، يفكر كلُّ واحد منا أن يسيطر على العنابر وحقول الاختبار، وهكذا ينقضي العمر ونظل نحن كما نحن، فبدلًا من أن نُفكِّر بالإصلاح الجذري نفكر بنقل الأعمال من يدٍ إلى يدٍ، فكأنَّ ميزانية الدولة تركة ميت توزَّع على بنيه وبناته والأقربين الذين هم أولى بالمعروف … المخلصون يذكرون المرحوم وفي العين دمعة، ولكن ذوي قرباه متلهُّون بالجمع والقسمة، وليس فيهم من يقرأ الفاتحة على قبره، ولا من يُصلِّي عن نفسه الأبانا والسلام، شعارنا «إذا هبَّت رياحك فاغتنمها» … نفرح بمرسوم ويحزننا مرسوم، وما كانت المراسيم قط تبني وطنًا.
مسكين لبنان! فما فيه حد وسط، فهناك إمَّا لبناني يظن نفسه جزءًا من أوروبا، وإمَّا لبناني يظن أنه من السكوت وحضرموت، وقد نسيا كلاهما أنَّ اللبناني تمغرب وظلَّ لبنانيًّا، كما أن العربي أُولع بوطن ثانٍ كلبنان هو الأندلس.
يقول المثل: «من يأكل خبز السلطان يضرب بسيفه»، أما لبنان فلا يوضع موضع الحزم فيه إلا التفتيش عن المنافع، فبدلًا من أن ننتقي المعلمين ونُشبع من اخترناه نحاول أن ننقل صلاحية الوزارة إلى دار معلمين …
المسيحي يقول «النومن» والمسلم يقول كلمة الشهادتين، والمعلم اللبناني يجب أن يؤمن أولًا أنه يبني وطنًا، ولكن من أين له ذلك وباله ببطنه الخاوي، وبال الأستاذ الجامعة اللبنانية في كيف يبسُط نفوذه على هؤلاء البؤساء؟!
وبعد تفكير عميق أقول كما قال زياد ابن أبيه: «إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله»؛ ولهذا أقول كما قال الحجَّاج: يا أهل لبنان، إنني لم أجد لكم دواءً أدوأ لدائكم من الجندية، فالجندية هي وزارة تربية حقًّا، هي البوتقة التي تصهرنا جميعًا وتطبعنا على غرارٍ واحدٍ فنحسُّ أنَّ لنا وطنًا، فكل تربية وطنية تظلُّ عقيمة حتى ينام المواطن شهورًا في الثكنة العسكرية يُحيي علمه بالسيف والبندقية، المدارس تُخرج مخنَّثين أمَّا الثكنة العسكرية فتطهِّرهم وتخرجهم رجالًا صالحين لحرب بغير النظارات.
ويح للبنان! فشعبه بخلاف الشعوب، للشعوب قلب وليس لها أعين تنظر بها، فهي تحس ولا ترى، والحكومات بالضد فهي تنظر ولا تشعر، ويا ويل أمة شعبها ينظر وحكومتها تشعر! إنَّ الهوة بينهما عميقة.
واعجبًا، كيف صارت المدارس التي أوجدها النوابغ الثائرون تخلق للأمة عجزًا وقاصرين ومشلولين ومسلولين؟!
عندما كان هدف التربية يصلح لكل زمان ومكان، قال أجدادنا: «لولا المربِّي ما عرفت ربِّي.» فالربُّ كان هدف التربية في زمن الروح، أمَّا في عصرنا هذا — عصر المادة — فهدف الرجل وطنه، والتربية التي تصلح له هي تطعيم وتلقيح، فالميول المكتسبة تُطعَّم وتُلقَّح بالميول الغريزية، والمربِّي الصحيح لا يخلق ميولًا جديدة، بل ينمِّي الميول الغريزية أو يقاومها، فقصارى المربِّي أن يروِّض الشخص ليصلح للجري في الشوط المنتظر، إنَّ الأخلاق الفاضلة تُكتسب بممارستها وتعوُّدها فتصير خلقًا وسجية.
ولنستنر أخيرًا بشيء من علم النفس: إنَّ لمسنا جسدنا يختلف عن لمسنا للأجساد الأخرى، إذا لمسنا جسدنا أحدث هذا اللمس إحساسًا مزدوجًا؛ لأنَّ اليد اللامسة تكون لامسة وملموسة، أو فاعلة ومنفعلة كما يعبر الاختصاصيُّون. فالمربِّي الوطني يكون إحساسه مزدوجًا إن كانت عقيدته صادقة لا زندقة فيها، أمَّا المفلوج فيفقد هذا الإحساس المزدوج، ويخال عضوه المريض ليس أحد أعضائه، فإذا شئنا أن نُربِّي للوطن رجالًا صالحين فلنقصِ المفلوجين …