أعيادكم بغضتها نفسي
تُرى لو عاد السيد المسيح وتمشَّى في شوارع مدننا ليلة الاحتفال بعيد ميلاده، ماذا كان يقول؟
ماذا كان يقول حين يرى الديوك الحبشية والبلدية ترقص رقصة الألم، وتُغنِّي في القدور أغاني التهليل للمولود الذي حَمل إلى الأرض السلام وإلى الناس المسرَّة؟
ما عساه أن يقول حين يرى علب المُلبَّس والشوكولا تُحمل أكياسًا إلى الدُّور والقصور، وأما الأكواخ فتودِّع شقاءً لتستقبل بلاءً؛ من قبضة الفاقة إلى مخالب المرض إلى براثن الموت؟
ما عرف يسوع غير بيوت الضعفاء والفقراء، أليس هو القائل: «للثعالب أوجار، ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له مكان يسند إليه رأسه»؟
عاش السيد على الفَرِيك في الحقل، فما عساه يقول حين يملأ خياشيمه القُتَار ويرى سلال الحلوى تتصادم في الشوارع، وهو حين اشتهى قلبه الحلو راح يُفتِّش عنه في تلك التينة التي لعنها فيبست حالًا …؟
تُرى لو تنكَّر السيد وجاء القصور التي تُشاد باسمه، فمن يفتح له «الخوخة» ليدخل باحاتها؟ لست أشك أبدًا في أنه مهما قرع لا يُفتح له، وإذا قال لهم كما قال لتلاميذه في ذلك الزمان: «أنا هو.» صرخوا في وجهه: «لا يا سيد، أما حذَّرتنا في إنجيلك قائلًا: «كثيرون يأتونكم باسمي فلا تصدِّقوهم»؟ اذهب، اذهب.»
وإذا ردَّ عليهم بقوله: «أنا جوعان فأطعموني، وعطشان فاسقوني.» أجابوه قائلين: «مثلك لا يجوع ولا يعطش، أما صمتَ أربعين يومًا …؟ لا تحاول خداعنا فما أنت هو.»
أجل، لقد صار عيد الميلاد عيد قصفٍ ولهو، وعيد خمرٍ وزمر وقَمْر، عيد الخمور المعتَّقة والديوك المسمَّنة، بل عيد التخم والبشم. حسبك أن تعلم أننا في يوم هذا العيد كنا نفطر مرتين؛ مرةً بعد قُدَّاس نصف الليل، ومرةً في موعد «الترويقة». ولست أنسى قول أحد أساتذتنا وهو من الآباء الأجلاء: ليت لنا في كل رأس شهر عيد ميلاد! وقد نسي — رحمه الله — ما قاله مار بولس في الذين هم مثله: إلههم بطنهم، ومجدُهم في خزيهم.
وإذا وقف يسوع أمام مغارة من تلك المغارات التي تزدان بمئات الشموع والدُّمى والأكياس، ألا يتأسف حين يرى عناكب التقاليد تُغطِّي ذلك المُحيَّا الإلهي الإنساني الذي ملأ الدنيا رحمةً ومحبةً؟
ولو صادف يسوع في هذه الجولة من يسمونه «بابا نويل» فكم كرباجًا كان يأكل قفاه؟ وأي نتف تنتف تلك اللحية الطويلة العريضة؟ لا شكَّ في أنه ينتزع ذلك الخُرْج عن كتفيه ويدوس هداياه بقدميه …
أجراس ترن، ونواقيس تطنُّ، وأجواق ترنم وتُهلِّل: المجد لله في العلا، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر.
أي رجاء يا سيد، فالذين يُصلون يوم عيد ميلادك هاتفين: هللويا آمين … يفكرون بقنبلة تهلك إخوتك الفقراء المساكين؛ ليرثوا وحدهم الأرض التي دُسْتَ كنزها بحذائك؟!
جئت يا سيد مبشِّرًا بملكوت الله كارزًا بمملكة الروح، فأين هي تلك الأشياء التي بشَّرت بها وكرَزْت؟! آه، ما أفقر الكون إلى درهم من علاجك الروحي! إنَّ ذكرى ميلادك لا تعظم إلا باتباع تعاليمك، وإذا لم نُولد ثانيةً كما قلت لنيقوديموس فعبثًا نُكرم ميلادك ونمجِّدك أيها الذي قال: «ليس مَن يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات.»
ليس تكريم الميلاد بأن نعمل شجرةً اصطناعية، بينا شجرة أعمالنا يابسة تسمع لأوراقها حفيف الحصاد الذي يتوق إلى المِنْجَل.
إنك لم تَدْعُ إلا إلى الرحمة: «أريد رحمةً لا ذبيحة.» هكذا قلت، أما هم فيريدون ذبيحةً يكون لهم منها حصة الأسد لا رحمة تنْكَبُهم بفلس.
إنَّ هذه الاحتفالات الزائفة لا تَنْقَع غُلَّة ولا تُشْبع كبدًا، إنها لا تسقي البؤساء — إخوة يسوع الصغار — كأس ماء باردة.
قال يسوع: «اصنعوا هذا لذكري.» وكأنه يريد أن تتمالح البشرية جمعاء في تذكاره، لا أن يأكل الأغنياء حتى يبشموا والفقراء حفاة عراة ليس لهم أطمار يسترون بها عوراتهم، اللهم سترك وعفوك عمن يعيِّدون هكذا!
قال صاحب هذا العيد: «حبُّوا أعداءكم، وإذا أحببتم من يحبكم فأي فضلٍ لكم؟» أما السواد الأعظم من البشر فلا يحبون إلا ذواتهم، وليس للغير أقل حساب في دفترهم اليومي.
كان الإخوة — الرسل — في ذلك الزمان يتقاسمون الرغيف، أما اليوم فيتنازعون عليه ويَتَناتَشُونه مع أنهم أتباع ذلك الذي قال: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.» وقد يُزهقون روحًا في سبيل قرش، ولو من قروش هذا الزمان، ومع ذلك يعيِّدون بكل عين بلقاء، محتفلين بذكرى من قال: «لا تعبدوا ربَّيْن الله والمال.» فإذا شئنا أن نعيِّد الميلاد كما يجب أن يعيَّد، فعلينا أولًا أن نُطهِّر قلوبنا لنكون أتباع من قال: «يا بنيَّ، أعطني قلبك.» وعلينا أن نعمل حسنًا لنستحق من قال: «إن من لا يعمل إرادة أبي فهو لا يستحقني.»
فعلى من يَلون الأحكام أن يعدلوا؛ لأن من يحتفون بميلاده كان عادلًا رحيمًا.
وعلى الرعية التي تحتفي بميلاد يسوع أن تحبَّ الجار والقريب، بل الأعداء؛ لأنه هكذا علَّم.
وعلى المعلِّم منا ألَّا ينسى أن يسوع خُوطب ﺑ «يا معلِّم»، فلنحاول الاستيلاء على بعض الأمد الأخلاقي الأمثل لنتقرَّب من زميلنا المعلِّم الإلهي.
وإذا كنت يا أخي فلَّاحًا فاحرث الأرض جيدًا، وتذكَّر أن يسوع أحب الزهر والثمر والزرع والشجر، فكن مزهرًا مثمرًا لئلا تستحق اللعنة التي أنزلها على التينة.
وإذا كنت تاجرًا أو عاملًا، فانشد الربح الحلال والأجر المكتسب بعَرق الجبين. تذكَّر أن صاحب العيد حثَّ على العمل المنتج فرحَّب بصاحب الوزنات العشر الذي ربح ضعفها بالمتاجرة، وطرد العبد الكسلان إلى الظُّلمة البرَّانية.
عفوًا! نسينا السيدات وهنَّ المقدَّمات في هذا العصر، ليس الاحتفال بالميلاد هو أن تتزيَّني بالجواهر وتلبسي أثمن الثياب، ولكن الاحتفاء بالميلاد هو أن تُقدِّمي لصاحب العيد ذرية صالحة من البنين والبنات، ولا تنسي أن يسوع الذي تُصلين له قارعة صدرك قد قال: «دعوا الأطفال يأتون إليَّ ولا تمنعوهم.»
وأما قادة العالم اليوم فأحسن احتفال بذكرى السيد الذي يعظِّمون يكون في أن يضعوا تحت قدميه قنابلهم الذرية قائلين له: قل يا سيد ماذا نصنع؟
وإذ ذاك يجلجل صوت في الأعالي ويهتف بهم: «ملعون كل مَن يهدم هيكلًا بشريًّا بغير حق، طوبى للرحماء فإنهم يُرحمون! لا تقاوموا الشر بالشر، ومن طلب ثوبك فاترك له رداءك.»
فلو كان في قلوبنا قدر حبَّة خردل من الرحمة، لفكَّرنا بمكافحة البؤس المنتشر حولنا قدر ما نستطيع، متذكرين فلس الأرملة الذي عظَّمه صاحب العيد، فأيٌّ منا لا يستطيع أن يبذل فلسًا احتفاءً بعيد المعلِّم؟ فخير هدية ميلادية هي تلك التي تُبذل في سبيل المُشرَّدين.