فتِّش عن ذاتك
الطبيعة أمٌّ تقاسي مشقَّات كثيرة حتى تكوِّن أبناءها، وهي تأبى أن يتوجَّه — من تعبت حتى أنتجته — في غير الطريق التي خلقته لها، فإذا رأيت رفيقًا لا يسير على الدرب الذي خطَّها له ذووه، فاعلم أن فيه منبِّهًا داخليًّا يهتف به: ليست هذي طريقك، دربك من هنا.
إنَّ صاحب الموهبة لا يستقرُّ إلا في مكانه، قد لا يهتدي منذ أول خطوة، ولكن الطبيعة تعمل دائمًا حتى توجِّه ابنها، تقاوم أبويه ومعلميه وكل من يعنيهم أمره حتى تضعه في صحنه ويعمل عمله.
فالموظَّف عندنا يريد أن يكون ابنه مثله ويرث عرشه، والكاهن يريد أن يكون في بيته من يرث جبَّته وقاووقه، والمحامي يتمنَّى لو يخرج ابنه من البطن لابسًا الروب ويكلِّم الناس في المهد صبيًّا.
لاحظوا العائلات تجدوا أنَّ أسماء المهن تخوض بيوتنا خوضًا، قد يكون ذاك الحدَّاد أو النجار أو النحَّاس أو الصائغ أو الشِّدْياق عبقريًّا في عمله حتى نُسبت عائلته إليه وحملت اسمه قرونًا، بينما أحفاده لم يُخلقوا لمهنته.
إنَّ هذا التقليد يجعل الناس عاديين يعيشون من قلة الموت، لا يبتدعون ولا يخلقون، يسيرون على الطريق المعبَّدة كحصان العربة، فكم من رجل خُلق ليكون من رجال الشريعة تراه يَفْلَح وينكش ويقطع الحطب، ويحلُّ محله من كان يجب أن يكون هناك! وكم من فتاة خُلقت لتكون خادمة تجلس على كرسيِّ التعليم! وكم من فتًى خُلق ليكون معلِّمًا تراه في مخزن يكيل الحبوب أو يذرع الخام والمقصور! وكم من فتيان يعملون بأيديهم في المصانع كان أولى لهم أن يتعلَّموا الرياضيات والعلوم ويحلُّوا محل الذين في الكليات والجامعات! وكم من سياسيين قعدوا في غير مقاعدهم، بينا نرى الجدير بمحلِّهم يعمل في مخزنٍ ما! وكم من رجل خُلق ليكون أمهر جرَّاح نراه جزَّارًا في يده الساطور! وكم من جرَّاح هو جزَّار يقطع أعضاء بشرية!
كل هذا لأن الناس لا يحسنون توجيه بنيهم، أو لأنَّ الأولاد خاملون لا يتطاولون إلى الأسمى. المواهب كالبراعم منها ما يتفتَّق باكرًا، ومنها ما يبقى كامنًا إلى حين ينتظر الساعة التي يهبُّ فيها الهواء السخن، فعلينا أن نصبرَ ولا نيأس، علينا أن نسير في الطريق التي تنفتح أمامنا، وإذا اصطدمنا بعقبة علينا أن نذلِّلها بالصبر والعمل المتواصل، فإننا لا بدَّ أخيرًا واصلون. إنَّ المقاومة الطائشة لا تُجدي، وفي كل مخلوق ميزان يستطيع أن يزنَ به قدرته. إذا كانت الحيوانات لا تقدم على ما لا تستطيع، فهل نكون نحن دونها تمييزًا؟ هذا هو سبب الإخفاق في الأعمال، والسر كله هو في أن ننتقي ما يلائم غرائزنا، وألا نغترَّ بأنفسنا فنماشي التيار الذي فينا، إنَّ الحوتَ الذي يجري في الغمار لا يخطو خطوة على الرمال، والقطار إذا حاد عن خطِّه فقد قوته وسرعته، فرُبَّ نابغة يعجز عن القيام بأبسط الأعمال ولكنه يستطيع أن يتفوَّق في العظائم!
فكرامويل بقي في مزرعته يعالج الخس والفجل والثمار حتى شارف الأربعين، وأخيرًا انفتحت أمامه الطريق التي وُجد ليقطعها.
وفولتير حاول أن يعدَّ نفسه ليكون من رجال الحقِّ والقانون ففشل هناك، وانصرف إلى الفلسفة والأدب فكان الأديب الفيلسوف الخالد.
وموليير المسرحي الفرنسي العظيم لم تجد عبقريته مرعًى لها في المحاماة، فانصرف إلى الأدب وكان الرجل الذي أضحك زمانه في كل وقت ولم يضحك هو مرة.
وكانت الفنون الجميلة عنوان الفقر، ولا تعدُّ إلا أُلْهية مَنْ لا عمل لهم، وكثيرًا ما خاطب والد «ميكال أنج» ابنه بلسان القضيب ليحول دونه ودون حيطان البيت التي يرسم عليها شخوصه، ولكن الميل والعبقرية انتصرا أخيرًا، وكان الخلود حظ هذا الولد الذي شقي صبيًّا حتى انتصر.
وإذا اختار أحدُنا ما لا يلائمه، فإنَّ الطبيعة لا يهدأ لها بال حتى تضعه في مركزه الخاص به، فما علينا إلا أن نسير ولا نقف لأننا واصلون لا محالة، علينا إذا كنا في غير مستقرِّنا أن نعمل بأمانة وإخلاص لنبلغ أخيرًا المحطة المُعَدَّة لنا، فلنعمل الواجب بأمانة وإخلاص، وعملنا هذا يؤدي بنا إلى ما نرجو، أو إلى ما أعدَّته لنا الطبيعة منذ البدء، إنَّ العبقرية كالماء الجاري تحت الأرض ينتظر الساعة التي يشق فيها طريقه إلى النور، فيروي ويُنمِّي ويخلق أثمارًا وأزهارًا.
أما وقد ذكَرْنا نفرًا من نوابغ غيرنا فأين نحن من نوابغنا؟ فهذا أمين الريحاني أراده أبوه معاونًا له في المتجر، وأراد هو أن يتعلَّم الحقوق والتمثيل فالتحق بجوقة وأخفق، وأخيرًا سار في طريقه، وكان الأديب اللبناني الذي احتلَّ مقامًا عاليًا بين أدباء الأرض.
وجبران هاجر كسِواه ثم عاد إلى الشرق ليكون أديبًا فأفلح، وكان الإمام المتبوع.
والجاحظ أحبَّ أن يكون إمامًا صاحب طريقة، ولكنَّ الطبيعة سدَّت الطريق لتوجِّهه إلى الأدب، فكان أديب العرب الأول.
والمتنبِّي شَقِي في طلب السعادة فأخفق وأسلس لطبعه قياده، فكان الشاعرَ الخالد.
وفي سيرة أحمد فارس الشدياق عبرة العِبَر، فمن فتًى ينسخ الكتب إلى معاون للمير حيدر يدوِّن له تاريخه، إلى عطَّار يكاري على حمار يطوف القرى ليبيع بضاعته من هذا وذاك، إلى صاحب خان على طريق صيدا، إلى فارٍّ إلى مصر حيث حرَّر الوقائع المصرية، إلى مهاجر إلى مالطة ولندن وباريس، ليُترجم التوراة ويكتب «الفارياق»، إلى راحل إلى تونس، ليتولَّى إدارة المعارف فيها، إلى نازلٍ في الآستانة حيث استقر وصار نجيَّ السلطنة ولسان حالها في الجوائب.
هكذا تسيِّرنا الحياة حتى نؤدِّي الخدمة التي انتدبتنا لها، فما علينا أن نيأس إذا لم نكن من أول رحلة من الغانمين.
عندما عُيِّن فرنكو باشا متصرِّفًا للبنان، زار المدرسة الداودية في عبيه التي أسَّسها سلفه داود باشا ولا تزال تحمل اسمه، وشاء فرنكو أن يخطب في التلاميذ، فما وجد موضوعًا أفْيَد لهم من مُجمل سيرة حياته، قصَّ عليهم كيف ذهب من حلب إلى إسطمبول فتًى لا عَتَاد له، واستُخدم عند تاجر يوجِّهه إلى هنا وهناك في قضاء حاجاته، حتى إذا ما قضاها عاد إلى مساعدة خالد رفيقه في الخدمة، تارةً ينظِّفان الواجهات وحينًا ينظِّمان البضائع ويكنسان المحل.
وشاء فرنكو أن يتعلَّم مبادئ القراءة والكتابة، فكان يذهب إلى مدرسة ليلية، وبعد حين خرج كاتب من المحل فطلب صاحب المحل من فرنكو أن يحمل رسالة إلى واحد يدعوه التاجر ليكون كاتبًا عنده، فقال فرنكو لمعلمه: أنا يا معلمي أكون محله.
– أنت يا فرنكو؟! وأين تعلمت؟ من الكناسة إلى مسك الدفاتر! هذا كثير يا فرنكو!
فقال فرنكو: جرِّبني يا سيدي.
فجرَّبه ونجح، وكان كاتبًا فاهمًا غيورًا.
أما خالد زميل فرنكو في الكناسة فظلَّ حيث هو، ومات مدير المحل فقدَّم فرنكو نفسه وحلَّ محله بنجاح.
وظلَّ فرنكو يتعلم، وترقَّى حتى صار سكرتيرًا في وزارة الخارجية، ولمَّا انتهت مدة داود باشا متصرف لبنان الأول أجمعت الدولة والدول السبع على تعيين فرنكو باشا متصرفًا للبنان.
«وصرت باشا.» هكذا قال فرنكو لتلاميذ المدرسة الداودية في عبيه، «وذهبت لأزور معلمي الأول، وأقترض منه ٥٠٠ ليرة عثمانية أنفقها على إعداد طقم الوزارة وسيفها وسفري إلى لبنان، فاستقبلني معلمي بالاحترام والمحبة، وجاء رفيقي في الكناسة يُظهر لي أشواقه وهو لا يعلم عن مصيري شيئًا.
وأعطاني الخواجة المبلغ المطلوب فتهيَّأت للسفر بعد أن قطعت الثياب الرسمية اللازمة، وفي موعد الذهاب مررت في عربتي على محلِّ معلمي وأنا لابس طقم الوزارة ومعي الياور، فما أبصرني خالد حتى هجم عليَّ بالمكنسة صائحًا: ولاه يا فرنكو عامل كراكوز في البلد! ولو لم يتدخَّل معلمي كان كسر رأسي ومزَّق طقمي المقصَّب.»
وختم فرنكو قصته هذه بقوله: «هذا هو العلم يا أولادي، ومن يدرينا أنه ليس بينكم من هو مثل فرنكو؟ لا أحد يعلم ما يصير، وما علينا إلا أن نعمل، فتعلَّموا لتعملوا.»
يتحيَّر الواحد منا في سيرورة هذا الكون إذ يرى الناهضين من الحضيض، ولكن ليس هناك ما يحيِّر، فمن يسعَ ليجد ذاته ينجح متى وجدها، وهنا سرُّ الفلاح كله، فلنفتِّش عنها.