الأدب الحق
لا يعني الأديب محترف الإنشاء، فالعرب حين قالوا: «أدركته حرفة الأدب» لم يفهموا الحِرفة بالمعنى السوقي، يقصدون ﺑ «أدركته حرفة الأدب» أنَّ الأديبَ هو العاجز عن النضال في حرب المعاش، انحصر فكره في بؤرة واحدة فأصبح من أدبه كذوي الفكرة الثابتة؛ ولهذا يقول شكسبير: «حِبْرُ الكاتب كدم الشهيد.»
يناضل الأديب، ولكن في غير سبيل الرغيف، ولا بدَّ لكل قضية كبرى مهما سمت وتنزَّهت من أدباء يناصرونها لتتوطَّد دعائمها، أمَا رأوا محمدًا رسول الله كان يدعو لشاعر الرسالة حسَّان بن ثابت بقوله: «اللهم أيِّده بروح القُدُس؟» ثم يقول له: «شُنَّ الغارة على عبد مناف، فوالله لشعرك أشد عليهم من وقْع السهام في حلك الظلام!»
وإذا فتَّشنا عن العنصر الأدبي في جميع ما أسعد الإنسان من تعاليم، رأينا سحرَ البيان — وهو أقوى عناصر الأدب — من دعائم الرسالات الكبرى، إنَّ الله — تقدَّس اسمه — لم يكلف برسالته في كل دور إلا أفصح خلقه، فالسيف والمدفع لا يؤدِّيان رسالة السلام والاطمئنان، فما لهذه الرسالة غير الأديب يحملها على أجنحة خياله، ويطير بالنفوس معها، فهل أراني مخطئًا إذا حددت الإنسان تحديدًا جديدًا وقلت: «الإنسان فصيحٌ فنَّان؟» فالإنسان لا يقاد طائعًا راضيًا إلا بسحر البيان والفنِّ.
وحبُّ الوطن من يعلمه غير الأديب؟ تنقشه أقلام الأدباء في الصدور كما يُدَقُّ الوشم في اليد فلا يَمَّحي إلا باندثار الجسد، إنه يستحيل نفوسًا تسيل على حد السيوف، وقوى غريبة عجيبة تقاوم الدبَّابات ولا تخشى قنابل الطائرات. إنَّ حب الوطن الذي يصوِّر جماله الأديب يُمسي حقيقة ثابتة في ذهن كل مواطن، حتى يستحيل هذا المواطن جنديًّا مدرَّبًا في ثكنة الأديب يلبس درعه وسيفه، وما هما غير الإيمان ببقعة من الأرض خلع عليها قلمُ الأديب رائع السحر والجمال.
فالوطنية من عمل الأديب يغرسها كالنخلة ليجني رطبها وثمرها غيره، زرعوا وأكلنا ونزرع ويأكلون، هذا هو نهج الأديب، يعلم أنه لا يجني ثمرةَ ما يزرع، ولكنه يزرع ولا يبالي بشقائه؛ لأنه خُلق للإنشاء والإبداع، ومن يستطيع أن يمحوَ ما خُطَّ في لوح القَدَر؟
إنَّ مُخيِّلة الأديب في حلمٍ دائم، والعالم يُعبِّر تلك الأحلام ويحقِّقها، فمخيلة الأديب تحبل وتلد، ورجال العلم يلتقطون المولود، يحلم الأديب الملهم بتجميل الحياة وإسعاد الناس، والجبابرة يصيِّرون تلك الأحلام يقظة قاسية.
إذا حاق الظلم بالإنسانية فالأديب أول من يتألم، يرفع صوته تحت بريق السيوف، لا يكتم كلمة ولو أُعطي بها ملء الأرض ذهبًا، فهو لا يبتغي إلا العدالة، ويؤثِر الموت على الخزي والعار.
وصف كنفوشيوس الأديب منذ أربعة وعشرين قرنًا فقال:
«الأديب يُكرِّم نفسه ويحترم الناس، يخاف الموت وينتظره، يغذِّي نفسه ليعيش ويعمل، ليس الذهب بكنز الأديب، بل الصدق والأمانة هما كنزه، فهو لا يبتغي من الدنيا إلا العدالة، لا يطلب الغِنى المفرط، وفي الأخلاق السامية سعادته، لا يأسف على الماضي، ولا يتأهَّب للمستقبل، يصادقك الأديب طائعًا مختارًا لا مُكرَهًا، ويؤثِر الموت على الخزي والعار.
الأمانة درع الأديب، فعلى رأسه يحمل الإنسانية ويمشي، والعدالة تتكئ على صدره في البيت، ومهما طغى الاضطهادُ، فهيهات أن يزحزحَ عقيدته الراسخة.
يعيش الأديبُ بين معاصريه ويفكر بالمتقدِّمين، يُساير عصره ويعمل بما يوحي به إليه الغد، وعلى الأجيال الآتية أن تقتدي به.
ليغضب معاصروه، ليحتقره من هم دونه، ليتألَّب عليه النمَّامون والممالقون، ففي مقدورهم أن يُهلكوه، أما إرادته فلا تلين ولا تنهزم أمام المخاطر والاضطهاد، وفي ضيقته وبلواه يتذكَّر أبدًا شقاء الشعب.
الأديب يسعى وراء المعرفة بلا ملل ولا راحة، يعمل لذلك أبدًا تحت سقف بيته.
يعزُّ الخيِّرين ويتحمَّل الأشرار، يساعد الغرباء والأعداء، ولا يقدر إلا الجدارة والأعمال، وهدفه الأسمى خير أمته وبلاده.
لا يُفتِّش عن الثروة والمكانة، يزرع الأديب معرفته بين أصدقائه ليفيدهم وينير أذهانهم، ينشر من طوتهم حُجُب النسيان ويذيع فضلهم.
الأديب يُطهِّر جسده ويُهذِّب فضيلته وينقِّيها، وينصح أولياء الأمر ويصلحهم بهدوء.
في السلم لا يُزدرى ولا يُحتقر، وفي زمن الاضطراب لا يُشرى ولا يباع.
في عزلته يُثقِّف نفسه ويهذبها، وينمي شفقته.
يقسو على نفسه ليخفِّف من غطرستها ويهذِّب اتصالها بالناس. يحبُّ الأساليب الحسنة ويبتهج بالذين يسيرون على نهجه.
سلوكه قائم على أسس الفضيلة، ودعامته الإنصاف، يتقرَّب من زملائه ويبتعد عن سواهم.
الدماثة والصلاح هما جذع الإنسانيِّ.
احترام الناس واللطف هما تربة الإنسانيِّ.
الكرم والإحسان هما آثار الإنسانيِّ.
التواضع والأدب هما وسائل الإنسانيِّ.
اللياقة والحفاوة هما وجه الإنسانيِّ.
الكلام والحديث هما زينة الإنسانيِّ.
الغناء والموسيقى هما تآخي الألحان عند الإنسانيِّ.
التقسيم والتوزيع هما تصرُّف الإنسانيِّ.
والأديب يجمع هذه المواهب كلها، فهو إذن الإنسانية كاملة.
في الفقر والضَّعَة لا يسقط الأديب كالحصاد.
وفي الغِنى والوجاهة لا يتنفش فرحًا وكبرياءً.
لا السنُّ ولا المكانة يستطيعان قلقلته؛ ولذلك يسمُّونه الأديب المثقَّف.
أمَّا الذين يسميهم الجمهور اليوم بالمثقَّفين والأدباء فليسوا كذلك؛ ولذلك صارت الثقافة وصمة.»
انتهى كلام كنفوشيوس.
ومع احترامي لآراء المعلِّم الصيني الأكبر أرى أنَّ الشقاء عنصر مقوِّم للأديب؛ إذ لا بدَّ للأديب من العبور في معصرة الألم لتبقى خمرته على الدهور والأجيال؛ ولهذا أرى بالاستقراء أنَّ الأديب إذا لم يجد شقاءً شقي بعقله كالمتنبِّي مثلًا.
قرأت مسرحية طريفة تدلُّ على طمع الأمم بالأدباء، فأحببت أن ألخِّصها خاتمًا كلمتي بها:
كان في إحدى مدن فرنسا أديب تاعس الجد، تحييه زوجته المهذبة بما نصافح به العقرب متى شرفتنا بزيارة صيفية، ويزدريه من عرفوه في المجالس والمجامع، فعاش المسكين في حربين: داخلية وخارجية، وكانت الحرب العظمى الأولى فاختفى أثره، واشتهت بلدته أن تُشْتهر بأديب تفتخر به كغيرها من المدن، فرأت أن تشيد أثرًا فخمًا لأديبها هذا، فاضطلع رئيس البلدية بالأمر ورفع الأثر عاليًا، ثم كانت حفلة إزاحة الستار عن التمثال فتصدَّرها الوزير وزوجة الشاعر، وكان السواد يجلِّلها من فوق عينيها إلى رجليها.
وفي تلك الساعة الخطيرة من تاريخ المدينة وفد الشاعر بعد غيبته الطويلة على الطائر المنحوس، ولشدَّ ما دُهش إذ رأى نفسه استحال تمثالًا من رخام ورُفِع على خازوق المجد!
أظهر نفسه للحفل الكريم فأنكروه جميعًا حتى زوجته المتباكية، وخاف سعادة رئيس البلدية أن تفسد الطبخة ويُحرَم الحلوان — الوسام الذي في جيب الوزير — فسار بالشاعر ناحية وقال له جادًّا: أنت متَّ يا صاحبي، وقد صرفنا مبالغ طائلة من الفرنكات لتمجيد ذكراك، فليس من الكياسة أن تكذِّبنا، ولا من الحكمة أن تخسر هذا المجد!
وكان الأديب نبيهًا فتذكَّر زوجته ورفْقها به … فصدَّق أنه مات، ولكنه عاش طويلًا يتفيَّأ ظل تمثاله، وينظِم الشعر في تمجيد صاحب التمثال أديب البلد وشاعره الكبير!
أكثر الله من أدبائنا المنتخَبين، وأقل من المحترفين الدجَّالين …!