الرجل ابن البيت والبيئة
لكلِّ امرئ من دهره ما تعوَّد؛ بهذه الكلمة البسيطة المركَّبة استهلَّ شاعرنا الأعظم إحدى قصائده الخالدة. خص المتنبي العادة بالناس، أمَّا الشاعر العربي الأسبق النابغة الذبياني فألصقها حتى بالطيور الكواسر، فقال في الغساسنة والطيور المحلِّقة فوقهم: «لهنَّ عليهم عادة قد عرفتها.»
ويقول أصحاب علم النفس، الصغير السن: ليست أخلاق الأمم إلا كومة عادات جمعها كرُّ الغداة ومرُّ العشي، وبقدر سموِّ هذه العادات ونبلها يعلو قدر الأمم والشعوب التي اكتسبتها. أمَّا اكتساب العادات فقوامه مقاومة ميول النفس وقهرها وتطويعها، ومتى أذعنت تعوَّدت.
تصف للرجل أمرًا فيه صلاحه، فيهوله الرأي ويشقُّ عليه ويقول: ما تعوَّدتُ أن أعمل هذا، أو ما عملت هكذا في عمري ودهري. فتجيبه أنت بتلك السذاجة الناعمة: وما عليك يا أخي لو جرَّبت، حاول، تعوَّد. وقد يعمل بنصيحتك مرةً فيعتاد، وتقولان معًا قول المتنبِّي أيضًا:
إذن نحن مدينون للعادة بما فينا من صلاح وطلاح.
يقول الأبوان إذا أنكرا من ولدهما عادة أو خطة: غدًا المدرسة تربِّيه! يا ويل المدرسة، ما أقصر يدَها! إنَّ العادات الأصيلة هي من بُنيَّات البيت، لاحظي يا سيدتي بُنيَّك في مهده، وراقبيه حتى يدبَّ، وحين يحبو، وحين يمشي. تأمَّلي جيدًا ترَيْ أنه يكتسب في كلِّ يوم عادة، فهل تقفين مكتوفة اليدين تنتظرين المدرسة لتقوِّم اعوجاج ولدك؟!
ألَا تعلمين أنَّ عملك التربوي ابتدأ يوم وضعته، فالعادات تُغرس في حقلك الصغير منذ ميلاده، فاستعدِّي لمكافحة الحشرات التي أخذت تنتشر في الجذع والفروع، طاردي المكشوفة منها بالمستورة، وأعدِّي العُدَّة لاستئصالها لتسلم غرستك الطرية التي نبتت حديثًا في حقل الإنسانية. إنَّ عهد الطفولة هو عهد الزرع والقلع، أي زرع الفضائل واقتلاع الرذائل، يكبر الطفلُ عامًا فتكبر العادة أعوامًا، ولا يبلغ العاشرة حتى تصبح عاداته من عمر نَسْر لقمان، إنَّ البيت يؤسِّس والمدرسة تبني، فحريٌّ بالآباء والأمهات أن يوطِّدوا ذلك للمدرسة لئلا تُبنى على جُرُفٍ هارٍ.
قد يقول قائل: وما عمل المدرسة إذن؟ ونحن نجيبه: إنَّ عمل المدرسة هو أن تُهذِّب، والتهذيب غير التأديب، تحاول المدرسة أن تغرس عادات حسنة ترجح بها كفَّة الميزان، عملًا بقول الشاعر: «ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها؟» هذا هو عمل المدرسة قبل التعليم. إنَّ ما نُعلَّم قد يُنسى، أمَّا العادات التي تُصبح ما نسميه أخلاقًا فيما بعد، فهي العُدَّة التي تسلِّح بها المدرسة تلاميذها.
إنَّ شيخ معلمي المدرسة هو ذلك الأستاذ الطمطماني، أي الجرس، فلنعلِّم تلاميذنا أن يطيعوه أدقَّ طاعة، ففي طاعته الغُنْم وعلى من لا يُلبِّي نداءه الغُرْم، فاتِّباع النظام الدقيق نجاح وفلاح. أمَّا التلميذ الشارد النَّادُّ فيستحيل عليك مهما طغى جبروتك أن تُعلِّمه غصبًا عنه، عليك أولًا أن توطِّد النظام لتسترعي انتباه تلاميذك وتشوِّقهم، فإن فعلت تكن قد عوَّدتهم خير العادات، وإذ ذاك تستطيع أن تغرس في عقولهم ما شئت، لا تقل لي هذه مادة مملَّة فأين شخصيتك …؟ إذا كان صفُّك ميتًا فهذا يعني أنك ميتٌ لا حياة فيك، أو أنك فونوغراف لا أكثر ولا أقل، وفي إمكان المدرسة أن تستعيض به عنك. فعليك بما فيك من موهبة أن تضع تلاميذك في الجوِّ المطلوب، وأن تُطهِّر ذلك الجو من كل ما يضيِّق الصدور، عليك أن تُدخلَ إليه مجاري جديدة، وهذا لا يكون إلا كما قال ريبو: «اجعل الشيء جذَّابًا بصورة اصطناعية إذا كان غير جذَّاب بطبيعته، فالانتباه الإرادي يكون في أوله اصطناعيًّا ثم يصبح بالتكرار عادة أو طبيعة ثانية.»
إنَّ المعلم — ولنقل المربِّي — أشبه شيء بالطبيب، فكما يصنع الطبيب عندما يضيق الصدر ما يسمونه تنفُّسًا اصطناعيًّا، هكذا يعمل المعلم إذا كان موضوعه مما تنكمش له الصدور وتتقلَّص الوجوه، فيخلق انتباهًا اصطناعيًّا. ومتى وُجدت طلائع الرغبة وُجد الانتباه؛ لأنَّ الإنسان كالحيوان لا ينتبه عفوًا إلا لما يهتمُّ له ويميل إليه، وإذا جرَّدناه من الشعور باللَّذَّة والألم عجز عن الانتباه.
نعلم جيدًا أنَّ الإنسان لا يُولد كامل العقل، وهذا النقص في الكمال العقلي يتبعه النقص في التدريب أو التعويد على العمل المثمر، والتعويد يقتضي دهاء وحنكة وعناء، وهذا هو عمل المدرسة، على المدرسة أن تُدرِّب طلابها وتُمرِّنهم على اتباع خطوات ثابتة في ميادين الأعمال؛ ليصيروا من أبطال الحياة الذين يربحون معارك فاصلة في تاريخ حياة الأمة، وأول ما يقتضينا من عتاد لهذه الميادين هو روح النظام، روح الجِدِّ والمثابرة، حتى يصبح كل ذلك فينا عادة فنكمل طريقنا بلا تعبٍ ولا عناء.
إنَّ الإرادة القوية الواجب خلقها في أبنائنا يُعْوِزُها تعزيز النظام، وكلَّما اقتربت المدارس من النظام العسكري القاسي تخلق رجالًا شديدي المِراس، فمن أطاع استطاع. إنَّ في الطاعة قهرًا للنفس وتعويدًا على تنظيم الأعمال وإتيان الأمور في مواقيتها، فتخلُّف طالب دقيقة واحدة عن ميعاده قد يورِّطه في الغد، فيترك المدرسة نهارًا كاملًا، وترك اليوم يؤدي إلى غياب أسبوع، وكثيرًا ما ينتهي ذلك بهجر مقاعد المدرسة إلى الأبد.
إنَّ آباء كثيرين هم شركاء بنيهم في هذه الجريمة، يدفعهم حنوُّهم الأبوي فيكتبون تلك الوريقات الكاذبة ليحولوا بين بنيهم وبين قانون المدرسة، لا يدري الأب أي جريمة ارتكب حين استهلَّ الكتابة على تلك الورقة: «نرجو أن تعذروا ولدَنا عن تأخره؛ لأن أسبابًا عائلية قضت علينا بذلك!»
لقد ارتكب هذا الأبُ الكريم جريمتين: الأولى وهي هدم ما بنَتْه المدرسة من تعويد ولده على الدقة وضبط الوقت، والثانية هي تعليم ابنه الكذب بالمثل، ويا له مثلًا صالحًا يرفعه إلى أسفل! والغريب هو أن يُكلِّف ذاك الأب الصادق نفسه ويسعى إلينا ليشكرنا؛ لأننا صدَّقنا أن هناك أسبابًا عائلية حالت دون حضور المحروس إلى المدرسة في الوقت المعيَّن.
وإذا رأى الأبُ شدَّة، فقد يستعين بطبيب البيت فيخربش له ورقة، وهنا نُلبس الكذبة ثوبًا رسميًّا، فلا بدَّ من تأدية التحية لها فضلًا عن قبولها! وكأنَّ أبا الطالب في هذا العمل يقول لابنه: تعلَّم يا صبي، هكذا يجب أن تعمل إذا ضاقت بك الحيلُ.
فيا ليت شعري، كيف تكافح المدارس عادات مثل هؤلاء الفتيان؟! كيف تُعوِّدهم على الدقة والضبط؟ وكيف تقوِّي إرادتهم؟
وكأني بمثل هذا الأب حين يرمي ولده في أحضان المدرسة يحس أنه ألقى عن ظهره حِملًا ثقيلًا، وانتظر أن يعود ابنه إليه كاملًا مكمَّلًا، إنه لا يعلم أنه يُفسد ما تصلحه المدرسة بشطحة قلم، ويا ليت الضرر لا يتعدَّى ابنه! فهذا درس يتعلَّمه ضعفاء الإرادة من الطلاب فيلجئون حين تراودهم التجربة إلى مثل ما لجأ إليه رفيقهم.
وهذا الأب الضعيف الرأي، الخائر الهمة، لا يستحي أن يسألك بعد حين عن محافظة ابنه على النظام، فإذا ذكَّرته بتلك الرسالة حلف على مسمع ولده بالغالي والرخيص — وأولهما حياتك — أنَّ ذلك هو الواقع، وهنا ينتقل بابنه من درس إلى درس.
فيا أيها الأولياء، ساعدوا المدارس تساعدكم على تهذيب أولادكم، إنَّ الحنان الوالدي له حد يجب أن يقف عنده، فليس الخلاف هنا على قضية درس فات ليعوِّضه ذكاء المحروس، إن القضية لأهم من ذلك، فاعلموا إن كنتم تعلمون أنَّ عمل المدرسة عملُ تكوين قبل كل شيء، فإذا لم يتعوَّد ولدُكم أن يأتي الأمور في أوقاتها لا يأمن شرَّ فواتها … إنَّ عمل المدرسة غرس عادات لا بدَّ منها للنضال في حرب الحياة، فساعدوها على تقويم أبنائكم، وإن عجزتم عن المعونة فميلوا على الأقل من طريق المدرسة ولا تُعرقلوا السير.