أذنان ولسان واحد
منذ بضع عشرات من السنين وأنا صاحب هاتين الأذنين، أما كيف لم يلفتا نظري إلا البارحة فهذا فوق علمي، وأما كيف انسقتُ إلى هذا التفكير أو انجررت إليه، فهذا من حق القارئ العزيز أن يعرفه؛ لأنه صاحب أذنين مثلي، فإذا أعار قولي انتباهًا فسوف يشغل باله ما شغل بالي من أمر هاتين الأذنين، إني أؤكِّد له أنَّ أُذنيَّ غير طويلتين ولا قصيرتين، بل هما كما يقول المثل: «وخير الأمور الوسط.»
والآن هاكم الحكاية: صرفت نهارًا كاملًا مفتِّشًا عن موضوعٍ ما، فما وقعت عيني على صورة تسرُّ القارئ وتعجبني، على كثرة صور الحياة وتعددها، فلا تنقضي دقيقة حتى تطوي وتنشر صورًا صالحة للمعرض والمتحف؛ فالحياة لا تكلُّ ولا تملُّ ولا تُصاب بتصلُّب الشرايين وضعف القلب مثلنا، إنها تجري وتُجرينا معها في مضمارها وإلى غايتها.
استعرضت صورًا كثيرة من صور البشر فرأيت الكثيرين من أبطالي، ولكنني لم تعجبني صورة أحد منهم، فأفلس نهاري ومسائي وألقيت سلاح التفكير، واندمجت بفراشي أتخبَّأ فيه من وجه تلك الفكرة فلا تقع عليَّ عينها، ولكنها ركبت كتفي كأنَّ لها عندي دَيْنًا، ومن محاسن الصدف أو مساوئها وجعتني أذني وجَعًا أغراني بحكِّها، فرُحْت أفركها وأدلكها وهي تقول: «هات ما عندك» حتى كبرت في يدي. وتناولت مرآة صغيرة أضعها عادةً حد رأسي، فرأيت أذني قد احمرَّت وكادت تفخر على أختها بالكبر، وإن كان الكبر في الأذن غير محمود؛ لأنه يشد القرابة بيننا وبين صاحب أنكر الأصوات … تأملت بالمحكوكة وأختها فجاءني فكر لا أدري كيف جاء عفوًا، وإذا بي أسأل نفسي: «لماذا خُلِقْتُ ذا أذنين، أما كانت تكفيني واحدة؟!»
ظننت أنني أسمع أكثر فسددت إحداهما بأصبعي، فإذا القصة مع الأذنين غيرها مع العينين، فقلت إذ ذاك: «لأمرٍ ما رُكِّبت هاتان الأذنان في هذا الرأس الذي يتعبني حمله منذ عرفت الخير والشر.» وأردت أن أنام ولكنني ما قدرت كأنَّ في أذني برغوثًا.
وأطفأت المصباح فما جاء النوم، فضوأت وأخذت أحد كتب مخدتي فما استطاع تحويل تفكيري عن هاتين الأذنين، طار النوم، وتذكرت ما أصاب صاحب لحية طويلة مع بنت خبيثة أو ساذجة لا أدري؛ هال الفتاةَ استبدادُ لحية ضيفهم الجبَّارة واحتلالها صدره العريض، فسألته سؤالًا بسيطًا: «أين تضع لحيتك عندما تنام، تحت اللحاف أو فوقه؟» فسبَّبت له قلقًا مركَّبًا، لولا يصيب أحد رجال الدول لأُذيعت النشرات الطبية عن صحته في كل ساعة.
أطرق الكاهن يُفكر، وفتحت الصبيَّة عينيها وأذنيها وفمها، أصغت بكل حواسِّها لتسمع الجواب فكانت كأنها تُحدِّث غائبًا عن الحضرة، وظلَّ صاحب اللحية البحترية مرتبكًا محيَّرًا، هزَّته الفتاة هزَّةً اضطرب لها وقالت: «غفيت؟ ما جاوبتني!»
فتنهَّد كمن حذف عن ظهره حملًا ثقيلًا وقال لها: «أمهليني يا بنتي، غدًا أجاوبكِ.» وظل يُفكِّر، ثم بارح المكان وهو ما زال يُفكِّر.
وجاء الليل وجاء الويل، ما نام صاحبنا تلك الليلة، تحيَّر أين يضع لحيته، وضعها تحت اللحاف فتضايق مقدمه — كما قال عنترة — وما عرف النوم، وجعلها فوق اللحاف فرآها ممتدة مفرشة.
أرِقَ أرَقَ الأعشى وما أغمض عينيه، فصاحت الديوك وحضرته مستيقظ، وغدت البنت عليه تحمل فنجان القهوة ووكدها في الجواب، فما كادت تطل حتى صاح بها: «حرمتِني النوم يا بنتي، يا ليتني نمت في الخان وما نمت عندكم!»
إنَّ هذا ما أصابني أنا تمامًا، إنني أحمل هاتين الأذنين منذ ثمانية وستين عامًا وما فكَّرت بهما إلا ليلة أمس، تصورت أنني بأُذن واحدة وكيف يكون منظري، فقلت: «ربما جُعِلتا للتوازن؛ فالطبيعة مهندس عبقري، تبدع الأشياء طبقًا للبركار والزاوية.» ولكنني عُدت وقلت: «في الدنيا مشاهد كثيرة أبشع من منظر إنسان بأذن واحدة، ومع ذلك يتعوَّدها الإنسان ويألفها.»
وأعدت الكَرَّة فامتحنت العينين فوجدت الحالة فيهما غير حالة الأذنين؛ فالأعور غير الأصلم. وبعد تفكير غير عميق انقلبت إلى الشفتين فقلت: «لهاتين حاجة لا تُنكَر، وكذلك الأسنان، ولكن اللسان لماذا جُعل واحدًا؟ ولماذا لم نُخلق بلسانين؟»
وانقضى الليل وأقبل الصبح وجاء هذا الفكر معه، ولولا انشغالي بما عليَّ من واجبات لأصبحت من أصحاب الفكرة الثابتة.
وكان لي جار تعجبني روحه الخفيفة وذكاؤه الطبيعي، رجل أمِّيٌّ علَّمه الدهر؛ إذ لم يُعلِّمه أبوه، فما رأيته مقبلًا يَهْدِج حتى مرحبته من بعيد، فتهلَّل وجهه كعادته، ثم أخذ يتهيَّأ للقعود حدِّي، وبعد جهد وعناء برك تحت أثقال التسعين، ولمَّا تمكَّن من مجلسه تنهَّد ثم قال: «خير إن شاء الله؟ ما وراء هذا السلام الذي رشقتني به؟»
فقلت له: «عقدة لا يفكها أحدٌ غيرك، حَرَمَتْني النوم وأفسدت عليَّ يومي، وأخيرًا قلت: ما لها غير بو حسن.»
فتأوه وقال: «وماذا بقي من بو حسن؟ خرف عمك بو حسن، صرنا بربع عقل.»
– عقلك كامل يا شيخ الشباب، ما عندنا عقول مثل عقلك.
– هذا لطفٌ منك، رحنا …
والتفتُّ لأرى هل ضاعت ثقته بنفسه حقًّا، فرأيت على وجهه اطمئنانًا دلَّني على أنه لا يصدق ما يقول، وهو يوَصْوِص عينيه كأنه يستجمع قواه ليتلقَّى الضربة؛ فهو من الذين لا يقولون لا أعرف، فصيح طبعًا، وكل فصيح لا يتلكَّأ عن الجواب أخطأ أم أصاب؛ فقلت: البارحة يا عمي بو حسن فكرت بأذني، وقلت: «لماذا لم تخلقنا الطبيعة بأذنٍ واحدة؟» وقد جرَّبت الأذن فوجدتها بعكس العين.
فقال: «وما سألت نفسك لماذا خُلِقنا بلسان واحد؟»
قلت: «خطر على البال هذا السؤال، ولكنه كان ضيفًا غير ثقيل.» فاستضحك وقال: «مع أن أذنيك غير كبيرتين.»
قلت: «وفهمت من العلم أنَّ الطبيعة خلقت العضو المعرَّض للخطر مزدوجًا، أما اللسان فمحفوظ بين بابين؛ واحد من لحم والثاني من عظم، ومع ذلك خُلِق واحدًا.»
فضحك العمُّ وقال: «بلا علم وبلا بطيخ، خرَّب بيوتنا العلم، ما خلَّى العلم ولا بقَّى، لا وجدان ولا ضمير.»
وسكتَ قليلًا كمن يُفتِّش عن حجة قاطعة مانعة، ثم ضرب بيده فخذي وقال مستهزئًا: «يقول العلم الأعضاء المعرَّضة للصدمات خُلقت اثنين اثنين، فما رأي حضرة العلم بالكليتين والرئتين؟ آه من العلم! إذا كان اللسان وراء بابين كما قلت، فالرئتان والكُلْيتان في صندوق. لا يا أستاذ، الله لا غيره خلق لنا أذنين وعينين ولسانًا واحدًا حتى نسمع كثيرًا ونرى كثيرًا ونتكلم قليلًا، فهمت؟ وضع العينين والأذنين على رأس الجبل — وأشار إلى رأسي — لتنظرَ وتسمع، ما رأيت أنهما — وأشار إلى أذنيَّ — على شكل قُمع؟ عُمِلا هكذا حتى يتدهور فيهما الكلام فلا تفلت منه واحدة.
أما اللسان فوضعه خلف بابين، خوفًا من أن يفلت هذا اللعين، ففلتة اللسان ما لها دين، في هذا السجن المظلم حبس الله اللسان لأنه أصل كلِّ شر ومنبع كل خير، وعلى صاحبه ألا يريه الهواء والنور إلا بعد ألف حساب.
أفهمت الآن لماذا خلق الله أذنين وعينين ولسانًا واحدًا لا غير؟ إياك أن تقول الطبيعة فيما بعد! الطبيعة خادمٌ مسخَّر للسيد يقول له: تعالَ ورُح. تصوَّر أن اللسان حرٌّ طليقٌ مثل الأذنين والعينين فماذا كان يعمل هذا المنحوس؟ إنه كان يقلق الأرض ويزعج الهواء حتى يكلَّ عن نقل ما يحدث من أصوات …»
ثم زفر بو حسن وتنهَّد وقال: «ومع كل هذا التحفظ الذي عمله الباري لصون اللسان، فإنك لا تقدر أن تُحصي مضارَّ اللسان، أصل الشرور كلها كلمة تفلت من اللسان؛ ولذلك قال المثل: لسانك حصانك إن صنته صانك.»
واستراح شيخي من محاضرته البليغة وقد أعجبه وقْع حديثه في نفسي فقال: «هذا علَّمني إياه الاختبار، أنا لا أعرف الألف من المئذنة ولكن من يُفكر يجد، في الدنيا بحر من العقد لا تُفكُّ منها عُقدة حتى تقع على عُقدةٍ أبشع منها.»
ثم قال متمهِّلًا: «أتظننا انتهينا من القضية التي شغلت بالك؟ خذ واحدةً ثانيةً: لماذا قصر الله المسافة بين الأذنين والفم، فهي ليست أكثر من مقدار كف؟ جاوبني على سؤالي.»
ففكرت بالجواب، ولكنه تعجَّل في الأمر وقال: «لا تُتعب نفسك، أنا أجاوبك يا أستاذ، وضع الله الأذنين على مقربة من البوز حتى يسمع الإنسان ما يقول، ومع ذلك فأكثر الناس لا يسمعون ما يقولون. كل هذه الأشياء تستحق التفكير، وهي لم تكن صدفة واتفاقًا؛ فهناك حكمة عُلوية صنعت كلَّ هذا.
وبعد كل هذا لست أقول إنني مصيب، ولكنَّ الله أعطانا عقلًا …»
وسمع صوت الجرس فقال: «قم كلِّم، هذا لسانه طويل، ولكنه لا يحكي إلا اللازم.» فقلت: «صدق المثل الذي أمر من ليس عنده كبير أن يشتري كبيرًا.»
فضحك وقال وهو يمشي معي: «هيهات! الكبار لا تُباع ولا تُشرى، السوق باردة.»