إذا هبَّت رياحك فاغتنمها
إذا زرته عند انتشار النهار رأيته في فراشه متمطِّيًا بصلبه كأنه ليل امرئ القيس، يتقلَّب يمينًا وشمالًا كالمريض في دور إبلاله، وإذا تحدَّثتما وسألته عما كسبه أمس تأوَّه وتألَّم وقال لك: «حظنا قليل.»
تفرَّس فيه قليلًا ترَ أنامل الكسل تداعب وجهه الناعم، وهو مسترخي الأهداب، منكسر العينين يحلم بالعظائم، يتنهَّد كأنه يشكو سوء حظه، وأشعَّة الشمس تمدُّ إليه حبالها من خلال السُّجف لتنشله من لجَّة الأحلام، فيفتح عينيه نصف فتحة ليحاور نفسه قائلًا: أقوم الآن؟ كم الساعة؟
ويلتفت إلى المنبِّه فيرى أنه قريبٌ من الميعاد، ولكن الوقت لم يحن بعد فيخاطب نفسه قائلًا: بعد ربع ساعة. وينقلب على جنبه الآخر ويستدير في فراشه إن كان الزمن شتاء ليستأنف نومة هانئة لذيذة، ثم لا يستيقظ إلا على صفير القطار أو عزيف جن زمارات السيارات، فيهُبُّ إلى الانزلاج في بنطلونه، وهيهات! … الوقت قد فات، وها هو قد وصل، ولكن ليسمع التبكيت إن كان مأمورًا، أو ليبكِّت نفسه إن كان من ذوي الأعمال الحرة.
ينتظر صاحبنا وهو متهدِّل في فراشه أن يأتي إليه الرغيف سعيًا على الوجه أو مشيًا على الرأس، فلا يدري حضرته أن الأرض وما عليها وما فيها والسماء وأجرامها لا تقف قط عن العمل، ولا تضيع ثانية واحدة من الوقت.
كم من فرصة مرت بباب هذا الذي يشكو قلة الحظ ورأته مُحكَم الإقفال فلم تستطع الدخول، فراحت في طريقها تُفتِّش عمن هو في انتظارها ليقبض عليها بيديه الثنتين ويضمها إلى صدره ضمة عاشق منتظر! كثيرون منا ينتظرون أن يأتيهم رزقهم رغَدًا، وأن ينزل عليهم الرغيف في قُفَّة من فوق، وقد فاتهم ما قاله أحد رجال الفكر: «إنَّ خير الرجال هم من لا ينتظرون أن يجيئهم الحظُّ إلى البيت، ولكنهم يهاجمونه ويحاصرونه ليتغلَّبوا عليه ويجعلوه خادمًا لهم.»
فالقول بالحظِّ وعدم سنوح الفرص واقتناصها حجة لاجئ إليها خائرو الهمم، هؤلاء الذين وصلوا متأخرين جدًّا حين وزَّع الله الحزْم على عباده، فليتهم يتذكَّرون قول شاعرنا العظيم: «على قدر أهل العزم تأتي العزائم.» فيفيقوا من ثبات كسلهم، فلا يَدَعون الفرص تدخل بيوتهم من الباب وتخرج من الشبَّاك.
يزعم مصنِّفو الأساطير أنَّ الفرصة صلعاء من خلف ولها شعر طويل من قُدَّام، فإذا جاءتك وتشبَّثت بناصيتها فذاك، وإلا فلا.
وبعد، فما هي الفرصة؟ إنها كل عمل نتقنه، وكل أمانة نؤديها، فكل سعيٍ صادقٍ نسعاه هو فرصة تفتح لنا باب الفلاح، فأي رجل منا إذا حاسب نفسه وفكَّر تفكير رجل يريد أن يكون شيئًا في الحياة، لا يتذكَّر أنه أضاع فرصة ما لو كان أحسن الاستفادة منها لغيَّرت تاريخ حياته، بل ربَّما غيَّرت مجرى حياة كثيرين غيره ممن يعملون معه. إننا نتذكَّر تلك الفرصة التي تفلت منا بالحزن والأسف ونهتف قائلين: آه! لو كنا عملنا كذا لصرنا كذا وكذا، لو لم نتأخر خمس دقائق ما فاتتنا الغنيمة الفلانية، قد أدركها فلان فأصبح اليوم من الأغنياء العظام وقَبَرَ الفقر.
افحص ضميرك يا صاحبي تتذكر جيدًا أنك كثيرًا ما سمعت شيخًا أو كهلًا أو شابًّا — ولعله أبوك أو عمك أو أخوك — كان يردِّد أمامك: «فاتتني الفرصة الفلانية.» فليتك تتعظ ولا تدع الدقيقة الخصبة تفوتك. إنني أراك تتململ في فراشك وأسمعك تقول: هيهات! ذاك شيء مضى وراح، أما أنا فأقول لك: ما راح شيء غير حزمك وعزمك، وإن ظللت تقول هكذا فإنك ستظل حيث أنت.
كثيرًا ما نسمع الكثيرين يقولون: الزمن الذي واتى فلانًا حتى حكم أو اغتنى أو أنشأ ما أنشأ قد ذهب ولن يعود. بيد أنَّ الأيام ترينا في كل فترة أنهم مخطئون، أما نسمع كلَّ يوم بأشخاص اغتنموا الفرص ولم يُضيِّعوا الوقت فنالوا ما تمنوا، ولم يُقصِّروا عمن كنا نظنُّ أن الزمان لن يأتي بمثلهم؟ فالذي يسمونه اليوم «انقلابًا» ما هو إلا فرصة يكتسبها عصاميٌّ استولى على المبادرة، أما من ينام على صوف منتظرًا ورقة يانصيب فهو لا يصيب خيرًا، إنه أبله يؤمن بالفرص البلهاء، ولن يُفلح ولو ربح.
ليتك تعرف كيف أَثرى روكفلر، كان هذا المثري العظيم في بادئ عهده أحد ثلاثة ألَّفوا شركة لتصفية النفط، فأخذ أحد الشركاء الثلاثة واسمه أندروز يتذمَّر ولم يصبر حتى يفيض الخير، فسأله روكفلر: «بكم تبيع حصتك؟»
فأجابه أندروز: «بمليون دولار.» فقال روكفلر: «اشتريت.» وما مضت أربع وعشرون ساعة حتى دفع روكفلر المبلغ المرقوم إلى شريكه أندروز قائلًا له: «أفضل جدًّا أن أشتريها منك اليوم بمليون ولا آخذها فيما بعد بعشرة ملايين.»
إنَّ تلك الفرصة هي التي عملت روكفلر وصيَّرت منه ذلك المحسن الذي نسمع كلَّ يوم بفضله ومعروفه، وهي التي محت اسم شريكه أندروز من سِفْر أصحاب الثروات الضخمة والمحسنين. والفرص التي تفوتنا — نحن الشرقيين — هي التي جعلت منا قومًا اتِّكاليِّين ينفقون ما يملكون، وينتظرون فتح باب الفرج القريب.
يقول المتكاسل المتواني: «تِفرج إن شاء الله.» وينسى حضرته أنه هو أيضًا له مشيئة. إنَّ تربيتنا الأولى هي التي تقف عقبة في سبيلنا، تربية ترهُّل واسترخاء تنشأ في البيت، وتشبُّ في المدرسة، وتكتهل وتشيخ في معترك الحياة.
فإذا رأيت فتًى بطيء الحركة، قليل الاحترام للنظام، بارد الدم، لا يغامر في اقتناص الفرص السانحة، بل يدعها تمرُّ بسلام؛ لأنَّ صيدها عنده حرام؛ فقل: إن الحق على والديه؛ لأنهما لم يُجبراه على السعي والتدقيق في صباه.
لم تُبقِ له تربيته الناقصة إلا التفكُّر بالغد، فالعمل المطلوب منه إنجازه اليوم يُرجأ إلى الغد أو ما بعد الغد، وهكذا يقتل الوقت متردِّدًا، وهو لا يدري أنه يقتل الفرصة التي يشكو عدم سنوحها.
إنَّ المتيقِّظ يفلح ولو متأخِّرًا، أمَّا الساهي اللاهي فالفلاح منه بعيد.