موسم الرحمة
أرادوا أن يُحدِّدوا الإنسان فقالوا: إنه حيوان ناطق ضاحك مستوي القامة، ولعلِّي أرى أن أحدِّده غير تحديدهم فأقول: إنه حيوان محسن رحيم. ما رأيت حيوانًا يجود على حيوان بما عنده، أو يدعوه إلى مأدبة يعدها له، ما رأينا غير الإنسان من المخلوقات يفعل هذا، فلنكن إذن إنسانيِّين.
إنَّ الذكريات الراقدة في أعماق النفس تستيقظ في هذه الأيام وتوقظ معها الغضب والسخط، فماذا نفعل لنُرقد تلك المشاعر في مكامنها فلا تجيش ولا تثور؟ إنَّ إنسانيتنا تدعونا إلى قضاء ثلاثة حقوق لها قِبلنا، ففي مجتمعنا اليوم ثلاث فئات يجب علينا أن نُفكِّر بها تفكيرًا جديًّا: الأولى فئة الطارئين الذي أُخرجوا من ديارهم، والثانية فئة البؤساء البلديين، والثالثة فئة العائلات المستورة. فماذا نعمل لنرفِّه عنهم كما يقولون؟ فالرفاه لا يخطر ببال هؤلاء ولا ببال الكثيرين منا، بل لنقدِّم للفئتَيْن الأوليَيْن خبزًا يسندون به قلوبهم، وثيابًا تُدفي جلودهم وتستر عوراتهم. إنَّ رؤية أمثال هؤلاء لشاهد صارخ على قساوة القلب وحبِّ الذات وبغض الغير، والمجتمع الذي هذه هي صفاته لا يستحق التهنئة والشكر.
كم رأيت وسمعت أناسًا يشكون موجة البرد القارس وقد حصَّنوا أطرافهم بكلسات الصوف وقُفَّازات الجلد المبطَّنة، وصدورهم بقمصان الفانلا السميكة، ثم لبسوا فوقها ما لبسوا، وأخيرًا تدرَّعوا بالبردويسهات السوابغ، ومتى عادوا إلى دورهم وقصورهم فهناك التدفئة الكهربائية والشاي الساخن والكونياك والويسكي وحرامات الصوف وأكياس المياه المغليَّة التي تسبقهم إلى الفراش ليصير أهلًا لاستقبال أجسادهم الناعمة.
نومة الهناء يا سيدي، ولكن أرجوك عندما تندسُّ في ذلك الفراش الوثير وتسترخي ليلتك على فرد جنب، أن تعيد النظر في أحلامك حين تستيقظ، أمَا أبصرت في نومك أشباح البائسين الذين مرُّوا بك في النهار فحوَّلت عينيك عنهم؟ أما جاءوك حين لا تستطيع أن تشيح بوجهك وقالوا لك: تذكَّر أنك كنت مثلنا أو نحن كنا مثلك وقد تصير مثلنا، فماذا أعددت لنا في هذه الأعياد لنسأل الله أن يعيدها عليك؟
وذاك المهاجر، أو اللاجئ كما يسمونه، العريان المقرور، أو المريض المصدور، الجوعان الذي يدور على المخازن والقهاوي والدور، ألم يرعبك منظرُه؟ ألم يُفسد مشهده أحلامك الذهبية؟!
وإذا سمعت أولادك يقولون: أح، برد! وهم حول مدفأة تهمهم، هل تذكَّرت ذاك المنكوب وأولاده العراة، وذاك البائس البلدي الذي له مكان يسند إليه رأسه، ولكنه في حالة اللهيف، وأحوج الناس إلى الرغيف؟ هل تذكرته وأنت تفطر على القهوة والحليب والبيض والبسكوت والكاتو والشوكولا والكنافة والتفاح والليمون؟ إنه محتاج أيضًا إلى ما يلفُّ به جلده المقشعرَّ، فقم حالًا وفتِّش في زوايا خزانتك أو في مستودع سقْط المتاع، وابعث إليه ببالطو أو بنطلون أو بوط أو مشَّاية، ومهما كانت عتيقة فهي خيرٌ من لاشَ.
إنَّ في بيتك خبزًا عتيقًا لا تطعمه الست إلى كلبها الأثير خوفًا عليه من تلبُّك المعدة، فابعث به أنت إلى من حولك من المساكين.
اليوم، تمامًا، بدْء فصل الشتاء، والبرد مقبل علينا بطبلٍ وزمْر، فقابله أنت بشيء من فضلاتك، فحولك جيران بائسون، وفي المضارب والخيام إخوان لنا يكاد الخوف يميتهم، فهُبَّ أيها الكريم إلى نجدتهم بما عندك مما ينفعهم ويخفِّف بلواهم، وليس على الكريم شرط.
ستُذكِّرهم الأعياد كيف كانوا ينعمون في بيوتهم في مثل هذه الأيام، فتكبر مصيبتهم ولا يخفِّف من حدَّتها غير مؤاساتنا لهم، فماذا تريد أن تفعل؟ لا بدَّ من أن تفعل شيئًا، فالمثل يقول: «قلِّلها ولا تقطعها.» وهناك أيضًا عائلات مستورة بلدية وطارئة، كانت هذه العائلات قبل أن زالت عنها النعمة — لا تنسَ هذه الكلمة — تحسن وتتصدَّق وتتبرَّع، ولكنها اليوم محتاجة، فضع اسمها في قائمة من تريد أن تُحسن إليهم، من يُنكر أن معظم هذه العائلات المستورة لم تكن إلَّا دعامة راسخة، وقد تركت بسقوطها فراغًا عظيمًا لا يملؤه أيٌّ كان من الناس؟ فطالما كانت عضُدًا للفقير، وساعدًا للبائس، وعونًا للضعيف المسكين، بل وكم انتشلت بحسناتها من التُّعَساء الذين أنشب بهم الفقر مخالبه. ولكن الدهر جار وأبى أن تظلَّ هذه البيوتات الكريمة غارقة في النعيم فهَوَت إلى الحضيض، وليس لها بسْطة كف تستعين بها لتقوم من سقطتها.
إنها صابرة على نُوَب الزمان، وتأبى عليها عزتها الأصيلة أن تموت صغيرة. لم يطرأ على هذا العنصر الكريم ما يفسده عند فقد المال، فكان كالذهب الذي لا يأكله الصدأ وإن طُرح بين الأقذار، وما أمرَّ حياة مَن سقط مِن عرش النعمة إلى حضيض الشقاء! وقد صوَّر هذا شاعرنا العربي حين قال:
ففي هاتيك البيوت حاجة صامتة، وبين تلك الجدران فقرٌ لا يرفع صوته، فلا يد تُبْسط على قارعة الطريق، ولكن العيون تتكلَّم فكن ممن يفهمون لغة العيون.
اعتبر أيها السيد وأشفِق على هذه الطبقة من الناس، فربَّما وصل الموسى لذَقْنك، من يدري يا سيِّدي؟
فليت كلَّ سامع يبحث في محيطه عن هؤلاء؛ ليبذلَ ما يستطيع لهذه الأسر المسكينة، ولا يتركها كما ترك خزيمةَ بن بشر أصدقاؤه بعدما أنفق عليهم ماله، وأبى أن يخرج من بيته فقيرًا حتى يقرع الموت بابه ويُخرج درَّة تلك النفس الأبية من صدفها، فلنكن كعكرمة الفيَّاض الذي حمل إليه تحت جنح من الليل كيسًا من الدنانير ولم يشعر بذلك أحدًا.
إنَّ في صدر تلك الفئة تختلج نفوس لم تتعوَّد الصَّغَارة، إنها تكتم داءها والكتمان يزيده هياجًا، وتُخفي آلامها المبرحة والخفاء يضنيها، فإلى أمثال هؤلاء نلفت أنظار الجمعيات الخيرية ونسألها التفتيش والبحث عنها.
- (١)
بعض التقنين لكلابكم.
- (٢)
استغنوا عن لونٍ من ألوان ولائمكم، وليكن ديك الحبش رطلين بدلًا من أربعة.
- (٣)
استبدال مشروب بمشروب.
- (٤)
أعطوا من فضلاتكم وعتيقكم، ولا تتذرَّعوا بقول المثل: «احفظ عتيقك جديدك لا يبقى لك.»
- (٥)
بدلًا من اللوج اقعدوا على كراسي في السينما والمسرح.
- (٦)
بدلًا من مصارفات التزحلق البعيدة، اقصدوا إلى أماكن قريبة وزحلقوا الكربة عن صدور البائسين.
- (٧)
بدلًا من أن تهدوا أولادكم أعطوهم ليهدوا ويتعلَّموا الإحسان.
- (٨)
بدلًا من دعوة الوجوه والأعيان ادعوا الفقراء ولو مرة، ليخفَّ سخطهم، ولا يدعون عليكم.
- (٩)
بدلًا من أن تبيع عتيقك بثمن لا يزيد ولا ينقص ثروتك، بعه إلى الله إن كنت تؤمن بأنه يجازيك خيرًا.
- (١٠)
إذا كنت لا تخاف الله فخف دورات الزمان، واحسب حسابًا لدعوات البائسين، واجتهد أن تكون معك لا عليك، واسمح لي أن أقول لك سرًّا: بلا ليلة قمار يا سيدي، وبلا … وبلا … إلخ.
واعلم أخيرًا أن ثروة لا يُنفق منها في سبيل البر والإحسان لهي شوكة في عين الإنسانية، وبصمة عار على جبينها.
إنَّ بيتًا تخرج من أبوابه الأرغفة، تدخل من شبابيكه وطاقاته النعمة، فلا تغلقوا أبوابكم لئلا يغلق الله باب نعمته عليكم.
الزكاة في الإسلام والعُشر في المسيحية فُرِضا للإنماء والتخمير، ولو روعيا ما كان في الدنيا فقير، وما كانت هذه الثورات الفكرية.
لحكمة أزلية خُلقت حبة الحِنطة مقسومة، لك نصفها والنصف الآخر لأخيك المحتاج. هكذا قال فيلسوف المعرَّة.
كن محبًّا، فالمحبة الخالد فينا تُغذِّي روح الخليقة جمعاء، وبإرادتها تحوِّل كل عشبة عروقها الخضراء نحو الشمس.