أتكون آلة تُدار؟
كانوا إذا امتدحوا رجلًا بالذكاء وأصالة الرأي قالوا: «فلانٌ داهية.» و«فلانٌ من دهاة العرب.» ومتى قالوا هذا أرادوا أنه يدبر أموره ويفصِّل شئونه بعقله لا بيده، وهل كان معاوية بن أبي سفيان معتمدًا على السيف والرمح والعَدد والعُدد حين قال: «لو أمسك العرب بطرف الشعرة وأمسكت أنا بطرف ما تركتها تنقطع بيننا، فإن أرخوْا شددت وإن شدُّوا أرخيت.»
إنه لم يقل كابن كلثوم:
ولكنه اعتدَّ برأيه وحصافته، وبهما وطَّد أسس المملكة الأموية وسكتت دنيا العرب بين يديه.
إنه لا يُطلب منك يا أخي أن تكون كنوابغ العالم علمًا ومعرفة لتُمسي داهية، فقد تكون صاحب عقل عادي وتكون داهية، بينا يكون جارك الثاقب العقل الواسع العلم مقصِّرًا عن مجاراتك في الحياة، لعلك تبيعه وتشتريه كما نعبر اليوم، وتأخذه منه وتردُّه عليه كما عبَّر القدماء، ثم لا يُحسُّ ولا يشعر! فالدهاء هو حسن تصريف الشئون وإتيان الأمور من أبوابها، فرُبَّ تلميذ كان متفوِّقًا على جميع رفاقه في المدرسة ثم قصَّر عنهم في مضمار الحياة، فقضى عمره شقيًّا بائسًا يجري والرغيف في المضمار فيقطع الجري أنفاسه، ويبيت على الطَّوَى كصاحبنا ابن الرومي.
فالأسد، مع ما اتصف به من قوةٍ وبطشٍ، قد تصطاده بسهولة؛ لأنه لا يُحسن تدبير أمره، أمَّا الثعلب فقد يعييك في التواءاته ولفِّه ودورانه.
قال فيكتور هيجو: «سأل برهما القوةَ: أي شيء أقدر منكِ؟ فأجابت: الدهاء.» نعم، إنَّ الدهاء يخلق الفرص، أمَّا فقدانه فيضيعها، فمن لا يعرف أن يطبِّق سلوكه على مقتضيات زمنه فهيهات أن يبلغ أصغر أمانيه.
إنني أراك يا عزيزي تغضب لأقل بادرة تعترض طريقك، فما أراك تتغاضى عن أتفه الأمور، بل قد تخوض عدة معارك قبل أن تبلغ مركز عملك، إنَّ هذا يا صاحبي ليس من الدهاء والحنكة في شيء، فهناك إساءات تُداوَى بالإعراض أو بالابتسامة أو بكلمة باردة، أمَّا أنت فتحشد لمنازلتها جميع قواك وحواسِّك فتخسر المعركة تاركًا فيها وقارك وكبرياءك أشلاء مبعثرة، ولو كنت داهية لداويتها بغير هذا الدواء.
قال مونتسكيو: «إنَّ الله لمَّا رزق الناس عقولًا لم يقصد أن يكفلهم، فالدهاء هو أن تلجأ إلى عقلك في كل موقف، فتعالج به أمورك معالجة الحكيم.»
قال المتنبي في مدح صاحبه سيف الدولة الذي حاز إعجابه:
ألا ترى معي أنَّ المتنبي وبرهما متفقان على أنَّ الرأي الحصيف السديد خيرٌ من القوة في المواطن التي تَعرِض لك كلَّ يوم؟ فاسمع من عبدك الفقير ولا تلجأ إلى باعك وذراعك إلا عندما تُضطرُّ إلى ذلك اضطرارًا كليًّا، أي عندما تجدك في مضيق لا يخرجك منه إلا سلاح الحجاج بن يوسف: «وترٌ مثل ذراع البكر أو أشد» …
أمَا عندك لسانك وعيناك وفمك؟ فربَّ كلمة حلوة أو نظرة استخفاف تروي ما بك من ظمأ إلى البطش، وتُغنيك عن المصارعة والملاكمة!
وإذا اضطررت إلى اكتساب ميل الناس، فانحُ نحو إبراهيم لنكلن معهم، رُوي عنه أنه لمَّا رشَّح نفسه لعضوية المجلس الاشتراعي كان لا بدَّ له من الدعوة لنفسه، فذهب إلى مزرعة فيها ثلاثون رجلًا فوجدهم جميعًا في الحقل يحصدون، فتوجَّه إليهم وهو لا يدري عن أيَّة ناحية من نواحي برنامجه الإصلاحي يحدِّثهم ليربَحهم، أمَّا هم فلم يسألوه عما يرمي إليه من تنظيم الشئون الداخلية، ولكنَّهم رغبوا في أن يعرفوا قوة عضلاته ليتيقَّنوا من أنه سيمثِّلهم في المجلس أحسن تمثيل، فما كان منه إلا أن أخذ المنجل من يد أحدهم وهاجم الزرع فلم تبق سنبلة قائمة على ساقها، وهكذا منحه الثلاثون فلَّاحًا أصواتهم وفاز.
تُرى لو لم يكن لنكلن داهية وقعد يحدِّث هؤلاء الفلَّاحين عن القوانين والمُثُل العليا، فأي نجاح كان قد أصاب عندهم؟
إنَّ البراعة في العلوم والنظريات قد يخفق صاحبها كثيرًا، وأما الدهاء إذا اقترن بالموهبة الفطرية فقلَّما يخفق، البراعة قوة والدهاء فطنة وحيلة، ومهما كانت قوتك فإنك لا تستطيع اقتلاع صخر كبير، أمَّا التجاؤك إلى «المُخْل» فيهوِّن عليك اقتلاع ما هو أضخم منه وأكبر.
أريد أن أقول إنَّ الدهاء في تصرفاتنا الاجتماعية يشبه هذا النوع من علوم الفيزياء، فرأي جيد يحطُّ عن منكبيك جميع الأثقال التي لا تستطيع قوتك وعملك النهوض بها مهما كانت.
إنَّ البراعة والذكاء شيءٌ معيَّن، أمَّا الفطنة وجودة الرأي فكل شيء، وليس الدهاء بحاسة سادسة كما يقولون، ولكنه الحواسُّ كلها مجتمعة، بل هو مِلَاك هذه الحواس جميعًا.
لا تعتمد على ما قرأت وتقرأ من نظريات وعلوم في الكتب، واعلم أنَّ الكثيرين من العلماء والفلاسفة العظام لا يحسنون التصرف في الحياة، فاعتمِد أنت على الرأي والفطنة فهما مصباحا الحياة، وإذا سرت على ضوئهما أمِنت العثار، وحُزت ثقة من تعاونهم إن كنت تعمل عند غيرك. إنَّ ربَّ العمل يتطلَّع دائمًا بالنظارة المكبِّرة إلى عماله، فهو يغربلهم وينخلهم في كلِّ آونة، ويُفتِّش دائمًا لتقع عينه على من يستطيع أن يحمل عنه أعباء التدبير التي تُثقل ظهره.
ليتك تُريه دهاءك وحصافتك لتكون العُضادة التي يعتمد عليها بنيانه، أمَّا إذا لم تكن مع ما مُنحت من طولٍ وعرْضٍ غير آلة تُدار، فاعلم أنَّ مصيرك كمصيرها! هل سمعت أن آلة ارتقت؟
إذن أنت يا صديقي تجاه أمرين لا ثالث لهما: فإمَّا أن تكون داهية فتُدِير، أو بليدًا فتُدَار، فتدبَّر أمرك واختر لنفسك ما يحلو.