إنَّ المجد مبتدَر
هذا ما قاله جرير حين نقض رائية قِرنه الأخطل، وكثيرًا ما كنا نسمع في الحرب الأخيرة قول الفئتين المتحاربتين: «قد استولينا على المبادرة.» فما هي المبادرة؟ وأية فائدة تُجتنى منها؟
إنَّ من يقتل الوقت بين إحجام وإقدام يقدِّم رجلًا ويؤخِّر أخرى، يظل حيث هو في غمرة طريق الحياة؛ إذ ليس في ساعة الزمان الكبرى إلا دقيقة واحدة اسمها «الآن»، أمَّا «غدًا» فقد حدده الشاعر العربي بقوله:
وأنا أشهد أني في أثناء سبعين عامًا مرت على رأسي، ما رأيت هذه الحامل تلد إلا مسوخ خيبة ويأس. قال قدماؤنا: «في التأنِّي السلامة.» وقالوا أيضًا: «العجلة من الشيطان.» ولكني رأيت الإبطاء يضيع الأماني الكبيرة ولا يُخلف غير الأسف والحسرات.
قال أحد أعلام العالم إنَّ من يسير في شارع «رويدًا رويدًا» يصل حتمًا إلى منزل «أبدًا»! أمَا رُوي عن امرئ القيس أنه قال عندما بلغه نعيُ أبيه: اليوم خمرٌ وغدًا أمرٌ؟ فما أصاب، وماذا أدرك؟ فلو كان هبَّ من فوره لأدرك ذلك المجد المؤثَّل والمُلك الذي حاوله فمات ولم يُعْذر.
إنَّ ما كان يقتضينا سفر شهر أصبحنا ندركه في ساعات، فهل يليق بنا أن نتراخى؟ قال أحد المشاهير العاملين: «إنَّ السؤال الوحيد الذي أوجِّهه إلى نفسي هو: ماذا أعمل؟ ومتى تلقَّيت جوابًا عليه سألت: وما الذي عليَّ أن أعمله بعد ذلك؟»
قالت العرب: «اضرب ما دام الحديد حاميًا.» وهذا سرٌّ من أسرار الفلاح. قال كوتون: «تقول غدًا، وهذا لا أريد سماعه، فما الغد إلا محتال يرهن فقره عندك، ويأخذ ما لديك من المال ولا يدفع لك إلا آمالًا ووعودًا، وهذه نقود الحمقى.»
ما أصدق المثل العامي الذي لم يدع شأنًا من شئون الحياة إلا عالجه ببساطة رائعة، قال: «حقل غدًا بور ولو كان المحراث فيه.»
فالغد مدة لا أثر لها في شيء من سجلات الزمان إلا في تقاويم المجانين. أما الحكمة فإنها تنكر هذه الكلمة، والمجتمع لا يتعامل مع الذين يتخذونها رأس مال لهم، هي ابنة المخيِّلة، والجنون أبوها، منسوجة من المواد التي تُنسج منها الأحلام، فكم من رجلٍ عاش على رجاء الغد فلم يظفر بغير الحرمان!
قال أحد الكُتَّاب المشهورين: «السرير مجموعة ألغاز، فنحن نذهب إليه محجِمين، ولكننا نتركه آسفين، وفي كل مساء نعقد العزم على أن ننهض باكرًا، ولكننا نبقى فيه كل صباح متأخرين.» وفي حديثٍ شريف: «باكروا في طلب الرزق والحوائج، فإن الغُدوَّ بركة ونجاح.»
يرينا تاريخ نابليون أنه كان يعمل دائمًا، ويحاول أبدًا أن يكون مستوليًا على المبادرة، كما نعبر اليوم. كان يعلم أنَّ الضربة لمن سبق فاستغل هذه المعرفة إلى أقصى حدٍّ ممكن، رُوي عنه أنه دعا مرة أركان حربه لتناول الغداء على مائدته فأبطئوا عليه، فجلس وحده إلى المائدة وأكل، وما انتهى من تناول طعامه حتى جاءوا فقال لهم: «أيها السادة، مضى وقت الغداء، فهيوا بنا إلى العمل.»
إنَّ البطءَ والتراخي دليلٌ على نقصٍ في الطاقة، ومن لا يتحمَّس لعمله فهيهات أن يُنجزه بالسرعة المطلوبة. إن الإمبراطورية العربية التي استولت على الشرق والغرب لم تكن إلا بنت المبادرة والعجلة والحماسة، فالتأنِّي فيه الندامة لا السلامة متى كان في غير إبَّانه.
فإلى الشباب أوجِّه هذا الحديث ليفيقوا من سُبات تراخيهم.
قال رسكن: «إنَّ أبدع الآثار الفنية إنما عُملت في سن الشباب.» وقال آخر: «إنَّ مصالح العالم هي — بعد الله — في أيدي الشبان، فحماسة الشباب هي التي تُذلِّل الصعاب وقلَّما حازت أمة انتصارًا بغير سواعد شبابها المتحمِّسين، الذين يندفعون كالتيار وتومض عزائمهم كالبرق في الليالي المدلهمَّة فتشقُّ الطريق للصواعق.» وحسبنا قول طرفة عن نفسه:
قد يقول لي بعضهم: وأي رأس مال عندي لأعمل ما تطلبه مني؟
أما أنا فأجيبه: عندك يا حبيب القلب إرادتك وحماستك، أما سمعت قول المتنبي:
ألا ترى قامتك الممشوقة وساعدك المفتول؟ وإذا لم تصدِّقني فعليك بالمرآة. وبعدُ، فأي رأس مال كان لإديسون الذي أنار الدنيا، ووضع الزاوية العظمى في بناية أمريكا الصناعية؟ أما كان بائع صحف كهؤلاء الذين تراهم يطوفون الشوارع ويزعجون الناس بصراخهم، ويسيحون في الطرقات منادين على جرائدهم ليبيعوها ويكسبوا قوتهم اليومي.
كان إديسون يبيع الجرائد في السكك الحديدية ويعمل في مختبره الكيماوي حين يفرغ من بيع المسافرين صحفه. وبينما كان يختبر مرة تعوَّج القطار، انكسرت قنينة حامض كبريتي وانبعثت منها رائحة كريهة، فلم يُطق ذلك صاحب القطار فقذف بإديسون إلى الخارج بعد أن لكمه لكمة على أذنه، فأصمَّت من أسمع الناس الأغاني حيث شاءوا. ولكن ذلك الجبَّار لم ييأس وظل يكدُّ ويجدُّ حتى وصل إلى ما وصل، ولمَّا سُئل عن سر نجاحه أجاب: «إن سرَّ نجاحي ينحصر في مبالغتي اجتناب المسكر والاعتدال في كل شيء ما عدا العمل.» أمَّا أنت يا صاحبي فتريد أن تكون مثله وأنت تعاقر الخمرة وتقضي وقتك في اللهو.
قال دزرائيلي الوزير العظيم: «إنَّ ما حدث في الماضي من العظائم يمكن عمله في المستقبل، فما أنا بعبدٍ ولا أسير، وفي وُسعي أن أتغلَّب بالعزم والثبات على مصاعب أعظم من التي أنا فيها.»
وفيلسوفنا الفارابي لم يكن له رأس مال إلا عزمه وثباته، فكان يسهر الليل للمطالعة والتصنيف مستضيئًا بقنديل الحُرَّاس.
فكم من رجالٍ بدءوا جهادهم في معترك الحياة ورأس مالهم لا شيء! وكم من مهاجرٍ جاب مجاهل أمريكا على رجليه ليكسب القرش! فكم لاقى من مشقَّات! وكم استقبل من صدمات! ومع ذلك لم يفتر عزمه، وظلَّ يجاهد حتى استقرَّ أخيرًا على كرسيِّه فصار مخدومًا بعد أن كان خادمًا. فأي رساميل أو رءوس أموال حمل مهاجرونا إلى دار غربتهم، حيث زاحموا أهل الوطن في أرضهم؟ إنهم لم يحملوا في حقيبتهم شيئًا؛ لأنهم ذهبوا بلا حقائب … ذهبوا وما عليهم غير ما يلبسون، ولكنهم بكدِّهم واجتهادهم شادوا المعامل والمصانع التي كست العراة وأطعمت الجياع، ورفعوا اسم أبناء جنسهم عاليًا.
إذن لا تقل لي ليس لديَّ رأس مال لأبادر، فرأس مالك عقلك، ورأس مالك حزمك وعزمك وجرأتك.
إنَّ الحياة فريسة المجتهد النشيط، فتسلَّح بهذه المزايا تربح المعركة، معركة النضال في حرب المعاش.
نحن الشرقيين نحيا غالبًا اتِّكاليين، وأصحاب الثروة منا يبدِّدونها معتقدين أنها خالدة لا تزول؛ ولهذا يسابقنا الغريب في أراضينا على الثروة فنقعد حسيرين ملومين، فلو تنبه أبناء البيوتات منا لما صاروا إلى ما صاروا إليه.
إنَّ العمل الدائم هو رأس مال لا يفنى، أمَّا المال المخزون فمصيره إلى النفاد، فبادر إلى العمل، ولا تصمُّ أذنيك عمن يناديك كل يوم خمس مرات: «حي على الفلاح.»