شعرة من شواربك
كانت الكلمة في ذلك الزمان تُغني عن السند المسجَّل وصكِّ الطابو، إذا قال لك أحدهم: بعتك، خرج المبيع من يده مع تلك الكلمة وصار مِلكًا لك.
ولهذا نقرأ في تلك الوريقات الموروثة عن جدودنا: «حضر فلان مجلس عقده وباع من فلان قطعة الأرض المعلومة الحدود … إلخ»، كان ختم محكمتهم ضرب الكف بالكف، ومتى ارفضَّ المجلس ثبت كل ما قيل فيه وكأنه كُتب بأصبع الرب! وكم من رجلٍ من أولئك الأفاضل ذهبت بعقاره كلمة قالها.
كنت إذا ثنيت الكلمة على رجل وعدك اشمأزَّ وقال لك بغضب: الرجال تُربط بألسنتها لا بقرونها.
كانوا يدينون في خلوة ويحذِّرون الدائن من البوح بالسر، حتى إذا ما حان الأجل المضروب عاد إلى صاحبه سرًّا؛ ولذلك لم يعرفوا الأزمات، وعاشوا مكفيِّين مستورين يتداولون المال الحلال الزُّلال، من معه يُعطي من ليس معه.
ودارت الأيام دورتها وذهب الذين كانوا يفزعون من حمْل الأمانة، فكثر المرابون وكثرت إلى جانبهم عُصَب المحتالين، فلجأ الناس إلى السندات، ثم إلى الرهن بجميع ضروبه، وغلا سعر الفائدة حين قلَّ الصدق بين البشر، فصار ولا بدَّ للمضطرِّ إلى مبلغ ما من تأمين موجع الثمن وإلا فلا تصل يده إلى ما يرفِّه به عن عياله وحاله.
وضاقت بأحد الفلَّاحين المستورين الحال فلم يجد ما يرهن، ركبته العيلة فباع كلَّ ما يملك إلا البيت، والبيت كما يقولون في لبنان: «أول المقتنَى وآخر المبيع»، كان هذا الرجل من أصحاب القول، كما يسمون الصادق عندنا، فذهب إلى أحد الميسورين وقال له بعينٍ مكسورة ولسان يتعثَّر بالكلمات: «يا بو مجيد، أنا محتاج إلى مائة ليرة عسملِّيَّة، وليس عندي ما أرهنه لك، لا عقار ولا عفش ولا مصاغ، نفقنا يا عمي والجبر على الله.»
فقال له أبو مجيد: «الغالي يرخصلك، وإذا طارت الأرزاق فالنفس ما زالت في موضعها، ثقتي بك كبيرة، المائة عسملية حاضرة، لا ترهن عندي غير شيء بسيط جدًّا شعرة من شواربك!»
فتنهَّد أبو يوسف وقال: «شعرة من شواربي يا بو مجيد؟! الشعرة من شوارب بو يوسف شيء بسيط جدًّا.»
فقال له أبو مجيد: «ماذا تريد؟ فلان لم يدفع لي إلا بعد دعوى دامت سنين، وفلان رهن لي عقارًا كان باعه من قبل، وفلان الشريف النظيف أنكر إمضاءه وما استحى، ألا يعجبك أنت أن ترهن عندي شعرة بمائة ليرة ذهبًا؟!»
– ولكنها شعرة من شواربي، فلو تأخرت أو عجزت عن الدفع ماذا تفعل بها، ألا تهينها وتسبها، ألا تبزق عليها؟ صعب هذا الرهن يا عمي. قال هذا وودَّع وانصرف ترافقه همومه.
كانوا في ذلك الزمان — وقبل حلق الشوارب طبعًا — لا يحلِّفون الرجل بدينه بل بشواربه، فإذا وعد قالوا له: «أمسك شواربك.» وإذا توعَّد هو يمسك شواربه، ومتى فعل لا يعود عن وعده ولا وعيده، ومهما حاولت أن تزحزحه عما قال يقول لك: «غير ممكن، أمسكت شواربي.»
وإذا كانت هذه قيمة الشوارب، فكيف يرهن أبو يوسف شعرة منها لقاء مال العالم كله؟! وانتفض أبو يوسف وقال: «لا لا لا، هذا لا يكون.» والتَفَتَ يمينًا وشمالًا، وفوق وتحت، وخلف وقُدَّام، فما وجد منفذًا، الحاجة قصوى والعيال لا ترحم والبيت المفتوح يقول: «المعجن فارغ» إذن لا بدَّ من هذا الرهن.
وما كاد يعوِّل على ذلك حتى تمثَّلت كرامته أمام عينيه وصرخت به: «حيف على راعي الشوارب أن يرهن شعرة من شواربه، كل شيءٍ ولا هذا.»
وأخيرًا نام أبو يوسف، ولكن فكره لم ينم، قلَّب أمر الرهن على جميع وجوهه، وفي الغد الباكر كان عند أبي مجيد، فدفع له المائة الذهبية نقدًا وعدًّا، وأخذ منه تلك الشعرة الكريمة ولفَّها بورقة ووضعها في الصندوق موضع الذهبات وهو يقول: «قدَّرك الله على الوفاء!»
ولمَّا دنا الأجل ساعدت الأحوال أبا يوسف ورجعت الشعرة إلى قواعدها سالمة من الأذى.
وسمع أحد أغنياء البلد — وكان معسورًا — أنَّ فلانًا رهن شعرة برشاء وأخذ بها مائة صفراء، فذهب إلى أبي مجيد يستدين، فقال له أبو مجيد: «أنت تعرف أني لا أدين إلا برهن.»
فأجابه الرجل: «فلان رهن عندك شعرة من شواربه، وأنا مستعدٌّ أن أرهن لك شعرات» فما قولتك؟
فقال له المرابي: «هذي غير هاتيك، اعذرني يا سيدي.»
– ولماذا؟ إذا لم أدفع فأملاكي نصف الضيعة.
فأجابه: «هذاك لا يملك غير الشرف، وأنت تملك الشرف والعقارات وتكون حرًّا إذ ذاك بتضحية أحدهما، وأنا لا أريد أن يكون مالي من الأضاحي.»
تلك كانت عقليتهم في معاملاتهم، أمَّا اليوم فالتكالب على المادة يحملنا على رهن كلِّ ما نملك وكل ما في حوزتنا من شعر، شرط أن نحصل على المال.
كان الصدق في الأقوال والأعمال مجدًا وشرفًا، وأمسى الكذب والاحتيال والنصب دهاءً، والكذب ملح الرجال، وعدتك وما قدرت، أو قلت وبطلت، هكذا يقول الناس اليوم، وألف قلبة ولا غلبة.