وجوه بلا ماوية
شقاءٌ هي الحياة وعراك مستمر، العواصف في حرب عوان، والشهوات في اضطراب وهياج.
الحياة ألغاز لا تُحلُّ، ومُعَمَّيات قصَّرت عن إدراكها الحكماء، آمال تذبل وتموت، فلا يبتسم لنا فجر الرجاء حتى يعبس مساء اليأس، ولا نصافح الأمنية حتى تنفض الخيبة المُرَّة من يدها، وأحيانًا المنيَّة.
مضى عصر المضارب والخيام التي تقتلعها العواصف، كانوا ينحتون الجبال بيوتًا فصاروا يرفعون من الحديد والأسمنت ناطحات سحاب مفروشة أرضها بالمرمر مزيَّنة حيطانها بأروع التصاوير الفنية، ومع ذلك ما زال الإنسان يتأوَّه ويتوجَّع ويتطلَّب المزيد من المال، ولا يجد سعادته إلا فيه كما قال بخيل الجاحظ: «سلِّم إليَّ المال وادعُني بأي اسم شئت، المال زاهر نافع، مكرِمٌ لأهله مُعِزٌّ، والحمد ريح وسخرية.»
كان الإنسان في طور بداوته نديَّ الوجه تؤذيه ألطف نسمة تهبُّ على أنانيته واحترامه لذاته، يأبى كل ما يؤذي ويشين شرفه ومروءته، فيبتعد كلَّ البعد عن كلِّ ما ينكره الشرف، وكانوا في ذلك الزمان يقولون: «الصيت الجيد خير من المال المجموع.» أمَّا في عصرنا هذا فأمسى الدرهم هو الدستور المُكرَّم، و«المشير المفخَّم» على حد تعبير فرمانات سلاطين بني عثمان.
وكان الرجال يرون الحياء أشرف خلال النساء والرجال، وفي هذا يقول أبو تمَّام:
أمَّا اليوم فالوقح صاحب العين البلْقاء هو الظافر بحاجته كما قال بشَّار بن بُرد؛ لأنه لا يُفرِّق بين حلال وحرام، تستحي الأرض التي يمشي عليها مما يلطِّخ به وجهها من مخازيه، أمَّا هو فلا يندى له وجه …! ومن أين للوجه اليابس أن يَنْدَى؟! ألم تُسمِّ العوام مثل هذا الوجه الناشف وجهًا من عظْم؟!
الوجه زهرة لطيفة تأخذ نضارتها من ماء الحياء، والحياء في المُحيَّا كالجوهر في صفحة السيف والدرَّة في التاج، تكتسب منه جمالًا، وكالورق والثمر للغصن الأملود، فالغصن إذا عَري من كليهما بدا كريهًا في العين بعيدًا عن القلب، وقد قال الشاعر: «ولا خير في وجهٍ إذا قلَّ ماؤه.»
إنا لفي زمن قد خلع فيه الكثيرون العِذَار، فاستباحوا الحُرُمات وعبثوا بالأمانات التي طالما اعتدَّ الشرق بالحفاظ عليها، فإذا نظرت رأيت شبابًا يربضون على أبواب المعابد كالهررة يترصَّدون هذه وتلك، فيبسمون للجميلة ويعبسون بوجه القبيحة، ويُلقون في طرق المخَدَّرات المحصنات شباك نظرات مريبة وقحة، حتى صرت تحسب المعبد معرضًا للنساء، أو «سوق حرج».
وإذا ركبت الترام فإنك ترى فتيانًا يتسابقون إلى الحافلات الحافلة بالحسان، حتى إذا بدت لهم جميلة أكلوها بعيونهم، والسعيد السعيد من سبق إلى القعود حدها أو كاد، حتى إذا ما أذنت بالذهاب راح كلٌّ منهم يبتهر بوقاحته ويفاخر بقلة هيبته ممثِّلًا دور كازانوفا، فتخرج من بينهم وصُفرة الخجل تكسو وجهها الأرجواني ثوبًا زعفرانيًّا، هذا ما كان في الأمس، أمَّا اليوم فإنَّا نراها تدعوهم إلى جوارها، إن لم يكن بلسانها ويدها فبعينيها …
فعلينا أن نُهذِّب بنينا صغارًا ليحسنوا السلوك كبارًا، علينا أن نُقبِّح في عيونهم هذه الصور السمجة ونذكر أصحابها بالتنديد واللوم، ولكن من أين لتلك المبادئ أن ترسخ في الأذهان ما دام الصغار يقتدون بالكبار، يسمعونهم يعتدون برذائلهم بلا خجل ولا حياء ذاكرين على مسامعهم ما تجاوزوا به حدود الأدب، كأنهم نسوا الكلمة المأثورة: وإذا ابتُليتم بالمعاصي فاستتروا؟
لقد أصاب من إذا أراد ذمَّ أحدٍ ذمًّا يجرِّده عن المروءة قال في نعته: «فلانٌ بلا حياء.» فلنقن حياءنا فهو التَّخْم الفاصل بين مملكة الإنسان ومملكة الحيوان.
أمَّا قليلو الحياء فأنواع: منهم الأدعر المنحطُّ الأخلاق، ومع ذلك تراه يغشى نوادي المهذَّبين ويعدُّ نفسه في طليعتهم، وينسى أنهم غير ناسين أنه كان وما يزال يتمرَّغ في أوحال المعرَّة، ومن حقِّ من كان مثله أن يُرمى في مزابل البشرية؛ لأنَّ للبشرية مزابل دونها المزابل الحقيقية نتانةً، تلك يُتَّقى شرُّها بالمطهِّرات، أمَّا هذا فهو مزبلة نقَّالة لا يقي من بعوضه وبرغشه فونيك ولا مازوت ولا د. د. ت …!
ومنهم ذاك المتبجِّح بالشرف والأمانة وسامعه يعلم أنه أحطُّ خلق الله وأقلهم شرفًا؛ لأنه لا يرأف بعِرْض ولا يعفُّ عن عرَض، فهو لا يكفُّ يده عن طعام ولو وقع عليه ألف ذباب.
ومنهم ذاك اللص الذي يمشي على الأرض مرِحًا ويبتهر على مسمع الملأ أنه يجيد الاختلاس، وأنه في هذا الفنِّ أمهر من مشى عليها، ينزع الدِّبْس عن الطحينة كما يقولون، وما عليك إلا أن تعدَّ أصابعك إذا فرغت من مصافحته فربما يكون قد اختلس إحداها أو بعضها ولم تدرِ، وإذا ذكرت أمامه رجلًا فاضلًا مطَّ شفته وغمز بإحدى عينيه وافترَّت أسنانه عن ابتسامة رقطاء، وقال لك بلا حياء: مسكين! حمار بأربع أذنين، هل تطعمه أمانته خبزًا إذا جاع؟ وهل يلبسه صدقه ثوبًا إذا عَري؟
إنَّ هذا الضفدع الهرِم لا يهجس إلا بلجج مستنقعات الدناءة، ولا يعيش إلا فيها، يزعم أنَّ أيدي جميع الناس ممدودة مثل يده، وأنهم لا يهمهم إلا أن تكون لهم ثروات طائلة.
ومنهم من يقول لك ولا يستحي: إنَّ وظيفتي محدودة المعاش وليس فيها «براني» ولا ضرب كم؛ ولذلك لا أزال كما دخلت ليس في كيسي قرش، بل لا كيس لي … فما قصَّرني عن طلوع الجرد إلا الحفا، فمتى يرزقني الله مداسًا لأجاري زملائي في هذا المجال، فليس فيهم من يعفُّ عما تصل إليه يده؟
على هذا كان موظفو دويلات العصر العبَّاسي، وقد عجز الخلفاء عن تقويم اعوجاجهم فلا تصفية الأموال أجدت ولا حبسهم ردع، فاللصوصية مرض نفساني لا يحد من نشاطه القِصاص. حُكي أنَّ لصًّا شهيرًا عجزت محكمة لندن عن إيقافه عند حدِّه، فكان يُسجن سنوات، ولا يُطلق سراحه حتى يغير على بيوت المال، وأخيرًا أصدر القاضي بحقه حكمًا غريبًا، كانت جريمته خلع باب وكسر صندوق واختلاس ألوف الليرات، وكان العمل يوم الأحد ممنوعًا في إنكلترة، وبما أنَّ هذا اللص اقترف جريمته هذه في ذلك النهار قضى عليه القاضي بردِّ ما سلب والحبس أربعًا وعشرين ساعة عقاب من يتعاطى مهنته في ذلك النهار.
يقال إنَّ هذا الحكم كان رادعًا للصٍّ لم يمت ضميره كلَّ الموت، أمَّا الذين شيَّعوا الحياء إلى غير لقاء فإنهم يضحكون في عبِّهم إذا حُكموا مثل هذا الحكم اللاذع.
والنساء وما قولتك فيهنَّ؟ فقد صارت أخدارهنَّ المنيعة حمَّامات البحر، يعرضن بعد الغوص فيها أجسامهنَّ البضَّة على عيني وعينك يا تاجر، ينبطحن على الرمال عاريات وكأنهنَّ في خلوة ولا عين تنظر.
كنا فيما مضى نشتاق سماع امرأة ذات صوتٍ رخيم تبوح بسرِّ الهوى، وصرنا اليوم نستحي من بنينا وبناتنا أن نسمع وإياهم تأوُّهات المغنِّيات التي تبثُّها الإذاعات بلا حياء.
كنا فيما مضى إذا مالت بنا العربة في منقلب نحمرُّ ونخضرُّ ونصفرُّ إذا احتككنا بأنثى، وكانت الأنثى تحاول أن تخترق جدار المركبة لتنجو من لمسة غير مقصودة ولا تعني شيئًا، أمَّا اليوم ففي هذه الترامات المزروكة المحشوكة لا ندري كيف نهرب من الجنِّيات اللواتي ينهضن من كل محطة ويملأن الحافلات المحشورة فيها الناس كالسردين وكبس الجبن.
كنت مرة واقفًا في مقدِّمة حافلة فإذا بفتاتين انسلَّتا ووقفتا أمامي منتصبتين كالهدف، فوجدتني في موقف حرِج، الترام يتراوح ذات اليمين وذات الشمال وأنا أتماسك خوف الإهواء عليهما، فما كان منهما إلا أن قهقهن ضاحكات من حشمةٍ في غير محلِّها، فضقت بهما صدرًا وقلت لهما: يا بناتي، جئتماني متأخِّرتين، وكم تمنيت لو كنت خُلقت في زمانكما زمن المتعة بلا حياء.
بهذه اللهجة الوقِحة نطقت لأردَّ عني كيد فتاتين هزِئتا بشيبتي، أمَّا الخبيثتان فقالتا: قد عرفناك، وما فعلنا ما فعلنا إلا لإحراجك وسماع نكتةٍ منك.
عفوًا إذا استطردنا إلى ما كنا ننهى عنه! فنحن لم نذكر ما ذكرنا إلا لندلَّ على أنَّ الرجل كان في الزمان الماضي طالبًا وصار اليوم مطلوبًا.
شبَّب عمر بن أبي ربيعة بنساء عصره، وذكر ما كان يقع له معهنَّ ففسَّقوه، كما عدُّوا قبله امرَأَ القيس متهتِّكًا لأنه اقتحم بركة دارة جلجل وقعد على ثياب العذارى المستحمَّات فيها، وأبى إلا أن يخرجن إليه عاريات ففعلن مكرَهات، تُرى ماذا كان يقول اليوم معاصرو امرئ القيس لو قاموا من قبورهم ورأوا عذارى هذا الوقت ونساءه منبطحات على الرمال عارضات جمالهنَّ كاملًا غير منقوص على كل عابر سبيل؟ ولسن في حاجة إلى من يقعد على ثيابهنِّ ليخرجن إليه في بذلة حوَّاء قبل ورقة التين.
إني لأُمسك القلم عن عدِّ ما عندنا من قلة حياء تجمعها كلمة قالها الإمام عليٍّ: «صار العفاف عجبًا، والفسق نسبًا، ولبس الإسلام الفرو مقلوبًا.»
فالسُّرَّاق لا يخجلون، والنصَّابون المحتالون لا يستحون؛ لأن من هم فوقهم شر منهم، وتقصير الحكَّام والأحكام يحمل على الإجرام.
الكلب الذي تطعمه لقمة يبوس يدك مرات، أمَّا الهرُّ اللئيم الناكر الجميل القليل الحياء، فإنه يهرب بها ويتوارى عنك ثم يعود إليك طالبًا غيرها، وإذا لوَّحت له بلقمة كريمة جمع نفسه في زوره وقفز كأنه يتصيَّد ولا يستعطي، وهذا منتهى الخساسة والغدر.
نجِّنا اللهم من هؤلاء، من وجوه بلا ماوية.