ما أحلى أيام المدرسة!
كلمة تسمعها أيها الفتى من أبيك وجدِّك وجدَّتك العجوز، وإن لم تكن هذه الأخيرة قد عرفت المدرسة إلا عن طريق أذنيها المصفرَّتين كورقة خريف نصف يابسة. وهذه الكلمة ستقولها أنت يا عزيزي، حين تتكوَّم حول الموقد ويرقص من حولك أحفادك رقص جراء الهررة حول أمهنَّ النائمة.
ليس التحسُّر على أيام المدرسة تحسُّرًا على أيامٍ كنت فيها محبوسًا بين أربعة جدران، فالمدرسة حبس موقَّت يقبله طالب العلم طائعًا مختارًا، ولكنه تحسُّر على فتوَّة خسرتها ولم تعرف قيمتها، وأنت تتمنَّى لو تعود تلك الأيام أدراجها فتحسن التصرُّف بها. إنَّك تتحسر عليها تحسُّر المبذِّر على ثروة أنفقها بغير حساب، وها هو يذكرها والدمعة السريَّة في العين والحسرة في القلب. وإذا لم تكن من الذين خرجوا منها بخير فستذكر حين تحاسب ذاتك أنك كنت تسرق نفسك، كنت تسرق مالك وعمرك.
كنت ترى اليوم كالشهر في الطول، والساعة كالنهار، وأنت الذي طوَّلت مدة كان في استطاعتك تقصيرها، لم يكن يقع نظرك على صفحات كتابك حتى كنت ترفعه نحو الساعة المعلَّقة في قاعة الدرس تماشي عقاربها، وتتعجَّب من بطئها، تسبُّ أباها وأمها، وتتغضَّب عليها لأنها لا تسرع حسب مشيئتك!
ما أطول ساعة هذا الدرس! كثيرًا ما كنت تقول ذلك، أمَّا الحق فهو أنَّ ساعة الدرس كغيرها من الساعات الأخرى، ولكن إساءتك استعمالها أطالتها ومطَّطتها فصارت أطول من ليل امرئ القيس والنابغة. اعمل يا عزيزي تجد الوقت قد مر، وبهذا العمل تقتل السأم والضجر وتستفيد علمًا، ولكن الكسلان عدوُّ نفسه.
قد تقعد مع رفيق على شاكلتك وتنصبان ميزان الدينونة، فتزنان هذا الأستاذ وذاك، ثم تنتقدان المدرسة من مديرها إلى بوَّابها، ومن معلِّمها إلى طبَّاخها، فتبدو لكما مسودَّة الجدران ضيِّقة المساحة على رحبها. ولو فطنتما لأدركتما أن هذا الاسوداد هو في نفسيكما، وأنَّ ذاك الضيق الذي تنعتان به المدرسة هو في صدركما، فأنت يا عزيزي حاضر غائب، أنت مع معلمك تَشخَص إليه وتسمع درسه، ومعلِّمك القصير النظر السطحي الاختبار يخالك مصغيًا إليه تكاد تأكله بعينيك لاتساع حدقتيهما، في حين أنك تسبح في عالم غير عالم الصفِّ، تسمع دروسه ولا تسمعها وترى شخوصه ولا تراهم، إنَّك في دنيا غير دنياهم، وأستاذك الجليل لا يدري أنك لست معه.
إنه ينقصك شيئان لتفلح في المدرسة، عفوًا وفي العالم أيضًا، وهذان الشيئان هما: الرغبة والانتباه، فإذا كنت راغبًا فيما يُلقى عليك من دروس فأنت مفلحٌ فيها، والانتباه يُذلِّل جميع مصاعب الدروس، العويص منها يصبح مفهومًا، فتنحلُّ أمامك جميع العُقَد التي كنت تخشاها، ويدقُّ قلبك دقَّات فرح حين تجيء ساعة هذا الدرس الذي كنت تقول إنه لا يدخل عقلك … وكيف يدخل وأنت عقلك سادٌّ الباب بوجهه؟! من أين يدخل والنوافذ مقفولة؟! إن أذنيك وعينيك نوافذ تخلص الحقائق منها إلى مخدع دماغك لتستريح فيه، ومتى كانت هذه الطاقات والنوافذ مسدودة فعبثًا تلتمس العلم، لم يستطع العلم حتى الآن أن يخترع أنابيب تُحقن بها العقول وتُلقَّح الأدمغة؛ ولهذا تظلُّ فاشلًا إذا لم تنتبه.
كثيرًا ما نقول: هذا المعلم لا يحسن تفهيم المادة التي يُعلِّمنا إياها، قد يكون ذلك، أمَّا غالبًا فأنت العلة لا المعلم. فإذا كنت لا تعيره أذنًا صاغية فمن أين يبلغ عقلك ليُفهمك؟ إنَّ أكثر سقوط التلاميذ في دروسهم ناتج عن قلة رغبتهم فيما يتعلَّمون؛ لأنَّ الزهد في الدرس يجرُّ إلى عدم الانتباه وهنا علة العلل، هنا المعركة التي يجب أن يجاهد في سبيلها المعلم المربِّي، فإذا تغلَّب عليها أدرك النصر المبين وبلغ غايته التربوية والتعليمية.
يبلغ الغاية التربوية إذ يخلق في تلميذه خاصة الانتباه، وهي سلاح العاملين في الحياة، ويبلغ الغاية التعليمية إذ يسلِّحه بأعتدة علمية تُسهِّل له الكفاح في ساحات شتَّى من ميدان النضال.
إنَّ الذي عبرت لك عنه بلغة الجدود وسمَّيته «رغبة» هو ما يسمِّيه اليوم علماء النفس «ميلًا»، ومن هذا الميل يتولَّد الانتباه، إنَّ الانتباه أنواع في كتب علماء النفس، ولا يعنينا منها الآن إلا العفوي، فالانتباه العفوي يتولَّد فينا من اهتمامنا بالشيء وميلنا إليه، وهذا يكون في أشخاص ولا يكون في آخرين، فإذا حصلت عليه بالطبع غنيت عن التطبُّع، ولكنه إن لم يكن فيك طبعًا فباستطاعتك تقويته إذا أردت، فعليك أن تغالب نفسك لتخضعها إلى إرادتك فتجمع فاعليتها حول مركز لا تميل إليه بالفطرة، ولكنك مضطرٌّ إليه اضطرار المريض إلى قبول علاج تتقزَّز منه نفسه، ولولا هذا الانتباه الإرادي ما كنت حيوانًا أسمى وأفضل من جميع مخلوقات الله كما ادَّعينا وندَّعي. مارِس هذا الانتباه مرارًا فترى أنه استحال انتباهًا عفويًّا أو كالعفوي، وهكذا تدركه بدون مشقَّة. استعن بالعادة فهي التي تنفعك هنا، فإذا تجلَّدت وثابرت على اقتبال ما تكره استحال ما كنت تكره إلى شيء تميل إليه.
إنَّ الرياضيَّ يحتاج في أول أمره إلى إرادة وجهد، ولكنه متى استغرق في تفكيره ينسى نفسه، ويميل كل الميل إلى مسائله فتُذلَّل جميع العقبات أمامه ويصبح منصرفًا بكليته إلى شئون مشكلاته وكل معضلاته، أي إن انتباهه يصبح عفويًّا، كل ذلك بحكم العادة التي تهوِّن علينا تحمُّل كل شقاء، وتخلق فينا طبيعة ثانية.
لا أنكر أنَّ فينا — نحن الأساتذة — وجوهًا كالحة لا تُحسن استرعاء الانتباه؛ لأن الانتباه ينتج عن أسباب انفعالية، وإذا كان الأستاذ جامدًا عاجزًا عن التفاعل فمن أين له أن يوقظ في طلابه العوامل الانفعالية؟!
إنَّ معلِّمًا كهذا يا ولدي كشربة زيت الخروع، إنها كريهة الطعم ولكنها مفيدة فأجبر نفسك على قبولها، ولعلَّك بعد قليل تنتقل إلى حضرة أستاذ آخر ينسيك طعم هذه الشَّربة، والإنسان مُعرَّض دائمًا لاقتبال مرارة الحياة وحلاوتها.
يقول المعلِّم النفساني ريبو: «اجعل الشيء جذَّابًا بصورة اصطناعية إذا كان غير جذَّاب بطبيعته، وهذا ما يقدر عليه أساتذة ويعجز عنه آخرون، فلا بدَّ للأستاذ من خفة روح، فكلمة ظريفة تنعش الصفَّ وتولِّد فيه حياة وانتباهًا، وهذا ما يجب أن يُعنَى المعلم بتوليده في جوِّ الصفِّ، فبدون الانتباه كل الأعمال ضائعة، إنَّ الانتباه يزيد سرعة الإدراك فتتضح التصوُّرات للمنتبه وتبين وتزداد ترتيبًا، والانتباه يثبت الذكريات ويحفظها، ومن هذا يتضح لك أنَّ نجاحك العظيم الذي تصبو إليه لا يتحقَّق إلا بانتباهك الأوَّلي في المدرسة، حتى إذا خضت عُباب بحر الحياة استفدتَ من الانتباه الذي بلَّغ البشرية ما بلغت إليه من عجائب الاختراعات والآثار الفنية.»
قال جيمس: «يجب على الإنسان أن يُحسِّن مَلَكَة الجهد فيه دائمًا بالتمرُّن عليها كل يوم.» فإذا كنت تريد أن تكون رجلًا فعليك أن ترغم نفسك كل يوم أو يومين على القيام بأمور لا تميل إليها، حتى إذا دقَّت ساعة الشدائد وجدت نفسك قادرًا على الصبر والمقاومة، وهذه ضمانة الحياة، فلا تقل لي إذن أنا لا أفهم هذا الدرس، إنه لا يدخل عقلي.
إنَّ كلامك هذا لا يدخل عقلي أنا، إنَّك لم تُرد، ولو أردت أن تنتبه لفهمت وأدركت، أمَّا إذا كنت تنتبه وتريد ثم لا تفهم فالأحرى بك أن تتخلَّى عن مقعدك المدرسي لمواطن آخر.
إنَّ هذا الكلام يؤلمك، ولكنه يؤلمني أيضًا أن أرى تلاميذ لا يستحقون نعمة العلم، إنَّ لهم عملًا آخر في الحياة فلينصرفوا إليه، فإذا لم يخدموا وطنهم في هذه الناحية فقد يبرزون في ناحية أخرى على ما لا يقدر عليه العلماء.
ما أحلى أيام المدرسة! إنها كلمة تدور على كلِّ شفَة ولسان، وما أجملها خارجة من فمِ رجلٍ انتبه واستفاد وهو يتأسَّف لأنه لم يغترف من العلم والمعرفة أكثر مما اغترف.
أمَّا من يقولها من المقصِّرين في مضمار الحياة من الكُسالى الذين لم يُفلحوا، فإنه يقولها متذكِّرًا راحته واتِّكاله على ذويه، حين كان ينفق من مال جناه غيره وهو لا يدري أنه يسرق نفسه، إنَّ هذا البائس يعثر لسانه بالخيبة المُرَّة حين يقول: ما أحلى أيام المدرسة!
فرجائي إليك يا عزيزي أن تعمل بما قلته لك لتستطيع أن تقول في غدٍ على مسمع بنيك وأحفادك: ما أحلى أيام المدرسة! فلا يتغامزون عليك ولا يقولون: ماذا أفاد أبونا أو جدنا من المدرسة ليستحلي أيامها؟!
ليتهم ادخروا لنا ما أنفقوه عليه، إنه كان رأس مال لنا، أمَّا أيام مدرسته فساقطة من الحساب، ولا محل لها في التاريخ.