عمودا البيت
لا يقوم البيتُ على حيطٍ واحد، فالله — وحده — بنى السماء بلا عمد، إنَّ للبيت عمودين هما المرأة والرجل. كانت كلمتنا الأولى موجَّهة إلى المرأة لأنها المسئولة الأولى؛ ولهذا أُطلقت عليها كلمة ربة البيت حتى في عهد وأد البنات، أمَّا الآن فالكلام عن الرجل.
قيل لي إنَّ بعض الرجال كانوا راضين عن كلمتي السابقة فكانوا يتغامزون فيما بينهم، كانت المرأة تخضرُّ وتحمرُّ وتحرق على أسنانها متمنية لي قصف العمر غير آسفة على شبابي الغضِّ …! مهلًا يا سيدتي فها قد جاء دور رجلك.
الغرض من الزواج يا سيدتي هو حفظ النوع وترقيته بتكوين الأسرة المُثلى، كان لله سِفْر تكوين واحد أمَّا نحن بني البشر فلنا دائمًا سِفْر تكوين، العائلة هي الخلية ومن الخلايا تتألَّف الأجسام، ومتى كانت الخلايا صالحة كانت الأجساد قوية منيعة، فماذا نعمل يا سيدتي ويا سيدي حتى نوطِّد أركان الوطن بما نُعِدُّ من رجال؟ قد تظنَّان كلاكما أنَّ هذا من عمل المدرسة، وأنا كرجل ممارس أقول لكما: لا، البيت يربِّي والمدرسة تُهذِّب، فإذا أعطيتماني المحروس بلا مربٍّ عاد إليكما بلا تهذيب؛ لأنَّ الحطب لا يقوم.
قرأت كتابًا فرنسيًّا في التربية صُوِّر على جلده والد يتأهب لمغادرة البيت، وأمٌّ كلُّ بالها في زينتها، والولد حيران لا يُبالي به أحد.
وكأن شاعر هذا الجيل المرحوم شوقي قد رأى هذه الصورة، وقرأ ذلك الكتاب فأوحى إليه بهذين البيتين:
تلك هي حالة الكثيرين من الآباء والأمهات، وإذا قلت لأب ما: ساعدنا على تربية أولادك، قال لي: هذا شغل أمهم يا أستاذ، أنا مشغول في أعمالي من الفجر إلى النجر.
– والليل يا سيدي؟
– الليل للسهرة والتفريج عن النفس.
– والبيت يا مولاي ألا يفرِّج عنك فيه وجه زوج من ملكات الرحمة، ووجوه فتيان وفتيات كأنهم ولدان وحور الجنان؟ قلت لي إنك تتعب وتشقى طول النهار، فاسمح لي أن أسألك: أين تذهب جنابك؟ ألست تهدره في تلك القهوة، وذاك المرقص، وهذا النادي؟ ألست تُضيعه على الموائد الخضراء؟ ألست تطرب لليل طرب الصيام إلى أذان المغرب؟
تدخل بيتك من باب غربيٍّ لتخرج من بابٍ شرقيٍّ، وتترك قعيدة بيتك في جهنم أولادها، فهم لا يهابونها لأنك تزدريها، ولا يخافونها لأنك تحتقرها.
وإذا سهرت ليلة في البيت لبست وجهك بالمقلوب، ورُحت تتغضَّب على امرأتك وبنيك وبناتك، لا يعجبك العجب، تحتجُّ على كل شيء، وتخلق الأسباب لتغادر البيت بسلام إلى القمار، إلى تصيُّد الغواني، إلى السُّكر؛ لتعود في آخر الليل منطفئًا تقبِّل ذا الجدار وذا الجدار، والويل لبنت الحلال إن لم تبقَ ساهرةً حتى تجيء! أنت تلهو بالطقش والفقش، وهي ساهرة واجمة تنتظر تشريفك يا صاحب الوفاء، ثم تستلقي على فراشك بثيابك وحذائك، وإذا استيقظ بنوك على زعاقك وبعاقك فهناك البلوى، إنهم يتلقون عنك أنفع الدروس يا خواجة! وإذا استيقظت في الغد رُحت تتمطَّى عشرات المرات، وبعد تردُّد تزجُّ جسمك في ثيابك، لتنصرف إلى القهوة وتقعد حدَّ الشباك تُسرح نظرك لعله يقع على طريدة أيها الصيَّاد الماهر. أمَّا زوجتك المسكينة فلها الله، تسافر خلفك عيناها حتى تختفي عنها في جيوب الشوارع، وإذ ذاك تتنهَّد وتهتف من غير قصد وبدون شعور: يا خالتي، ملِّي الجرَّة …
صبرًا جميلًا يا سيدتي، جاءني زوجكِ أمس إلى المدرسة قبل أن يتوجَّه إلى الخمَّارة ويستفتح … وقبل أن يقع على زبون يلعب معه الطاولة أو يقامره، نعم، مرَّ على المدرسة وقال لي: الأولاد لا يشتغلون في السهرة، لا يدرسون ولا يكتبون، نبِّه الأساتذة لكي يعطوهم فروضًا.
فقلت له: أشكر لك هذه الملاحظة، هذا واجبنا، اليوم أرى أولادك وأسألهم، وسأسأل أساتذتهم عنهم. وفي الوقت المناسب يا سيدتي دعوت بنيك الثلاثة وسألت كبيرهم: لماذا لا تدرس ولا تكتب في البيت؟
فأجابني: اسأل المعلِّمين عني.
فمِلت عنه إلى الثاني وأنا أقول في نفسي: لعله هذا الذي يعنيه أبوه، فتململ الفتى وفتح فمه ليقول شيئًا، ثم أطبقه وأطرق إطراقة مكظوم وفرَّت دمعة من عينه.
فقلت للصغير: يظهر أنك أنت الذي يشكو منك أبوك.
فحدق إليَّ وقال: ومن أين يعرف والدي إذا كنت أكتب فرضي أو لا أكتبه؟ وما يدريه إن كنت أفتح كتابي أو لا أفتحه؟
فقلت له: أبوك أعمى يا ابني؟!
فقال: لا سمح الله! ولكنه لا يرانا ولا نراه فيجيء إلى البيت وأنا نائم، وأجيء أنا إلى المدرسة وهو نائم.
قلت: إذن لا تلتقيان.
قال: بلى، إذا بكَّر في المجيء، ولكن بدون نتيجة.
قلت: وكيف بدون نتيجة؟
وسكت الصبيُّ فألححت عليه، وهمَّ بالكلام فسدَّ أخوه بوزه بيده.
وأخيرًا قلت له: خبِّرني يا فريد فلعلِّي أنفعكم بشيء.
فقال الصبيُّ: أستحي أن أخبرك عن والدي، ولكن أهجِّي لك.
قلت: هجِّ، منك حرف ومني حرف.
فضحك الفتى وضحك أخواه، فتجرأ وقال: س، فقلت: ك؟ فقال: نعم. ر، فقلت: ألف، وقال: ن.
فقلت: ما شاء الله! هذا هو ربُّ البيت الذي يطلب منا تهذيب أولاده، يريد منا أولادًا مهذَّبين وهو كما وصفه ابنه، ومع ذلك إذا رأى بنيه لا يتعلَّمون يأتي المدرسة بكل وقاحة ويتساءل أمامنا: لا أدري على من طلع هذا الصبي؟!
خرج عليك يا سيدي، الديك الفصيح من البيضة يصيح، إنَّ من يتخرَّج من مدرستك هيهات أن يستفيد عندنا، فإذا شئت أن يكون لك أولاد صالحون فأصلِح نفسك، الأم وحدها لا تربِّي، واعلم أنَّك لا تستطيع أن تحمل بطيختين بفرد يد. فأمَّا ملذاتك وشهواتك، وأمَّا تربية بنيك وبناتك، التربية تكون بالمثل، فالزم بيتك واسهر على تربية أسرتك، ومتى رأوك تفتِّش خزانتها قبل أن تتوجَّه إلى السبق وغيره، تعلَّموا منك هذه الفضيلة، وإذا رأوك تزدري أمهم أمامهم ازدروك وازدروها واحتقروكما معًا.
رشادك يا سيدي، خذ حذرك يا صاحبي، أمَا بلغك بعدُ أنَّ المرأة أُعطيت حقوقها، فقد مضى الزمن الذي كنت تتعنفص فيه لأنك رجل، ستمشيان معًا بعد غدٍ، رِجلها ورِجلك إلى صندوقة الاقتراع فتنتخب هي كما تنتخب أنت، وقد تصير هي نائبة ولا تصير أنت، وهناك النائبة العظمى، فدارِها ما دمت في دارها.
قالت لي إنك أنفقت ثروتها على ملذَّاتك، ثم زهدت بها حين أفلس وجهها وجيبها، فحاسب ذمتك يا صاحب، أما وقد أكلت المال فلا أقلَّ أن تترفَّق بالحال … إنَّ الأبوَّة حملٌ ثقيلٌ حتى على الحيوان الأعجم، فكن على الأقلِّ كذَكَرِ النعام إذا كنت لا تريد أن تكون إنسانًا … وإلا فلا تطمع بالبنين الصالحين، فالابن سر أبيه.
العوسج يا أفندي لا يُطعِم تينًا ولا القطرب عنبًا، ما لك عليَّ يمين ومع ذلك أحلف لك أنني أحكم على الآباء والأمهات من مراقبتي أبناءهم، إنِّي أعرف البيت من مسلك الأولاد.
قد تتساءل وتقول: ما لهذا الواعظ، أهو خالٍ من العيوب؟! لا يا أخي، ولكني لا أطلب من أولادي إلا ما أُكلِّف به نفسي، لا أغرق بالأوحال حتى ركبتي وأقول لهم: توقَّوا الوحل يا أولاد.
أنا لا أطلب منك أن تكون حبيسًا في صومعة، ولكن أمِن العدل أن تحبس زوجتك في قفص وتفرفر أنت؟
إني أطالبك بما ألزمت نفسك به حين قيَّدت نفسك، فلو كنت أعزب لنجوت من هذا التوبيخ، وأمَّا أن تتزوَّج وتخلِّف وتصير أبًا وجدًّا وتظل راكبًا على رأسك فهذا كثير، فالله أسأل أن يهديك أو أن يُقصِّر مدى غوايتك، فبطن الأرض خير لك من ظهرها.