الابتسامة رأس مال
قال لي واحدٌ من أصحابي: «لماذا لا تتفلسف؟» فقلت له: ومن قال لك إنني لا أتفلسف كلَّ ساعة؟ غيري يتفلسف عابسًا، وأنا أتفلسف ضاحكًا من الفلسفة وأصحابها، أرى أنَّ الطبيعة لم تهبنا خاصةً أجلَّ من خاصة الضحك، فهل رأيت أحدًا غيرنا من المخلوقات يضحك أو يبتسم؟
ولا يغيظني أحد أكثر ممن يُسمِّي الدنيا وادي البكاء والدموع، وإذا كنت ترتئي ما يرتئيه فأنا أقول لك: ابكِ حتى تنشق فما تُضني إلا نفسك، أمَّا أنا وقد وُهبتُ خاصَّة لأنفِّس عن «آظاني» أو مرجلي فإني ألجأ إليها في أشد الساعات، فبحياتك جرِّب اتبع فلسفتي. وإذا كنت غير مطبوع مثلي على الضحك فجرِّب على الأقل أن تبتسم، لا تخيط بوزك حين تُقابل الناس فهم لن يهابوك، إذا بكيت فإنما تبكي وحدك، أما إذا ابتسمت وضحكت فالدنيا كلها تُشاركك، فبحياتك اضحك حتى في المصيبة إذا أردت أن تتغلَّب عليها، أتظن أنك ترد ما فات إذا لبست وجهك بالمقلوب؟
اسمع ما يقول الناس في العابسين: فلان كشرته تقطع الرزق، وفلان دخل علينا كأنه قابر أمه، وفلان لا يضحك للرغيف السخن. أما الضحك فيُعبَّر به عن كل شيء جميل، وإذا دخل عليك رجل وسألته كيف الطقس، أجابك بكل بساطة: الدنيا تضحك اليوم.
قالت العرب: بشاشة المُعطي خير من العطيَّة. فإذا استقبلت ضيوفًا فاستعن بالبشاشة، فخير طعام تقدِّمه لضيوفك هو ابتسامة طبيعية، قلت طبيعية لأن الزهرة الاصطناعية لا تغش أحدًا، إنَّ العبير ينقصها، فلتكن ابتسامتك ذات عبير فوَّاح.
وإذا تركت بيتك لتخالط الناس، فحاول أولًا أن تزيل الأكواع من وجهك فتأمن الاصطدام … إن الزوايا الحادَّة عدوَّة الجمال فامحها من محيَّاك، دع همومك في بيتك وأغلق الباب عليها، اقفله جيدًا كي لا تلحقك إلى ميادين العمل، فالشفتان المصرورتان لا يأتيك منهما رزق، فافتر عن أسنانك على الأقل إذا كنت غير بسَّام. لأهل الصين حكمةٌ رائعة يجب أن تعرفها وتتذكَّرها كلَّما غادرت بيتك إلى محلك إذا كنت تاجرًا أو غير تاجر، قالوا: الرجل الذي لا يعرف كيف يبتسم لا يصلح أن يكون تاجرًا.
ليس للكلب يد يحيِّينا بها، ولا فم يسعفه على الضحك، فابتسامته تكشيرة، ومع ذلك لم يُحرَم وسيلة يكتسب بها الأصدقاء، إنه يُعبِّر بذَنَبه عن تودُّده إلينا، فيحيِّينا به أصدق تحية، إنه يفهم الابتسامة وإن لم يقدر على اصطناعها، فإذا عبسنا أو لم نُعره اهتمامًا لفَّ ذنَبه وراح يُفتِّش عن غيرنا، أما إذا لاطفناه فتشترك في تحيتنا جميع جوارحه حتى يكاد يخرج من جلده، أفترضى أن نقصر عنه ولنا لسان وثغر وأيد نُعبِّر بها؟ فاشكر من خصَّك بكل ذلك واستعمله على حقه، لا تدع صاحب الذَّنَب المعقوف أبلغ منك في التعبير، وأدهى منك في خوض ميادين العيش.
كلنا نعلم أن بيوتنا ملأى شئونًا وشجونًا ولكن رفقتها لا تطيب، فيجب علينا أن نتناساها إلى حينٍ إذا كنا لا نقدر أن ننساها، وإذا سألك صديق كيف حال صحتك، فلا يعني ذلك أن تُخبره أنك الليلة البارحة كنت ممغوصًا وأن الإمساك يُضايقك، أو أنك أكلت ما لا يواتيك فانْبَشَمت. وإذا كان صديقك مهذَّبًا وتركك تمشي على الهينة في حديثك، فلا تذهب إلى أبعد من ذلك وتخبره عن آخر فحص طبي عام عملته، فتُفسد عليه نهاره بشرح القاذورات.
أنت يا أخي بين أمرين: إما أن تقلع وجهك المقطِّب وتلبس وجهًا غير مغضَّن، أو أن تظلَّ في بيتك وتعيش وحدك. وإذا قبعت في بيتك فهل تظن أن زوجتك وأولادك يحتملون تعبيسك؟ إنهم يداجونك حتى إذا ما خلوا إلى نفوسهم ضاقوا بك ذرعًا.
أجل، إنَّ كيفية اختلاطنا بالناس قد يتوقَّف عليها رفاهنا وسعادتنا في الحياة، فهناك أشياء كثيرة غير الابتسامة تتركنا مغبوطين وهي لا تكلِّفنا شيئًا، فسبْقنا إلى التحية يجعلنا محبوبين ومرغوبًا فينا، وردُّ التحية من الكبير تُنعش قلب من هم دونه.
لمَّا ارتقى إكليمنصوس الرابع عشر إلى السُّدَّة البابوية انحنى له السفراء مهنِّئين فانحنى هو لهم، فقال له رئيس التشريفات: كان عليك ألَّا تردَّ تحيتهم، فأجابه البابا: لم يمضِ عليَّ بعدُ الزمن الذي يُنسيني واجبات اللياقة.
ولتر ماء يُنظِّفنا، والمظهر الحسن مصيدة للرزق والاحترام، وكلمة «من فضلك» تقولها للناس إذا طلبت منهم شيئًا تجعلك مثال التهذيب، وتجيئك المخابرة التليفونية بسرعة، وكلمة «اعذرني» أو «عفوًا» تحول دون شجار طويل عريض.
لا تعبس ولا تتعالَ حين تخاطب أيًّا كان من الناس، وخصوصًا إذا كنت تطلب منه خدمة بالمجَّان، ولا تنسَ الحكمة الفارسية القائلة: «السائل ذليل ولو أين السبيل.»
استعمل كل رقة حين تُخاطب غيرك، فلا تتكلَّم نبرًا حين ترد على من يخاطبك في التليفون، صُغ عبارة جميلة لهذا المقام واحفظها غيبًا فهي تُعبِّر عن لطفك وتهذيبك.
احترم قانون السير كي لا تسمع ما لا يرضيك، ولا تأخذ الناس بدربك فتُهان.
إنَّ من لا يكرِّم نفسه لا يُكرَّم، وإكرامك اطلبه من نفسك لا من الناس؛ فأنت تجلبه لها بسلوكك الدقيق ومحافظتك على كرامة الآخرين، وإذا لم تجد في طريقك من تحترمه فاحترم العتَّال وحِمْله.
كان نابليون يسير في سانت هيلين مع سيدة في زقاقٍ ضيِّقٍ، فمرَّ بهما عاملٌ يحمل حِملًا ثقيلًا فتنحَّى له نابليون، أما السيدة فلم تبالِ به، فصاح بها نابليون: سيدتي، احترمي الحِمْل.
أرأيت يا صاحبي كيف أتفلسف أنا؟ فقبل أن نُعِدَّ الناس للدنيا الثانية ونفلسفهم بنظريات باطلة، علينا أن نتعلَّم ونُعلِّم الآخرين كيف يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا؛ ليعيشوا مطمئنين متفائلين. إن لما وراء هذا الكون فلسفة يُنظر إليها في حينها، وإذا كان للشيطان — نعوذ بالله منه — يدٌ في مصيرنا هناك، فأنا أظن أننا إذا لاطفناه وابتسمنا له نُطفئ من حدَّة ناره التي لا تُطفأ، ومن لذع دوده الذي لا يموت.
أعرِف موظَّفًا دخل عليه المفتش فأساء آداب السلوك ولم يكترث له وظلَّ يُحاكيه قاعدًا؛ فأضمرها له، ولمَّا حان الحين أحاله على التقاعد، وهو لو كان أدقَّ سلوكًا لما نزلت به تلك النكبة.
أجل، لقد نسينا مسألة القيام للقادم فهي أيضًا تُبيِّض الوجه، وقد عبَّر عنها أحدُ الأساتذة النحويين ببيتين من الشعر قالهما في تلميذ لم يقف له:
وأخيرًا كانوا فيما مضى يقولون لنا: ضحكٌ بلا عجب من قلة الأدب، وصاروا يقولون اليوم: اضحك يضحك لك العالم. أما أنا فعملت بآراء الأقدمين صغيرًا، وأراني أعمل اليوم بآراء المحدَثين، وإذا لم يضحك لي العالم أضحك وحدي، ولا يهنأ لي عيش حتى أُضحك جليسي وأستولي على المبادرة، فإذا كانت الابتسامة تفتح في وجهنا الباب فالضحكة تُحلُّنا في صدر البيت على الرحْب والسعة.