ارعَ الجار ولو جار
رعي الذمم وحفظ الجار سجيةٌ عربيةٌ أصيلة، كانت أُولى مفاخر الجاهلية وعنوان السيادة وشعار النبل، بها يعتدُّون في مجالسهم، وحكاياتها تدور على ألسنتهم، فهذا كُليب يُجير قُبَّرة عشَّشت في حِماه، ويناديها مهدِّئًا من رَوْعها حين طارت من أمامه:
رعى جوار تلك العصفورة فقتل الناقة المشئومة التي دعست بيضها، ثم قُتل هو بتلك الناقة فذهب شهيد كلمة خرجت من فمه، وأشعلت الأَنَفَة العربية حربًا دامت أربعين عامًا حتى قيل في أمثالهم: أشأم من ناقة البسوس!
وإذا تقدَّم بنا الزمن قليلًا سمعنا السموءل الشاعر المشهور في تاريخ العرب يصيح بملء فمه:
وبعد فترة من الزمن قال الأعشى في وفاء السموءل — الذي ضُرب به المثل — قصيدة رائعة، خيَّروا السموءل بين سلامة ابنه وبين تسليم أدراع امرئ القيس فقال بلسان الأعشى: اقتل أسيرك إني مانعٌ جاري.
وجاء الإسلام فأوصى بالجار، وقال الله في كتابه العزيز: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ كما قال السيد المسيح من قبل: «أحبِب قريبك كنفسك.»
وأبو تمَّام حين وقف يبرِّر إحراق الأفشين في الأشهر الحرام استعان بالجوار فقال في الخليفة:
وهذاك امرؤ القيس أمَا روَوْا أنه قال:
والفحول الثلاثة الذين تناطحوا حول حوض المثالب لم يجدوا عارًا يصمُ به بعضهم بعضًا أعظم من الغدر بالجار، فقال جرير يُعيِّر الفرزدق:
فردَّ الفرزدق عليه صارخًا:
كما قال مفتخرًا في قصيدته الثانية المسماة ﺑ «الفيصل»:
وشاركهما الأخطل في هذا الميدان فقال يسب قوم جرير:
وإذا تركنا الشعر ورُحنا نروي الكلام المأثور سمعنا معاوية يقول: «المروءات أربع: العفاف وإصلاح المال وحفظ الإخوان وإعانة الجيران.»
وفي العصر العبَّاسي يُقدِّس الرشيد الجوار ويبالغ في تعظيمه حتى يقول: الجوار نسب.
وإذا عدنا إلى الشرع رأيناه يولي الجار حقًّا عظيمًا ويُعنَى به، فيجعل الأولية للجار في المبيع، وهذا ما يُعرف حتى اليوم ﺑ «الشُّفعة»، وبناءً على حرمة الجوار العظمى جعل النحو للجوار حقًّا، فالعامل أحق بالمعمول المجاور له، فهو الذي يأخذه لأنَّ الجار أحق بجاره.
وإذا تركنا الكتب وتقصَّينا ما يدور على ألسنة العوام من أمثال، سمعنا هؤلاء يقولون ممتدحين الجار: «جارك القريب خير من أخيك البعيد.» و«جار الرضا.» و«الجار ركن الدار.» «هيِّئ الجار قبل الدار.» كما يقولون أيضًا: «البغض بين الأقارب، والحسد بين الجيران.»
كذلك كانوا يوم كانت البيوت نقَّالة، أمَّا اليوم وقد أصبحت البيوت مسمَّرة في أماكنها لا تحول ولا تزول، فما علينا إذا أردنا أن نعيش مطمئنين هانئين إلا أن ننسجم مع من نُجاور لنقاوم بهم ما يعترض سبيلنا من عقبات. ولكن ذلك التآلف قضت عليه مشاغل الأعمال، وحال الركض وراء المادة بيننا وبين الائتلاف مع جيراننا، فرُبَّ جارين — حيث تتراكم الأعمال — لا يعرف بعضهم بعضًا!
زرت مرةً صديقًا لي، وفي بحر الحديث قلت له: فلانٌ جارك؟
قال: نعم، جاري.
فقلت: أُحبُّ أن أزوره، فهل ترافقني؟
فأجاب: لا تزاور بيننا.
قلت: عجيبٌ، ومن تزور إذا كنت لا تزور جارك؟!
فقال: ثِقَال الدم، زيارتهم مزعجة.
فقلت: أهم أثقل وأزعج من المصيبة، فمن يشاركك في حملها غير جارك؟ ومن يكون أول راكضٍ إلى بيتك متى حلَّت؟
وهبْ أن زيارته زبار يا سيدي، فهي أخف من النكبة في كل حال.
وكانت زوجته تصغي إلينا وأبت إلا أن تدسَّ أنفها، ومضت تكيل لجيرانها القدح والذمَّ بالمدِّ، كأنها لا تعرف إلا المكاييل القديمة.
لقد تغيَّرت أساليب الحياة، كان الإنسان فيما مضى يرحل متى شاء، ففي ساعة زمان يهدم بيته ويبنيه حيث يشاء، أمَا قال طرفة يخاطب ابن عمه:
أمَّا اليوم فكيف نستطيع أن ننأى؟ إننا مسمَّرون كما قلنا، فما علينا إلا أن نتآلف ونتعاضد ونتكاتف لنعيش في هناء وسلام ولا تهيج صدورنا أتفه التوافه، قال مثَلنا: «جارك الذي تُصبِّحه وتُمسِّيه، كيف تقدر تعاديه؟»
لقد أصبحت العمارة الواحدة تضم أُسرًا عديدة، أفما على هذه الأسر أن تتسالم وتحافظ على راحة بعضها؟ أليس على الذي في الطابق الفوقاني أن يتئد في سيره فلا يزعج من هم تحته؟ الجار أمسى اليوم قعيد البيت، فكم علينا من واجبات نحوه؟
أمَا علينا أن نُلجِم الراديو ولا ندعه ينهق كالحمار المربوط في الساحة يُغنِّي بأعلى صوته نشيد الغرام لكل أتان تلوح له؟
أمَا علينا أن نُحافظ أشد المحافظة على آداب اللياقة فلا يشمئز من هم فوقنا وتحتنا من تصرفاتنا؟ ليت شعري علامَ يختلف الجيران ويتنافرون، أليس على مثل هذه الأمور التافهة؟ فلولا تحاشيناها لجنَّبنا أنفسنا شرورًا كثيرة.
نام أمير — لا أذكر اسمه — عند المأمون، فكان الخليفة العظيم يكم فمه بلحافه إذا أخذه السُّعال لئلا يزعج ضيفه، ثم عطش المأمون فقام يمشي على رءوس أصابعه لئلا يوقظ جاره.
فمَنْ منا اليوم يفعل مثل هذا؟ «ارعَ الجار ولو جار.» هكذا قال مَن نفتخر عليهم اليوم بمدنيتنا، مع أنهم كانوا أرعى منا لجيرانهم؛ لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، فأين كنا وأين صرنا؟
اقتتل في قريتنا جاران، فهاجر أحدهما إلى أمريكا تاركًا أمه المريضة في البيت، وفي إحدى ليلات كانون الممطرة سقط جذعٌ من سقْف بيتها، فكان أول من أسرع إلى نجدتها خصمه، واحتمل البرد القارس والمطر الغزير، وما انفكَّ حتى وقاها من خطرٍ محتَّم، أمَّا أقرب الناس إليها فما دروا بما حلَّ بها إلا ثاني يوم.
هذا ما قلته في الجوار، وقس على ما قيل ما لم يُقل، واللبيب من اتعظ.