كتم السرِّ فلاح
السرُّ كالزهرة، فإذا قُطفت ذهبت معها الثمرة المرجوَّة، والسر قطب تدور حوله دواليب الحياة فلا تقف، فإذا بُحتَ بسرِّك إلى غير محبٍّ كتوم عوقت أمانيك عن الدوران، وأمسى سرك عقارب تلسع وأفاعي تلدغ، فمن حبس سرَّه في غيابات صدره بحيث لا يطل عليه أحد كفى نفسه شرَّ الخيبة والخذلان وحبوط المسعى؛ ولهذا جاء في الحديث الشريف: «واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإنَّ كلَّ ذي نعمة محسود.»
فأخو الحزم هو من امتلك قياد سرِّه، فلم يدعه يشرد، ولم يُطوِّل له فيرعى حول بيوت الجيران، ومن يفتح على أعين الحُسَّاد سجلَّ أفكاره ليطالعوه وينشروه على الملأ، فهيهات أن يبلغ مأربًا أو ينال غاية، فأمناء الأسرار أندر من أمناء الأموال، والسرُّ حِملٌ ثقيلٌ لا ينهض به غير الحازم من البشر، وليس بحكيم من يُفضي به إلى كلِّ إنسان، فكم جرَّ البوح بالأسرار من ويلات على الأفراد والجماعات! فالذين يُجرون الأسرار إلى غاياتها، مسلِّمين أعنَّتها إلى من لا يستطيع ضبطها؛ يسقطون في ميدان الكفاح، وهيهات أن ينهضوا من تلك الكبوة.
فكم من دول طُويت أعلامها وتحطَّمت سيوفها ودارت الدائرة عليها حين خانها أحد رجالها وأطلع أعداءها على أسرار خُططها! وكم من ملوك تناثرت تيجانهم وهُدَّت عروشهم، إذ أذاع رجال حاشيتهم أسرارهم! كلُّ هذا يعلمنا أن للسر شأنًا عظيمًا، وأنه من دعائم الحياة الكبرى، فإذا تزعزعت الدعائم سقط البيت على من فيه وكانت العثرة التي لا تُستقال، قال عمر بن عبد العزيز: القلوب أوعية والشفاه أقفالها والألسن مفاتيحها، فليحفظ كلُّ إنسان مفتاح سرِّه.
وما حكاية شمشون الجبَّار وصاحبته دليلة إلا أسطورة، ولكن الأساطير على ما فيها من غرابة تُعلِّم الناس ألا يبوحوا بأسرارهم فينخذلوا، وكم من أسطورة يجد فيها من يقرأ بين السطور دروسًا بليغة تغنيه عن الحقائق! بل كم من لعبة نتسلَّى بها في سهراتنا دون أن نعلم أنَّها درسٌ لنا! لست أنسى لعبة «اعمل مخزنك عبك» التي هزئت بها صغيرًا، إلى أن علَّمتني الحوادث كبيرًا أن أجعل صدري مخزن أسراري.
وإذا سألنا شمشون الجبَّار: أمَا أنت الذي قتل ألف رجل بلحي حمار طري، فأين قوتك؟ أفلا تستطيع أن تقطع هذه القيود الواهية؟ ألا تقدر أن تفلِت من قبضة أعدائك وتُعيد سيرتك الأولى في البطش والنكاية؟
إنه يجيبنا ولا شك: بُحتُ لزوجتي دليلة بسرِّ قوتي فجزَّت شعري من حيث لا أدري، فهُنت على أعدائي وصِرت ألعوبة لهم.
من يجهل منا أهمية الجاسوسية في الحروب؟ فشمشون وصاحبته يُمثِّلان الدول وجاسوساتها، فكم هتكت الجاسوسات الحِسان من أسرار شمشونية، فكانت الوسيلة العظمى لتغلب من يتجسَّسن لهم على أعدائهم!
نسمع كلَّ يوم الأحاديث عن القنبلة الذرية وأسرارها، فهنا دولة تسدل على مصانعها ستورًا كثيفة، وتُرخي عليها سدولًا أين منها سدول امرئ القيس التي شبَّهها بموج البحر، وهناك دولة أخرى تحاول اكتشاف تلك الأسرار للتوفق إلى قوة جامحة تُفني الأعداء جملة وتفاريق.
فلنحذر إذن أولئك الروَّاد الذين يطوفون حول بيوتنا ويدخلون مخادعنا ليكشفوا عوراتنا ويُطلِعوا عليها أعداءنا، بل فلنتقِّ ذاك الذي يرينا إخلاصًا لا تشوبه شائبة، وفي قِدْر صدره يغلي الحقد والحسد، فإذا قلت له: أريد يا جار أن أستودعك سرًّا فهل تقدر أن تكتمه؟ فيجيبك بقول العجائز: عندي للسرِّ بئر عميقة، حتى إذا ما فاز بأمنيته حمل سرَّك إلى أعدائك وأحبط مساعيك، عبثًا تحذِّره من الإفشاء، وإياك أن تصدِّقه ولو حلف ألف يمين، إن قولتك له: هذا سرٌّ بيني وبينك، قد تكون دافعًا له على إذاعته. فالسر على خفة محمله قلَّما ينهض به أحد، إنه كالأمانة بل هو أعظم أمانة لا يحملها إلا المجمَّل بمكارم الأخلاق؛ ولذلك حضَّنا الأولون على الكتمان بقولهم: «كل سرٍّ جاوز الاثنين شاع.»
فعلى من يُبتلون بأصدقاء يذرون كلَّما طابت لهم الريح، أن يتكتَّموا، وأن يجعلوا على أفواههم أقفالًا، فمن الغلط بل من الشطط أن تبوح لمثل هؤلاء بسرِّك، فخير نصيحة لنا في مثل هذه الحال هي أن نعمل بقول الشاعر:
وكأني بمن يسلِّم سرَّه إلى غيره يقول له في تلك الساعة: ها قد صرتُ أسيرًا لك، فارفق بعبدك يا سيدي.
وبعدُ، فمن طبيعة الناس وفضولهم تسَقُّط الأخبار ومعرفة الأسرار؛ ولذلك علَّموا بعضهم طرق الحصول عليها من أقرب سبيل فقالوا: خذوا أسرارهم من صغارهم.
وإذا قلَّبنا الأسفار رأيناها ملأى بالنصائح الكثيرة التي تحضُّ على كتم السر، وتعدُّ من يحفظه مثلًا للذين وللواتي.
فهذا جرير يصف أم حزرة بحفظ السر واللسان فيقول:
وقال الأعشى قبله في هريرة: «ولا تراها لسرِّ الغير تختتل.»
وقال بشَّار بن بُرد ينصح: «ولا تُشهد الشورى امرأً غير كاتم.» أمَّا ابن المقفَّع فله في هذا أقوال تصلح دساتير يجب أن تعمل بها الناس لتتقي شرورًا كثيرة.
وقالت العرب: «من أقبح الغدر إضاعة السر، فلا تَسْتَبْطِن إلا الثقات الأمناء.» وعندهم أنَّ إفشاء السر وإظهار الغدر وغِيبة الأحرار وإساءة الجوار هي أربع من علامات اللؤم.
كما أنَّ هناك أربع خصال تدل على الجهل؛ وهي: صحبة الجهول وكثرة الفضول وإذاعة السر واحتقار البرِّ.
والعوامُّ إذا أرادوا أن يمدحوا رجلًا بكتمان السر والترفُّع عن الاغتياب قالوا: «لسانه دافئ.» وليس من يشيع الدفء بين الناس كمن يرميهم بالعواصف والقُرِّ والزمهرير، إنَّ من يُذري أسراره في مهبِّ الرياح لهو كمن يطلق من قفصه طيرًا يعزُّ عليه أن يفارقه.
قال الجاحظ في وصف الكتاب: «هو أكتم للسر من صاحب السرِّ.» وما ذاك إلا برهان على أنَّ كتمان السر ليس بالأمر السهل، فإذا طلبت بين الناس من لا يبوحون به فقد لا تجد في الألف واحدًا؛ لأنَّ البشر مطبوعون على الثرثرة.
يتهمون المرأة بإذاعة الأسرار، وقد عرفت رجالًا لا يتحدَّثون إلا بقال فلان وقالت فلانة، وإذا فَرَغَتْ جعبتهم من أسرار الجيران ينشرون ما في بيوتهم لأن ذلك من طبعهم ودليل على ضعفهم.
فلنتقِّ شرَّ هؤلاء، وخصوصًا إذا كانوا ممن لا يكتفون بالمتن، بل يُعلِّقون عليه الحواشي والذيول … وقد صدق الشاعر الذي قال فيهم:
وأخيرًا فنحن لا نعني بالأسرار ذلك الكلام الذي يقال في جلسات يعقدها من لا مروءة لهم للوقيعة بالناس، فتلك أصحابها جبناء ضعاف يطعنون في الظهور لا في الصدور، وعلينا أن نُشهِّر بهم ليتأبَّاهم الناس، فليس ما يستودعونه صدور الآخرين إلا اغتيابًا، وإنما نعني بالسر ذلك الأمر الذي ينفعنا ولا يضرُّ غيرنا، فهذا ما يجب أن ندفنه في قاع الأرض.
فلا تفتح يا أخي بابًا تعجز عن إغلاقه، ولا ترمِ سهمًا لا تستطيع ردَّه، وإن عاد فإلى صدرك، وإذ ذاك يصح فيك قول الشاعر: «وإذا رميت أصابني سهمي.»