إلى جندي
بان لي أنَّك متبرِّمٌ بما صرت إليه كأنما كنت ترجو غير ما وقعت عليه، وكأنما الجندية في نظرك — كما اشتممت من رسالتك — أحطُّ منزلة مما كنت إليه تصبو وتطمح، ربما دار في خَلَدك أن تهرق شبابك على حفافي كرسي … فلا تقوم عنه حتى تترهَّل مثلي وتفتقد ماء شبابك فتجده قد ساح تحت أرجلها، وتُفتِّش عن نشاطك فتراه قد تسرَّب من ثقوب غربالها.
الله الله يا بُنيَّ! لا لوم على المخضرَمين مثلنا إن صغرت الجندية في أعينهم، قد نكون غير مخطئين مثلك؛ لأنَّ الجندية في عهدنا كانت رزقة من لا رزق لهم، كنا في لبنان مرقد العنزة، لبنان البروتوكول، ولم نكن مثلكم في عصر الكفاح والجهاد، في العصر الذي تتجنَّد فيه المرأة والملائكة.
تقول لي: وأخيرًا صرت جنديًّا … كأنك تعني أنك بعدما تبحَّرت في دراسة آداب العرب والعجم ونلت ما يسمُّونه البكالوريا، تأسَف أن تكون العقبى ما كانت.
أمَّا أنا فرأيي غير رأيك، ووجهة نظري تختلف جدًّا عن وجهة نظرك، أتوقَّع أن أراك مروضًا خشنًا مطيعًا، تسمع كلمة الآمر فتدور كخذروف وليد امرئ القيس، وتُقبل وتُدبر وتنحطُّ من عل كجواده، إنَّ صوت جرس المدرسة رخيم، أمَّا بوق الثكنة فنعَّار. سوف تشكو في بادئ الأمر، وقد تسيل دمعًا من خلائقه الكبر متى أضواك الليل، ولكنك ستكون رجلًا إن صبرت، تصوَّر الساعة التي يزيَّن بها هندامك بالشرائط الفضية والذهبية، وتلمع على صدرك نجوم المجد وبدور الشرف فتصبح فلَكًا دوَّارًا … أحلم بمجد الجندية الذي يسير مع مجد الوطن جنبًا لجنب تستمرئ فظاظة المدرِّب وخشونة الآمر، فالوطن كله يتجسم فيك، في قلبه وعلى حدوده، فأنت الوطن والوطن أنت، إنَّ الجندية يا عزيزي هي المدرسة العملية تدخلها الآن بعد مدرستنا النظرية، ولك فيها دروس قاسية كل واحدٍ منها يروض بمقدار ألف درس من دروسنا.
شتَّان ما بين بيتكم والثكنة، فقد كنت لا تنهض إلا متى شئت، تستسلم للفجر فتدغدغك أصابعه السمراء وتغرق وتعوم في بهجة الصباح ملقيًا همَّك على أبيك، ولكن للفجر لذة أخرى لا يذوقها إلا المستيقظ النشيط، وللصباح محيًّا وثَّابًا لا يستقبله إلا المبكر، سيعلمك الواجب العسكري كل هذا فاصبر تتعود، إنَّ المرء مجموعة عادات ولا مكان يثبِّت العادة ويمكنها مثل الثكنة العسكرية.
إنَّ أول ربٍّ واحد عرفناه كان ربَّ جنود، ربَّ إبراهيم ويعقوب، أمَّا اليوم فجميع الأرباب يا عزيزي أرباب جنود، فهل نبقى وحدنا في هذا العالم نهرب من الجندية هربنا من الطاعون؟ افتح مزامير داود واقرأ المزمور الرابع والثمانين، ففيه يصيح: «ما أحلى مساكنك يا رب الجنود! طوبى للساكنين في بيتك! يا رب الجنود، طوبى للمتكلين عليك!»
أجل إنَّ الوطن يتَّكل على جنوده الأيقاظ … إنهم السور المحيط بالقصر، والسور يظلُّ منتصبًا حارسًا. لا تحسبنَّ الجندية أمرًا حقيرًا، إنها فضيلة عظمى، فضيلة عملية، إنها فضيلة في ذاتها وفضيلة في مفعولها، هي الحارس الأمين للفضائل التي تواضع المجتمع على تقديسها، ففي يدك أنت الذي تستحقر عملك، حياتي وحياة آمرك وآمري، فلا تستصغر مهمتك، فالمهمة تكبر بمن يتولَّاها، فإذا عرفت منزلتك وعظم شأنها أدركت الاحترام الذي تصبو إليه نفوس الشباب.
إنَّ الجنديَّ هو أحد الحروف التي يُكتب بها تاريخ الوطن، فجدَّ لتكون حرفًا مشدَّدًا فلا تخرج رخْوًا ولا مائعًا فيمجُّك الذوق وتنبو الآذان عن سماعك، كن حرفًا يُتمُّ المعنى ويقوِّيه ويخلع على التعبير حُلَّة سحرية، إنَّ الوطن في أقصى الحاجات إلى الجندية، ولا يتحد بنوه إلا تحت سقف بيت ربِّ الجنود الذي هو الوطن.
لو علمت يا عزيزي كم حبة من القمح تتحد لتؤلِّف غذاءك اليومي، الغذاء الذي تلح صباح مساء على ربك في طلبه؛ لهان عليك الأمر. هلمَّ نتأمل معًا أطوار الحبة فتهون عليك أطوار الجندية، فالحبَّة تموت أولًا وأنت بحمد الله لا تموت، ثم تخرج عشبة تقاسي ألف ويلة قبل أن تصير سنبلة تتلع عنقها بغنج وحياء، حتى إذا استوت ونضجت بين يدي الحرِّ والقرِّ حُصدت وحُملت إلى البيدر لتحتمل محنة النورج، وبعد آلام الدياس يأتي ضغط الرَّحى ويا للهول! ثم العجن وكم في العجن من آلام! ناهيك بما ينتظرها من حرٍّ متَّقد في التنُّور، ومن نار حمراء تحت سقف الفرن، حتى إذا أصبحت رغيفًا قُدِّمت لك فأكلتها هنيئًا مريئًا.
إنَّ الحَبَّة لا تتذمَّر إذ تقطع هذه المراحل الشاقَّة، وهل تظنن أننا جميعًا غير حَبٍّ يُطحن ليُغذِّي ويُبقي النوع؟ إنَّ قول أبي العتاهية يؤيد ما أقول:
تأمل يا عزيزي كأس الخمر التي فتنت الأخطل وأبا نواس، وتذكَّر كم تحدَّثنا عنها في الصفِّ، تارةً مجدِّين وطورًا ضاحكين وأحيانًا مستهزئين ومقبِّحين، إنها مؤلَّفة من آلاف حبوب مرَّت في أطوار أقلها هولًا وألمًا يفوق أشد أطوارك، فكما تتحد ملايين الحبَّات لتؤلِّف غذاءنا وشرابنا، كذلك يجب أن تتحدوا أنتم الشباب لتؤلِّفوا الوطن، ولا وطن بدون جنود.
أرجو أن أراك رغيفًا شهيًّا في مأدبة الوطن، رغيفًا تفترسه العيون قبل الأيدي، أرجو أن أراك كأسًا مثل عين الديك صرفًا. أتخيَّلك كولونيلًا أو جنرالًا بعد أن تمرَّ في محنة القمح والعنب، إنَّ الوطن يحتاج إلى مثل هذا الاتحاد؛ اتحاد الحنطة والعنب، ولا يكون ذلك إلا في صفوف الجنود. إنَّ للخبز والخمر في المسيحية معنى كهذا الذي بسطته لك، وما أسماه معنى! فلسنا نجد قُوتَنا القومي إلا في مساكن ربِّ الجنود وما أحلاها يا عزيزي!
عرفت الجندي لعينًا ونظَّارًا، ورأيته جلَّادًا، وعشت حتى رأيته اليوم في هذا العصر صديقًا ومرشدًا، ولا شك في أنك ستكون من عصابة المرشدين الحكماء؛ لأنني لمحت فيك — إذ عرفتك واختبرتك — الفضائل الأدبية الأربع: الفطنة والعدل والقوة والقناعة.
ففطنتك تنير طريقك فلا تعثر بحجر رِجلك، والعدل يُنظِّم إهمال إرادتك ويرتِّبها فلا تظلم ولا تحابي، والقوة تجعلك تتمثَّل بقول القائل: «لأستسهلنَّ الصعب أو أدرك المنى.» والقناعة تحفظك بريئًا من كل ما يتَّسخ به ثوب من يخدمون الجماعات.
وقصارى القول يا أخي: إنَّ الجنديَّ الأمين يجعل الناس فضلاء غصبًا عنهم، فهو حافظ الحقوق من الامتهان متى كان عادلًا، وحارس على الأخلاق الفاضلة متى كان فطِنًا، وصائن الضعيف وحاميه متى كان قويًّا، وقاتل الطمع — علة المجتمع الكبرى — إن كان قنوعًا، ومن كان عادلًا قويًّا قانعًا فطِنًا كان رجل التضحية، ونحن أفقر الناس إلى التضحية.
وإن قلت: ما هذه المواعظ الجافَّة يا معلم، فما هكذا عوَّدتنا؟! فاسمع الجواب: إنني أخاطبك جنديًّا، والجندية لا تعرف الهزْل لأنها جدٌّ كلها، ومتى خالطها الهزْل تَشَوَّش نظامها وسقطت الفائدة المرجوَّة منها.
تصوَّر فرقة تتمرَّن وتضحك، فما تراه ينطبع في نفوس أفرادها؟ إنهم يخطئون أهدافهم وتنقب نعالهم ويضيع تعبهم، إنَّ مهمتك جدية كلها، ولا متَّسع فيها للنوادر والفكاهات. ومتى استقام لك نظامها وتمكَّن من نفسك وكتبت إليَّ كتابًا عامرًا بالإيمان حافلًا بالرجاء منتعشًا بالمحبة لرفاقك ولمدرِّبيك الذين قلت فيهم إنهم وجوه من خشب فارقتها الماوية منذ قرن ونيف … أجل متى حدَّثتني عن الجندية حديث أخ بطل لا مُكره؛ أكتب إليك باللهجة التي تعهدها بي ساعة النشاط والجمام. أمَّا الآن يا حبيب القلب فأقول لك المثل المعروف: «من دقَّ الباب سمع الجواب» …
أودِّعك الآن وأترقب بصبر تباشير الساعة التي أرى فيها الحَجل مزوَّقًا، أي ساعة تظهر على جناحيك الألوان، فأنت الآن يا حبيبي كأفراخ الحطيئة بذي مرخ لا ريش ولا وبر، فاجتهد تَصِرْ طاووسًا، نجَّاك الله من خُيلائه وزهوه!
نسيت أن أحييك وأقبِّلك فاعذرني، ولك أن تُسمِّي كتابي هذا «الأبتر» كما سموا خطبة زياد «البتراء»، وإلى اللقاء.