إلى رجل الغد
يا حبيب القلب
لأجلك اليوم أضع الحبر على الورق، وهما سميراك ونديماك، أنتم — جماعة الطلبة — غاية كلِّ أمَّة، أنتم الحجارة التي نشيِّد بها صروح الأوطان، يسمُّونكم اليوم رجال الغد، وقد سمَّاكم الشاعر من قبل أكبادنا التي تمشي على الأرض، فأنتم — كيفما دارت بكم الحال — رأس مال البيت الأصغر والبيت الأكبر، أي الأسرة والوطن، ومن لا تهمه صيانة رأس ماله وتنميته فاقرأ إذن غير مأمور كلمتي الموجَّهة إليك أيها العزيز في تشرين الأسود لا الأغر.
أرجو يا بُنيَّ ألا تكون ضيَّعت اللبن في الصيف، فأمانيك الصيفية قد تناثرت أمنية أمنية، كما بدأ يتناثر ورق الشجر ورقة ورقة، فعسى أن تتعلَّم من الخيبة كما تتعلَّم من الفوز والنجاح.
غدًا أو بعد غدٍ، وإن امتدَّ الأجل فبعد أسبوع، ستفتح بوَّابة المدرسة ذراعيها الكالحتين وتنطبق عليك كماشتها السوداء، فلا سراح ولا براح … غدًا سترانا، ولا إخالك متَّ شوقًا إلينا، ولكن أخوك مُكره لا بطل، كما قال المثل القديم، ومن يدري فلعلك قائل مع الذي استبشع وجه الحريري: وجه الحريري وجه قردٍ، والضرورات أحوجتنا إليه، فليكن، أمَّا أنا الذي لا أكتم شيئًا عنك فأقول لك ما قاله البدوي:
فهلمَّ إذن يا عزيزي إلى مدرستك طيِّب النفس، مرتاحًا إلى لقاء أساتذتك المتساوين معك بالعظمة والكرامة، فكلاكما تقولان معًا: الله مع الصابرين …
رويدك يا ولدي ولا تكن لجوجًا ولا حرونًا ولا شموسًا، فالعلم لا يُدرَك إلا بالصبر، والصبر الطويل الجزيل، فاصبر على كل ما لا يرضيك … فمنذ زمان لم أخصك بشيء، مع أنك يا عزيزي موضوعي المنشود، وعليك أبني الرجاء، فعسى ألا يكون بنياني على شفيرٍ هارٍ، سوف لا أنقطع عنك بعد اليوم. وأمَّا خير ما أزوِّدك به الآن من نصائح الموسم، فهو رسالة أخ خرج من المدرسة كتبها إلى أخيه الصغير الداخل إليها حديثًا.
أخي الحبيب
أمس كان عقد شملنا منظومًا، وملائكة الاتحاد تُرفرف فوق رءوسنا. أمَّا اليوم فقد انفرطت منه حبَّة صغيرة عزيزة على قلبنا وهي أنت. قد بتَّ سجينًا، والمدرسة سجن يدخله الولد طائعًا مختارًا. إنَّ قفص المدرسة حلو، فكما يُسجن الطائر الذي تُرجى فصاحته ليُطرب ويشجي، كذلك يُسجن الفتى الذي مثلك ليسمع الوطن صوته في غد، فاجتهد لكي تبرع، فما نحن إلا طيور عابرة في فضاء التاريخ الهازئ.
ليست آلام أمي وأمك بأخفِّ من آلام أمِّ الطائر الذي انتزعته أنت في أول الصيف من عشِّه، أتتذكَّر صراخها؟ هذي حال أمي وأمك. أتذكُر العصفورة المفجوعة بولدها كيف كانت تحوم حول بيتنا؟ كانت تقع بحذر على عيدان القفص الذي أعددته أنت لابنها، هذه حال أمك اليوم، لا يزال قلبها يرافقك وعيونها ترفُّ حول أسوار المدرسة، ودموعها جارية في وادي الوجنات، فبالله عليك لا تتوانَ، ادرس ليل نهار لتحوِّل دمعتها الريَّانة إلى ضحكةٍ رنَّانة.
لا بدَّ من أن تبكي عندما ترى نفسك صغيرًا بين أفراخ الإنسانية، ولا سيما عندما تحملك الذكرى على أجنحتها إلى عالم الأحلام، فتبدأ لأول مرة تتذكر أيام صبوتك الحلوة، ستتذكَّر أيام كنت تلعب مع عشرائك تحت سنديانة الضيعة، أيام كنتم تطوفون قاطفين الأزهار، قابضين على الفراشات اللطيفة المنكبَّة على الزهرة تصافحها وتناجيها، وتُسِرُّ إليها ما لا يعلمه إلا المبدع الحكيم، قد كنت قاسيًا أيها الصغير.
أنا عارف أنني أهيج شجونك ولا أُعزيك في بليَّتك الجديدة، لا بدَّ من الألم يا عزيزي فهو مهماز يحثنا على السير لنبلغ الواحات المرجوَّة، هكذا تألَّمت قبلك حين تذكَّرت ففاضت شئوني واتَّقدت شجوني. الذكرى مُرَّة يا أخي الصغير، ولكنها لا تخلو من حلاوة، ولولا المُرُّ ما عرفنا قدر الحلو.
سوف لا يروقك هذا الطور الجديد، ولكن تصبَّر لتذوق طعم الحياة المدرسية، إنَّ لها حلاوة خاصة لا تنساها طول عمرك فتمتع من شميم عَرَار نجد …
لا تخش بأس المعلم فهو ليس غولًا كما صوَّروه لك، إنه أخٌ وأبٌ وصديقٌ إذا أحسنت سياسته، فكن لبِقًا ولا تزعجه، فهذا المسكين يخشاك كما تخشاه، فاعرف أنت من أين تُؤكل الكتف. إنَّ «فلق» الخوري إبراهيم و«طبشته» لا وجود لهما في دنياك الجديدة، فبالكلام الليِّن يروِّضون اليوم أشبال الإنسانية، الضرب ممنوع، ولا يحظى بلقائه إلا صاحب المخ اليابس، فكن مطيعًا تنجح وتسلم، لا تهتم بغير تقليب صفحات كتابك إذا شئت ألا يقلِّب لك المحيط صفحته، احفظ النظام يحفظك. لا تكن ثرثارًا، واذكر قول والدتنا: لسانك حصانك إن صنته صانك.
النهار الصافي يُعرف من صباحه، فلتزهر صبوتك ليثمر شبابك، الطريق الطويل، أما سمعت حكاية المرحومة ستي عن النعجة التي شردت من الصيرة فأكلها الذئب؟
إنَّ في المدرسة طُغمة هم غير رفاقك صغار الضيعة، فلا تُعاشر إلا خيرهم لتعود إلينا كما خرجت من عندنا، لا تبالِ بقول من يزعم أنه يقوِّم اعوجاج رفيقه، فالخل لن يعود خمرًا مهما حاولنا وتعبنا. الدرس الدرس! أنسيت كلمة والدنا: الدارس غلب الفارس؟ فاجتهد ترجع إلينا فائزًا منصورًا.
كان أبي يسأل عني بعض معلِّميِّ فيمتدحون عبقريتي حتى سمَّوني فيلسوف المدرسة، أمَّا حين دخلت العالم فوجدتني أجهل أبسط الأمور، قد كنت أضحك ما استطعت حين أسمع شهادة الزور فيَّ … عفوًا شهادة المبالغة التي تعوَّدناها في أحاديثنا كلها، كنت أضحك من مديح معلِّمي ومغالاته وأقول في قلبي: مسكين والدي! إنه يجهل العلوم التي أتلقَّاها، فلو ألقى عليَّ بعض أسئلة لأضحكه جهلي بالواقع، وعرف أنَّ ابنه يتعلم ما لا يمس حياته ولو عن مسافة أميال. أمَّا أنا والشكر لوالدي الذي باع «كرم الجورة» حتى علَّمني، فصرت لا أسأل عنك المعلِّم، بل أتولى فحصك بنفسي.
إنَّ الطحان لا يُغبِّر على الكلاس، فاجتهد لتُحسن الإجابة على أسئلتي، وأدق لك على ظهرك أمام الأهل والجيران فتطول قامتك شبرين …
نصيحة يا أخي، إنَّ المدارس أمست تُعلِّم الإسراف، وليس الذنب ذنبها، فالولد مطبوع على التشبُّه فلا تتشبه بسواك. كن مقتصدًا لا مبذِّرًا ولا بخيلًا، فالمبذِّرون إخوان الشياطين، والإسراف وخيمة عواقبه. لا تتشبه بابن من هو أوفر ثروة منا، بل اجتهد لتفوقه أدبًا وعلمًا، فالعلم سيكون رأس مالك الكافي لتعيش مثله في العالم. إنَّ المدرسة التي أنت فيها توطئة لمدرسة أعلى منها، فتعلَّم جيدًا ليسهل عليك دخول بوابتها، إنَّها بوابة العالم التي شبه بها طرفة فخِذَي ناقته بقوله: «كأنهما بابا منيف ممرد.»
تذكَّر حكاية ابن حنَّا مرقص الذي قضى خمسة عشر عامًا في المدرسة، ثم خرج منها مثل الشعرة من العجين، أظنك ما نسيت سهراتنا وضحكنا عليه، وكم كانت خيبته مُرة حين قرأ على الناس في السهرة خبرًا محليًّا في إحدى الجرائد، تذكَّر أسف شيوخ القرية على مال ضيَّعه أبوه وما أكل من العوسج تينًا، فإذا أردت أن تكون مثله فالمسألة هيِّنة، اسمع أعلِّمْك: اضرب بالكتاب عرض الحائط وقل مثلما قال: حمار طيب خير من فيلسوف ميت.
فبالمحبَّة الأخوية أستحلفك وأسألك ألا تَدَعَ نسيم الكسل يُطفي شمعة ذكائك، اجتهد ليكون هذا القبس نارًا مضيئة تحرق وتنير. ثق أننا وضعناك في مدرسة معظم رجالها من أهل الخير والصلاح، فإذا خاب ظنُّك في واحدٍ منهم فالكمال لله وحده. لا تنتقد ولا تذمَّ، وبالعربي الفصيح: لا تطوِّل لسانك، ففي كل أسرة أخيار وأشرار، فكيف بالمدرسة التي تلمُّ من هنا وهناك؟
وأخيرًا، وكأني أراك تبكي وتنوح وتكتم ذلك لأن وجه تشرين الأصفر حالك السواد في أعين التلاميذ؛ اصبر عليهم حتى ينسوا صفاء ليالي الصيف، ويشرعوا بالعمل بعد أن تمَّحي في عقولهم صور الغابة والنهر والوادي والبحر. لا تحسب أنك تاعس الجدِّ، فأنا اليوم أتذكر مقعد المدرسة القاسي وأفضِّله على كرسيِّي الناعم الذي أجلس عليه بفضل العلم.
طمِّني دائمًا عنك، واطلب مني ما تشاء من حاجات لا بد لك منها، فأنت أمانة في رقبتي، قدَّرني الله على وفاء دَين المرحوم والدي بتعليمك كما علَّمني!
وختامًا أقبِّلك. وإلى اللقاء.