أفقره عقلُه
في ليلة ارتدت ثوب النُّسُك والزهد، قُرع بابي قرعًا مزعجًا فعَرَتني هزَّة وقلت: من يدقُّ الباب؟
فأجابني صوت عريض أجشُّ يتمطَّق بالكلام، قال: فقير ضربه الدهر كفًّا أطارت صوابه، ومسكين ضيَّع حظه فراح يفتِّش عنه في بيوت المحسنين الكرام، ضعيف يستجير بالأقوياء، وبائس ولا كالبؤساء.
فقلت في نفسي: أفي عصر بديع الزمان نحن؟! إنَّ شحَّاذنا أستاذ محنَّك. ثم صحت مقاطعًا: أشحَّاذٌ أنت أم خطيب؟! متى كان المتسوِّل يُلقي خطاب عرش؟! ومتى صارت الفصاحة من آلات الشحاذة؟! مضى يا رجل عصر الهمذاني والحريري، فلله أنت من فارس بيان! تفضَّل ادخل.
فدخل وهو يشخر وينخر، وبعدما مسح جبينه عرض عليَّ رأسًا كأنه بطيخة صفراء فيها عينان تبصان لم يطفئ البؤس لمعانهما، وقال: تنظر البشر إلى الفقير الضعيف نظرة هُزْء واحتقار، ويدوسون على جسمه ليصعدوا إلى عرش الغِنى والرِّفعة، قرعت أبوابهم فكان ردُّ الجواب: الله يعطيك، وعلى الله، دعاءٌ جميل، ولكنه لم يشترِ لي رغيفًا أسُدُّ به ما في بطني من فراغ، ولا كساءً عتيقًا ألُفُّ به أعضاء لم يبق منها إلا ما يدل عليها دلالة غامضة … وها هي ريح الشمال تُهمهِم وتُزمجر، تدقُّ الأبواب دقَّات أعنف من قرعي بابك.
فقلت: عدنا إلى الخطابة، قل ماذا تريد مني؟
فراح يُهمهم ويردِّد: أريد منك، أريد منك، وكأنه أمسك خيط الخطاب الذي أفلت منه فقال: دخلت تلك البيوت فلم أرَ غير نظرات احتقار ووجوهًا عابسة يابسة، التمست برَّهم فتجهَّموا لي، وما جادوا عليَّ بالكسَر المتساقطة من موائدهم، قال لي خدمُهم: لقد أعييتنا يا هذا، كيف قدرت على صعود هذا السلم العالي وأنت على ما أنت من الهُزال؟ فمعلِّمنا وهو كالجاموس ثخانة وسِمنًا لا يرتقي فيه بضع درجات حتى يكاد يلفظ آخر نفس.
تلك كلمات خاطبني بها بوَّاب البيت، وأمَّا أصحابه فكانوا ملتفِّين حول مائدة القمار كالحلقة المفرَغة، ساكتين لا يُسمع لهم حسٌّ كأنهم في صلاة عقلية، فنزلت من ذلك البيت كاسف البال أقول لربي: إذا كان الأغنياء لا يغيثون البائس فمن يغيثه؟ أأترابه سكان الأكواخ؟! إنَّ الغنيَّ وصيٌّ على الفقير، فلماذا لا يرفق به؟ ثم أنت يا الله، يا عارفًا بخفايا القلوب، كيف أنعمت على هؤلاء الذين لا يقرُّون بفضلك؟
فقلت: ومتى تنتهي؟
فقال: وعرَّجت على بيتٍ توسَّمت فيه الخير، فسمعت فيه أنينًا وبكاءً، رأيت هناك صِبية صغارًا قد تعلَّقوا بأذيال أمهم وهم يصرخون: جُعنا هاتي أطعمينا، فقلت في نفسي: كالمستجير من الرمضاء بالنار! في ذلك القصر سعة وفرح وفي هذا الكوخ ضيق وشدَّة، وفي ذاك القصر تأكل جِراء الكلاب حتى تنبشم، وفي هذا الكوخ يشقى أطفال بني الإنسان! ولكن هؤلاء كانوا أرحم من أولئك فأنزلوني بينهم باشِّين هاشِّين، فقضيت عندهم عشية تشاكَينا فيها، لاعنين الدهر على رنين الأقداح المتصاعدة من القصر، كانت تقع في آذاننا فتجرحها وتزيد آلامنا المبرحة هياجًا.
وحاولت أن أقاطعه، ولكنَّ صاحبنا استولى على المبادرة وقذف بهذه الكلمات: وفي الغد، وكان يوم أحد، بكرت إلى المعبد لأشكر من لا يُشكر على مكروه سواه، وأسأله خبزي اليومي؛ لأنه قال: «اطلبوا تجدوا» … فجلست على كرسيٍّ كان ملقًى في زاوية المعبد. فما استرحت عليه قليلًا حتى أقبل خادم غليظ الكبد والقلب وحذفني عنه بعنف وقال إنه لا يليق بك، قم عنه، هناك محلك، وأشار إلى البلاط، ثم طار بالكرسيِّ ليقدِّمه إلى أحد الأغنياء، فتركت مكاني وانتقلت إلى إحدى الزوايا وقبعت فيها مستنِدًا إلى الجدار، فكرَّ عليَّ ثانيةً ليبعدني عن الحائط المزوَّق وعن صندوق الفقراء الذي كان بالقرب مني، فتأثرت إذ ذاك منه وصحت به قائلًا: كما يسهر الغنيُّ على صندوقه ويقيم بالقرب منه، كذلك أنا أقيم بقرب خزانتي لأحفظها.
ولمَّا رأى جُرْأتي عليه تركني حيث أنا فتكوَّمت في تلك الزاوية، ولمَّا انقضت الصلاة خرجت وبسطت يدي للخارجين من الهيكل، فأدركت بعض الصدقات من الطبقة الوسطى، أمَّا أصحاب الجيوب الوارمة فلم يكترثوا لي، بل كانوا يسيرون ومن حولهم جماهير المدلين.
وذهبت إلى الملاهي فرأيت فتية كأنهم من بقايا أبي نواس، خمرة في العيون والخدود، يلوكون ألسنتهم من الخمار ويتساقطون تساقطًا على الخوان وإلى جانبهم الغواني الخالعات العذار، فما رأوا ما عليَّ من أطمار حتى استعاذوا بالله، وأَوْمَئوا إليَّ بأطراف البنان مزوَرِّين لاعنين شاتمين؛ لأن منظري عكَّر صفو مجلسهم، وكأنهم أنِفوا أن يُلوِّثوا أيديهم بي فاستعانوا عليَّ بالساقي، وكانت صدقتهم لعنات وشتائم.
وانتصبت في الشارع حينًا أمُدُّ اليد تارةً وأرفع الصوت جهرةً، ولكنَّ خريرَ الدواليب وعواء المزامير وصراخ الباعة كان يبتلع ذلك الصوت المغبون. وفي الشارع أبصرت الزاهد يسير مطرق الرأس، والسكير يتعرَّج على الجانبين، والغنيَّ يجرُّ ذيول الغطرسة منتفخًا، وقلَّ من يُعِير البائسين التفاتة! يتحدَّثون بألسنتهم عن البرِّ والإحسان وتزكية المال، ولكنهم يقولون ما لا يفعلون!
وذهبت إلى إحدى المدارس، وهناك اللياقة وحسن الاستقبال. يا ويلي على أولاد هذا الزمان، وألف ويلي منهم! ضحكوا مني، كنت كيفما جُلت في المدرسة لا أسمع غير قهقهة وصفير، سخر واستهزاء، وتنادُر وتهكُّم؛ واحد يدفعني وآخر يتلقَّاني، فخلتني كرة يتلهَّون بها في الملعب. كانت هذه الإهانة أشد وقعًا في نفسي المتألِّمة من كل ما قاسيت من خيبة، فقلت في قلبي: أمَا كفاهم أنهم لم ينفعوني بنافعة حتى يضحكوا عليَّ؟!
فناديت المعلم بأعلى صوتي: إذا كنت تعلِّمهم الضحك من الفقير البائس والاستهزاء به فما نفع تعليمك؟ ما فائدة العلم الذي لا يعرف الإنسانية؟ علِّم تلاميذك أن يكونوا بشرًا قبل كلِّ شيء، علِّمهم الإحسان وإن لم تكن أنت محسنًا، فكثيرون هم الذين يُعلِّمون بما لا يعملون به، وإن لم تقدروا على الإحسان فلا أقلَّ أن تَرْثُوا الفقير وترحموه.
فبُهت الأولاد من حديثي، وأخذوا جميعًا ينظرون إليَّ معجَبين، فاسترسلت في الكلام وقلت: سمعت أنَّ أكثر مدارس هذا الزمان تُعلِّم الرفق بالحيوان، فما قولكم يا شباب بأخيكم الإنسان، أليس هو الأجدر بأن تَرْثُوا له؟ يقول المثل: زاد واحد يكفي اثنين، وأنتم جمهور — بارك الله فيكم — أتعجزون عن أن تُغدُّوا رجلًا لم يمتِّع نظره اليوم برؤية وجه الرغيف؟! …
وجاء الرئيس على صراخي فأمر بإخراجي؛ لئلا أُضيِّع وقت طلاب مدرسته، فأجابه كبير منهم: دعه يُتمُّ خطبته فهو يُلقي علينا درسًا لا تأتي المدرسة على ذكره.
وأراد زائري الكريم أن ينثر ما بقي لديه من الدرر، فقاطعته قائلًا له: كيف تجهل وأنت الحصيف الفصيح قول القدماء: السائل ذليل ولو ابن السبيل؟!
فقال: إننا نسأل لنعيش ولا نطلب إلا قوت من لا يموت، ولو كان السؤال حرامًا ما قال الله: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ، وإني رأيت ذلَّ السؤال أعزَّ من خدمة الأنذال، فما قولك دام فضلك؟
فقلت: أراني أحدِّث فقيرًا ولا كالفقراء، فمن أنت يا رجل؟
فزفر زفرةً ملأت الغرفة وأجاب: أنا فلان رفيقك في المدرسة، نسيتني يا مارون؟!
فقلت: الله! أنت فلان؟!
فأجاب: نعم، أنا هو، وما أفقرني إلا عقلي!