هذا أوان الشَّدِّ
إذا شئت أن تنجح أيها الطالب، فانظر إلى الزارع كيف يغدو إلى الحقل وتشبه به، إن ما تزرعه اليوم تحصده غدًا، فاعمل ليكون بيدرك كبيرًا وغلَّتك كثيرة، فأبوك أعدَّ العدل وأمك هيأت الكوارة، وقدر ما تحط بالقدر تشيل في المغرفة. إن خلاصك بيدك، بحياة كلِّ عزيز على قلبك قل لي: ما هي المدرسة؟ أليست المدرسة سجنًا اخترناه أنا وأنت؟ فاعمل بكل ما عندك من قوى لتبارح هذا السجن الجميل، هذا القفص المذهب أيها البلبل الطري العود.
أنا وأنت لا تعنينا السياسة الجوفاء، إنَّ السياسة كالنار تدفئك مجالسًا وتحرقك ملابسًا، فتمتَّع بمنظر ألسنتها المندلقة من فم موقدها الشَّبِق. إنَّ ثرثرتها ناعمة مغرية، ولكنها كالحبِّ تكوي وتَحرق، فحذارِ أن تمدَّ يدك إليها، فإنها ألسن تلحس ومداعبتها التهام وهضم.
أنت سامع ضوضاء الانقلابات وأنباءها تنقلها إلى أذنيك محطات الإذاعات، فتتراءى لك على شاشة مخيِّلتك أشباحًا لا تعلم من يتجسَّد منها أرواحًا، لا بأس، تسَلَّ هنيهة يا عزيزي، ولكنني أرجو ألا تسدَّ الطاقة التي بيننا. إصغاء هنيهة ونعود إلى عملنا، أعود أنا إلى مكتبي حيث أكتب قصة لبنانية عتيقة تحبَل بها مخيِّلتي وذاكرتي، وألدُها غصْبًا عني، أو مقال نقد وكيسي لا يعرف النقد، وتعود أنت إلى درسك لتتأهَّب للغد الذي ينتظرك.
أنت غدي أيها الفتى، أنت الفسيلة النابتة على أرومتي، وجنة الشرق تنتظرك، أجل لم يبق لي غد سواك، وهذا هو الخلود الملموس، خلود الآباء بالأبناء والأمة بالذرية. أتعلم كم قطعت أنا من الأشواط؟ اسمع فأخبرك، هذا سرٌّ بيني وبينك، لا تبح به لأحد يا عزيزي، ففي النفس آمال وفيك فطانة … شيخك دعس في السابعة والستين بحسب الهوية، وفي التاسعة والستين كما في دفتر المعمودية. لا تُرَعْ يا ابني فالعقل ما زال في الرأس، والنفس طرية، وبكلمة ألذ وأطيب: النفس خضرا، وما نفع الحياة إذا يبست النفس؟ إنها لا تصلح إلا وقودًا، وفي تلك الساعة نعوذ بربِّ الفلق من شر ما خلق.
هذي مقدمة أحببت أن أسترعي بها انتباهك، بل قل إنها أحبولة أو طُعم، فنحن المعلِّمين أشبه بالصيَّادين نضع ذبابة في الصنارة لنصطاد حفشًا. ثق وتأكد أنني أحب أن أتحدث إليك؛ لأنني عاشرتك أربعين عامًا وأكثر، والمثل يقول: «عاشر القوم أربعين يومًا، فإما أن تصير منهم أو ترحل عنهم»، فما قولك بعِشرة خمسين عامًا إلا قليلًا؟ لا تقل إنني صرت مثلك كما يتهم الجاحظ معلِّمي الصبية، فهذاك ماجن، وأنا ممن يكيفون وقلَّما يتكيفون. إن فيَّ نفْسين: واحدة خصصتك بها، وأخرى أبقيتها للحياة، والحمل — والحمد لله — معدل، عدلان متوازيان، فسر معي حتى لا تقصر في العقبة. لا تقل ما أفضى باله! الحديدة حامية وهو يلهو ويلغو! لا يا أخا الكتاب، إنني أقول لك ما قاله المعلِّم الأكبر لذلك الرجل: «دع الموتى تدفن موتاها واحمل صليبك واتبعني!»
صليبك كتابك، ووطنك يترقَّب صعودك إلى الجلجلة ليرى أي رسالة تعلِّم، فهيِّئ لتلك الساعة عُدَّتها.
أنت عمود الوطن، وللعمود صفتان أوليتان: المتانة والجمال الفني، فالمتانة هي الأخلاق الموروثة من دمٍ سليم جرى في عروق الأجيال والدهور حتى انتهى إليك نقيًّا، فهل يليق بك وأنت أمل الأمة ورجاؤها ألَّا تحفظ الأمانة وتؤدِّيها إلى الذرية كما تسلمتها نقية سليمة لا تشوبها شائبة؟ أمَّا الجمال الفني فيك أيها العمود الحقيقي فهو الثقافة التي جئت المدرسة في طلبها، فهل تخرج منها مثل الشعرة من العجين؟ إن فعلت هذا فأنت يا عزيزي حرامي! وإن كنت لم تسرق غير نفسك، وسارق نفسه أجدر بالقصاص من غيره، أليس الأفضل أو الأجدى لك أن يبقى هذا المال في عبِّك فتعمل به عملًا مثمرًا؟
وبعدُ، فما المدرسة يا عزيزي؟ قل إنها حبس كما قلنا ولا تستحِ من ذقني، وأنت طرحت نفسك في ذلك الحبس بملء إرادتك، فاعمل إذن مريدًا تكتسب علمًا، وإن كنت لا تريد فمن يعلِّمك. إنَّ الوحي انقطع كما تعلم وتؤمن، والعلم لم يوفَّق حتى الساعة إلى اكتشاف مصل مدرسي، لم تُخترع بعدُ أنابيب للغة العربية واللغات الأجنبية، وأنابيب للرياضيات والطبيعيات، وأنابيب للأدب والفلسفة، فتحقن بها شرايين دماغك لتأخذ العلم من أقرب طريق، العلم يتطلَّب كدًّا واجتهادًا، ومهما قلَّ ذكاؤك فأنت واصل إلى ما تبغي إن اجتهدت، فلا تقل هذا العلم لا يدخل عقلي، وذاك لا يلَذُّ لي، يجب أن تعرف كل شيء لتتفوَّق فيما تميل إليه.
لا تحلم بالشهادة ولا تسعَ إلى إحرازها سعي جاهل، إنها ورقة ليس غير إذا لم يكن في صدرك علم، الشهادة تحيا بعلم صاحبها كما يحيا الكتاب وينطق بفهم صاحبه، إنها تظلُّ حبرًا على ورق ولا تدبُّ الحياة فيها إلا منك، فمنك تستمدُّ حياتها، وبقدر معرفتك يرتفع قدر شهادتك، هبْ شهادتك سيفًا يمنيًّا، فالسيف محتاجٌ إلى زند ولا يقطع نائمًا في غمده. وبعدُ، فلو حزت الشهادة عن جدارة واستحقاق وزيَّنت بها صدر القاعة ثم لم تعمل، تظلُّ تلك الشهادة ورقة مزوَّقة، كقطع السلاح القديمة المزيَّنة بها حيطان بيتك.
أيَّة شهادة حازها الإمام علي والجاحظ وبديع الزمان والشدياق؟ وأي دكتوراه نالها أفرام السرياني وتوما الإكويني وابن رشد وابن سينا والمعرِّي والمتنبِّي والسمعاني والأوزاعي؟
لا أشبِّه لك الشهادة إلا بمفتاح تُعطاه لتدخل متحف الفكر الإنساني، فعليك المعول لا عليها حين تلج كهف الدهور، هناك ترى أناسًا استحالوا حبرًا وورقًا، ونضدوا كتبًا فيها كل ما في الأحياء من ميول وأهواء، إنهم يُرحِّبون بك، وكلٌّ منهم يجذبك صوبه بعنف ويريد أن يستأثر بك، ويا خيبتك حين تجلس إليه إن كنت لا تفهم عنه! إنك تزدري شهادتك حينئذٍ وتلعن من أولاكها لعنة قايينية. فلا تسعَ لإدراكها عن طريق الغش والخداع، فما تخدع إلا نفسك، لا تحصِّلها إلا بباعك وذراعك. إنَّ إرادتك ورغبتك تسهِّلان مهمتك، وإذا كنت لا راغبًا ولا مريدًا فانصرف إلى الحقل، فراعٍ حاذقٍ خير من متعلِّمٍ جاهل. رحم الله إسكندر العازار الذي نسيناه! فقد قال: «دخلت المدرسة حمارًا بلا شهادة، وخرجت منها حمارًا بشهادة!»
يقولون: القناعة غِنى، والطمع ضَرَّ ما نفع. إن القناعة في العلم لا يرضى بها إلا صديقنا الطويل الأذنين. كثيرًا ما أسمع أولياء الطلاب يؤاخذون المعلمين ويشجبون المدارس إذا قصر أبناؤهم، يسألونك عن أبنائهم ولا يسرهم إلا أن تكذب عليهم بإفاضة الثناء، فإذا قلت لأحدهم: ابنك مليح، ولم تشدَّ على كلمة مليح حتى تسحق سنًّا من أسنانك، قال لك: رخوة يا أستاذ … وإن صارحت أحدهم بقولك: ابنك لا يقبل العلم، معدته لا تقطع، عبس وتولَّى حانقًا وأنحى على المدرسة ومعلِّميها، ومهما تفه قدر المعلم يظل خيرًا من تلميذ ضيَّع ذكاءه بين البيت والمدرسة.
نعم، قليل جدًّا عدد الأساتذة الذين يحاسبون أنفسهم عندما يأوون إلى فراشهم متسائلين: ماذا طبعنا اليوم في نفوس تلاميذنا من أخلاق فاضلة؟ وماذا علَّمناهم؟ إنه لا يسأل كيف أدَّى درسه، وهل هناك نمط أمثل يلتجئ إليه، إنه لا يتحدث إلا عن التلميذ الذي حفظ درسه كالماء الجاري. والذي عرفته أنا بالاختبار هو أنَّ الأستاذ مهما حذق مهنته وأخلص لها، لهو عاجز عن أن يُعلِّم من لا يريد أن يتعلَّم.
المعلِّم في قاعة الدرس أشبه ببائع على الرصيف ينادي على الكعك السخن، على الترمس أحلى من اللوز، ولكنه لا يكون غريمًا فيركب كتفيك ويتمسَّك بأذيالك فلا تفلت منه حتى تشتري، فعليك أنت أيها الطالب أن تغتنم رياحك متى هبَّت، وإلا فالدائرة تدور عليك أنت لا على معلِّمك. إنَّ الوطن ينتظر فيك رجلًا فلا تنتظر أنت ورقة، ليست الشهادة بحدِّ ذاتها سلاحًا، فما أشرُّ من الحبر إلا الورق، فلا تكن في يدك كما كانت تلك الورقة في جيب ذاك المغفَّل مشتري المعلاق، نتشه الكلب من يده فصاح به: خذه، إنك لا تعرف أن تطبخه، فالورقة معي!
ألستما سواءً بسواء إذا كانت «شهادتك» لا تشهد لك إلا زورًا؟ …