الفقر سلَّم المجد
يقول العوامُّ: «الفقر زنجير الرجال.» وأنا أقول غير ما يقولون، أقول: إنَّ الفقر مِهْمَازٌ يُدمي الخواصر، فلو شَبِع الناس جميعًا واكتفَوا لم تتقدَّم الإنسانية خطوة واحدة، ولو لم يَشْقَ الإنسان لما بلغ ما بلغ. تصوَّروا أن أبانا آدم لا يزال في فردوسه الأرضي، وأن الله لم يُصدر تلك الفقرة الحكمية: «بعَرَق جبينك تأكل خبزك»، فماذا كان صار؟ وأين كنا اليوم؟ أما كنا كتلك البهائم التي لا يعنيها من شئون الحياة غير همِّ البطن؟ «الفقر زنجير الرجال» هكذا قالوا، أما الرجل الطمَّاح فلا يزنجره شيء، لا فقر ولا مصاعب، ولا تقف بوجهه عَقَبةٌ ما، إنَّ إرادته العظمى استباحت كنوز الأرض فانفتحت له وغَرَف منها ما شاء، فكل الحصون المنيعة تسقط واحدًا بعد واحدٍ أمام المريد الذي يقف على قدميه بعدما يسقط ألف سقطة. وخير عبرة لنا في هذا الموضوع أولئك الرجال المفارد الذين نهضوا من أعمق الأعماق وصعدوا في العقبات، وأخيرًا كانت الوثبة العظمى فبلغوا أعلى الذُّرى.
لقد ضلَّ من يعدُّ الفقر سببًا من أسباب تخلُّفه عن ركْب الحياة، ليته يتذكَّر قول شاعرنا أبي الطيب: «وربَّما صحَّت الأجسام بالعلل.»
الفقر علَّةٌ ولكنها علةٌ تشفي من عللٍ كثيرة، إنه مهمازٌ حادٌّ ينخسك ليل نهار فلا تستقر ولا تهدأ، لقد خلق عباقرة كثيرين، ومن يدريك أيها الشابُّ أنك لست منهم؟
فالأمير بشير ترك مسقط رأسه غزير وكلَّ ثروته حِمل جمل. ومحمد علي كان جنديًّا بسيطًا. وضاهر العمر كان خادمًا. وهتلر كان دهَّانًا. ونابليون كان لا رأس مال له غير الطموح ثم صار كل شيء، فلو وُجد هؤلاء في بحبوحة لعاشوا راضين ولم يُفكِّروا بالعظائم.
أريد منك أيها القارئ الكريم أن تسأل والدك إن كان فقيرًا واغتنى، كيف بنى لك البيت الذي تسكنه، وامتلك العقار الذي تستغلُّه؟ فلو وُلِد في حضن النعمة أمَا كان ظلَّ حيث هو، أو باع ما ورث وصار من المعدِمين؟
نعم الفقر مهماز؛ فأنا وأنت وهو لولا الحاجة ما بلغنا الغاية التي جرينا إليها، الفقر نعمةٌ يا أخي، الفقر سوطٌ يُلهب ظهر الطامح، أما المخلع والكسيح فيقضي عليهما لأنهما يثبتان أمامه.
نقرأ كثيرًا في الصحف السيارة في هذه الأيام، وخصوصًا بعد الحرب الأخيرة، أن الدولة الفلانية تكافح الفقر وتطارده لتقضي عليه، ولو تأملنا بعين الفكر ونظرنا إلى من نبت في حديقة هذه الدنيا من النوابغ والجبابرة وأعاظم الرجال؛ لرأينا أنَّ معظم هؤلاء كانوا من الذين عاشوا في الأكواخ، وأذاقهم الدهرُ لباس الجوع والخوف.
قال شاعر الإنجليز العظيم: «الفقر سُلَّم الطمع.» والمثل الألمانيُّ يقول: «الفقر هو الحاسَّة السادسة.» وقال أحدهم: «الفقر مخيف وكثيرًا ما يُخمد عزائمنا.» ولكن ريح الشمال القارسة هي التي تحثُّ الرجال ليندفعوا في ميادين البطولة، وأما النسيم العليلُ فإنه يجعلنا نستغرق في الأحلام العَذْبة اللذيذة.
وبعدُ، فليس الفقر عارًا، فلا تخجل إن كنت من الفقراء، بل استحِ إذا كنت لا تأكل خبزك بعرق جبينك، اخجل إذا كنت لا تأكل لقمتك حلالًا، فأطيب لقمة هي تلك التي تُؤتدم بالتعب، فما أحلى طعام الفقير وألذَّه!
إنه طعامٌ سريع الهضم يستحيل دمًا نقيًّا، ونشاطًا يدفع صاحبه إلى المزيد من الفلَاح، ففقرك يا صاحبي لا يدوم ما دمت تعمل، فكدَّ ولا تيأس. اعلم أن فقراء كثيرين مثلك أصبحوا قادة للأمم كما قرأت في صدر هذا الكلام، فما ضرَّك لو تشبَّهت بهم، ولم تنظر إلى الغارقين في الثروة حولك وحواليك.
اسمع ما رواه الرئيس هنري ويلسن عن نفسه، قال: «وُلدتُ فقيرًا وذُقت طعم سؤال الأمِّ قطعةً من الخبز وهي ليست لديها لتعطيني إياها، فكم كنت أبكي وأبكي ولا أحصل على غير الدموع المُرَّة المالحة! وأخيرًا فررت من بيتنا «الأسود» في العاشرة من عمري، وفي الحادية عشرة صرت خادمًا، وكان فرحي عظيمًا بهذا المنصب الجديد. كنت أتعلَّم شهرًا في كل سنة، وبعد إحدى عشرة سنة من العمل الشاقِّ كان لديَّ زوجُ عجولٍ وستةُ خرافٍ أكسبتني أربعة وثمانين دولارًا. لم أُنفق في عمري فلسًا على ملذَّاتي، بل كنت أقبض بيدي الثنتين على كل درهم أستحوذ عليه ولا أُخلِّي سبيله، هذا كان شأني من يوم نشأت إلى أن بلغت الحادية والعشرين.
مشيت عشرات الأميال لأسأل إخواني البشر عملًا أعيش منه. وفي الحادية والعشرين صرت سائق عربة تجرُّها العجول لأقطع حطبًا للمطحنة، وكنت أُبكر في نهوضي كلَّ يوم قبل الفجر وأظلُّ أعمل حتى العتمة لأقبضَ مرتَّبًا قدره ستة دولارات أسبوعيًّا، وكان كلُّ دولار منها يلوح لي كأنه البدر في الليلة الظلماء.
وانتهزت الفرص لأكتسبَ التهذيب وأتقدَّم، فطالعت ألف كتاب مفيد قبل أن أبلغَ الحادية والعشرين، ثم تركت المزرعة قاصدًا ناتيك ماشيًا مسافة مائة ميل لأتعلَّم السِّكافة، وبلغ كلُّ ما أنفقته في رحلتي هذه دولارًا واحدًا لا غير. وما مرَّت عليَّ سنة حتى انتُخبت رئيسًا لأحد نوادي المباحثات في ناتيك. وبعد مرور ثماني سنوات ألقيت خطابي المشهور ضد الاسترقاق والاستعباد في مجلس الولاية الاشتراعي، وبعد اثنتي عشرة سنة صرت أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي.»
هذه قصة رجلٍ عاش نصف عمره بائسًا أو كالبائس، وأخيرًا صار واحدًا من عظماء الأمة، فلو لم ينخسه مهماز الفاقة لم يقطع هذا الشوط العظيم من مضمار الحياة.
أرأيت إذن أنَّ الفقر قد يكون نعمةً لا نقمة؟ فلا تتأفَّف يا صاحبي ولا تتذمَّر، بل رُزْ نفسك وقل: ما ينقصني؟ لماذا لا أكون أنا الفتى الذكيُّ النشيط مثل هنري ويلسن؟ ألا تذكر قول المتنبِّي الفقير:
والعم بشَّار بن بُرْد ألم يكن من أبناء الفقراء؟ أليس هو ابن ذاك الطيَّان؟ والجاحظ ألم يكن ابن جمَّال؟ ألم يكن بيَّاع خبز وسمك؟ ألا يعجبك هؤلاء الثلاثة؟
فإذا كنت من محبِّي الثروة فكم من فقيرٍ أَثْرى! وإذا كنت تحبُّ الشأن الرفيع فحسبك هنري ويلسن، وإذا كنت ممن رُزقوا قريحةً وذهنًا ذكيًّا فاقتدِ ببشَّار والجاحظ والمتنبِّي.
إنَّ الفقر هو الذي يصيح بنا دائمًا: إلى العمل، إلى الكدِّ، فأكثر الذين أمسوا أصحاب ملايين، ومشاهير رجال، وكبار محسنين، ورجال دولة، وعلماء، وأدباء، وشعراء إنما هم من الأشخاص الذين كانوا لا يعلون عليك قيراطًا واحدًا، ولا تفوق أحوالُهم حالك بشيء.
إذا كنت مؤمنًا بالآية القائلة: إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ فلا تنسَ أنه — تعالى — قال: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا.
ما أحلى قول العوامِّ المنسوب إلى ربهم حين يقولون: قال الله للإنسان: قم حتى أقوم معك!
فلا تنتظر إذن أن يهبط عليك الرزق في قُفَّة، لا تتَّكل على الحظ، فالحظُّ لا يأتي إلى البيوت فيزورك كما يزورك المرشَّحون للنيابة.
الحظُّ كالنائب الذي يُغرقك طوفان وعوده، حتى إذا ما انتخبته وركب الكرسيَّ صار عليك أن تُفتِّش عنه ليل نهار لتصادفه مرةً …
الحظُّ لا يُدْرَك إلا صدفة، أما العمل فهو في انتظارك دائمًا، فاعمل ولا تخشَ الفقر.
لا فقيرَ في الدنيا إلا ذلك الذي لا يملك إرادةً ولا نشاطًا، فلا تكن هذاك الرجل تقبر الفقر.