الدين إيمان وعمل
نحن في هذه الأزمة التي لا تنفرج أحوج إلى توطيد الفرد منا إلى أي شيء آخر مهما علا وسما، فآفاتنا في شخصيتنا، لقد انحلَّت عُرى الأخلاق وتفكَّكت حلقات تلك السلسلة المفرَغة التي تربط المجتمع.
يقول بعضنا إنَّ اختلاف أدياننا يُباعد بيننا، كنت أظنُّ ذلك مثلهم، أما اليوم فصرت أبرِّئ الأديان من هذا، وإني لأتهم التربية إلى أن تظهر براءتها.
ما رأيت دِينًا من الأديان إلا ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ فالتعاليم الدينية قوانين سامية وُضعت لمقاومة الوحش في الإنسان؛ فالرسل والأنبياء — عليهم السلام — يؤيِّد بعضهم بعضًا في الإيمان، وهم متفقون على أنَّ العمل الطيب هو حجر الزاوية في بناية الإيمان العظمى التي تأوي إليها الإنسانية، وهذا حديثٌ شريف عن أبي هريرة: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لِعِلَّات؛ أمهاتهم شتَّى ودينهم واحد.»
فما بالنا نحن إذا قيل لنا تقوَّموا، تحابُّوا، اتحدوا، اعملوا صالحًا رحنا نُلقي المسئولية على أدياننا؟ فالإنجيل والقرآن متفقان على أنَّ العمل الصالح صنو الإيمان وهما غاية كلِّ دين، ولم يكتفِ دينٌ ما بالإيمان وحده.
فإذا تلونا القرآن الكريم وتصفَّحنا السورة الأولى قرأنا: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثم بعد قليل نقرأ فيها: مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا ثم وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
إلى أن نبلغَ الآية المائة والسادسة والسبعين فنقرأ التفصيل: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ.
ثم نسمع في سورة الرعد: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ؛ فكلمة الإيمان ما وردت قطُّ وحدها لا في القرآن ولا في الإنجيل، الكتابان متفقان على العمل الطيب الذي يُقدِّمه المؤمن، وفي هذا يقول الإنجيل: «ليس كلُّ من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت الله، بل الذي يعمل إرادة أبي الذي في السموات.»
وإذا انتقلنا إلى الحواريين والصحابة، سمعنا يعقوب يقول في رسالته مخاطبًا الإخوة: «ما المنفعة إذا قال أحدٌ إن له إيمانًا؟ فهل يقدر الإيمانُ وحده أن ينجيه إذا كان ليس له أعمال؟ إن كان لنا أخ أو أخت عريانين جوعانين، فقال أحدُنا لهما: اذهبا بسلام استدفئا واشبعا، فماذا يكون عمل إذا لم يُعطهما شيئًا؟ إن الإيمان بلا أعمال ميت في ذاته، أنت تؤمن أنَّ الله واحد، حسنًا تفعل، والشياطين يؤمنون ويقشعرُّون؛ فإبراهيم لأجل عمله دُعي خليل الله، فبالأعمال يتبرَّر الإنسان لا بالإيمان وحده، فكما أنَّ الجسد بدون روح ميت هكذا الإيمان بلا عمل، فالعمل الصالح روح الإيمان.»
والإمام علي — كرَّم الله وجهه — يقول في هذا: «لقد سبق إلى جنات عدنٍ أقوام ما كانوا أكثر الناس صلاةً ولا صيامًا ولا حَجًّا ولا اعتمارًا، ولكن عقلوا عن الله آخر أمره.»
وفي كلمةٍ أخرى يقول: «إذا أتى عليَّ يومٌ لا أزداد فيه عملًا يُقرِّبني إلى الله، فلا بُورك في طلوع شمس ذلك اليوم!»
إنَّ كلمةَ كاهنٍ خائفٍ ربَّه خطرت لي في هذا المقام؛ جاء هذا الكاهنَ رجلٌ يعرفه أنه اغتصب بئرًا لجاره وتملَّكها، فقال للخوري: يا معلِّمي، شربت سهوًا في ساعة الظهر أفَسَد صيامي؟
فأجابه ذلك الخوريُّ، وعيناه في الأرض: رُدَّ البئر لصاحبها، واشرب ليل نهار وخطيئتك في رقبتي.
إن الذين يظنُّون أن هذه الفروض تبررهم هم كثيرون، وأكثرنا يحكمون على الناس بناءً على هذه المظاهر التي لم يكن السلف الصالح يُقيم لها وزنًا، اسمع ما رُوي عن عمر بن الخطَّاب:
«كان عمر — رضي الله عنه — جالسًا للقضاء في الناس فشهد رجلٌ عنده في قضية، فقال له عمر: ائتني بمن يعرفك ويزكِّيك، فأتاه برجلٍ أثنى عليه خيرًا، فقال له عمر: أنت جاره الأدنى الذي يعرف مدخله ومخرجه؟
فقال: لا.
قال: كنت رفيقه في السفر الذي يُستدلُّ به على مكارم الأخلاق؟
قال: لا.
قال: عاملته بالدينار والدرهم الذي يستبين به ورعُ الرجل؟
قال: لا.
فقال عمر: أظنك رأيته قائمًا في المسجد يهمهم بالقرآن، يخفض رأسه طورًا ويرفعه أخرى؟
قال: نعم.
قال: اذهب فلستَ تعرفه.»
فبالعمل الصالح أمَرَت وتأمر الأديان، وهذا ما كان ينظر إليه دعاتها الأولون الذين تركوا لنا هذا الكلام المأثور الخالد.
وفي الحكايات المأثورة عن الفرس هذه القصة عن العمل الصالح:
«رأى رجلٌ ساعة القيامة في منامه، كان المذنبون يحملون خطاياهم على رءوسهم ليُقدِّموا الحساب عنها، وكان الميزان في الوسط، في كِفَّتيه الموازين والأعمال، والناس جميعًا من الملوك إلى الدراويش، من الأقوياء إلى الضعفاء مشغولون بأعمالهم، وكان كلُّ نبيٍّ يُحدِّث أمته قائلًا: لقد بيَّنت لكم أحكام الله، وحدَّثتكم عن يوم الحساب، وأمرتكم بالمعروف ونهيتكم عن المنكر، ثم دعوتكم إلى عبادة ربِّكم وطاعته، فبأي الأحكام عملتم؟ وأي الأوامر أطعتم؟
وفي أثناء ذلك رأى النائم رجلًا قد اتَّشح بثوبٍ أزرق وعلى رأسه تاج الجنة، وقد جلس في ظلِّ العرش الأعظم، فمرَّ به الرجل وسأله: أيُّ عملٍ صالحٍ قدَّمت في دنياك حتى كانت لك هذه الآخرة الصالحة؟
فأجابه الرجل: حفرت بئرًا على حافَّة الطريق وغرَست بجوارها شجرة؛ ليشرب المسافرون والغرباء من البئر وليستريحوا في ظلِّ الشجرة.
فلمَّا استيقظ الرجل الحالم من النوم كان مصفرَّ الوجه من الخوف؛ فحفر بئرًا وغرس شجرة وبنى مضيَفة للمسافرين من غرباء وفقراء.»
وفي هذه الحكاية ما يُذكِّرنا بالآية الإنجيلية القائلة: «إنَّ من يسقي باسمي كأس ماء بارد فإنَّ أجره لا يضيع، إننا لا نطلب من الناس أن يحفروا آبارًا ليشرب الناس منها، ولكننا نرجو ألا يحفروا لهم حُفَرًا يقعون فيها … وإذا لم يقدروا أن يغرسوا أشجارًا فلا يكونوا على الأقل سِياجًا من العليق والقندول؛ ليقطعوا عليهم الطريق.»
إنَّ الصلاة صلةٌ بين الخالق والمخلوق، وما أُشبِّهها إلا بطبقٍ ذهبيٍّ نتقدم به من عرش ذي الجلال وعليه أعمالنا، أما الذي يُصلِّي ولا يعمل خيرًا فهو أنانيٌّ يحسب الصلاة شبكة يتصيَّد بها نعم الله ليستبدَّ بها.
رُوي عن الإمام علي أنه مرَّ برجلٍ يقرأ كتاب الله سحابة النهار، فقال له ما معناه: اقرأه في الغداة والعشيِّ، واعمل فيما بينهما.
أما الذين يجعلون الصلاة أُحبولة فأستعير لهم بعض ما قاله بديع الزمان في ذلك القاضي: «يسوِّي طيلسانه ليحرِّف يده ولسانه، ويقصِّر سباله ليطيل حباله، ويُظهر ورعه ليُخفي طمعه، ويَغشى محرابه ليملأ جرابه، ويُكثر صلاته ودعاءه ليملأ جوفه ووعاءه. وأُقسم لو أنَّ اليتيم وقع في أنياب الأسود بل الحيَّات السود، لكانت سلامته منها أحسن من سلامته إذا وقع بين غيابات هذا القاضي، فهو ذئبٌ يفترس عباد الله بين الركوع والسجود.»
أجل، إنَّ السائل الثرثار الملْحف يرد، فلنصلِّ ولنعمل فنستقيم كما أُمرنا ونكون على خُلُقٍ عظيم.
الدين إيمان وعمل، ولمَّا صار همُّ الناس متجرهم حرَّفوا الكلمة وقالوا: الصلاة عادة، والصوم جلادة، والدين معاملة.
رحم الله كلَّ من يعلَم ويعمل، وهدى من يكون كالجزَّار يذكر الله ويذبح!