اتَّكل على نفسك
من احترم نفسه اعتمد عليها، أما إذا كان الرجل تُكَلَة فيقضي العمر مغمورًا يقنع بالكفاف، والقناعة هنا أحطُّ أخلاق الرجال، وقد قال فيه الطغرائيُّ متهكِّمًا:
ومن لا يُكرِم نفسه لا يُكرَّم، هكذا علَّم — منذ فجر العروبة — الشاعر زهير الذي عدَّه الفاروق أشعر العرب بقوله ومَنْ ومَنْ ومَنْ … ثم قال بعده صاحب لاميَّة العجم:
ثم قال بعدهم شاعرٌ مات في ريعان الشباب هذا البيت العاثر:
إنَّ الاتِّكال على الآخرين آفةٌ من آفات الشرق، وداءٌ من أمراضه القتَّالة؛ فالابن يظلُّ متَّكلًا على أبيه حتى يُوارَى في ثرى رمسه، والأب متى شقَّ ابنه طريقه إلى العمل قبَع هو في زاوية البيت وإن كان لا يزال قادرًا ومستطيعًا.
الدجاجة تطلِّق فراخها متى صاروا مستطيعين بأنفسهم، أما نحن فنظلُّ ننظر إلى بنينا ولو اكتهلوا كأنهم ما زالوا قاصرين، بينا أولادهم يكونون قد رشدوا.
لقد قلَّدنا الغربيِّين في كل شيء؛ في عاداتنا وثيابنا، في بنيان بيوتنا ومأكلنا ومشربنا، وفي كلِّ شيء من مقوِّمات الحياة إلا في الانفصال عن أولادنا.
الغربيُّ يفصل ولده عنه حين يبلغ أشدَّه، فيتعاملان كصديقين لكلٍّ منهما كيس لا يمدُّ الآخر يده إليه.
رَوى لي أحدُ أنسبائي المهاجرين أنَّ الأبناء هناك متى بلغوا الواحدة والعشرين فتَّشوا عن عملٍ يستقلُّون به عن والديهم، وإذا ظلُّوا تحت سقف البيت عُوملوا كمستأجِر غريب يدفع شهريًّا ما يترتَّب عليه من أجرة بيت ولو كان البيت ملك أبيه، ثم يدفع ثمن الأكل كأنه في مطعم. وهكذا ينشئون مستقلِّين معتمدين على أنفسهم، فإن أَثْرَوا فثروتهم لهم، وإن افتقروا ذاقوا نخسات مهماز الفقر الذي يزجيهم في سُبُل العمل، حتى يصِلوا إلى واحة البُحبوحة بأنفسهم غير متَّكلين على أحد.
لا أذكر أين قرأت منذ مدة أنَّ ابن روزفلت — لا أدري أهو روزفلت الأول أم الثاني — أبى أن يعمل في كنف والده رئيس جمهورية أمريكا، وقال: «فلأشق طريقي بنفسي كما شقَّ والدي طريقه، وإلا فلست جديرًا بالانتساب إليه.» أما نحن فالأسرة تظلُّ في كَنَف الوالد ويظلُّ هو مسئولًا عنها ولو صارت مثل النمل. إننا نسيء بهذا إلى بنينا؛ إذ يظلُّ الولد ولدًا ولو شبَّ وشاب، ولا يحترم نفسه ولا يعتدُّ بها ويعتمد عليها، فاحترام النفس هو الذي يؤدي إلى الثقة بها، وهاتان المزيَّتان هما اللتان تخلقان أعاظم الرجال، وقد قيل: كن صديقًا لنفسك يكن الآخرون أصدقاءَ لك. ناهيك أنَّ احترام الرجل لنفسه هو أول لجام يمنع النفس من التدهور والسقوط في مهاوي العيوب والنقائص والرذائل، وهو الذي يؤدي بنا إلى التعويل عليها.
فالأمير بشير الكبير حين ترك مسقط رأسه غزير لم تكن ثروته غير حِمل جمل، ولم يكن له رفيقٌ غير خادمة ورثها عن أبيه وكانت له كالمربِّية، ولكن هِمَّته وعصاميته وثقته بنفسه واعتماده على عبقريته الشخصية بلَّغته الحكمَ فكان أميرًا كالملك، وفي ظل حاجبيه يتفيَّأ الموت إلى أن يقول له قم فيقوم.
فإذا ورثت ثروةً أو سلطةً أو جاهًا، فقد تضيع جميعها إذا لم تكن لك نفسٌ تعتمد عليها في صيانتها، أمَّا إذا كانت لك نفس تثق بها فثق أنَّ العظائم تصغر في عينيك كما قال المتنبِّي في مدح أميره.
أمَّا كيف نُحصِّن تلك النفس، فهذا لا يكون إلا إذا كانت موجودة، وإذ ذاك نحوطها بسياجٍ من التقدير والاحترام، ولكن ليس إلى حدِّ الغرور الجنونيِّ؛ فكم كان الشاعر أبو فِراس محترِمًا نفسه ومعتمدًا عليها حين قال:
وأبو الطيب المتنبي، وإن غالى في احترام نفسه وتبجَّح في مدحها وتعظيمها، فهو مصيبٌ في ذلك، ولولا هذا الاعتداد العظيم ما بلغ ما بلغ من الشهرة.
قد تخاله مجنونًا حين تسمع قوله:
ولكنَّ الافتخار هو الذي وقف حاجزًا حصينًا دون المتنبِّي ودون الرذائل التي تمرَّغ بها أكثر الشعراء.
وليعلم كلُّ واحدٍ منا أنَّ قيمة نفسه مكتوبة على صفحات وجهه كما تُكتب أسعار البضاعة عليها، فإذا رأى الناس أنَّ سعرها رخيص فلا يُكلِّفون نفوسهم بتقويمها أكثر مما قوَّمتها أنت، فكن محترِمًا نفسك واثقًا بها ليحترمك الناس ويعتمدوا عليك بمقدار ما تعتمد أنت على نفسك، وثِق وتأكَّد أنَّ عدم الثقة بالنفس هو سبب أكثر ما يصيبنا من فشل؛ فاعتقاد المرء بقوَّته قوةٌ له، والذين لا ثقة لهم بأنفسهم أو بقواهم هم أضعف الناس وإن كانوا أقوياء. أما ما يظهر لنا من أنانية البعض — وإن كان بشعًا مُنكرًا — فهو في الغالب دليلٌ على ما فيهم من المقدرة على تحقيق رغائبهم، بل ربما كانت الأنانية ضرورية للرجال الممتازين، فإنَّ الطبيعة تولِّد في المرء رجاءً شديدًا لئلا يتردَّد قبل أن يُدرك الغرض السامي الذي انتدبته له؛ ولهذا تجعل فيه هذه الأنانية المفرِطة التي تشمئزُّ منها الناسُ أحيانًا.
إنَّ هذه الثقة بالنفس لهي قوة احتياطية لا بدَّ منها لمجاهد كالذي يقول: «ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل.»
إنَّ من يكون مقتنعًا كلَّ الاقتناع بمقدرته على إدراك أمجاد معيَّنة لا يلبث أن يُدركها فعلًا، قال أحدُهم: «إن الشجرة يجب أن تمدَّ جذورها في الأرض قبل أن تزهر وتثمر، وعلى الإنسان أن يقف على رجليه مستنكفًا من كلِّ صدقة أو مساعدة، إنهما تذلَّان أكثر مما تُعِزَّان.» وقد قال المتنبِّي في وصف أسده العبقري:
وقد قال أحدهم: «إنَّ الاعتماد على النفس من أعظم أركان الأخلاق، وهو يجعلنا أنسباء للرجال الذين أثبتوا حقَّهم الإلهي بالخلود في ذاكرة البشرية.»
أما الضعفاء المتَّكلون على سواهم فهم كما قال شكسبير: «لا يعرفون ولا يستطيعون أن يعرفوا مزيَّة الشمم والإباء.»
إنَّ من يُخلص لنفسه يستطيع أن يكون مخلصًا للآخرين، والعكس بالعكس. قد يسأل واحد: وماذا يجب أن يرافق اعتمادنا على النفس كي ننجح؟ نعم يا سيدي، قال الذين صحبوا الدنيا قبلنا: هيئ الرفيق قبل الطريق، يجب أن تكون الحماسة والنخوة أو الطاقة رفيقةَ هذا الدرب؛ لأنك إذا كنت رخْوًا فلا يمكنك أن تعتمد على نفسك لأنك بلا نفس، فالنفس هي دينمو الطاقة، وبقدر ما يكون هذا الدينمو مولدًا تكون الاستطاعة وافرة.
علَّمتني الأيام أن ليس في شرع العزم شيوخ وشُبَّان، وقد يوجد العزم في الشبان والشِّيب، فإذا كان رافائيل وبيرون وبو ماتوا في السابعة والثلاثين تاركين ميراثًا أدبيًّا فنيًّا خالدًا، فهوميروس نَظَمَ الأوديسا في شيخوخته، والجاحظ كتب بخلاءه في التسعين. فإذا كنت آمنت بالاعتماد على النفس، فزِن نفسك بميزان حميَّتك ونخوتك، وإياك أن ترجِّح فما تخدع إلا نفسك …