كمال العلم بالحِلم
عندما زُرت دمشق أول مرة أُعجبت بصناعتها النُّحاسية المزركشة، ولفتت نظري الكلمات الجامعة المحفورة والمنزَّلة في صدور تلك الأواني الطريفة، فاشتريت منها واحدة ما زلت أحتفظ بها لأجل كلمة رائعة وهي: «كمال العلم بالحِلم.»
ومرَّ بمخيِّلتي حينئذٍ ما قالت العرب في مدح الحِلم وكيف كانوا يعدُّونه رأس صفات خلفائهم وأمرائهم وأولي السلطان منهم، فهذا الأخطل يقول في أحبابه بني أمية: «وأعظم الناس أحلامًا إذا قدروا»، كما قال قبله زهير في الناس أجمعين:
أما المتنبِّي العنيف فلم يقبل الحِلم على عِلَّاته، بل راح يقول:
كما قال عن نفسه هو: «ولا أصاحب حلمي وهو بي جُبْن.»
والعرب ضربت المثل بحلم معاوية حتى رووا عنه الحكايات الكثيرة، منها: أنهم خاطروا رجلًا مرة على مال يؤدُّونه له إذا أضحك معاوية وهو في موكب الجمعة، فاجترأ ذلك الرجلُ عليه وسلِم من العقاب، ثم مضى معاوية لسبيله وقام ابنه يزيد فخاطروا الرجل على مثل ذلك فلقي حتفه، فقال فيه من شهد المشهدين: «قتله حِلمُ معاوية.»
قال الفرزدق يصف رهطه:
أما معاوية فكانت أيام ولايته حِلمًا فقلَّما غضب، وإن كان للغضب وقت فعند معاوية لا مجال لدخول الغضب إلى أعماق نفسه، فكأنَّ بيت عنترة — إذا صحَّت نسبته إليه — كان دستور ذلك الخليفة الداهية، قال عنترة:
وقال معاوية مُعربًا عن حِلمه ودهائه: «لو أمسَكت العربُ بشعرةٍ من طرف وأمسكتُ بها من طرفٍ لَمَا انقطعت، فإذا أَرْخَوْا شددتُ وإذا شدُّوا أرخيت.» وهكذا ضُرب المثلُ بشعرة معاوية.
أمَّا الغضب الذي يتمجَّدون به — إذ لا يُعقل أن تكون الحياةُ كلُّها حِلمًا لا غضب فيه — فهو الذي يكون عند نُصرة الحق المهضوم والثورة للشرف الجريح، ولذلك وصف به الشاعر جماعته فقال:
وكأني بالعرب قد فرَّقوا بين الغاضبين، فلم ينعتوا من لا شأن لهم بالغِضاب بل سمَّوْهم سفهاء وجُهَّالًا، على هذا كانوا في الجاهلية.
أما الكتب السماوية فتشجب الغضب وتُحذِّر الناس منه لأنه منبع الشرور، والحكيم الحكيم هو ذاك الذي يتجنَّبه ويتقيه إذا شاء أن يحيا سليمًا من الأذى.
وهؤلاء حكماء التوراة ينهون عنه في كلِّ موقف حتى تجرَّأ النبيُّ داود على ربِّه وهتف في ضيقته: «إلى متى يا رب تغضب كلَّ الغضب، وتتقد كالنار غيرتُك؟!» أما ابنه سليمان فيوصي الإنسان بالرفْق واللين، فيقول في سِفْر الجامعة: «لا تُسرع بروحك إلى الغضب.» واليوم نقول نحن: «عد العشرة.»
أجل إنَّ الحِلمَ يُذهب شرور الغضب الكثيرة، وقد جاء في أمثالهم: «الجواب اللَّيِّن يصرف الغضب»، تصوَّر رَبَّ بيت ضيِّق الصدر فإنه يحوِّل مأواه إلى ساحة صراع وقتال، فزوجه وبنوه يكونون منه في جُهدٍ جهيدٍ فينغِّص عيشهم وتهجر السكينة والطمأنينة ذلك البيت، إنَّ صاحب الأعصاب المُجهدة يجب أن يُداوي هذا الداء العضال بالأناة والتروِّي، وقبل أن يشعل نار غضبه فليُفكِّر، فليطالع سِيَر الرجال الذين اتَّصفوا بالحِلم، ويحاول أن يتجمَّل بأخلاقهم ما استطاع، فيصبح من بيته في نعيمٍ مقيمٍ، أليس أفضل له من أن يعيش في جحيم؟!
قال المثل العربيُّ: «إذا عزَّ أخوك فهُن.» وإذا مرَّت عاصفة غضبٍ على البيت فعلى أهل ذلك البيت أن يستنيموا لها حتى تمرَّ، وإلا فلا يعرف أحدٌ ماذا تقتلع وماذا تهدم، إنَّ الكلمة الليِّنة لهي مثل كأس ماء بارد يصبُّ في قِدْرٍ فائرة، أما إذا قابلنا الغاضب بغضب كغضبه فإننا نزيد النار اتِّقادًا.
قد يغبى عليك من كنت تعرفه إذا ما تملَّكته سورة الغضب فتنكره كلَّ الإنكار، فالغضب يُعمي الأبصار والبصائر فيقضي على المُثُل العليا، ويُخفي معالمَ الحقِّ ضبابه الكثيف.
اشتُهر إبراهيم الخليل بالكرم وحسن الضيافة، وقد حدث أن مضى أسبوع ولم يحضر مآدبه أحدُ أبناء السبيل، فخرج من بيته وسرح نظرُه في كل وِجهةٍ من أطراف الوادي حتى رأى رجلًا في الصحراء طويلًا كالسرو وقد اشتعل رأسه شيبًا كأنَّ الكبرَ قد كساه بثلجه.
فنادى إبراهيم عابرَ السبيل، ولمَّا أقبل عليه حيَّاه ورحَّب به، وأعدَّ الطعام فعزم على ضيفه فقبل الرجلُ شاكرًا، وكان يعرف كرمَ إبراهيم ويسمع أخبار مضيفته، وأقبل الخدمُ فأجلسوا الرجلَ في مكانه من المائدة بالتَّجِلَّة والتكريم، فلمَّا اكتمل الجمع وأخذ كلٌّ مكانه بدءوا بذكر اسم الله الرحمن الرحيم، ولكنَّ الضيف لم يذكر الاسمَ الأجلَّ، تعجَّب إبراهيم من ضيفه الشيخ الكبير واستغرب أن لا يذكر اسم ربه قبل أن يضع الخبزَ في فمه، فسأله لماذا لم تفعل كما يفعل الشيوخ في إخلاص وإيمان؟
فقال الرجل: «لا أستطيع أن أفعل شيئًا لم أسمع عنه في سدنة بيت النار.»
فأدرك إبراهيم أنَّ ضيفه مجوسيٌّ من عبدة النار، فاستولى عليه الغضب وأمسك بالرجل فرفعه من مكانه وطرده؛ حرصًا منه على ألا يُشارك الأتقياء أكلهم، فبعث الله جبريل إلى إبراهيم يقول: يا إبراهيم، أنا تحمَّلت هذا الشيخ ومنحته الحياة والقوة مائة سنة، أمَّا أنت فلم تستطع احتماله لحظةً واحدةً، إذا كان الشيخ يسجد للنار، فما بالك أنت تكفُّ اليد التي بسطها الله لك بالجود؟!
إنَّ الأديب الفارسي كتب هذه القصة ليصيب عصفورين بحجرٍ واحدٍ، فهو يعلِّمنا ألا نغضب ثم ألا نغضب لما لا يعنينا ولا يمسنا مباشرةً.
وفي حكاية النبي يونان — يونس — مع ربِّه وأهل نينوى عظةٌ كبرى لأهل الغضب؛ حَرَد يونان لأنَّ ربه لم يضرب مدينة نينوى كما وعده، فانتحى مكانًا قصيًّا، صنع هذا النبي لنفسه مِظلَّةً شرقيَّ المدينة، وقعد تحتها يُراقب ما يحدث في نينوى، فخلق الله له يقطينة تُظلِّله ففرح بها وبعد حين سلَّط الربُّ على اليقطينة دودة فأيبستها، ثم أرسل ريحًا شرقية حارَّة فضربت الشمس رأس يونان فذبل وتمنَّى الموت.
فناداه الله — حسب قول التوراة — وقال له: «هل اغتظت حقًّا من أجل اليقطينة؟!»
فأجاب يونان: «اغتظت حتى الموت.»
فقال الربُّ: «إذا كنت أنت أشفقت على يقطينة، أفلا أُشفق أنا على مدينة؟!»
لم تقل التوراة كيف راح غضب يونان، فلا شك في أنَّ حوت هذه الموعظة قد ابتلع ذلك الغضب … وعلَّم يونان الحِلم.
اللهم نجِّنا من الشرير، فلا نغضب للا شيء، ثم لا يرضينا شيء!
اللهم لا تُكثر بيننا إخوة يونان فنغتاظ حتى الموت لذهاب يقطينة، ولا يطيب لنا عيشٌ حتى نخرب مدينة …! إنَّ العمر قصير، والغضب الحامي يُقصِّره أكثر، فما علينا إلا أن نداوي هذا الداء بالحِلم، وإذا لم نستطع أن نُطفئ ناره المتأججة فلا أقلَّ من أن نتجنَّبها.
كانت امرأة إبراهيم لنكولن حمقاء بل مجنونة، تغضب لأقل بادرة تصدر عن زوجها، وقد عجز ذاك الرئيس العظيم عن الإقلال من غضبها، فبينما كانا يفطران يومًا إذا بها ترميه بفنجان القهوة فتحرق وجهه وتبلِّل ثيابه، واتقى شرَّها بالصمت طلبًا للسُّترة، ولكنها لم تكفَّ عن السبِّ واللعن حتى سمعت شتائمها المارَّة.
أما كيف كان يُداوي لنكولن هذه المرأة السبَّابة الشتَّامة، فيروي مؤرِّخوه أنه كان ينام في الفنادق النائية؛ لأنه كان يخاف المجيء إلى بيته حيث لا يسمع غير الشتم والسب واللعن. هذا ما يورثه الغضب أهله، فإنه يؤذي الغاضبين والمغضوب عليهم، ولا دواء لهذا الداء إلا الحِلم، فهو الذي يُخفِّف مرارة الحياة وقسوتها، ولو لم يكن الغضب شرَّ الشرور لما جرى ذلك الحوار بين النبيِّ يونان وربِّه في التوراة، حوارٌ يدلُّ على أنَّ الله ندِم على غضبه على نينوى ولم يشأ أن يُخربها، فغلب حِلمه غضبه ونجت المدينة.
وفي القول الذي نسبه الجاحظ إلى معاوية والحسن بن علي تصديق لقولهم «كمال العلم بالحِلم.» قال معاوية: «إذا لم يكن الهاشميُّ جوادًا لم يُشبه قومه، وإذا لم يكن المخزوميُّ تيَّاهًا لم يُشبه قومه، وإذا لم يكن الأُمويُّ حليمًا لم يُشبه قومه.» فبلغ قوله الحسن بن علي فقال: «ما أحسن ما نظر لقومه! أراد أن تجود بنو هاشم بأموالها فتفتقر إلى ما في يديه، وتزهى بنو مخزوم على الناس فتُبغَض وتُشنأ، وتحلِم بنو أمية فتُحب.»