وصف مدارس العميان
بما أن وصف كل مدرسة شاهدناها وشرح ما فيها شرحًا وافيًا يستدعي الإفاضة في هذا الموضوع، وهذا مما يُحدث سآمة للقارئ الكريم، ضربنا صفحًا عن التكلم في بعضها، فاجتزأنا بذكر أوفاها نظامًا وأقدمها عهدًا وأوفرها طلبةً ومريدين. ولا شك في أن العاقل يقيس الغائب بالحاضر خصوصًا إذا كان المذكور في هذا الباب هو القاعدة الأساسية والأنموذج لنظامات كلِّ ما لم يُذكر من المدارس الأُخر. ولو أننا زرنا خمس عشرة مدرسة وتعرَّفنا بمديريها ودوَّنا اسمنا في سجل كلٍّ منها. غير أننا كما تقدَّم نكتفي بوصف مدرستين في كلٍّ من فرنسا وإنكلترا وإيطاليا ومدرسة عاصمة بلجيكا؛ وهذه كلها هي أهم مدارس العميان في تلك البلدان وكلياتها الجامعة.
وقد مرَّ بك أن أول مَن أُلهم هذا السبيل الشريف وأخذته الغيرة الإنسانية هو فالانتين هواي مؤسس مدرسة باريس، وأنها أول ما شُيِّد من هذا النوع فكانت أقدم المدارس عهدًا وأحرى بالذكر وأولى.
(١) المدرسة الوطنية للعميان في باريس
هي أول مدرسة للعميان ظهرت في العالم، وعلى منوالها تأسست بعدها مدارس العميان في سائر الأقطار. أسَّسها في باريس صاحب الفضل العظيم على العميان الشهير فالنتين هواي سنة ١٧٨٤، وهو تاريخ يجب حفظه في ذاكرة كلِّ أعمى مهذب. ولكن لم تُشَد الأبنية الحالية القائمة فيها المدرسة إلا بأمر ملوكي صدر سنة ١٨٣٨، وانتقل إليها الطلبة سنة ١٨٤٣، وهي تشغل مساحة تبلغ نحو اثني عشر ألف متر مربع منها ٣٥٠٠ متر للمباني.
دخلنا الدار فذهب بنا الوكيل توًّا إلى قسم البنات — وهنَّ الآن سبعون تلميذة — فرأيناهن يتعلَّمن كالصبيان العلوم الابتدائية والجغرافيا والتاريخ والحساب، ولهن معمل شاهدنا فيه أنواعًا من أشغالهنَّ اليدوية.
والمدرسة تسع ١٥٠ تلميذًا و٨٠ تلميذة، وفيها الآن ١٥٠ أعمى و٧٠ عمياء، وسنهم من ١٠ إلى ٢١ سنة، وأغلب معلمي ومعلمات المدرسة أكفاء.
أما العميان الذين لا ميل فيهم إلى درس الموسيقى فيقضون في المدرسة خمس سنوات فقط يُعلَّمون فيها أشغال خرط الأخشاب وعمل كراسي القش والخيزران وتصليحها ولهم مصانع لذلك، كما وأن لهم معملًا خاصًّا بتعليم تصليح الآلات الموسيقية وخصوصًا البيانو في جميع أصنافه. وفي فرنسا الآن نحو ٢٠٠ تلميذ من هذه المدرسة درسوا هذه الصنعة الأخيرة (تصليح البيانو) وبرعوا فيها حتى إنهم يرتزقون منها.
وهذه المدرسة تابعة لنظارة الداخلية يديرها خبير في أمور العميان تعيِّنه النظارة مع سائر موظفيها، ولها لجنة استشارية ومراقبون لملاحظة نظامها. كما أن لها طبيبًا وجراحًا ورمديًّا وطبيب أسنان يعودون المرضى من التلاميذ.
ولا تقبل المدرسة إلا الأعمى القابل للتعليم تتقاضى منه أجرة سنوية مقدارها ١٢٠٠ فرنك يدفعها الراغب، وبعض التلاميذ يتعلمون على نفقة الحكومة أو بلديات مدنهم، ولا يُقبل الطالب إلا إذا كان بالغًا سن ١٠ سنوات حتى ١٣ سنة.
وموادُّ التعليم فضلًا عن فن الموسيقى هي القراءة والكتابة واللغة الإفرنسية والتاريخ والجغرافيا والحساب ومبادئ العلوم الطبيعية.
(٢) مدرسة برايل في سان مانديه
لم يكن يُخيَّل لنا بعد زيارتنا المعهد الوطني الذي ذكرناه آنفًا الكائن في عاصمة الإفرنسيين، وبعدما شاهدنا فيه من ضروب النظام واتساع المحال، وعلمنا عدد التلاميذ فيه ونوع تربيتهم الموسيقية والعلمية — أنَّا سنرى في زيارتنا مدرسة برايل الكائنة في ضواحي باريس معهدًا أكبر منه وأكمل حاجيات وكماليات، فهو مصنع أكثر منه مدرسةً، تعددت فيه أنواع العمل، وامتلأت أقسامه بالعميان ذكورًا وإناثًا مشتغلين بأنواع حِرفهم، وتكدَّست في مخازنه مصنوعاتهم، ولا خطر لنا أن تلك المصنوعات يباع منها بنحو تسعة آلاف جنيه سنويًّا لدوائر الحكومة وللتجار. ولا عجب فقد علَّم الاختبار القائمين بأمر هذه المدرسة أنه لا يكفي الأعمى أن يكون متعلمًا تعليمًا علميًّا فقط، بل يلزمه أيضًا أن يحترف حِرفًا عديدة يزاولها حسب مقتضيات الأحوال، وقد توسَّعوا في ترقية هذا المعهد إذ لم يكتفوا بأن جعلوه منذ خمس عشرة سنة مدرسةً ومصنعًا، بل ملجأً يمكث فيه الأعمى الذي دخله صغيرًا وتعلَّم فيه ما شاء ممارسًا حرفته، ويصرف عليه أكلًا وملبسًا من مبيع أعماله. ولذا أصبحت مدرسة برايل بهذه الأهمية وهي أكبر مدارس ومصانع العميان في فرنسا. وقبل التوسع في هذا الموضوع نروي للقارئ الكريم كيف أُنشئت هذه المدرسة وكيف صارت مع توالي الأيام معهدًا كبيرًا ومصنعًا كامل الأدوات.
«يرجع تاريخ تأسيس هذه الدار إلى رجل اهتمَّ كثيرًا بأمر العميان هو المسيو ألفونس ببهو فأسَّس جمعية سمَّاها جمعية مواساة العميان، وكان غرضها جعل الأعمى البائس نافعًا لنفسه وللهيئة الاجتماعية بتهذُّبه وتعلُّمه ومزاولته حرفة يدوية تلائم أمياله الشخصية، وبالجملة مساعدة الكفيف مساعدة حسية وأدبية تكفيه ذلَّ التسوُّل وتنفع الناس به نفعًا صالحًا.
وقد استمال إليه بجِدِّه وسعيه المتواصل الوزراء والكبراء وأعضاء مجلسي الشيوخ والنواب فناصروه على إخراج مشروعه من حيِّز الفكر إلى حيز العمل. ولم يقتصر على استمالة هؤلاء العظماء، بل انتظم في سلك أنصاره جامبتا الوطني الشهير وفيكتور هوجو الشاعر المجيد، واقتدى بهما بعد ذلك من رؤساء الجمهورية سادي كارنو وفلكس فور وغيرهم من أصحاب السلطة وأرباب الأموال الذين أمدُّوا المدرسة بنفوذهم وأموالهم.
وضاقت المدرسة بهم فنُقلت إلى سان مانديه حيث هي الآن، والأرض التي شُيدت فيها قد اشتراها المجلسان الآنف ذكرهما. وفي السنة التالية زارها رئيس الجمهورية في ذلك المعهد سادي كارنو وتعهَّد نظامها فسُرَّ به. وفي سنة ١٨٩٢ أقرت الحكومة تخصيص مبلغ ٤٠٠ ألف فرنك لبناء محلات لتعليم الصنائع فضلًا عن العلوم فشُيِّد بناء فخيم يسع ثلاثمائة عامل من العميان. وزارها سنة ١٨٩٦ المسيو فلكس فور يصحبه بعض النظار، فلفتت تلك التعطُّفات من كبار رجال فرنسا نظر الجمهور إلى المدرسة فدرَّ عليها التبرُّعات المالية. ونشأ عن ذلك أن سمحت المدرسة بقبول مَن سنُّهم دون السادسة — وكان قانون المدرسة يقضي بادئ بدء بعدم قبولهم — فشُيِّد لصغار العميان من هذه السن بناء خاص تولى العمل فيه نساء ومعلمات مبصرات وكفيفات يبذلن عناية كبرى على تربيتهم وتعليمهم.»
وافانا المدير بهذه المعلومات ودخل بنا المدرسة، وهي مؤلفة من أبنية وحديقة مساحتها ١٠٠٠٠ متر مربع. وفيها عدا محلات الدرس والنوم والأكل والرياضة والموسيقى، مخازن للمواد الأولية للصناعة ومحال متسعة للعمال المشتغلين فيها. وفي المدرسة الآن ٢٥٠ أعمى وهم ١٤٠ تلميذًا و١١٠ تلميذات.
وأول مصنع دخلناه مصنع للكراسي المختلفة التي تُصنع بالقش والخيزران أو تُصلح للمدارس والمستشفيات والثكنات. وفيه ٣٥ أعمى ومنهم بضعة يُبصرون قليلًا، وهناك بعض نساء ينجزن العمل بدهن تلك الكراسي.
ثم دخلنا مصنعًا تُعمل فيه أكاليل الخرز للموتى على أشكال شتَّى وعلى غاية من الجمال، فيُباع الإكليل منها بعشرين فرنكًا فما فوق إلى ٢٠٠ فرنك. ولا يشتغل في هذا المصنع غير الكفيفات وهن ٥٥ بنتًا بينهن من يبصرن قليلًا. ولقد يدهش الزائر من دقة العمل وحُسن النتيجة، والبرهان على ذلك أن المبيع سنويًّا من هذه الأكاليل يقدَّر بنحو ٦٠٠٠٠ فرنك.
ويليه مصنع الحبال والحُصر والسجاد، وآخر خُصَّ بالسلال وفيه ٢٠ عاملًا يستنفدون كل سنة ٣٠٠٠٠ كيلو من الغاب الهندي يصنعون بها سلال الخضار والفواكه لأسواق باريس المعروفة (بالهال) وللمستشفيات.
والعمل في هذه المصانع مستمرٌّ من الصباح إلى المساء. ويرأس كلَّ معمل مبصرٌ خبيرٌ بالصناعة يفحص العمل ويوزِّعُه على العميان ويُعدُّ كشفًا عن أشغالهم ويُقيِّد الأجرة في سجل مخصوص بكل واحد منهم. ولا يُشرع في تقييد شيء باسم الأعمى إلا بعد بلوغه الثالثة عشرة من عمره فتقيد أجرته عندئذٍ ويُنفق منها عليه، وقد ذكرنا أنه يمكن أعمى هذه الدار أن يمكث فيها ما شاء مزاولًا حرفته فيُحسم جزء من أجرته لسد نفقاته وإعداد غرفة خصيصة له في سن البلوغ إذا كان عزبًا ومسكنًا إذا كان متزوجًا، ويُحسم من أجرته أيضًا خمسة في المائة تكون معاشًا له إذا شاخ وعجز عن التكسب؛ لذلك ترى عميان هذا المصنع يشتغلون بارتياح ونشاط واثقين بحُسن الحال والمآل.
وإشراف البصراء على الأكفاء في هذا المصنع الكبير يساعدهم على إتقان المصنوع وجعله صالحًا للبيع؛ لذلك لا تقل مصنوعات مدرسة برايل جودة عن غيرها فيباع منها سنويًّا بنحو تسعة آلاف جنيه للمصالح العمومية وكبار التجار وغيرهم من أفراد الناس.
وتعدد الصناعات في هذه المدرسة وكثرة الطلب هما المميزان لها. وزد على ذلك استيفاء التعليم فيها شروطه من كلِّ الأوجه، وهو مقسوم إلى خمسة أقسام:
(١) القسم التهذيبي والأدبي: ويُعلَّم الأعمى فيه كيفية المعيشة ليغدو كفيل نفسه ويقوم بشئون معاشه غير معوِّل على أحد. ويُعلَّم فيه حُسن السلوك واللياقة والتأدُّب ويكون ذلك بتقويم المعوج من أخلاقه وإكسابه عادات حميدة تقرِّب الناس إليه.
(٢) القسم الطبيعي: ويُعنى فيه بتقوية الجسم بالطرق الفنية ومباشرة الرياضة البدنية بالاستحمام والسباحة في الأحواض والألعاب بالآلات المعدَّة لذلك والعدْو والرقص.
(٣) القسم العقلي: يُعلَّم الصغار من العميان أصول الكلام حتى يتعوَّدوا جلاء التعبير فيُطلب منهم وصف أشياء عادية واستظهار أشعار ورواية قصص صغيرة. ثم يتعلَّمون الكتابة والقراءة على طريقة برايل والحساب والتاريخ وتقويم البلدان، ودرس الأشياء الحسيَّة كالثلج والخشب والفحم والملابس والنباتات وأعضاء جسم الإنسان. وهناك متحف حوى عددًا من هذه الأصناف ومن الآلات البخارية وغيرها، فتتقوَّى بهذه الدروس حاسة اللمس التي يستعيض بها الأعمى عن حاسة البصر. أما مدة التعليم فهي عشر سنوات من الثالثة إلى الثالثة عشرة. ثم ينتقل التلميذ إلى المصنع وهو القسم الرابع من التعليم (٤).
(٥) القسم الموسيقي: وهو مختص بالإناث. وليس الغرض من تعليم الموسيقى تخريج الضريرات بارعات في هذا الفن، إنما القصد إضافة شيء منه إلى معارفهن العمومية وإكسابهن رقة الشعور.
(٢-١) شروط الدخول
يُدفع مبلغ ١٠٠٠ فرنك سنويًّا للداخلية و٦٠٠ لنصف الداخلية و٤٠٠ للخارجية مدة سِني الدراسة. على أن عددًا كبيرًا من عميان هذه الدار يُقبلون مجانًا. بشرط أن تكون سنُّ الطالب من ٣ إلى ١٣ سنة، مالكًا جميع قواه العقلية، حاصلًا على غير ذلك من الشروط المدونة في سجل المدرسة.
(٢-٢) ميزانية المدرسة
تتعهَّد مقاطعة السين بميزانية مدرسة برايل، وتمنحها بلدية باريس إعانة سنوية قدرها ٣٠ ألف فرنك. وهي تنفق على كلِّ تلميذ ألف فرنك، فتكون النفقات عشرة آلاف جنيه غير الإدارية منها وغير نفقات الخدمة وما شاكل، تقابلها أرباح تناهز تسعة آلاف جنيه من أعمال العميان.
اطَّلعنا على ذلك كله وودَّعنا مدير المدرسة شاكرين له إيضاحاته، وانصرفنا معجبين بكل ما رأينا وعلمنا؛ إذ لم يكن يخطر على بالنا — كما قلنا آنفًا — أن مدرسة كانت في بدء أمرها صغيرة جدًّا تكبر حتى تصير مصنعًا فخيمًا كامل المعدات. ولكن لا غرو فالبذرة إذا طُرحت في أرض جيدة وعولجت بالتعهُّد نَمَت وأَيْنعَت وجاءت بأثمار طيبة. وعسى أن نجني مثل تلك الثمار في قُطرنا في عهد قريب إن شاء الله.
(٣) دار العلوم والموسيقى الملكية للعميان في لندره
أُنشئت هذه المدرسة سنة ١٨٧٢، وهي الآن مشمولة برعاية جلالة ملك الإنكليز وجلالة الملكة، وعناية عدد كبير من أشراف بريطانيا العظمى منهم سمو ولي العهد وعقيلته، ولها أعضاء عديدون من الوجهاء تعهَّدوا بترقية شئونها جهد الطاقة وإبداء الآراء التي تخطو بها إلى الأمام، ولها جمعية عمومية ومجلس إدارة له رئيس ونائبا رئيس وأعضاء وأمين صندوق، ولها كذلك لجنة من كرائم السيدات وأطباء اختصاصيون ومهندس ومراقبو حسابات. أما مدير المدرسة العام فهو السير فرنسيس كامبل.
(٣-١) غرض المدرسة
غرضها إعداد العميان لمنهج الجامعات الكبرى، أعني تعليمهم علمًا عاليًا في الآداب والعلوم وإتقان فن الموسيقى إتقانًا يمكِّنهم من تعليمه. ونأتي الآن ببعض الإيضاحات عن طرق التعليم في هذه المدرسة فهو يقسَّم فيها إلى قسمين؛ بدني حسي وأدبي عقلي، والمقصود من «الأول» إنماء أبدان العميان وتقوية عضلاتهم وشد أعصابهم ومنحهم النشاط الذي ينسون به حاستهم المفقودة. ولا يختلف اثنان في أن العقل السليم في الجسم السليم، والعقل العليل في الجسم السقيم؛ لذلك هيَّأَ القائمون بإدارة هذه المدرسة قاعات الرياضة البدنية التي ذكرناها وفيها الآلات العديدة، وأنشئوا ساحات التزحلق بالقباقيب والسباق والرقص وحوض السباحة والدراجات والأراجيح وغيرها، وجعلوا التعليم البدنيَّ إجباريًّا لجميع التلاميذ والتلميذات.
والمدرسة تدعو الجمهور لمشاهدة حفلات يُظهر فيها العميان قوتهم ورشاقتهم بما يأتونه من التمارين المدهشة والألعاب الرياضية المتنوعة، وقد شهد المرحوم الملك إدوار السابع إحدى هذه الحفلات فسُرَّ منها فبعث مهنئًا مدير المدرسة ببراعة تلاميذه في هذه الألعاب وبكلِّ ما رآه في المدرسة.
- الأول: تحضيري، ويشمل القراءة والكتابة والتعليم الديني والحساب وعلم النباتات وعلم الأشياء. وهذا القسم مخصوص بالأحداث الذين يتمرَّنون أيضًا على الانتفاع بأيديهم وأصابعهم وهي تقوم في المستقبل مقام البصر المفقود.
- القسم الثانوي: يتعلم فيه التلميذ آداب اللغة والتاريخ
والطبيعيات والرياضيات، والتمرين على الآلة
الكتابية مع الكتابة بإيجاز (الخط المختزل)،
واللغات الإفرنسية واللاتينية واليونانية.
وعند انتهاء التلميذ من هذا القسم يقدم
امتحانًا في الكليات إذا جازه نال من نظارة
المعارف شهادة تؤهله للتدريس، وقد تمكَّن ستون
أعمى تخرَّجوا في هذه المدرسة من التعليم في
معاهد العميان وعُيِّن ثمانية منهم أساتذة في
مدارس عامة، وقد أَنشأت المدرسة لتوسيع نطاق
معارف العميان مكتبة تحوي ستة آلاف كتاب
بالإنكليزية وغيرها من اللغات الآنف ذكرها،
يُقرأ بعضها على جماعات منهم، كما تُقرأ لهم
الجرائد اليومية والعلمية ليكونوا واقفين على
حوادث الدنيا والاكتشافات والاختراعات
الحديثة.
ومما يستلفت النظر في هذا القسم تدريب التلاميذ على استعمال آلة كتابة المبصرين؛ Typewriter وذلك ليتمكنوا من مراسلة البصراء من أقاربهم وأصحابهم. ولا يَتوهَّمنَّ القارئ أن الأعمى يخطئ كثيرًا في كتاباته بل يعمل عمله كالبصير، وحسبي صدقًا على ذلك: توظيف أحد عشر أعمى متخرجين في هذه المدرسة سنة ١٩٠٩ في محالٍّ تجارية للكتابة على الآلة الكاتبة، وعدد الشهادات الواردة على المدرسة؛ إقرارًا بسرعة عمل العميان وإتقانه، وقد رأينا آلات مختلفة يكتب عليها التلاميذ والتلميذات.
- القسم الموسيقي: هذا القسم يتولى تعليم العميان الميَّالين إلى فن الموسيقى حتى يصبحوا قادرين على تعليمه، ويشمل تعليم البيانو والأرغن والغناء ونظم الألحان وإدارة الأجواق الموسيقية وغيرها؛ لذلك استحضرت المدرسة ٦٠ بيانو وخمسة أراغن، وأنشأت مكتبة عظيمة تحوي عددًا من القوائم الموسيقية على طريقة برايل، وقد صرفت المدرسة عنايتها خصوصًا إلى هذا القسم الموسيقي لتخريج أساتذة في الموسيقى حتى تكون الأفضلية لهم دون مراعاة لفقدهم البصر ولكن لكفاءتهم وحذقهم، وقد ذُكِر في تقرير المدرسة سنة ١٩٠٩ أن خمسة وأربعين أعمى متخرجين في هذا القسم قد حصلوا على وظائف مختلفة في إنكلتره أو في مستعمراتها أو في الخارج.
- القسم الصناعي: وهو مختص بتعليم العميان الدوزنة، أي تصليح أوتار البيانو، حرفة يرجع تاريخها إلى أعمى إفرنسي شهير اسمه كلود مونتال برع في فن تصليح البيانو وأسَّس معملًا باسمه، فأصبحت هذه الحرفة من ذلك اليوم تُعلَّم للعميان، فبرعوا فيها حتى باروا زملاءهم المبصرين، ولا عجب فحاستا السمع واللمس أدق عندهم لفقد بصرهم. ومدرسة لندره تعتني اعتناءً كبيرًا في تعليم هذا الفن ولا تمنح شهادات فيه إلا من عُرِف بالنبوغ إِبان دروسه وفي الامتحان النهائي أيضًا.
هذه أقسام تعليم العميان الذكور، أما البنات فيُعلَّمن ما خلا القسمين التحضيري والموسيقي؛ الدلك والأشغال المنزلية. ولذا يُوظَّفْن مدبرات للمنازل ومربيات للأطفال في الأُسر، ومنهنَّ مَن أدركن مراكز تحسدهن عليها المبصرات.
فها قد وصفنا للقارئ حالة التعليم في هذه المدرسة، ونزيده علمًا بأن التلاميذ يتلقون فيها فضلًا عن المواد المذكورة دروسًا في حُسن الإلقاء وبراعة النطق، وفي علوم تركيب الحيوان والنبات ووظائف الأعضاء والصحة العمومية، وفي أديان بلاد الصين والثورة الفرنساوية وغير ذلك.
(٣-٢) شروط الدخول في هذه المدرسة
تقبل المدرسة عميان الجنسين من سن ست سنوات إلى إحدى وعشرين، ويُفضَّل من الطالبين من يعرف القراءة والكتابة على طريقة برايل. وأجرة التلميذ تختلف حسب اختلاف عمره، فهي عن السنة الكاملة كما يجيء:
٣٥ جنيهًا إنكليزيًّا لمن كان عمره أقل من ١٣ سنة.
و٤٥ جنيهًا إنكليزيًّا لمن كان عمره بين ١٣ و١٦ سنة.
و٦٥ جنيهًا إنكليزيًّا لمن كان عمره أكثر من ١٦ سنة.
وفيها بعض التلاميذ المجَّانيِّين.
(٣-٣) دخل المدرسة ونفقاتها
بلغ دخل هذه المدرسة سنة ١٩٠٩ عشرة آلاف جنيه منها ٢٥٠٠ جنيه تبرعات واشتراكات والباقي من دخل ممتلكاتها ومن أجور التعليم وإعانة الحكومة. أما النفقات فبلغت ١١ ألف جنيه، فالعجز ألف جنيه جُمِع من ذوي الإحسان.
وبعد هذا البيان لا حاجة إلى الإفاضة في الكلام على راحة التلاميذ وهنائهم في هذا المعهد الباهر الذي خرجنا منه ونحن نتأَمَّل في حالة عمياننا عاقدين نيتنا على السعي بكل قوانا. ولا نسعى لإنشاء قصور باذخة وجنان زاهرة يسكنون بها ويُعلَّمون فيها كإخوانهم تلاميذ مدرسة لندره؛ ولكن لإقامة مدرسة وطنية تلم شعث البعض منهم، وتنير بصائرهم بالتعليم فقط حتى نخطو خطوة إلى الأمام. وحسبنا أن تتكلَّل مساعينا بالنجاح لدى أرباب الشأن وأُولي البر والإحسان.
(٤) مدرسة فقراء العميان الملكية في ليزرهيد
زرنا هذه الدار الأنيقة التي في ضواحي لندره فلم نلقَ مديرها. وكان، كالسير فرنسيس كامبل مدير المدرسة التي مرَّ ذكرها، في مؤتمر العميان المنعقد في إكستر، فاستقبلنا أحد أساتذتها المستر آدم وهو مبصر طاف بنا في أقسامها كافة، وما نشهد إلا بما رأينا.
وقد بُنيت هذه الدار على مساحة من الأرض تبلغ أربعة فدادين بعد أن طاف منشئوها في إنكلتره وسائر بلاد أوروبا للوقوف على أحسن الطرق التي تكفل راحة العميان وتخفيف البلاء عنهم بالتعليم والتهذيب. ولم يبخل المهندسون الذين وضعوا رسومها في جعلها بناءً فخيمًا حاويًا الضروريات والكماليات، ففيها حُجر للنوم متسعة طَلِقة الهواء؛ منها ما هو للذكور ومنها ما هو للإناث، ولكل قسم منهما حمامات فيها الماء البارد والحار حين الطلب، ومحالُّ للموسيقى وأخرى للمعالجة، وقاعات لتلقِّي العلوم والآداب وأخرى لتعليم الصنائع، وغرف للاستراحة ومطالعة الكُتب المروِّحة النفس من عناء الأشغال وغيرها للألعاب والرياضة البدنية. وهذه الغرف كلها مُنارة بالكهرباء، مدهون أعلاها بالزيت، محوط أسفلها بالقيشاني، معرَّضة للشمس والهواء حسب النظام الصحي، مدفأة في الشتاء بالماء الحارِّ المار في أنابيب بين جدرانها.
وللألعاب العديدة المختلفة الأنواع الموجودة في هذه المدرسة فوائد جمَّة، منها: ترويح الفكر من عناء الأشغال اليومية، وترويض أنفس أولئك البؤساء، وتوطيد عُرى الصداقة والأُلفة بينهم، وتُقرأ لهم في المساء الجرائد؛ ليطَّلعوا على الأخبار اليومية، ويكونوا على علم بأنباء البلاد القاصية والدانية.
وكذلك يُقرأ لهم شيء من آداب لغتهم وتاريخ بلادهم لإنهاض هممهم وتشديد عزائمهم.
وفي داخل المدرسة مضخَّات لإطفاء الحريق، وقد أُعطيت إشارته مرارًا إلى العميان دون شبوب النار؛ وذلك لتدريبهم على النجاة بأنفسهم، فكانت النتيجة في جميع الأحوال أنهم تمكَّنوا من الخلاص والخروج من محالِّهم بكلِّ هدوء وسكينة مع ظنِّهم أن النيران تأكل جدران مدرستهم، فتأَمَّل.
أما الحِرف التي تُعلَّم للذكور فهي صُنع السلال والكراسي الخيزران وما شاكل ذلك، وقد رأينا في معمل خاص بها ١٢ عاملًا بعضهم يُبصر قليلًا، وفي معمل السجادات والمماشي ٢٨ تلميذًا. وأفخر ما يُصنع من السجاد في هذه المدرسة صُنع أعمى أصم أبكم، ولله في خلقه شئون.
ويوجد معمل للبرشِّ من جميع الأنواع يشتغل فيه ٣٤ أعمى، ومحل لتصليح البيانو وفيه ١٨ عاملًا، وكذلك يتلقى كثيرون دروسًا في الموسيقى. على أن مزية هذه المدرسة اختصاصية في الصنائع اليدوية غالبًا.
أما الإناث فيُعلَّمن الخياطة والتطريز بالإبرة أو بآلات مخصوصة، والنسج باليد وبالآلات أيضًا، وصُنع كراسي الخيزران والقش والشالات والأستار اليابانية والرتق، وكذلك يشتغل بعضهن في فن المطبخ.
أما مصنوعات العميان فتباع في الأسواق العمومية غير أن هناك امتيازًا في بيعها أُعطيَ بعضَ المخازن فيقصدها من يروم مساعدة هؤلاء البؤساء وترويج بضاعتهم.
وأَساليب التعليم في مدرسة ليزرهيد مفيدة؛ فيبدأُ الطالب أو الطالبة بتعلُّم ما يتلقنه البُصَراء في مدارسهم من قراءة وكتابة وحساب ونحو وجغرافيا وتاريخ وعلوم طبيعية على طريقة برايل. وجميع العميان يتعلمون الكتابة على الآلة الكتابية المعروفة كي يتمكَّن أهلهم وغيرهم من قراءة ما يكتبونه. ثم يختار الأعمى بعد تعلُّم هذه المبادئ ما يروق له من الحِرف المذكورة آنفًا.
(٤-١) نظام المدرسة
يتفقَّد سير المدرسة بنظامها أُناس عليهم مراقبتها إلى أجل معلوم، فيرفعون إلى مديرها تقاريرهم عما رأَوه، ويلفتون نظره إلى النقص أو الخلل الذي يتبين لهم أثناء المراقبة؛ فيتولى المدير الإصلاح المطلوب. ونفقات التلميذ السنوية ثلاثون جنيهًا إنكليزيًّا يدخل فيها التعليم واللبس والغسيل والكُتب وآلات الحِرف والعناية الطبية. ولا يُقبل فيها تلميذ إلا وهو في ما بين الثانية عشرة والخامسة والعشرين فقط، ويُرفض من كان متزوجًا أو مصابًا بأمراض مزمنة.
أما دخْلها فمن الاكتتابات العمومية والهبات والوصيات سواءً كانت عقارًا أم منقولًا ومن أُجرة المدرسة، وقد تبلغ النفقات السنوية ١٧٠٠٠ جنيه إنكليزي منها ١٤ ألفًا دخْل ما ذُكر، والثلاثة الباقية تُجمع سنويًّا من ذوي الإحسان وممن يهمهم تعليم العميان وتهذيبهم.
ومبلغ ثلاثة الآلاف جنيه ليس بالقليل ويلقى المُناط بهم جمعه بعض الصعوبة، ولكن لا تخور عزائمهم ولا تثبط هممهم في إدراك قصدهم النبيل لعلمهم أن الله لا يُضيع أجر من أحسن عملًا.
وفي الختام أقول: إن هذه المدرسة هي أكبر المدارس التي زرتها وأتمُّها نظامًا. غير أني تركتها وفي النفس غصَّة من عدم وجود مدرسة واحدة نظيرتها في قُطر غنيٍّ كالقطر المصري، غني بوجهائه وكرمائه، غني خصوصًا بعميانه.
(٥) المدرسة الملكية للعميان والصم البكم في بروكسل
كان البلجيكيِّون في مؤتمر القاهرة لتحسين حال العميان أكثر الأجانب عددًا، وأظهرت حكومتهم انعطافًا كبيرًا عليه بانتدابها لحضوره ثلاثة من كبار رجالها، هم: الأب ستوكمانس الرئيس العام لطغمة الفرير ومن أشهر محبي العميان، والمسيو فان دن هوفيل ناظر المعارف سابقًا، والمسيو رابسيت وكيل مجلس الشيوخ. وزد على ذلك أنهم كان لهم في نفس مؤتمرنا القدح المُعلَّى بما أتحفونا به من التقارير الوافية والمواضيع الرائقة في أمور تحسين حال العميان، وما ألقوه من الخُطب التي نالت إعجاب أعضاء المؤتمر جميعًا؛ فلذا وجبت زيارتنا إياهم فقصدنا بروكسل عاصمة البلجيك للوقوف في أكبر معهد لعميانهم على طرق تعليمهم. لا سيما وأن بلجيكا أُصيبت منذ مائة سنة بانتشار الرمد الحبيبي بين سكانها كما نحن به مصابون فقاومته بهمة وحزم، حتى لقد سبقت سائر البلاد الأوروبية التي أصيبت به وكادت تقطع دابره فلم يبقَ من سكانها المصابين به إلا ٦ أو ٧ في المائة.
وما مضت فترة من الوقت حتى حضر الأخ كليه فأكرم وفادتنا وسُرَّ بلقائنا في داره على غير موعد سرورًا عظيمًا دلَّ على كرامة خُلقه. ثم سار بنا إلى مصانع المدرسة شارحًا أعمالها وأَهم أنواعها، فمنها ما خُص بتصليح كراسي القش والخيزران وعملها، ومنها ما تفرَّد بصنع السلال على اختلاف أصنافها. ثم سار بنا إلى المطبعة، وقد استنبط دليلنا لها آلات تسهِّل كثيرًا للعميان طَبْع كُتُب برايل، وتقلِّل نفقات الطبع والورق، وكذلك قد اخترع آلات تسهِّل الكتابة للعميان. وعند انتهاء زيارتنا وقفنا منه على المعلومات الآتية:
أما مواد التعليم فهي التعليم الديني والقراءة والكتابة بطريقة برايل، واللغتان الإفرنسية والفلامندية، والإسبيرانتو وهي لغة خصوصية تجمع بين سائر الشعوب، وقليل من الإنكليزية والألمانية للأزكياء من العميان، وتاريخ بلجيكا وجغرافيتها وتقويم البلدان، ومبادئ القوانين النيابية، والحساب، وعلم الصحة والرياضة البدنية، والغناء والموسيقى ودوزنة البيانو، وعمل السلال والكراسي وتصليحها.
وللمدرسة جمعية مخصوصة بحماية العميان المتخرجين فيها وتوظيفهم كأساتذة للموسيقى في مدارس المبصرين أو لأولاد الأسر وتشغيلهم بعمل يدوي للصناع منهم؛ ولهذا الغرض تُوزع الجمعية كل سنة في مدن بلجيكا وقراها كافة جدولًا مشتملًا على أسماء العميان وعنواناتهم ونوع الصنعة التي يزاولونها، كما تسعى لدى كبار التجار بالتزام أعمال الكراسي والسلال اللازمة لتجارتهم فتشغل عميانها بتلك الأعمال وتنفعهم نفعًا جزيلًا.
ولا بد لنا قبل الختام من الإشارة إلى نصيحة مبنية على اختبار طويل أبداها لنا جناب الأخ كليه. وهي أن نضمَّ إلى مجلس إدارة الجمعية التي تؤسس عندنا لمساعدة عمياننا بعضَ العميان النبهاء وذوي الوجاهة منهم في الهيئة الاجتماعية لاستشارتهم أحيانًا في حاجيات إخوانهم العميان فهم أعرف ببعضها من المبصرين. على شرط ألا يكون لهم الحول الكبير على أن كثرتهم أو إبعادهم مطلقًا أمران تضيع بهما الفائدة.
فشكرنا جناب الأخ على إيضاحاته وودَّعناه ونحن معجبون بالشعب البلجيكي؛ لأنه أقرب الشعوب إلينا من حيث عدد السكان فهو يبلغ ٧ ملايين نسمة والشعب المصري ١٢ مليونًا. ولكن شتان ما بين عدد عميانه وهم ٣ آلاف وخمسمائة وعدد عمياننا وهم ١٥٠ ألفًا، وشتان ما بين اهتمامه بشئون العميان وإهمالنا العميان عندنا. أصلح الله أحوالنا إن الله على كل شيءٍ قدير.
(٦) دار العميان لسانت جيوزبيه ولوشيا في نابولي وهي أعظم وأشهر معهد موسيقي للعميان في إيطاليا
ثم طاف بنا المدير في أرجاء الدار وهي فسيحة على شكل مربع مقسوم إلى أقسام عديدة. وإليك ما رأيناه وعلمناه:
تأَسَّست هذه الدار — وهي أقدم معهد للعميان في إيطاليا — سنة ١٨١٨ بأمر ملكي من فردينان بوربون الأول ملك سيسيليا وعلى عهده. وكان العميان قبل ذلك في دار واحدة مع غيرهم من الفقراء المبصرين، فأراد الملك عزل العميان رغبةً منه في تعليمهم وجعل معهدهم هذه الدار. وكانت حينئذاك ديرًا للجزويت فأمر بإحضار ما يلزم لها من باريس حيث أسَّس سنة ١٧٨٤ أول معهد للعميان، وقد مر ذكره.
وفي السنوات الأولى من افتتاحها سارت على أقوم نهج؛ إذ أمكن تعليم العميان بعض الأدبيات والفلسفة والحساب، ولكن حدثت حوادث سياسية عرقلت مساعيها فتحولت ملجأً للفقراء. ثم كرَّت الأعوام وتوالت الإدارات الصالحة التي تولت الإحكام؛ فبُذل المجهود في تحسين حال هذه المدرسة. ولكن كان يتعذَّر الوصول إلى نتيجة مُرضية لاختلاط الفقراء الجاهلين فيها ببعض الشبان الذين يتيسَّر تعليمهم.
وفي سنة ١٩٠٨ صدر أمر ملكي بتحسين حال هذه الدار؛ فشُيِّد قسم خُصَّ بالعميان الممكن تعليمهم، وأُحضرت لهم الأدوات اللازمة للتدريس، وفُصل الطاعنون في السن غير الصالحين للتعليم عن القسم الأول في بناء آخر منها.
أما عدد العميان الموجودين في هذه الدار فهو مائتان وكلُّهم ذكور:
منهم: ١٤٠ بين الخامسة والعشرين والخمسين.
ومنهم: ٦٠ بين العاشرة والخامسة عشرة.
ومن العدد الأول ٦٠ موسيقيًّا بين أيديهم مائة قطعة موسيقية على طريقة برايل، تأليف أشهر الموسيقيين كواجنر وهايدين وأوبر وفردي وبوشيني وماسكاني وروسيني وغيرهم. وهي أعظم جوقة موسيقية للعميان في الدنيا، وقد نالت أوسمة الافتخار في مؤتمرات عديدة.
وقد يُدعى موسيقيو هذه المدرسة إلى حفلات نابولي الرسمية وغيرها من بلدان إيطاليا اعتمادًا على مهارتهم الحقيقية في هذا الفن، ومساعدة لهم من جهة أخرى بأجور يُعطى ثلثاها لهم والثلث الأخير للمدرسة ولا تحفظه لنفسها بل تحسمه من أصل إنفاقها عليهم.
وما عدا هؤلاء الستين موسيقيًّا، ثلاثون آخرون يصنعون السلال والبرشِّ والسجوف، والخمسون الباقون طاعنون في السن ولا يعملون شيئًا بل يأوون إلى تلك الدار فقط.
أما العميان الستون الذين تتراوح أعمارهم بين العاشرة والخامسة عشرة، وهم الذين قُبِلوا منذ سنة ١٩٠٨ بعد تحوير نظام المدرسة، فيُعلَّمون كل العلوم الابتدائية والموسيقى والصنائع اليدوية ولهم أساتذة مُبصرون وعميان.
ولكن هذه المدرسة مختصَّة بتدريس الموسيقى فهي تُعنى كثيرًا بهذا الفن، وتُوجب على أولئك التلاميذ الصغار درس البيانو على طريقة برايل على سبيل التمرين، ثم يختارون الآلات بعد ذلك؛ فإِما الأرغن وإما آلات أخرى هوائية أو وترية، وفيها لتدريس فن الموسيقى ١٢ معلمًا مبصرًا و١٤ معيدًا أعمى، ومديرهم جميعًا أستاذ موسيقي هو رئيس الموسيقيين لبلدية نابولي.
أما الأشغال اليدوية فتُعلَّم مرتين فقط في الأسبوع، وتعليم أصول الدين إجباري للصغار واختياري للكبار، وكذلك يتعلم العميان الرياضة البدنية. ويعود التلاميذ طبيبٌ لمعالجة المرضى، ورمديٌّ لمقاومة الرمد الحبيبي.
وقد وجدنا في هذه المدرسة خرائط تقويم البلدان للعميان قديمة ينتهي عهدها إلى سنة ١٨١٨ وهي محفوظة أثرًا عزيزًا في غرفة المدير.
والتلاميذ حسنو الهندام، ومأكلهم نظيف، والحُجر التي ينامون فيها صحية مع أن الدار قديمة أُصلحت أخيرًا، وخلاصة القول أننا فرغنا من الزيارة وخرجنا من المدرسة شاكرين حفاوة مديرها معجبين بحذق تلاميذها لفن الموسيقى. ولا عجب فاعتناء المدرسة كلُّه منصرف إلى إتقان هذا الفن، وشهادات المقامات الرسمية والأوسمة الكثيرة الموجودة على جدران غرفة المدير وغيرها والصادرة من بلدان عديدة تبرهن على أن المدرسة نالت شهرتها عن جدارة واستحقاق.
(٧) نظرة إجمالية في بقية مدارس العميان بإيطاليا
أما مدرسة رومة فهي صغيرة من حيث إنها في عاصمة إيطاليا، وقد رافقنا في زيارتنا إياها أعمى اسمه المسيو أرفاتي يرتزق بصنعة التمسيد ولا بأس بحالته، فرأَينا فيها ٣٠ أَعمى و٣٥ عمياء فقط، يُعلَّمون العلوم والموسيقى وقليلًا من الحِرف. ورأس مال المدرسة ٤٠ ألف جنيه يكفي دخْلها لحاجيات التلاميذ.
وهناك غير ما ذكرناه مدارس زرناها لكنها شبيهة بالمدارس التي تكلمنا عنها.
وخلاصة القول: إن مدارس العميان في أوروبا عديدة؛ وأن منها ما اختص بتدريس العلوم العالية والموسيقى، ومنها ما اختص بتعليم العميان حرفة أو صناعة يدوية.
(٨) مدارس العميان في القطر المصري
قبل سفرنا إلى أوروبا لم نرَ بدًّا من زيارة معهدي العميان اللذين في القُطر المصري، وأَحدهما كما مرَّ في الزيتون، والثاني في الإسكندرية، فقصدناهما زائرين وقابلنا مديريهما ووقفنا منهما على المعلومات الآتية المدونة في التقرير السنوي لأعمالهما في سنة ١٩١٠. ونرى في ذكرهما فائدة؛ فربما يجهل كثيرون من سكان القطر أن فيه هذين المعهدين.
(٨-١) دار مؤاساة العميان بالزيتون
أصحاب السعادة والعزة | وحضرات الوجهاء |
---|---|
إسماعيل باشا سري | المستر بير كروفت |
إدريس بك راغب | المستر برونتون |
الفريق إبراهيم باشا فتحي | المستر هاريسون |
محمد باشا أنيس | المستر كنجسفورد |
هراري باشا | الدكتور موريسون |
إسكندر باشا فهمي | المسيو رولو |
جرجس بك حنين | ومدير المدرسة: المستر جاردنر |
وهذه الدار التي ليست لها صبغة دينية مطلقًا قد حصلت على مساعدة ثمينة جدًّا من انعطاف سمو مولانا الخديوي المعظم وجناب اللورد كرومر واهتمامهما بأحوالها. واعترفت بفائدتها الحكومة المصرية ومصلحة الأوقاف الإسلامية وبطريركية الأقباط الأرثوذكس، فرضيت كلٌّ منها بمنحها إعانة سنوية.
ويُربَّى في هذه الدار العميان من الصبيان على أي دين كانوا ويُعلَّمون؛ وتشمل الدروس تعليم القراءة والكتابة والنحو والحساب والجغرافيا والتاريخ (وكل هذه الدروس تُلقى باللغة العربية)، وتُعلَّم اللغة الإنكليزية ابتغاء تمرين العقول من جهة، ولاعتقاد أن معرفة هذه اللغة نافعة للصبيان، وتشتمل دروس الإنكليزية القراءة والكتابة والمحادثة. ويُعلَّم المسلمون قراءة القرآن ويلقنون أيضًا قواعد دينهم، وكذلك الأقباط تُلقى عليهم دروس دينية ويُعلَّمون الترنم بصلاة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
ولما كان الغرض من إنشاء هذه الدار تعليم التلاميذ ما يمكِّنهم من الحصول على ما تيسَّر للقيام بمعاشهم، فهي تبادر بعد دخولهم إلى تعليمهم حشو الكراسي بالخيزران، وقد تبيَّن أنهم يكونون أصنع أيديًا وأسرع عملًا كلما بودر بالشروع في تعليمهم هذه الصناعة. إذن فصناعة حشو الكراسي وسيلة موصلة إلى مقصد، كما أنها هي مقصد في ذاتها فهي تُعلِّم التلاميذ المواظبة والمثابرة وتحملهم في بدء الأمر على الاعتقاد بأن الغرض من تعليمهم في هذه الدار جعلهم قادرين على التكسُّب.
والحِرف التي تُعلَّم الآن (ما عدا حشو الكراسي بالخيزران) هي صُنع السلال والكراسي والبرشِّ من جميع الأنواع.
وتُصدر هذه الدار أيضًا كُتبًا بحروف برايل مطبوعة بالآلات، وهي لهذا العهد الدار الوحيدة التي تُصدر مثل هذه الكُتب للعميان المتكلمين بالعربية في مصر، وقد أرسلت عددًا منها في العام الماضي إلى جهات عديدة في القُطر المصري وإلى بيروت ودمشق.
أما عدد التلاميذ فهو أربعون منهم ٣٥ مسلمًا و٥ أقباط وأجانب، وأغلبهم داخليون.
وقد بلغ دخْل المدرسة في سنة ١٩١٠ نحو ١٨٠٠ جنيه منها ٥٠٠ من الحكومة المصرية، و١٠٠ من الأوقاف الخيرية الإسلامية، و٢٥ من أوقاف الأقباط الأرثوذكس، والباقي دخل حفلات وليلالٍ خيرية، ومنها حفلة أقيمت في سان ستيفانو برمل الإسكندرية تحت رعاية صاحب العطوفة محمد باشا سعيد رئيس مجلس النظار، ووقفيات واشتراكات.
أما النفقات فبلغت نحو ١٥٠٠ جنيه مصري.
(٨-٢) مدرسة العميان الصناعية في الإسكندرية
وهذه المدرسة على أنها لا تزال صغيرة ما برحت تتقدم ويتسع نطاقها شيئًا فشيئًا، فقد كان يقيم تلاميذها بادئ بدئ في مسكن صغير بالأجرة أما الآن فهم في دار غير صغيرة وهي ملك للمدرسة. وأما التعليم فيها فأدبي وصناعي، يتضمن الأول القراءة والكتابة على طريقة برايل، ويراد بالتعليم الصناعي حشو الكراسي بالخيزران وصنع السلال من جميع الأنواع والأشكال. ومصنوعات عميان هذه المدرسة متقنة وتُباع بأسعار متهاودة، وقد نالت جائزة في المعرض الزراعي الذي أُقيم سنة ١٩٠٧ فكانت برهانًا على جودة العمل.
وتقبل التلاميذ من أَي دين أو جنس دون فرق؛ فلا تتعرض المدرسة لأحد في عقيدته بل تبقى له الحرية التامة في تأدية فروضه الدينية.
وقد بلغ دخلها سنة ١٩١٠: ٦٠٠ جنيه مصري، وتبرعت لها الحكومة المصرية بمبلغ مائتي جنيه سنويًّا منذ أول سنة ١٩١١، وكذلك اختصَّها مجلس بلدية الإسكندرية بإعانة سنوية قدرها ٤٠ جنيهًا مصريًّا. أما نفقاتها فقد بلغت سنة ١٩١٠: ٥٨٠ جنيهًا مصريًّا.