تربية العميان
- (١)
التربية الأدبية.
- (٢)
التربية العقلية.
- (٣)
التربية الفنية.
- (٤)
التربية البدنية الجسدية.
(١) التربية الأدبية
ينظر كثيرون إلى الأعمى بعين الحذر والخوف ويعدُّون عاهته حاجزًا دون فلاحه. وأغلب الاختصاصيين بأمور العميان وقعوا في هذا الخطأ، ولقَّنوهم تربية أخلاقية لا تتفق مع استعدادهم الفطري وحاجتهم المادية في هذه الحياة. نحن لا ننكر أن النظر إلى الأعمى يُوجب الشفقة والحنان، وأن هنالك فرقًا واضحًا بينه وبين المبصر من حيث القوى الرئيسية كالجرأَة والإقدام. ولكن يجمُل بالقائمين بتحسين حالة العميان أن يتجاهلوا عاهتهم الطبيعية عندما يراد تربية أخلاقهم وطباعهم. ويجدُر بالمعلمين أيضًا أن يكونوا متَّقِدين غيرة وحمية على ترقية شئون هذه الفئة البائسة. وأجمل صفات ينبغي الاجتهاد في تحلية الأعمى بها هي: حُسن السلوك ورقَّة الإحساس، وقوة الاستنباط والتروِّي والاعتماد على النفس، والثقة بالله في كلِّ الأمور.
(١) أما حسن السلوك ورقَّة الإحساس فهما في أعلى منزلة من الأهمية؛ لأن الأعمى مهما نبغ وتفنن في حرفته لا يجاري المبصر عند ولوجه معترك الحياة إلا فيما ندُر، ولا تكون معاملة الناس له إلا ممزوجة بروح الإحسان والشفقة، فإن لم يكن قادرًا بحسن سلوكه ورقة شعوره على استعطاف الناس واستمالة قلوبهم إليه في معاملته إياهم أعرضوا عن مساعدته، وطرقوا باب مَن يقوم مقامه في صناعته من المبصرين.
(٢) إن عاهة الأعمى تُبطئ حركته وتجعله ضعيف القلب واهن العزيمة تلقاء ما يكتنفه من الصعوبات في سبيل الارتزاق؛ ولذا يجب تقوية قوة الاستنباط عنده، وحثه على استخدام حواسه الباقية كالسمع والشم واللمس، وتعويده على شحذ الفكر وبُعد النظر، ليفتح له كل ذلك منهجًا يسلكه في سبيله الحالك ويجعله في منعة من السقوط واليأس.
(٣) ومن جهة أخرى فليست عواطف الناس ومقدار شعورهم سواءً؛ إذ إن أغلبهم لا يساعدون أحدًا إن لم يجدوا منه فائدة محسوسة، فيجب تقوية الإرادة في نفس الأعمى؛ كي يتمكن من الاعتماد على نفسه بإجادة صناعته وجعل الناس تُقبل عليها من تلقاء أنفسهم.
(٤) وهنالك أيضًا أمر جدير بالاعتبار هو أن أكثر معاهد العميان في وقتنا الحاضر يديرها أساتذة مدنيون وقد نبذ أكثرها الفكرة الدينية من لائحة تعاليمها. لكن من ينظر إلى حالة الأعمى النفسانية يرى أن الثقة بالله والاعتقاد الديني هما أكبر مشجع ومعزٍّ له على تحمُّل مصيبته بصبر وشجاعة؛ لأن الإلحاد يُثبط عزيمته ويجعله يائسًا في أيام المحنة والشدة. ومعلوم أن المبصرين أنفسهم يرفعون أبصارهم وقلوبهم إلى السماء ساعة الشدة والضنك، فأَحْرى بالأعمى التشبُّث بمبدأ ديني والتطلع ببصيرته إلى وجه ربه ذي الجلال فيتعزَّى شيئًا ويلقى صروف دهره بثغر باسم وصدر رحب ونفس مطمئنة.
(٢) التربية العقلية
وليس غرضنا من هذا المطلب تثبيط الهمم وإِيهان العزائم، وإنما يجب على من تُناط بهم مصلحة العميان أن يُشجِّعوا من مُنح منهم مواهب راقية على سعيه ونشاطه في سبيل العلم.
ومع ذلك يجب أن تكون التربية العلمية على الخصوص عمليةً محضة؛ لأن مواهب الأعمى محصورة في سمعه ولمسه وشمه، ولا بدَّ له من تطبيق كل ما يدرسه أو يلقنه عملًا بواسطة هذه الحواس. ومن أهم وسائل التطبيقات العملية إقامة المتاحف في المدارس وجعلها حافلةً بالمواد الحسية لتمرينهم بها على ما تعلَّموه عقلًا.
(٣) التربية الفنية
النظر أفضل حاسة تساعد العامل على إتقان صناعته ومعرفتها بدقائقها، غير أن الأعمى لسوء حظه لا يتمكن من درس الصنائع كما هي إلا إذا تلقَّى العلم على أساتذة غيورين صبورين، ينظرون إلى عاهته بعين الرأفة والحنان، ولا يقنطون إذا رأوه في بادئ الأمر لا يستفيد من دروسهم؛ لذلك يجب على مديري مدارس العميان اختبار مَن يُعلِّمون العميان الحرَف ممن توفَّرت فيهم صفات الصبر والغيرة، وسرت في عروقهم حرارة الحمية والحنان والانعطاف، ومراقبتهم كي لا يستخدموهم في حاجاتهم الشخصية. ويجب من وجه آخر تنبيه من يهمهم تعليم العميان إلى أمرين: أولهما كيفية اختيار الحرفة للأعمى، وثانيهما ضرورة تعليمه حرفًا متنوعة، فقد عُلِم بالاختبار أن لا بدَّ من مراقبة أميال الأعمى في اختيار حرفة يلقنها لإتقانها بالتفرغ لها ثم تعليمه حرفًا أو حرفة واحدة. وهذا الأمر يختلف باختلاف المدن والقرى، فالمقيم في المدن تكفيه صناعة واحدة؛ لكثرة السكان ووفور المطالب التي يمكن توزيعها على عميان كثيرين، وأما من يريد التعيُّشَ بين ظهراني أهل القرى والأرياف فلا غنى له عن مزاولة حرف عديدة لضيق الدائرة التي يقيم فيها، وقلة عدد السكان وتنوع مطالبهم.
(٤) التربية البدنية
قال جان جاك روسو في تأليفه «إِميل» ما معناه: «إنما يكون العقل الراجح في الجسم السليم القوي، والعقل الضعيف والإرادة الواهية في الجسم العليل السقيم.» ومغزى هذه النظرية أن لا بد من تقوية أعصاب الأعمى وعضلاته لتساعد عقله على العمل المفيد؛ لأن ضعيف الجسم يكون واهي العزيمة غير قادر على الدرس أو المثابرة على العمل الشاق، وخير الوسائل التي تنمي الأجسام الألعاب والرياضة البدنية والذهاب إلى الحقول والتجول في الفلوات، غير أني سمعت أكثر مديري المدارس يشكون بحق من عدم اهتمام العميان أنفسهم بالألعاب الرياضية، ولا عجب من ذلك فالأعمى تحمله عاهته على الخوف من الحركة فلا يُقدم عليها. وتلافيًا لهذه العلة قد استنبط السير فرنسيس كامبل ألعابًا مخصوصة بالعميان منها وضعه في الكرة جرسًا يُنبئ باقترابها منعًا للخوف من صدمتها. وفيما عدا ذلك يشير كثيرون من المديرين بإدخال بعض المبصرين في زمر العميان اللاعبين لتجرئتهم على النشاط والإقدام. هذا ونحن نرى المبصر نفسه يحتاج إلى التربية البدنية لتقوية مواهبه العقلية، فما بالك بالبائس الذي تعوَّد السكون والظلمة الدامسة! إنه ولا شك أحوج إليها.
هذه هي الطرق المتبعة في أوروبا لتثقيف العميان وتربيتهم تربية صحيحة تمكِّنهم من المحافظة على مركزهم الاجتماعي، وتساعدهم على كسب أرزاقهم بأنفسهم دون أن يلجئوا إلى التسوُّل الذميم الضارب أطنابه بين ظهرانينا.
وسندرس في الفصل الرابع التالي كيفية مساعدة العميان للحصول على تلك التربية.