الفصل الأول

منطلق الرئيسيات

الأدوات والعادات والأمومة والحروب والوطن

لا بد أن نُقرَّ أن الإنسان بكل صفاته النبيلة ما زال يحمل في تكوينه بصمة أصله الوضيع المتعذِّر محوُها.

تشارلز داروين، «نشأة الإنسان»
حين طرح تشارلز داروين لأول مرة الفكرة القائلة بأن الجنس البشري تطوَّر من سلفٍ شبيه للقردة، قُوبِل بصيحات السخط من رجال الدين والعامة والكثير من علماء ومثَّقفي عصره؛ فرغم كل أوجه الشبه الملحوظة بين الجسد البشري وأجساد السعادين والقردة، فقد صُوِّر داروين مُهرطِقًا ناقضَت نظرياته قصة الخلق في الإنجيل، بل والاعتقاد الشائع بأن الجنس البشري أكثر تميزًا بكثير من أن ينشأ من «أصل وضيع» مثل هذا، إلا أنه عند وفاته كانت نظريات داروين عن التطور قد صارت مقبولة بصورة كبيرة، ومنذ عصره وعلماءُ الحفريات وعلماء الوراثة يُدللون على الارتباط بين البشر وقردة ما قبل التاريخ بإسهاب ودقة لم يكن داروين نفسه ليتخيَّلهما (انظر شكل ١-١).
fig1
شكل ١-١: رسمة كرتونية شهيرة من العصر الفيكتوري نُشرت في «ذا هورنيت»، المجلة الإنجليزية الساخرة، حيث صُور تشارلز داروين على شكل «إنسان غاب موقر».

قد يرتبط البشر بالقردة والسعادين بمعنى اشتراكهم في النسب نفسه، لكن البشر مُتفرِّدون في عدة طرق تفصلهم دون شك ليس عن الرئيسيات فقط، لكن عن أشكال الحياة الأخرى كذلك. يستكشف الجانب الأكبر من هذا الكتاب التغيرات القائمة على التقنية، والتي حوَّلتنا تدريجيًّا إلى ما هو أكثر من مجرد نوع حيواني آخر، لكن حتى نفهم التعقيدات الغريبة في مجتمع البشر وثقافتهم، علينا أن نبدأ باستيعاب منطلق الرئيسيات؛ تشريح السعادين والقردة وسلوكهما. كان هذان بمثابة نقطتَي الانطلاق الوراثية، المواد الخام الطبيعية، التي تطوَّر منها تشريح البشر وسلوكهم الفريدان. بفهم طبيعة لَبِنات البناء التطورية هذه نستطيع أن نُقدر بالتمام كم من مشوار التطور قد قطعنا وما مقدار ما تبقى منه.

بصمة انحدارنا من الرئيسيات واضحة في كل جانب من جوانب تشريح الإنسان؛ فلقد تطوَّرت يد الإنسان بسبب حاجته إلى الإمساك بفروع الأشجار بقبضة قوية ومحكمة، وتطوَّرت كتف الإنسان التي تسمح للذراع بالدوران لتصل إلى وضعٍ قائم تمامًا من حاجته للتدلِّي من الفروع العُلوية بالذراعين. أما قدم الإنسان التي تكيَّفت على نحو جميل للسير والركض على ساقين على أرض منبسطة، فقد كانت في الأصل «يدًا» قابضة كانت مهمتها تسلُّق الأشجار.

أما وجه الإنسان، بعيدًا عن فمه الصغير نسبيًّا وجبهته العالية، فهو وجه نموذجي من وجوه الرئيسيات؛ فهو يخلو من الشعر حول العينين والأذنين والأنف والفم، مع حاجبين بارزين.1 الأنف قصير لأن حاسة الشم ليست مهمة للحياة على الأشجار، وكلتا العينين تقعان في وسط الوجه وليس على الجانبين من أجل الإبصار المُتزامن بكلتيهما؛ لأن هذا النوع من الإبصار يُمكِّن الرئيسيات من الحكم على المسافات في فضاء ثلاثي الأبعاد؛ ومن ثَم فله دورٌ حيوي في التحرك سريعًا وبيسر بين الأشجار.

حتى صوت الإنسان تطوَّر من حاجة الرئيسيات القديمة إلى التواصل مع الأصدقاء والأقارب والغُرماء الذين قد يكونون مختبئين بين أوراق الأشجار المدارية الكثيفة. في الواقع كل الرئيسيات لها أصوات، وأغلب الأنواع يصدُر عنها أصواتٌ متنوعة، كلٌّ منها له معناه الخاص، بل وتبتكر قردة الجيبون في جنوب شرق آسيا أغانيَ خاصةً بها تتغنَّى بها في الغابة يوميًّا قبل الفجر. وإن كنا لم نعُد قادرين على تسلق الأشجار حتى ارتفاعات كبيرة على العكس من القردة والسعادين التي يسهل عليها ذلك، فما زِلنا نجد متعةً استثنائية حين نتطلَّع من أماكن مرتفعة ذات إطلالات واسعة.

بجانب تزويدنا بالسمات الرئيسية لخصائصنا البشرية الجسدية المميزة، يمكن رؤية تأثير انحدارنا من الرئيسيات بوضوح في العديد من عناصر السلوك الإنساني الرئيسية؛ فمِثل أغلب الرئيسيات نحن نوعٌ اجتماعي يعيش في مجموعات، وننضج ببطء، ونظل معتمدين على أمهاتنا خلال السنوات الأولى من حياتنا، ونُكوِّن مع أمهاتنا وإخوتنا ورفاقنا روابط قوية تستمر عادةً طوال حياتنا. كذلك ننظم أنفسنا في تسلسلات هرمية اجتماعية، وداخل هذه التسلسلات الهرمية نتنافس مع أشقائنا وزملاء الدراسة وزملاء العمل المُشابهين لنا في المكانة. في الوقت نفسه نُذعن لآبائنا ومُعلمينا ورؤسائنا الذين يعلوننا في المكانة، ونتوقع الإذعان من أطفالنا وطلابنا وموظفينا الذين نعلوهم مكانةً.

حتى قدرة البشر التي يَزْهون بها كثيرًا على تكوين ثقافات مميَّزة وتوريثها توجد بشكل بدائي بين العديد من الحيوانات العليا الأخرى، من بينها الحيتان والأفيال وحتى كلاب البراري. وقد أكَّدت الدراسات الميدانية الحديثة التي أجراها اختصاصيُّو علم الرئيسيات بما لا يدع مجالًا للشك أن السعادين والقردة قادرةٌ هي الأخرى على تكوين لَبِنات البناء الأساسية للثقافة والحفاظ عليها، حيث يستحدث الأفراد عادات وتقاليد، وتنتقل إلى أعضاءٍ آخرين في المجموعة عن طريق المُحاكاة والمُمارسة، وتُورَّث إلى أجيالٍ لاحقة من الآباء إلى الأبناء. وأخيرًا استخدام الأدوات والأسلحة الذي كان يُعَد في الماضي الفارق المميِّز بين البشر وكل الحيوانات الأخرى، اكتُشف على نحو حاسم أنه جزء من السلوك الطبيعي لأقرب أقربائنا جينيًّا وهو الشمبانزي.

التضامن الجماعي والوطن

الرئيسيات حيواناتٌ اجتماعية للغاية، وفي أغلب الحالات يقضُون نهارهم في صحبة أعضاء آخرين في جماعتهم، مُقتسمين أرضًا مشتركة أو حيزًا حيويًّا استُبعدت منه الجماعات الأخرى، في حين أن أيَّ مجموعة من الرئيسيات تتشارك موطنَها طوعًا مع أفرادها، إلا أنها تطرد بعنف الأفراد الآخرين من نوعها ذاته الذين ينتمون إلى جماعات من أراضٍ أخرى، وتُدافع عن أرضها ضد الجماعات المجاوِرة، تمامًا كما نفعل الآن، وكما كان يفعل الصائدون جامعو الثمار قبلنا (انظر شكل ١-٢).
fig2
شكل ١-٢: تعكس لغة جسد قرود الشمبانزي في الصورة التضامن والألفة اللتين يشعرون بهما بصفتهم أفرادًا في المجموعة الاجتماعية ذاتها (بإذن من http://www.aidanhiggins.com/images/chimps.jpg).

لكل جماعة من الرئيسيات ثَمة «نحن» و«هم»؛ أي الأفراد الذين ينتمون لجماعةٍ ما ويعيشون على أرضها مقابل الدُّخلاء الذين ينتمون إلى جماعات أخرى ويعيشون في أراضٍ غريبة. وتُدافع كل جماعة من الرئيسيات عن موطنها ضد الجماعات المُنافسة في مواجهات صاخبة وعدوانية وأحيانًا عنيفة، تقع غالبًا على الحدود حيث تلتقي الأراضي المتلاصِقة. فيَصيح أفراد جماعتين مختلفتين من السعادين أو القردة بعضهم في بعضٍ، ويُلوِّحون بإيماءات الوعيد، ويكسرون فروع الأشجار، ويُلقون بالأشياء، ويُحاولون إرهاب الطرف الآخر بوجهٍ عام.

كذلك تُميز الرئيسيات بين نوعَين من المِلكية مختلفين اختلافًا جوهريًّا: الملكية الجماعية، والملكية الشخصية. فأرض موطن الجماعة وموارده الطبيعية — يشمل ذلك أشجار النوم وأشجار الفاكهة وأقراص العسل وأعشاش الطيور ومواضعَ الشُّرب وما إلى ذلك — تُعتبر عامةً ملكيةً جماعية للجماعة ككلٍّ، ولأي فرد في الجماعة الحق في استخدامها، لكن عند قطف ثمرة فاكهة محدَّدة، أو صيد حشرة شهية، أو بناء عُش من الأغصان في إحدى أشجار النوم، فقطعة الطعام أو هذا العش يصير ملكية للفرد الذي التقطه أو بناه، ونادرًا ما يتشاركه مع الآخرين.

تُقرُّ كل المجتمعات البشرية بهذين النوعين من الملكية في الممتلكات الشخصية التي تخصُّ الأفراد وحدهم في مقابل الأرض العامة التي يتقاسمها كل أفراد المجتمع (والتي تشمل الشوارع والطرق والحدائق والساحات العامة الأخرى). وأضاف البشر إلى هذين النوعين من الملكية نوعًا ثالثًا، وهو الملكية العائلية (خاصةً الغذاء والمسكن) الذي يتشارك فيه أفراد العائلة، وليس المجتمع كله.

تتنوع جماعات الرئيسيات في الحجم من عدد قليل من الأفراد إلى ١٥٠ فردًا أو أكثر. هذا التراوح في الحجم هو ذاته الذي وُجد بين الجماعات الرُّحَّل من الصائدين وجامعي الثمار البشر، التي درسها اختصاصيُّو علم الإنسان. تقتصر أصغر جماعات الرئيسيات على الأم وابنها، لكن تعيش أغلب أنواع الرئيسيات في جماعاتٍ أكبر تضمُّ بالِغين وصغارًا ورضَّعًا من كلا الجنسين. وبعض الجماعات تتشكَّل من عدة إناث مع ذَكر واحد مُسيطِر. هذا النمط ينطبق على الغوريلات وقردة اللانجور والقردة الصيَّاحة وقردة البابون.2 إلا أن ثَمة أنواعًا أخرى، مثل السعدان الريسوسي والشمبانزي، تعيش في مجموعات من عدة ذكور وإناث. عادةً ما ترتبط هذه الأنواع بأمهاتها ارتباطًا قويًّا وطويلًا، لكن علاقاتها الجنسية، من وجهة نظرنا البشرية، إباحية؛ أي عرَضية جدًّا وليست مُستمرَّة ولا حصرية.

تتكون كل جماعات الرئيسيات تقريبًا من شبكة معقَّدة من العلاقات التي تربط أفراد الجماعة معًا بأربعة أنواع مميزة من العلاقات الاجتماعية، التي هي أيضًا لَبِنات بناء أساسية في كل المجتمعات البشرية. وهذه العلاقات تشمل: (١) علاقة الأمومة بين الأم والذرية. (٢) التسلسل الهرمي الاجتماعي الذي يربط بين الأفراد في علاقات من السيطرة والخضوع. (٣) الصداقات والتحالفات التي قد تنشأ بين فردين. (٤) العلاقات الجنسية التي تتكون بين البالغين من الذكور والإناث ويُحافَظ عليها.

الأمومة لدى الرئيسيات

غالبًا ما تكون علاقة الأمومة أقوى وأشد بين الثدييات مقارَنةً بالحيوانات الأخرى، والسبب في ذلك ببساطة هو الارتباط الجسدي والعاطفي الذي يتكوَّن أثناء الأسابيع أو الشهور أو السنوات التي تقضيها كل أنثى من الثدييات في رعاية صغيرها، ولأن الرئيسيات متكيِّفة بوجهٍ خاص على العيش فوق الأشجار؛ فرباط الأمومة بينها أقوى وأبقى من رباط الأمومة داخل أي مجموعة ثديية أخرى. فالأمهات في الرئيسيات وحدهنَّ تقريبًا بين الأنواع المتعدِّدة من الثدييات المشيمية لا بد أن يَحملن صغارهن معهن، أينما ذهبْن، طوال شهور أو سنوات عمرهم الأولى.

يُمكن تحديد أسباب هذا العبء الاستثنائي على الأمهات بسهولة؛ حيث إن الرئيسيات متكيِّفة للعيش على الأشجار، وحيث إن عليها أن تتحرك دائمًا للبحث عن طعامٍ موسمي تحمله الأشجار؛ فهي لا تستطيع بناء أعشاش أو جحور دائمة. هذا معناه أنها — على عكس الحيوانات الحفَّارة مثل الفئران أو الأرانب أو الثعالب — لا تستطيع إخفاء صغارها عن الخطر حتى تبلغ السن المناسبة لتُترَك وحدها. علاوة على ذلك قد تودي زلَّة أو سقطةٌ واحدة من قِمم الأشجار بحياة صغار الرئيسيات بسهولة.

يحتاج القرد أو السعدان الصغير فعليًّا سنواتٍ من النمو قبل أن يستطيع التحرُّك بأمان بين قمم الأشجار بمفرده، وحتى ذلك الوقت يظلُّ معتمِدًا على أمه لتُوفِّر له وسيلة انتقال آمنة من مكان لآخر. وفي هذا اختلافٌ كبير عن الحيوانات التي تعيش على الأرض، التي يُمكن أن تسقط صغارها وتزلَّ مرارًا وتكرارًا دون أذًى أثناء تعلُّم السير والركض. لهذه الأسباب فإن الاتصال الجسدي الحميم والوثيق بين الأم وصغيرها في الرئيسيات ومدَّته وأهميته المصيرية يفوق الاتصال الجسدي لدى أي حيوان آخر من الحيوانات العليا.

خلال مرحلة الطفولة يتشبَّث السعدان أو القرد بفِراء أمه بأطرافه الأربعة، مُتعلقًا بها من أسفل خاصرتها في وضعٍ مقلوب بصفة تكاد تكون مُستمرَّة طوال الأسابيع أو الشهور الأولى من حياته. ومع زيادة حجمه وقوَّته يبدأ الصغير من الرئيسيات الحركة وحده مع توخِّي الحذر، لكنه يهرع راجعًا إلى أمه مع أول بادرة خطر. ومع انقضاء فترة الطفولة ينتقل القرد أو السعدان اليافع تدريجيًّا من اعتلاء خاصرة أمه بالمقلوب إلى الركوب على ظهرها أو منكبَيها، ويستمر هذا شهورًا أو سنواتٍ قبل أن يبلغ السنَّ المناسِبة للاستغناء عن هذه الحاجة الدائمة للاتصال بأمه.

وهذا الارتباط الذي ينشأ بين صغير الرئيسيات وأمه أثناء هذه الشهور والسنوات الأولى من الاتصال الجسدي الوثيق دائمًا ما يستمر طوال الحياة؛ ومن ثَم ليس من الغريب أن رباط الأمومة محوريٌّ في الحياة الاجتماعية لكل أنواع الرئيسيات، بينما يتبايَن رباط الأبوة، حسب النوع، من الأهمية الشديدة إلى عدم الأهمية على الإطلاق (انظر شكل ١-٣).
fig3
شكل ١-٣: يتشبث قرد الباتاس الصغير فطريًّا بأمه، حيث سيظل يمتطيها بالمقلوب طوال الشهور الأولى من حياته. (من تصوير ريتشارد دوتون. [email protected]. أُعيد طبعها بإذن.)

رباط الأمومة القوي بالفعل لدى الرئيسيات كلها صار أشد قوة مع تطور الرئيسيات ذوات الأربع ساكنة الأشجار إلى بشرٍ يسيرون على قدمين ويسكنون الأرض. ينضج صغار البشر في بطء مقارَنةً بصغار أي نوع آخر من الرئيسيات؛ من ثَم تكون فترة الاعتماد على الأم أطول. وتكتسب الإناث البالغات في مجتمعات القردة والسعادين مَقامًا وهيبة في الجماعة عند إنجاب صغارها. على غِرار هذا يُعترَف بأعباء الأمومة ومسئولياتها الفريدة، وتلقى التقدير والاحتفاء في كل المجتمعات البشرية من خلالِ كمٍّ وفير من التقاليد الثقافية التي تُقدِّر العلاقة الخاصة المديدة بين الأم وأطفالها. بيْدَ أن البشر يتفرَّدون بالروابط القوية التي تنشأ عادةً بين الأب وأبنائه، وهو تطورٌ جذري بين الرئيسيات التي تعيش في مجموعات.

العلاقات الجنسية لدى الرئيسيات

ظهرت الروابط الجنسية المستقرَّة والعلاقات الجنسية الحصرية، بما في ذلك التعاون بين الذكور والإناث في رعاية الأبناء، منذ زمن طويل في تاريخ الحياة على الأرض. ويُمكن رصد مثل هذه العلاقات بين حيوانات بدائية مثل الأسماك، وتكاد تكون عامَّة بين الطيور التي يظلُّ بعضها، مثل الأوِز، مرتبطًا بشريكه مدى الحياة، لكن بين الثدييات غالبًا ما لا تكون العلاقات الجنسية مُستقرَّة أو حصرية، وتجنَح للتدرج بشدة في الصفة والأهمية من نوع لآخر.

فدائمًا ما تقتصر العلاقات الجنسية بين الماعز والخِراف على سبيل المثال على بضعة أفعال قصيرة للجماع. تتمتَّع الذكور المُسيطرة في هذه الأنواع بحقوق جنسية حصرية على قطيعها من الإناث، وتكون في غاية الانشغال بالتزاوج وحماية حقوقها لتساعد أيًّا من زوجاتها المتعدِّدات في مهمَّة رعاية صغارهما. هذا هو النمط المعتاد بين الحيوانات التي تعيش في قُطعان، مثل الحيوانات العاشبة.

على النقيض من ذلك، ترتبط قردة التيتي في أمريكا الجنوبية بعلاقات جنسية أحادية حصرية في أغلب الحالات، ونادرًا ما يغيب أزواج قِرَدة تيتي بعضهم عن أنظار بعض. وأثناء الراحة تجلس قردة التيتي المُتزاوجة مُتجاوِرةً وقد تشابكَت ذيولها مع بعضها، وكثيرًا ما تبدو أكثر اضطرابًا لتعبيرات الضيق لدى أزواجها من تعبيرات الضيق التي تبدو على صغارها. ومن الجدير بالملاحظة أن كلا الجنسَين من قرود التيتي يُشاركان بهمة في رعاية الصغار، حتى إنه بعد الأشهر الثلاثة الأولى من مرحلة الرضاعة، قد يحمل ذكر التيتي صغيره ٩٠ في المائة من الوقت. من الوهلة الأولى يبدو هذا مُوازيًا لنمطٍ شائع في مجتمعات بشرية كثيرة، لكن على عكس التيتي، تتباين المجتمعات البشرية المختلفة تباينًا بالغًا في مواقفها من رعاية الذكور للصغار.

تُظهر الأنواع المتعدِّدة من القردة والسعادين عدة أنماط مختلفة من العلاقات الجنسية، ولا غَرْو أن العلاقات الجنسية بصورتها المألوفة بين البشر تختلف اختلافًا بينًا عن العلاقات الجنسية لدى القردة أو السعادين، لكن رغم كل اختلافاتها تحتوي العلاقات الجنسية البشرية على العديد من العناصر الموجودة في العلاقات النمطية لدى الرئيسيات غير البشرية، ومنها ميل الذكور في كلٍّ من البشر والرئيسيات الأخرى للتنافس من أجل الفوز بالإناث النشطة جنسيًّا، لكن من أهم الاختلافات بين البشر وكل الرئيسيات الأخرى أن النساء وحدهنَّ بين إناث الرئيسيات قادرات على أن يكن نشطات جنسيًّا بصورةٍ شِبه مستمرة منذ البلوغ وحتى الشيخوخة.

عند التبويض تهتاج إناث السعادين والقردة — تُسمى علميًّا الحالة الشبقية — لمدة خمسة إلى سبعة أيام مرةً كل شهر تقريبًا، ولا تكون الإناث نشطةً جنسية إلا خلال هذه الدورات الشبقية الوجيزة نسبيًّا حيث يكنَّ في مرحلة التبويض والخصوبة. تمتاز الدورة الشبقية في أغلب الرئيسيات بشهيةٍ مفاجئة وحادَّة للجنس، يصحبها انتفاخ في الأعضاء التناسلية للأنثى، لكن حين تنحسر الدورة الشبقية تتوقَّف العلاقات الجنسية إلى أن تحدث الإباضة مجددًا.

في كل الرئيسيات غير البشرية، الإناث غير البالغات أو الحُبليات أو المُرضِعات أو اللواتي صِرنَ عاقرات مع التقدم في العمر لا يأتيهنَّ التبويض ولا تُعاودُهن دوراتٌ شبقية، وباستثناء حالات نادرة لا يُجامعن خلال هذه الأوقات. ورغم التباين الكبير بين أنواع الرئيسيات في سن النضج الجنسي، وتواتر الدورة الشبقية وفترتها، وفي كثافة الجماع، فإن كل أنواع الرئيسيات غير البشرية — وكل الحيوانات العليا بالتأكيد — تُظهر صورةً ما من هذا النمط الجنسي القديم.

يقع الاستثناء الوحيد للقاعدة بين قردة البونوبو أو الشمبانزي القزم، حيث تقع عدة أنواع من المُداعبات الجنسية وإثارة الأعضاء التناسلية يوميًّا بين أفراد من الجنس نفسه أو من الجنسين، بل وبين أفراد من فئات عمرية مختلفة جدًّا، لكن لا يشمل أغلب هذا السلوك الجنسي جماعًا حقيقيًّا، ويبدو أن صلته سواء بالتناسل أو تكوين روابط بين الذكور والإناث ضعيفة أو مُنعدمة. عوضًا عن ذلك يبدو أن السلوك الجنسي بين قردة البونوبو يُستخدم وسيلةً لفض النزاع وتقليل التوتر بين الأفراد.

من المُلاحَظ أنه من بين كل الرئيسيات، يُعَد البونوبو — الأنشط جنسيًّا بين الرئيسيات كلها (يتبعه مباشرةً الشمبانزي) — الأقرب جينيًّا إلى الإنسان بوجهٍ عام؛ فلدى قِرَدة البونوبو دوراتٌ شبقية طويلة للغاية (ثلاثون يومًا في مُقابل خمسة إلى سبعة أيام تقريبًا لدى أغلب الرئيسيات)، ويُراود الشبق البونوبو مرةً كل خمسة وأربعين يومًا تقريبًا، مُؤديًا إلى مزيد من الفرص للجماع عما هو مألوف لدى الرئيسيات غير البشرية، لكن حتى قِرَدة البونوبو المُفرِطة في مُمارستها الجنسية لا تستمر في الجماع أثناء الحمل أو الرضاع أو بعد انقطاع الطمث، كما يحدث لدى البشر.

تجدر الإشارة أيضًا إلى أن كلًّا من البونوبو والشمبانزي لا يتَّسمان بالاستئثار أو الاستحواذ الجنسي. وفي هذا تناقضٌ ملحوظ مع البشر الذين يتنافسون بشدة على العلاقات الجنسية، والذين ينزعون بشدة للاستئثار بأزواجهم. سنبحث دلالة هذا الاختلاف الجذري عن السلوك التقليدي لدى الرئيسيات بالتفصيل في الفصل القادم.

في حين تَشيع بين القردة والسعادين العلاقات الجنسية المتقطعة التي تُسيطر عليها الدورات الهرمونية للتبويض والدورات الشبقية، تتبايَن بدرجةٍ كبيرة أنماطُ التزاوج والترابط الجنسي بين أنواع الرئيسيات المختلفة من نوع لآخر.

العلاقة الأحادية، أعم أشكال الترابط الجنسي بين البشر، غير موجودة لدى ٩٧ في المائة من كل أنواع الثدييات، ويندُر وجودها بين القردة والسعادين. فيُقيم ذَكرُ إنسان الغاب البالغ في جنوب شرق آسيا علاقةً جنسية مع اثنتين أو أكثر من الإناث البالغات اللواتي يعشن بعيدًا بعضهن عن بعض. وتعيش كل أنثى من إناث إنسان الغاب مع أبنائها الصغار وحدهم في الغابة المطيرة، حيث يتردَّد عليهم دوريًّا الذكر البالغ الذي أنجب هؤلاء الأبناء. في أحيانٍ أخرى قد يتردَّد الذَّكر البالغ نفسه على زوجاته الأخريات وأبنائهن المُقيمين في مناطق قريبة.

تعيش قِرَدة الجيبون وقردة السيامنج الشديدة الشبه بها في جنوب شرق آسيا في أُسَر مصغَّرة منعزلة، حيث يلعب ذكر الجيبون دورًا نشطًا في رعاية الصغار. تمتاز الغابات المطيرة في جنوب شرق آسيا بتناثُر مصادر الغذاء على مساحاتٍ شاسعة، ويُعتقد أن هذا هو السبب في انعدام المجموعات الكبيرة في هذا الموئل، غير أن المجموعات الصغيرة لهذه الدرجة، المكوَّنة من أسرة وحيدة مصغَّرة بصفةٍ أساسية، غالبًا ما تكون نادرة الوجود في عالم الرئيسيات.

ثَمة نوعان آخَران من الروابط الجنسية بين الرئيسيات أكثر شيوعًا بكثير من مجموعة الأسرة المصغرة. النوع الأول هو نظام الحرملك، حيث يكون لذكرٍ واحد مُسيطِر حقوقٌ جنسية حصرية على مجموعة معيَّنة من الإناث. أما النوع الثاني فهو نظام مُتعدِّد الذكور ومتعدِّد الإناث، حيث تكون العلاقات الجنسية عابرة، ويُعَد السلوك الجنسي إباحيًّا وغير حصري بوجهٍ عام.

نظام الحرملك معهود لدى الغوريلات وقِرَدة الباتاس واللانجور وأغلب قردة البابون. وليست مصادَفةً أن كل هذه الأنواع تعيش على الأرض بدرجةٍ كبيرة، وتقضي أكثر ساعات النهار على الأرض تبحث عن الغذاء. تُكوِّن الإناث في هذه الأنواع مجتمعًا مستقرًّا، مع ذكرٍ بالغ مُسيطر يحميهنَّ ويتمتَّع بحقوق جنسية حصرية مع أي واحدة منهنَّ تأتيها الدورة الشبقية. وفي الوقت نفسه الذي يستأثر فيه ذكرٌ بالغ واحد بعدة إناث، يُحكَم على أغلب الذكور غير الناضجين والكبار البالغين بنوع من «العزوبية»، حيث يعيشون وحدهم أو ضمن مجموعات مُتغيرة من العُزاب الآخرين، حيث ينتظر كلٌّ منهم الفرصة (التي لا تسنح لأكثرهم أبدًا) لاكتساب حرملك خاص به؛ لذلك لا بد أن يكون الذكر المسيطر مُتيقظًا بصفة دائمة، ومُتأهبًا للذود عن مكانته ضد المنافسين الطامحين الكُثر القابعين على مقربة في أجزاء أخرى من الموئل.

ومع مرور الزمن وتقدُّم الذكر المسيطر في السن يُواجه منافسةً متزايدة، وفي النهاية يحل محله ذكرٌ يصغره سنًّا ويفوقه قوةً كان يعيش في السابق عازبًا؛ إذ عادةً ما تنتهي سلسلة من المُواجهات مُتفاقِمة الشراسة بهزيمة الذكر الأصلي المسيطر ورحيله إن حالفه الحظ بالنجاة في المعارك الأخيرة، ليعيش ما تبقَّى له من العمر في عزوبية مسنَّة في طريقها إلى الزوال. في الوقت نفسه تظلُّ الإناث معًا مجموعةً ويخضعن لسيادة الذكر الجديد المسيطر.

عند تولِّي الذكر الجديد المسيطر زِمام الحرملك عادةً ما يقتل الأبناء الذين ما زالوا في طور الطفولة. فنظرًا لأن هؤلاء الأطفال انحدروا من الذكر السابق، فقد نشأ هذا السلوك على الأرجح كي يضمن تمكُّن الذكر الجديد من إنفاق وقته وطاقته في حماية حياة الأبناء الذين يحملون جيناته وليس جينات الذكر السابق. وبمجرَّد أن ينتهي كَبْت التبويض بالهرمونات التي يُفرزها الجسم أثناء الرضاعة، تبدأ الإناث اللواتي صِرن بلا صغارٍ التبويض ثانيةً، وتأتيهن دورات الشبق، ويصِرن نشيطات جنسيًّا مجددًا، وفي النهاية يحبلن في نسلٍ جديد من صلب الذكر الجديد المسيطر.

عند تأمُّل نمط المنافسة الضارية بين الذكور البالغين في هذه الأنواع لامتلاك إناثهم الخاصة بهم، نجد أن الانتقاء الطبيعي بين مثل تلك الأنواع يميل لإعطاء الحظوة للذكور الأضخم جثة والأعنف والأكثر نزوعًا للسيطرة والأخطر. هذا الانتقاء المُستمر لصالح القدرات القتالية الأفضل والسيطرة على النساء يُعزِّز الصفات التي ترفع احتمال دفاع ذكور تلك الأنواع عن إناثهم ونسلهم من الضواري الأرضية؛ فحين تهيم جماعة من الرئيسيات بعيدًا في أرض عراء ولا تستطيع الفرار بسهولة إلى مكانٍ آمِن فوق الأشجار، يكون على الذكور المواجَهة والدفاع عن الجماعة من الأسود والكلاب البرية والضباع والضواري الأخرى التي تتوثَّب للصيد في الأراضي العراء.

قد يكون النظام متعدِّد الذكور متعدِّد الإناث هو النوع الأكثر شيوعًا لدى جماعات الرئيسيات. هذا النظام يتميَّز بعيش الذكور والإناث من كل الأعمار معًا في بناء جماعي واحد. الشمبانزي والبونوبو، كذلك بابون السافانا وقردة الماكاك، والعديد من قردة العالم القديم الأخرى، كلها تعيش في مجموعات متعدِّدة الذكور ومتعددة الإناث. ولا تكون الروابط الجنسية في مثل تلك الجماعات استئثارية، وينحسر حب الاستحواذ الجنسي بدرجةٍ كبيرة أو ينعدم. ويرتبط كلٌّ من الذكور والإناث في علاقات جنسية مع رفاقٍ متنوِّعين؛ ففي الأنواع متعدِّدة العلاقات الجنسية تُقيم الإناث أثناء الدورة الشبقية علاقات جنسية مع عدة ذكور مختلفين، واحدًا تلو الآخر غالبًا، في حين يُجامع الذكر البالغ أي أنثى في دورتها الشبقية في الحال ما دامت تقبل محاولاته التودُّد إليها.

رغم ذلك كثيرًا ما تُكوِّن أنثى نشطة جنسيًّا مع ذكرٍ محدَّد علاقةً أكثر امتدادًا تُسمى الثنائي المُتصاحب بين الأنواع المتعدِّدة الذكور المتعدِّدة الإناث. ويميل الثنائي المتصاحب لفصل نفسهما عن الجماعة والانخراط في الكثير من الجنس والتنظيف المتبادَل باستمرار، بل ويتقاسمان الطعام، وهو سلوك نادر جدًّا بين الرئيسيات؛ في واقع الأمر عُرفَت الأمهات في الرئيسيات بخطف الطعام من صغارهن وتناوله.

رغم ذلك عادةً تكون العلاقة بين الثنائي المتصاحب عابرة؛ إذ تستمر عدة أيام فقط خلال كل دورة شهرية تكون فيها أنثى القرد أو السعدان نشطة جنسيًّا، لكن يبدو أن علاقة التصاحب قد أعطَت نقطة الانطلاق البيولوجية لتطور الأسرة المصغَّرة البشرية، والأسرة المصغَّرة القوية المستقرة سمة لا يُستغنى عنها في كل الثقافات البشرية الناجحة.

مثل كل الرئيسيات الأخرى، يحدو البشرَ اهتمامٌ حادٌّ ودائم بالجنس، لكن العلاقات الجنسية المستمرة المعهودة لدى البشر تتجاوَز المألوف لدى أي رئيسيات أخرى، أو أي حيوان آخر. سوف أتناول أصول هذا النشاط الجنسي المُمتد ودلالاته بالتفصيل في الفصل التالي، لكن أكثر ما يلفت النظر في أنماط الترابط الجنسي البشري هو أنه لا يخضع لأيٍّ من الأنواع المتعددة التي وُصفت للتو، وإنما يضمُّ عوضًا عن ذلك عناصر من كلٍّ منها — العلاقة الأحادية والعلاقات المتعدِّدة والعلاقات العابرة — بدرجة أو بأخرى.

العلاقة الأحادية إلى حدٍّ كبير هي أكثر العلاقات الجنسية شيوعًا بين البشر، لكنها في أغلب الحالات تكون في المجتمعات نفسها جنبًا إلى جنب مع أشكال من العلاقات المتعدِّدة الشبيهة بحرملك السعادين والقردة. كثيرًا ما تُقارن مجموعات الرئيسيات التي تكون حرملك بالمجتمعات البشرية التي تُمارس تعدُّد الزوجات، وهو نوع من العلاقات المتعددة حيث يُتاح لرجل واحد الزواج وإنجاب الأطفال من أكثر من امرأة واحدة. كثيرًا ما يُشار إلى أن عدد الثقافات والمجتمعات التي سمحت بتعدُّد الزوجات يفوق (أو كان يفوق على الأقل) عدد الثقافات والمجتمعات التي حظرته، لكن ثَمة اختلافات مهمة أيضًا بين حرملك الرئيسيات غير البشرية وممارسة تعدد الزوجات لدى البشر.

الفرق الأول هو أنه نظرًا لأن إناث القردة والسعادين لا تُجامع إلا أثناء التبويض والدورة الشبقية، فمن النادر أن تنشط جنسيًّا أكثر من أنثى من الجماعة نفسها في الوقت نفسه، إلا في حالة هيمنة ذكر مسيطر جديد على جماعة وقتله لجميع صغارها، لكن إناث البشر تميل لأن تنشط جنسيًّا أغلب الوقت (إلا قبل الوضع وبعده مباشرة، وفي مجتمَعات كثيرة أثناء الحيض).

يترتَّب على هذه الإتاحة الجنسية المستمرَّة منافسةٌ وغيرةٌ دائمة بين الزوجات اللائي يتشاركن زوجًا من أجل أن تَحظى كل واحدة منهنَّ باهتمام جنسي ومُحاباة منه. ودائمًا ما يُصرِّح اختصاصيو علم الإنسان الذين يدرُسون تلك المجتمعات أن الاحتكاك بين الزوجات اللائي يتشاركن زوجًا هو آفة الزيجات المُتعددة الزوجات في تلك المجتمعات. وفي الواقع يُمارس تعدُّدَ الزوجات أكثرُ الصائدين إنتاجًا وأكثر المُزارعين رخاءً في هذه المجتمعات؛ من أجل الفوائد الاقتصادية الناتجة عن أن يكون لديهم نساء أكثر ليَعملن لديهم وأطفال أكثر لإعالتهم عند الكِبَر، وليس من أجل بلوغ أقصى درجة من إشباع رغباتهم الجنسية.

الفرق الثاني المُهم هو أنه حتى في المجتمعات التي تُبيح تعدد الزوجات تظل أغلب الزيجات أحادية؛ لأن أكثر الرجال لا يستطيعون ببساطةٍ التكفُّل بإعالة أكثر من زوجة. على النقيض من ذلك، في مجتمعات الذكر الواحد والإناث المتعدِّدة من الرئيسيات غير البشرية، تنتمي كل الإناث البالغات لحرملك من الإناث اللواتي يتزاوجن مع الذكر الحالي المسيطر في الحالات النادرة نسبيًّا حين يكنَّ في مرحلة التبويض.

ونُشير أخيرًا إلى أنه كثيرًا ما يتغلَّب النزوع البشري للعلاقات العابرة حتى على أشد المحظورات الثقافية صرامةً، وفي بعض الثقافات المُتساهلة جنسيًّا التي درسها اختصاصيو علم الإنسان كانت تُستهجَن أنواعٌ معيَّنة من الاستحواذ الجنسي، وفي بعض الحالات كان التشارك في رفاق الجنس لا يُعَد شيئًا مقبولًا فحسب، بل إنه يُعَد في الواقع سلوكًا حسنًا؛ فكان إسكيمو القطب الشمالي مشهورين بمشاركة زوجاتهم وبناتهم غير المتزوِّجات مع الذكور الآخرين اللذين يأتون للإقامة زوَّارًا أو ضيوفًا؛ فقد كان الاستحواذ الجنسي صفةً بغيضة من وجهة نظر الإسكيمو، فلا يصحُّ للرجل من الإسكيمو أن يَحرم ضيفه من الاستمتاع بزوجته، كما لا يصح أن يبخل عليه بكرم الضيافة من الطعام والمأوى.

الصداقات بين الرئيسيات

الصداقة موجودة بين الحيوانات في عدة أشكال مختلفة، وفي الرئيسيات قد تتدرَّج من المعارف العابرة بين أفراد مألوفين في الجماعة إلى تحالفات «سياسية» خاصة بين البالغين الذي قد يتضامنون معًا من أجل الدفاع المشترك، أو الذين ربما يتنافسون مع أفراد وتحالفات أخرى على المركز والسلطة. روابط الصداقة موجودة إلى حدٍّ ما لدى أغلب الحيوانات العليا، وتلعب روابط الصداقة دورًا مهمًّا على الأخص بين الرئيسيات خلال حياتها اليومية.

ختامًا، قد ينشأ رباطٌ خاص بين فردَين عادةً ما يكونان (لكن ليس دائمًا) عضوَين من المجموعة نفسها أو النوع نفسه، وتكتفي أغلب الطيور بعلاقة أحادية خلال موسم التعشيش، حين ينخرط كلٌّ من الذكور والإناث في المهام الشاقة لتنشئة الجيل التالي، ومنها بناء العش، وحضانة البيض، وإطعام الصغار وحمايتها، بل وتتزاوج أنواعٌ عديدة مثل الأوز مدى الحياة.

قد تُنشئ الأفيال والدرافيل والذئاب والأسود وعدَّة ثدييات أخرى روابطَ قوية ومستمرَّة مدى الحياة مع أفراد آخَرين من النوع نفسه. وتستطيع الكثير من الحيوانات المستأنَسة، مثل الكلاب والقطط والخيل والخنازير والببغاوات والأوز أن ترتبط ارتباطًا قويًّا مع أنواعٍ أخرى — بما في ذلك البشر — لأسباب تُخالِف المنطق أحيانًا. من المُغْري الاعتقادُ بأن البشر وحدهم هم من يقعون في الحب، لكن الشغف الشديد والانجذاب لفردٍ آخر — انجذابًا كثيرًا ما يرقى إلى مستوى الهوس بالفرد الآخر — يحدُث بين أنواع كثيرة من الحيوانات، وينسجم كليةً مع تعريفنا لمعنى «الحب».

التسلسلات الهرمية الاجتماعية لدى الرئيسيات

دائمًا ما تُكوِّن الحيوانات العليا التي تعيش في مجموعات تسلسلاتٍ هرميةً اجتماعية، حيث يشغل كل فرد موقعًا محددًا في نظامٍ سُلطوي، فيكون أكثر الأفراد سيادة في القمة ويكون أكثر الأفراد خضوعًا في القاع. يستطيع الدجاج الأعلى مرتبةً أن يَنقر أيًّا من الدجاج الأدنى منه في التسلسل الهرمي، بينما يُنقَر الدجاج الأدنى مرتبةً من الدجاج الذي يعلوه مرتبة ويَنقر الدجاج الأدنى منه مرتبة. أما أقل الدجاج مرتبةً على الإطلاق فهو يُنقَر حتى الموت لعدم قدرته على الدفاع عن نفسه أو مُهاجمة غيره من الدجاج. ورغم أننا نحن البشر قد نرى هذا التصرف وحشيًّا، فإن القدرة على تكوين تسلسلات هرمية اجتماعية قائمة على فروق الهيمنة والخضوع بين الأفراد هو في الواقع أمرٌ ضروري للحفاظ على السلام والتضافر داخل الجماعة.

تُعزِّز التسلسلات الهرمية الاجتماعية الاستقرار الاجتماعي بطريقةٍ بسيطة للغاية؛ فهي تضمن عدم انخراط أفراد الجماعة في معارك مُتكرِّرة وهم يتنافسون على الغذاء والأزواج وأماكن النوم وغيرها من الأشياء المُشتهاة. فقد تقع مواجَهاتٌ عنيفة بين أفراد من المرتبة نفسها، لكنها دائمًا ما تستمر فقط إلى أن يفوز فردٌ ويخسر الآخر. ويفرض الفائز سيطرته على الخاسر، الذي يصير ويظلُّ تابعًا في العلاقة. ومن ذلك الوقت فصاعدًا يُذعِن الفرد التابع للفرد المسيطر متى أرادا الشيء نفسه، سواءٌ كانت فردًا جذَّابًا من الجنس الآخر أو قطعة مُشتهاة من الغذاء سقطت على الأرض بينهما؛ فقد سُوِّيت الخصومات الأصلية بينهما واستقر الأمر، فلن يحدث المزيد من المواجهات أو المعارك أو الإصابات الجسيمة.

تميل كل الرئيسيات — بما في ذلك البشر — إلى التصرف بخضوع مع من يكبرونها سنًّا وبسيطرة مع صغارها، وتميل في الوقت نفسه إلى الصراع والتناحر من أجل الهيمنة مع من يُماثلونها مكانةً، ولا سيَّما الأفراد من الفئة العمرية نفسها. تشتد هذه الصراعات من أجل السيطرة لا سيَّما خلال المراهَقة والمرحلة المبكِّرة من البلوغ، مع تأسيس السلاسل الهرمية الاجتماعية للجيل حديث النُّضج. تقع أخطر هذه الصراعات من أجل السيطرة حين يُهدِّد وضع الذكر المسيطر المتقدِّم في السن فردًا أصغر منه سنًّا وأقوى منه بنيانًا؛ مما يقلب ويُزعزِع مؤقتًا التسلسل الهرمي الاجتماعي المعروف والمألوف الذي ظل قائمًا لشهور أو سنوات حتى ذلك الوقت.

رغم أنه قد يبدو من المستغرب ظاهريًّا أن تُوصَف سلوكيات هرمية مثل السيطرة والخضوع بأنها نوع من الترابط، فالحقيقة أن هذه العلاقات الهرمية غالبًا ما تكون مستقرَّة وطويلة الأمد على نحوٍ بالغ. تَشيع التسلسلات الهرمية الاجتماعية بين أنواع الحيوانات التي تعيش في مجموعات؛ لأنها تُقلِّل من المشاحَنات بين أعضاء المجموعة، كما تُوفِّر آليةً تسمح للمجموعة كلها باتخاذ إجراء موحَّد عند الضرورة.

وتمامًا مِثلما تتنافس السعادين والقردة من أجل السيادة والمنزلة الاجتماعية في تسلسلاتها الهرمية الخاصة، نحن البشر نتنافس أيضًا من أجل السيادة والمنزلة الاجتماعية داخل تسلسلاتنا الهرمية في مجالات الفن والعلوم والتقنية والتجارة والحكم والموضة والترفيه والرياضة، لكن بينما يتغير اللاعبون تبقى اللعبة كما هي: تسلسُل هرَمي اجتماعي مستقر؛ حيث يكون لكل فرد مرتبةٌ معيَّنة، وحيث لا تتواتر المعارك المصيرية، وحيث يعرف الفائزون والخاسرون مَنازلهم، ويظلون في أماكنهم، لكن مع بقائهم مترقِّبين لفرصة الارتقاء في التسلسل الهرمي الذي ينتمون إليه.

المجتمع الانقسامي الاندماجي

ثَمة نمطٌ مميَّز بشدة من البناء الاجتماعي المعهود لدى أنواع معيَّنة من الرئيسيات — نمط يشيع بوجهٍ خاص في المجتمعات البشرية، وقد طوَّره البشر لدرجةٍ كبيرة — يُسمى المجتمع الانقسامي الاندماجي؛ ففي هذه الأنواع تنزع الجماعة النشطة إلى التنوع في الحجم والبنية من ساعة لأخرى، ومن يومٍ لآخر، ومن موسم لآخر. يتفرَّق المجتمع الانقسامي الاندماجي (في مرحلة الانقسام) إلى أفرادٍ ومجموعات أصغر تنتشر في أنحاء موطنها في أوقات معيَّنة من اليوم، أو في مواسم معيَّنة من السنة، ثم تجتمع معًا (في مرحلة الاندماج) في موقع واحد في أوقات أخرى لتُكوِّن مجموعةً واحدة كبيرة جدًّا. هذا النمط من المجتمع مألوف بين ثلاثة أنواع من الرئيسيات: (١) السعادين التي تكيَّفت على العيش على الأرض. (٢) والقِرَدة الأكثر قربًا لفصيلة أشباه البشر، وخاصةً الشمبانزي والبونوبو. (٣) والبشر.

في المجتمع الانقسامي الاندماجي كثيرًا ما يقضي أفراد المجموعة ساعات النهار مُنتشرين في أرجاء أراضي موطنهم؛ إذ ينطلق كل فرد أو مجموعة صغيرة سعيًا وراء نوع معيَّن من الغذاء النباتي أو الحيواني في الصباح، وبعد ذلك يعود الجميع إلى مقرِّهم مع اقتراب اليوم من النهاية، مُجتمعين التماسًا للأمان في أشجار النوم أو المنحدرات أو (في حالة البشر) مواقع التخييم والمساكن. ورغم الاختلافات المتعدِّدة بين المجتمعات البشرية في التنظيم الاجتماعي، فإنها كلها تُبدي النمط نفسه من السلوك الانقسامي الاندماجي. استمرار هذا النمط واضحٌ تمامًا في مجتمعنا، حيث ينتشر أفراد الأسرة عادةً كلٌّ في وجهته المستقلة خلال النهار، ثم يجتمعون نهاية النهار لتناول الطعام والنوم معًا في مَسكن واحد مُشترك.

ومن المحتمل أنه نظرًا لأن تركيب المجموعات المختلفة يتغير باستمرار — إذ يتكون كلٌّ منها من خليط مختلف من الأفراد المُلائمين لوقت من اليوم أو لفصلٍ من السنة — تكون الأنواع التي تُمارس هذا النمط الانقسامي الاندماجي أيضًا أكثر عُرضةً للتفاعل بل والامتزاج بمجموعات أخرى من حيِّز حيوي آخر. تشتهر قردة الشمبانزي بالمناسبات الدورية التي تُمارس فيها مجموعتان مُنفصِلتان ومُستقلتان نوعًا من الاندماج المؤقَّت وتختلطان كمجموعة واحدة لساعات في كل مرة، فيتفاعل أفراد المجموعتين في حماسة بالغة، ويستعرض الذكور في كل مجموعة مظاهر الهيمنة: بالصياح والصراخ والاندفاع في الأنحاء، وأحيانًا بكسر فروع الأشجار والتلويح بها في شراسة أثناء استعراضها. وبعد فترة تفتر الحماسة، ويتفرَّق أفراد المجموعتين المختلفتين، ويجتمع أفراد المجموعتين الأصليتين من جديد، وتمضي كل مجموعة من المجموعتين إلى حال سبيلها.

ولا تؤدي استعراضات الهيمنة وظيفة تحذير الذكور الآخرين فحسب، وإنما تُستخدم أيضًا وسيلةً لجذب الإناث النشطات جنسيًّا من المجموعة الأخرى، على أمل إقامة علاقات جنسية مع واحدة منهن. وحين تحدُث هذه العلاقات بالفعل قد تستمر حتى بعد أن تجتمع المجموعات الأصلية مجددًا وترحل في وجهاتها المختلفة؛ مما يؤدي إلى رحيل الإناث الأصغر سنًّا الأقل مقامًا عن المجموعة التي وُلدن فيها للانضمام إلى أزواجهنَّ الجدد في المجموعة الجديدة. وهذه سنةٌ أصيلة في التزاوج بين الرئيسيات تُسمى «تزاوج الأباعد» الذي سيُناقش لاحقًا في هذا الفصل.

الإنويت أو الإسكيمو الذين عاشوا في شمال الدائرة القطبية الشمالية، دأبوا على قضاء صيف القطب الشمالي القصير في البحث عن بَيض الطيور والتوت والطرائد الصغيرة في مجموعات أسرية صغيرة متفرِّقة على مساحات واسعة في أرجاء أراضي التندرا الرخوة، لكن في الشتاء كثيرًا ما كان يتطلَّب صيد الطرائد الكبيرة مثل الوعل والفقمة والفظ التعاون بين أُسَر عدَّة. خلال هذا الوقت من العام كان الإنويت يبنون أكواخًا جليدية متلاصِقة في موقع مَحمي، مُقيمين مخيَّماتٍ شتويةً تضمُّ العشرات أو المئات من الناس الذين كانوا كثيرًا ما يجتمعون معًا للقيل والقال، ومشاركة الخبرات، ورواية الحكايات الشعبية المُتوارثة، ومُمارسة الطقوس التقليدية لأسلافهم.

كانت قبائل البوشمان — الصيادون وجامعو الثمار في صحراء كالاهاري بأفريقيا الاستوائية — تنتشر في مجموعات أسرية على مساحات شاسعة خلال موسم الأمطار، حين تتوفَّر المياه ويسهُل العثور عليها، لكن خلال موسم الجفاف كانت تلك القبائل تتجمَّع في مخيَّمات تضمُّ عشرات الأسر، حيث تستقر بعضها بالقرب من بعض في جوار ينابيع الماء الدائمة القليلة، ويقضي أفراد كل أسرة الوقت في التفاعل مع أفراد الأسر الأخرى، بينما ينتظرون هطول الأمطار مجددًا.

في مجتمعنا الحديث كثيرًا ما تعيش الأسر المُمتدة متناثِرة على مساحات جغرافية كبيرة، إلا أنها لا تألو جهدًا للاجتماع دوريًّا من أجل المناسبات الاحتفالية المعتبرة في تقاليدنا الثقافية، مثل العطلات وأعياد الميلاد والأعراس واحتفالات الذكرى السنوية والجنازات؛ فقد خلقت الحضارة الحديثة تنوعًا معقدًا من المجموعات المُتداخلة والمتشابكة المتصلة بمجالات عديدة مختلفة من الحياة البشرية، وقد صار كل هذا ممكنًا بفضل التعقيد البشري الهائل في المجتمع الانقسامي الاندماجي.

فنحن أفراد في أُسَرنا المصغَّرة المكوَّنة من أبوين وأبناء، وكذلك في الأسر الأكبر الممتدة التي تضم الأجداد والعمات والأعمام وأبناء وبنات العمومة وبنات الأخ والأخت وأبناء الأخ والأخت والأحفاد، كما ننتمي إلى عدة مجموعات أخرى تُحدِّدها المجتمعات التي نعيش فيها، والمدارس التي نرتادها، والمِهن والتخصصات التي نُزاولها، والمؤسسات التي نعمل لديها. ونحن نُولَد في أسرةٍ ذات هُوية عِرقية معيَّنة (أو خليط من الهويات العرقية)، وكلٌّ من هذه الهويات العرقية يتَّصل بإقليم جغرافي ولغة وتاريخ ودين وغذاء ومنظومة قيم ونمط مَلبس معيَّن.3

أخيرًا، نحن نُعبِّر عن فرديتنا، ونُشبع اهتماماتنا الشخصية الفريدة بالانضمام عمدًا إلى واحدة أو أكثر من آلاف الجماعات التطوعية التي انتشرت في العصور الحديثة، ومنها الجماعات الدينية والأحزاب السياسية والمنظَّمات الخيرية والنوادي الاجتماعية والجمعيات المهنية المتعدِّدة التي نشأت في مجالات العلوم والطب والتكنولوجيا والتجارة والرياضة والترفيه والفنون، وكل مجال آخر من مجالات السعي الإنساني.

لكلٍّ من هذه الجماعات البشرية المتعدِّدة متطلِّباتٌ للعضوية والتزاماتٌ محددة تُطلب من أعضائها. لم يكن المجتمع البشري كما نعرفه ليوجد لولا الشغف الفطري لدى الرئيسيات بهوية الجماعة، وبالتضامن جنبًا إلى جنب مع مرونة المجتمع الانقسامي الاندماجي؛ إذ تسمح لنا غريزة الهوية الجماعية بتكوين جماعات ذات تماسُك كافٍ للتآزر مع شعور بالتضامن والعمل معًا لتحقيق أهداف مشتركة. وتسمح غريزة الانقسام والاندماج لجماعات عديدة بالانتشار داخل مجتمع واحد، مع تعريف كل منها بطريقة مختلفة، وتلبية كل منها لمجموعة مختلفة من الاحتياجات الاجتماعية.

حين نتتبَّع تطور الإنسان الحديث وتطور مجتمعات بشرية مُتزايدة التعقيد، نرى كيف أتاحت مرحلة الاندماج من دورة الانقسام والاندماج لنوعنا صوغ أشكال جديدة من التضامن داخل جماعات بشرية متزايدة الحجم. تضمُّ الأمم الحديثة والحركات السياسية آلاف أو ملايين الأعضاء، لم ولن يلتقي أغلب أعضائها، إلا أنهم يُعرِّفون أنفسهم مجتمعين على أنهم ينتمون للجماعة نفسها ويعيشون في دائرة واحدة من الثقة.

لقد تميَّز تاريخ نوعنا في واقع الأمر بأنماط مُتزايدة الحجم من الاندماج، بدأت تظهر حين نشأت هوياتٌ قبلية لدى الصائدين جامعي الثمار، وتوسَّعت ثانيةً حين بدأ أفراد القبائل المختلفة يعيشون معًا في قرًى وبلدات ودول مدن، وتوسَّعت أخيرًا لتبلغ حجمها الحالي حين تحوَّلت آلاف من الدول المدن إلى نحو مائتَي دولة قومية، حيث من المألوف أن يصل عدد أعضاء جماعتنا إلى ملايين وعشرات الملايين.

تزاوج الأباعد وحظر سفاح المحارم لدى الرئيسيات

رغم تضامُن الجماعة المعهود في الرئيسيات — والعلاقات العدائية التي تنشأ بين مجموعات الرئيسيات — تتزاوج أغلب الرئيسيات بانتظام مع أفراد المجموعات المنافسة؛ إذ دائمًا ما يترك الحيوان المراهِق من رتبة الرئيسيات جماعة أمه ويبحث بهمة عن صداقات وعلاقات جنسية مع أفراد جماعة أخرى، وينال القبول بصفته عضوًا دائمًا في النهاية. يُسمَّى هذا تزاوج الأباعد — أي «التزاوج من خارج الجماعة» — والذكور بين أغلب الرئيسيات هم الذين يُغادرون جماعتهم الأصلية من أجل الانضمام لجماعة أخرى، وهذه هي الظاهرة المعروفة بتزاوُج الأباعد الذكوري.

من ثَم، أكثر أنواع جماعات الرئيسيات شيوعًا تتكون من نواة أساسية من الإناث اللواتي تربطهن ببعضهن بعضًا صلةُ قرابة كأمهات وأخوات وبنات. تقضي هؤلاء الإناث حياتهن كلها معًا، ويألف بعضهنَّ طبائع بعض، ويبحثن معًا عن الغذاء، ويتشاركن بعض أطفالهن معًا، وقد أنشأن منذ زمن طويل تسلسلًا هرميًّا اجتماعيًّا مستقرًّا يُعزِّز التعاون والعلاقات السلمية داخل المجموعة.

لكن بعض أنواع الرئيسيات — وعلى الأخص قِردة الشمبانزي — تُمارس العكس تمامًا: تزاوج الأباعد الأنثوي. فيظلُّ ذكور الشمبانزي في المجموعة التي وُلدوا فيها، وتربطهم علاقات دائمة ليس مع أمهاتهم فقط، وإنما مع آبائهم وأخواتهم وأبنائهم أيضًا. أما إناث الشمبانزي فيَهممْن بالانسحاب بالتدريج بعيدًا عن مجموعتهن الأصلية عند بلوغ مرحلة النضج، ويسعَين لإقامة علاقات جنسية وصداقات أخرى مع أعضاء جماعة مختلفة تمامًا، وعند الاستمرار في هذا يكسبن في نهاية المطاف قبول الذكور وإناث الجماعة الجديدة، وأخيرًا يصِرن حُبليات ويُنجِبن أطفالًا. وبينما تكبر بناتهن وترحل بعيدًا يبقى أبناؤهن بصحبتهن ما تبقَّى لهن من العمر.

تنعكس ممارسة الرئيسيات العامة لزواج الأباعد على التكوين الاجتماعي لكل المجتمعات البشرية، وإن كان يتخذ عدة أشكال مختلفة، من بينها زواج الأباعد الذكوري والأنثوي. مارست المجتمعات الريفية التقليدية في الصين والهند شكلًا صارمًا من أشكال زواج الأباعد القروي على أساس مكان الإقامة؛ ففي هذه القرى الزراعية كان الذكور يمتلكون كل الأراضي والمساكن ويُورِّثونها لنسلهم من الذكور حصرًا. بناءً على هذا لم يكن الرجال يُغادرون القرى التي وُلدوا فيها قط، في حين كانت النساء — اللواتي كانت أملاكهن مقتصرة على مقتنيات قابلة للحمل مثل الملابس والمصاغ والأثاث — يُغادرن قُراهن الأصلية للأبد عند الزواج، ويقضين بقية حياتهنَّ في قرى أزواجهن. لكن في قرى جزر بولينيزيا التقليدية، كانت النساء يمتلكن الأرض والمساكن ويُورثنها لنسلهن من الإناث حصرًا؛ ومن ثَم كان الذكور هم من يرحلون عن قُراهم الأصلية عند الزواج لقضاء بقية حياتهم سكانًا في قرى زوجاتهم.

بالإضافة إلى هذه الأشكال من زواج الأباعد القائم على أساس مكان الإقامة، تستلزم كل الثقافات البشرية شكلًا من زواج الأباعد ينطبق على علاقات القرابة، وهو حظر البشر بوجهٍ عام لسفاح المَحارم. يقتضي حظر سفاح المحارم أن يختار الرجال والنساء شركاءً من خارج مجموعة أقاربهم. وتُعرَّف مجموعة الأقارب في مجتمعنا تعريفًا دقيقًا جدًّا بأنها الأسرة المصغَّرة المكوَّنة من الوالدين والأبناء، وبدرجة أقل إلى حدٍّ ما الأسرةُ الممتدة من الأعمام والأخوال والعمات والخالات وأبناء وبنات الأعمام والأخوال، لكن في الثقافات القبَلية حيث علاقات القرابة أهم وأعقد منها في مجتمعنا، كثيرًا ما يقوم حظر سفاح المحارم على انتماءات قبلية قد تصف المئات بل وآلاف العلاقات الجائزة بأنها سفاح قربى؛ ومن ثَم تحظرها تمامًا.

يفيد زواج الأباعد مجتمعات الرئيسيات بطريقتين؛ فهو أولًا يضمن استمرار التمازج الجيني بين الجماعات التي تعيش في مناطق مُتجاوِرة، حتى وإن كانت هذه الجماعات يُعادي بعضها بعضًا، وهذا من شأنه أن يُقلل تزاوج الأقارب، بآثاره الضارة. وثانيًا يضمن زواج الأباعد أن يكون داخل كل جماعة الكثير من البالغين الذين وُلدوا في جماعات أخرى وتربطهم بالفعل علاقات بأصدقائهم وأفراد أُسرهم الذين هم أعضاء في جماعات أخرى.

وتُساعد هذه الصلات بين الجماعات المختلفة وكثيرة التناحر على تقليل المشاحنات والعنف بين جماعة وأخرى. وفي العديد من المجتمعات القبلية والريفية اعتادت بعض العشائر والقرى أن تتصاهر مع بعض العشائر والقرى الأخرى. كان من شأن هذا العُرف الذي استمرَّ لأجيالٍ أن يُنتج شبكة من العلاقات الاجتماعية تربط بين الجماعات، وتُقلِّل المشاحنات بينهم، وتُوفِّر لهم حلفاء مهمِّين في حالة التعرض لهجوم من جماعات مُعادية.

الصيد والحروب لدى الرئيسيات

كانت السعادين والقردة تُعتبر قديمًا جامعات للثمار مسالِمة تعيش على نظام غذائي نباتي تُكمله أحيانًا بالحشرات أو بيض الطيور أو الزواحف الصغيرة، لكن في السنوات الأخيرة اكتشفت الدراسات الميدانية التي أُجريت على الرئيسيات في موائلها الطبيعية أن عددًا منها — بما يشمل الفرفت والماكاك والميمون والبابون وإنسان الغاب والشمبانزي — يصطاد ويقتل حيواناتٍ أخرى من ذوات الدم الحار، ومن بينها رئيسيات أخرى.

قد تكون قردة الشمبانزي أنجح الصائدين بين كل الرئيسيات غير البشرية؛ فقد رُصدت قردة الشمبانزي وهي تصطاد وتقتل تسعة عشر نوعًا على الأقل من الثدييات، منها الخنازير البرية والظباء وعدة أنواع من القردة (فريستها المفضلة). فقد وُجد أن إحدى مجموعات الشمبانزي تقتل بصورة روتينية أكثرَ من عشرة في المائة من قردة كولوبس الحمراء التي تعيش في منطقتها كل عام، وهو معدَّل قتل مُساوٍ لمعدَّل القتل لدى الضباع والأسود. عادةً ما يُنفذ عمليةَ الصيد مجموعةٌ من الذكور البالغين، الذين يتعاونون في مُلاحقة الفريسة ومُحاصرتها حتى يتمكَّنوا من الاقتراب منها لدرجةٍ كافية ليُجهِزوا عليها. هذه إجمالًا هي الطريقة نفسها التي يستخدمها الصيادون من البشر حول العالم، مع اختلاف واحد مُهم: يجب أن يَقتل الشمبانزي فريسته عن طريق عضها بأنيابه الطويلة الحادة كالموس وتمزيقها بأياديه المجرَّدة، أما الإنسان فيقتل فريسته بأسلحة مصنَّعة يمكنها إيقاع إصابات قاتلة عن بعد؛ تجنبًا لمخاطر التلاحم.

حتى وقتٍ قريب كان يُعتقَد أن البشر وحدهم بين جميع الرئيسيات يُشاركون في العنف القتالي ضد أفراد من نوعهم، وكان يُعتقَد في وقت سابق أن السلوكيات من عينة القتل والحرب وأكل المثيل غير معروفة بين مجتمعات القردة والسعادين التي هي نباتية بدرجة كبيرة (والأكثر مُسالمة حسبما يُفترض)، لكن دحضت الدراسات الميدانية التي أُجريت على الرئيسيات في موطنها الطبيعي الرأيَ السابق دحضًا تامًّا؛ فعلى مدى عشرة أعوام رُوقبت مجموعةٌ عُدوانية للغاية من قردة الشمبانزي في أوغندا وهي تَقتل ثمانية عشر عضوًا في جماعات منافسة، وهو معدَّل قتل أكبر بعدة أضعاف من متوسط معدل القتل لدى البشر من الصيادين وجامعي الثمار. وقد وثَّقت دراساتٌ أخرى عديدة عدةَ حالات من القتل وقتل الأطفال وأكل المثيل بين مجموعة متنوِّعة من أنواع الرئيسيات.

من بين كل السلوكيات العنيفة التي كان يُعتقَد في الماضي أن البشر ينفردون بها، ربما كان الأكثر إدهاشًا هو اكتشاف قُدرة جماعات معيَّنة من قردة الشمبانزي على شن حملات مُتواصلة من العنف ضد جماعات مُجاورة هدفها النهائي احتلال أجزاء من أرضها وادِّعاء ملكيَّتها لها. هذا النوع من «الحروب» مُشابِه إلى حدٍّ لافت للغارات التي كان يقوم بها الصيادون جامعو الثمار والقرويُّون المُزارِعون حول العالم.

تعيش إحدى مجموعات الشمبانزي شديدة الضخامة والشراسة في منطقة نجوجو في حديقة كيبالي الوطنية في أوغندا. درس هذه المجموعةَ فريقٌ من اختصاصيِّي الرئيسيات الأمريكان في الفترة من ١٩٩٩م حتى ٢٠٠٨م، فاكتشفوا أن الذكور البالغين من مجموعة نجوجو يُشاركون في غارات مُمنهجة على أراضي المجموعات المجاوِرة، للانقضاض على قردة شمبانزي أخرى في هذه المجموعات والقضاء عليها بصفةٍ دورية.

عادةً ما تتحرَّك قردة الشمبانزي في حيِّزها الحيوي في عصابات مُحدِثةً جلبةً وصخبًا، حيث يمكن للأفراد الانتشار في أنحاء الغابة بعضهم على مسمع من بعض، لكن تغيَّر سلوك قردة شمبانزي منطقة نجوجو للغاية عندما شرعت في شن غارة على أرض مجموعة أخرى.

فبمعدَّل مرة واحدة كل عشرة إلى أربعة عشر يومًا تقريبًا، كان يخرج نحو عشرين ذكرًا من نجوجو للإغارة على أحد جيرانهم، فكانوا يلزمون الصمت ويسيرون في طابور واحد وهم يعبُرون الحدود بين أرضهم وأرض جيرانهم. ومع توغُّلهم أكثر في «أرض العدو» كانوا يتفحصون بعنايةٍ قِممَ الأشجار بحثًا عن آثار للعدو، ويستجيبون في توتر لأقل صوت.

حين كانوا يلقَون مجموعة من المُدافِعين تفوقهم عددًا، كان ذكور نجوجو يتفرَّقون عن صفوفهم ويفرُّون راجعين إلى أرضهم، لكنهم حين كانوا يُصادِفون ذكرًا سيئَ الحظ وحده في الغابة، كانوا يُلاحقونه ويُقيدونه ويُوسِعونه ضربًا حتى الموت. أما إن وقعت أنثى في الفخ، فكانت دائمًا ما يُطلَق سراحها، لكن دائمًا ما كان يُقتل أطفالها ويؤكَلون. كانت أغلب حالات قتل شمبانزي نجوجو موجَّهةً لمجموعة بعينها كانت تعيش في الشمال الشرقي، وبعد عدة سنوات من الهجمات انتقلت مجموعة نجوجو إلى جزء كبير من أرض جيرانها واستولت عليها؛ لتتسع مساحة نطاقها الحيوي بنسبة ٢٢ في المئة.

تشيع ممارسة قتل الرُّضَّع أيضًا بين عدة أنواع من الرئيسيات، وغالبًا ما تقع حين ينتزع ذكرٌ جديد السيطرةَ على حرملك من ذكر مُسيطِر كان يملكه قبل ذلك. يقتل الذكر الجديد بطريقةٍ مُمنهجة كلَّ الرضَّع الذين أنجبهم سلفه؛ مما يجعل الإناث اللواتي صِرنَ بلا صغار على استعداد للتزاوج مرةً أخرى؛ ومن ثَم تُستأنف الدورة الشبقية والنشاط الجنسي. يستطيع الذكر الجديد المسيطر عن طريق التزاوج مع الإناث الجدد أن يُنجب صغارًا من صلبه؛ مما يزيد من عدد ذريته؛ وبهذا ينشر جيناته لأقصى درجة ممكنة.

أدوات الرئيسيات وأسلحتها

في شهر أكتوبر من عام ١٩٦٠، كانت اختصاصية الرئيسيات جين جودول في السنة الأولى من بحثها التاريخي حول سلوك قِرَدة الشمبانزي البرية، حيث أقامت في معسكر مُراقبة في محميةٍ طبيعية على ضفاف بحيرة تنجانيقا في شرق أفريقيا. وذات صباح مُمطر في أحد أيام شهر أكتوبر، وبينما هي مبتلَّة ومُنهَكة من البحث دون جدوى لساعات في الوديان التي غمرتها مياه الأمطار عن شمبانزي حتى تُراقِبه، رأت بغتةً حركةً وسط الحشائش الطويلة وركَّزت منظارها على الموقع. وحين تعرَّفت على أحد الذكور البالغين في المجموعة التي كانت تدرسها تقدَّمت بحذر.

كان الذكر البالغ جالسًا بجوارِ عشِّ نملٍ أبيض، يُدخِل ساقَ كلأ طويلة في العش من خلال فتحات الدخول مرارًا وتكرارًا. وبعد كل مرة كان يُخرج الساق وقد صارت مُغطَّاة بالنمل الأبيض المتشبِّث بها، فيلعق النمل الأبيض من على الساق ويأكله. وعند انحناء طرف الساق كان يقضمه ليُصبح لها طرفٌ جديد، أو يتخلَّص منها ويلتقط ساقًا أخرى. وهكذا ظلَّ يتغذَّى على النمل الأبيض طوال ساعة ثم تجوَّل بعيدًا.

أقامت جودول موقع مراقَبة بالقرب من عش النمل الأبيض، وسريعًا ما تسنَّى لها مراقَبة أفراد آخرين في المجموعة نفسها وهم يبحثون عن النمل الأبيض، غير مُقتصِرين في ذلك على استخدام سيقان الكلأ القريبة في متناول اليد، وإنما استخدموا أيضًا الغصون والأفرع التي جلبوها من على بُعدِ عدة ياردات، وقد تعمَّدوا إعدادها بنزع الأوراق عنها (انظر شكل ١-٤).
fig4
شكل ١-٤: أدَّى اكتشاف أن قردة الشمبانزي تصنع الأدوات وتستخدمها إلى ثورة في التفكير العلمي حول أصول استخدام الأدوات. يستخدم هذا الشمبانزي عودًا لاصطياد النمل الأبيض من داخل عشه. (اللقطة من تصوير مايك ريتشي. مصرَّح بالنشر بموجب رخصة المشاع الإبداعي غير الموطن الإصدار ٣٫٠ التي تقتضي نسب المصنف لصاحبه والترخيص بالمثل.)

قبل بحث جودول كان الاعتقاد السائد المقبول لدى علماء السلوك أن البشر هم النوع الوحيد القادر على التأنِّي في صناعة أدوات من موادَّ طبيعية واستخدامها في أغراضٍ خاصة. في الواقع كان هذا أحد المعايير الرئيسية المستخدَمة في تمييز البشر عن كل الحيوانات الأخرى، لكن بحلول عام ١٩٧٣ كانت جين جودول قد دوَّنت ثلاثة عشر نوعًا مختلفًا من الأدوات التي تصنعها وتستخدمها قردة الشمبانزي التي كانت تدرُسها، ومنذ ذلك الوقت تعرَّف اختصاصيو علم الرئيسيات الذين يدرسون قردة الشمبانزي في العراء على أكثر من خمسة وعشرين نوعًا مختلفًا من الأدوات، صُنِع كلٌّ منها من مواد طبيعية ويُستخدم كلٌّ منها في غرضٍ محدَّد.

وبجانب المسابير التي يصنعونها لاصطياد النمل الأبيض، ينتقي قردة الشمبانزي الأغصانَ والعِصيَّ الصغيرة ويُنظِّفونها ويُجهِّزونها من أجل استخدامات متنوعة، منها جمع العسل، واقتلاع الأجزاء القابلة للأكل من الجوز من قشورها، واستخراج النُّخاع من عظام فرائسها. وتستخدم إحدى المجموعات مِطرقة وسندان بدائيَّين مصنوعين من الأحجار أو الخشب من أجل فتح جوز الكولا، وتُستخدم يد هاون ساحقة مصنوعة من جذع نخلة من أجل تعميق الثقوب في الأشجار. وتُلتقط أوراق الأشجار الكبيرة المسطَّحة لتُستخدم أبسطةً للجلوس على الأرض الرطبة و«قبَّعاتٍ» تُستخدم مرةً واحدة عند هطول الأمطار، بينما تُمضَغ الأوراق الصغيرة حتى تصير كتلةً رطبة تستخدمها قردة الشمبانزي كإسفنج لجمع المياه وتنظيف الجروح.

تتضمَّن تقنيات الشمبانزي أيضًا أسلحة مصنوعة من مواد طبيعية في بيئتها؛ فعند ضُلوع ذكور الشمبانزي في عروضها التهديدية الدورية، تُحطِّم الفروع وتُلوِّح بها في هياج، بينما تندفع صارخةً في أرجاء الغابة. وأثناء هجومها على الآخَرين تظلُّ ذكور الشمبانزي تجمع الفاكهة والعِصيَّ وحتى الأحجار وتُلقي بها على خصومها، وقد رُصد أفراد مجموعة واحدة على الأقل من الشمبانزي في غرب أفريقيا وهم يصنعون «رماحًا» خشبية؛ فقد كانوا يختارون فرعًا مُناسبًا طوله نحو ثلاث أو أربع أقدام، وينزعون عنه الأوراق والفريعات، ويشحذون أحد طرفيه بأسنانهم، ويستخدمون الرمح في طعن حيوانات الجلاجو وقتلها، وهي نوعٌ صغير بدائي من الرئيسيات تنام دائمًا في تجاويف الأشجار.

منحت التقنية للبشر نوعًا جديدًا من السلطة على الطبيعة، لكن لم تبدأ هذه السلطة مع الثورة الصناعية، أو نشأة الحضارات، أو تطور الزراعة، أو حتى اختراع أدوات من الأحجار؛ إذ يُشير ثراء تقنيات قردة الشمبانزي وتنوعها إلى أن استخدام البشر للتقنية بدأ مع قردة ما قبل التاريخ التي كانت أسلافًا لكلٍّ من البشر وقردة الشمبانزي.

ظهرت التقنية باعتبارها قوةً في تطور الإنسان منذ ملايين السنين، مع ابتكار أول الأسلحة البدائية التي لم يبتكرها البشر، وإنما ابتكرتها قردة ما قبل التاريخ التي باستخدامها الرماح الخشبية وعِصيِّ الحفر وضعت نفسها على أول طريق التطور الذي أنتج البشر في النهاية. وسوف نستعرض الدليل على هذا الافتراض والأساس المنطقي له بالتفصيل في الفصل التالي.

عادات الرئيسيات وتقاليدها، لَبِنات بناء الثقافة

في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين بدأ مجموعة من اختصاصيِّي علم الرئيسيات من جامعة كيوتو دراسةً طويلة الأجل لمُستعمَرة من مائة قرد ماكاك ياباني بري كانت تعيش في كوشيما، الجزيرة الصغيرة الواقعة قبالةَ الساحل الجنوبي لليابان. وحتى تتأتَّى لهم مراقبة السلوك الاجتماعي للقردة على نحوٍ أفضل، كان العلماء يُلقون كمياتٍ كبيرةً من البطاطا الحلوة على الشاطئ كلما زاروا الجزيرة الصغيرة، فكانت قردة الماكاك تخرج من الغابة وتجمع البطاطا الحلوة، لكن قبل البدء في تناولها كانت تعكف على إزالة الرمل عنها بأيديها، كما هو معهود في هذا النوع.

لكن ذات يوم اكتشفت أنثى صغيرة تُدعى إيمو، لا يتجاوز عمرها ثمانية عشر شهرًا، أن غسيل البطاطا الحلوة في جدول قريب كان طريقةً أسرع وأسهل كثيرًا لتنظيفها، وسريعًا بدأت أم إيمو تغسل البطاطا الخاصة بها بدلًا من تمشيطها، وخلال السنوات القليلة التالية انتشر غسيل البطاطا بين رفاق إيمو في اللعب وأمهاتهم، حتى أصبحت المستعمرة بأسرها في عام ١٩٥٨ تغسل البطاطا الحلوة إما في الجدول أو المحيط، وظل هذا السلوك المستجد تقليدًا في مستعمَرة كوشيما، وظلَّت الأجيال تتوارثه منذ ذلك الوقت.

في وقتٍ لاحقٍ بدأ العلماء يتركون قمحًا على الشاطئ الرملي، فيصير القمح والرمل مُمتزجين معًا. اكتشفت إيمو أنها تستطيع فصلهما بإلقاء حفنة من القمح المختلط بالرمل في البحر، حيث يسقط الرمل تاركًا القمح ليطفو على سطح الماء بحيث يُمكن اغترافه. بدأ أفرادٌ آخرون في المستوطنة استخدام هذه الطريقة، وانضمَّ غسيل القمح إلى غسيل البطاطا ليَصير عادة في هذه المستوطنة وحدها. منذ ذلك الوقت لاحَظ علماء الرئيسيات عاداتٍ أخرى مماثلةً في تناول الطعام في المستعمرات الفردية لقردة الماكاك في جميع أنحاء اليابان، من بينها غسل التفاح، وإخراج الفول السوداني المدفون من الرمل، وفك غلاف حلوى الكراميل، بل وحتى تناول السمك النافق.

تسكُن قردة الماكاك اليابانية بيئاتٍ واسعةَ التنوع، بدءًا من الغابات شِبه المدارية في كوشيما وصولًا إلى غابات جبال الألب المُغطَّاة بالثلوج في هونشو. ومن المنطقي جدًّا أن يكون لمثل هذا النوع القدرةُ على التأقلم مع البيئات المختلفة باكتشاف غذاء جديد، وابتكار طرق جديدة لتناوله، ونقل هذه العادات لأعضاءٍ آخرين في المجموعة، وللأجيال القادمة من خلال نسله. بهذه الطريقة لا تُفيد اكتشافات الأفراد المُبتكرين مثل إيمو واختراعاتهم أفرادًا آخرين في المجموعة فحسب، لكنها ستُحفظ على مرِّ الزمن لتوفِّر للأجيال القادمة التي ستعيش في الموطن نفسه حلولًا جاهزة لتحديات الحصول على الغذاء التي تفرضها تلك البيئة بعينها.

في الواقع، رُصدت عادات وتقاليد مُشابهة — لَبِنات بناء الثقافة — بين أنواع أخرى عديدة من الرئيسيات؛ فقد تعلَّمت مجموعة من قردة الشمبانزي في غينيا، في غرب أفريقيا، أن تفتح القشرة الصلبة جدًّا لجوز الكولا والباندا باستخدام تقنية «المِطرقة والسندان»، وقد انتقلت هذه التقنية الجديدة من أحد أجيال قردة الشمبانزي إلى الجيل التالي. كذلك رُصدت أمثلةٌ عديدة أخرى لعادات وتقاليد مُتمايزة لدى مجموعات قردة الشمبانزي البرية، منها استخدام أنواع مختلفة من الأدوات، وتقنيات تنظيف الجسد، وسلوكيات التحية مثل تشبيك الأيدي، حيث يرفع أفراد المجموعات نفسها أذرعهم ويُشبِّكون أياديهم بعضها في بعض ومعاصمهم حين يلتقون. ومن الملاحَظ أنه لا يوجد أي من هذه السلوكيات بوجهٍ عام بين قردة الشمبانزي، وإنما يوجد لدى مجموعات محددة فقط. وهذا يُخبرنا أن السلوك ينتقل بالتعلم وليس بعوامل جينية.

نعتبر أنه من المسلَّم به أن كل ثقافة بشرية لها عاداتها وتقاليدها المميزة، التي تُورَث من جيل للجيل الذي يليه، لكننا نادرًا ما نُدرك أن القدرة على الإتيان بسلوكيات جديدة — وتناقلها باعتبارها عادات وتقاليد مجموعة بعينها، من خلال المحاكاة — ليس مقصورًا على البشر. كذلك رُصدت عناصر مُشابهة من ثقافة الحيوانات في الطبيعة بين الحيتان والأفيال والطيور، بل وحتى القوارض. لا شكَّ أن العادات والتقاليد السائدة بين الحيوانات التي تعيش في جماعات، والتي هي بمثابة أسس الثقافة البشرية، ظهرت لأول مرة قبل وجود البشر على الأرض بملايين السنين.

ليس المقصود بهذا أننا البشر لسنا مُتفرِّدين؛ فتفرُّدنا الذهني والبدني عميق ولا سبيل لإنكاره، لكن العناصر التي تطوَّر منها هذا التفرُّد ظهرت لا شك منذ زمن طويل في سلوك السعادين والقردة. أوجه الشبه الجسدية بين البشر والرئيسيات الأخرى واضحة، لكن أوجه الشبه السلوكية ليست دائمًا بهذا الجلاء؛ تضامُن الجماعة ومبدأ الوطن، الروابط الاجتماعية التي تتوثَّق بفعل الأمومة والجنس والصداقة والتسلسل الهرمي الاجتماعي، مرونة المجتمع الانقسامي الاندماجي، مزايا الزواج من الأباعد، مبادئ الصيد والحروب والأدوات والأسلحة والعادات والتقاليد كلها موجودة بين الرئيسيات غير البشرية. هذه هي لَبِنات البناء الجينية للسلوك البشري، بدونها ما كان المجتمع البشري ليتطوَّر، وما كان للعالم الذي نعيش فيه وجود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤