عالمنا على حافة الهاوية
العالم مكانٌ خطير للعيش فيه؛ ليس بسبب من يقترفون الشرور، وإنما بسبب أولئك الذين يرونهم دون أن يُحرِّكوا ساكنًا.
في الحادي والعشرين من يوليو عام ١٩٦٩م، صار رائدا الفضاء نيل آرمسترونج وباز آلدرين أول اثنين من البشر — وقطعًا أول كائنات أرضية — يطآن سطح القمر بأقدامهما، وقد تبعهما على مدار ثلاث السنوات والنصف التالية عشرةٌ آخرون. وربما كان مشهد الأرض من أعماق الفضاء هو الأوقع بين كل المشاهد والتجارب الفريدة التي جاءت مع الهبوط على سطح القمر، من حيث تأثيره على رواد الفضاء أنفسهم.
إلا أن مستقبل كوكبنا الفريد الذي ليس له بديلٌ تتهدَّده الآن التقنيات نفسها التي جعلتنا بشرًا تهديدًا خطيرًا كما لم يحدث من قبل قط؛ فالكوارث البشرية من حروب وتلوُّث وتصحر وانقراض للأنواع وتغيُّر للمناخ — التي انبثقت كلها من براعاتنا التقنية — جعلت العالم الحي على المحك. لكن قبل أن نبحث كل تهديد من هذه التهديدات بالتفصيل، لا بد أن نفكر مليًّا في أحد الأسئلة الجوهرية في عصرنا. هل نستطيع أن نهرب من الشرور التي خلقناها بأيدينا بأن نترك الأرض وراءنا ونبدأ من جديد؟ هل نستطيع بناء حياة أفضل للبشرية على أرضٍ بكر لكوكبٍ آخر؟
هل نستطيع استعمار كواكب أخرى؟
ثَمة فكرة صارت شائعة في السنوات الأخيرة، حيث يُتصوَّر أن أجيال المستقبل من البشر سيفرُّون من مشكلات الأرض باستخدام تقنيات متطورة لاستعمار كواكب أخرى، لكن حتى إن تجاهلنا التحدي اللوجيستي الهائل المتمثِّل في إطلاق مئات آلاف الأطنان من المؤن والمعدات في الفضاء — وفكَّرنا فقط في الظروف البيئية التي نعلم بوجودها في كواكب أخرى — فلن يبدو هدف استعمار أجرام سماوية أخرى غير واقعي فحسب، بل متعذرًا فعليًّا أيضًا، بحكم الواقع.
أما قمر كوكب الأرض فهو عالمٌ صامت خالٍ من الهواء يتكوَّن من صخورٍ صمَّاء وغبار لا حياة فيه. واليوم الواحد على القمر يُوازي ثمانية وعشرين يومًا على الأرض، ودرجات الحرارة على سطح القمر خلال نهار هذه «الأيام» القمرية ساخنة لدرجة تكفي لغليان المياه، بينما قد تنخفض درجات الحرارة خلال هذه «الليالي» القمرية لنحو ٣٠٠ درجة تحت الصفر على مقياس فهرنهايت.
كوكب عطارد من ناحيةٍ أخرى هو كرةٌ عديمة الهواء من الحديد والصخور تدور ببطءٍ شديد، حتى إن اليوم الواحد على عطارد يستمر شهرين تقريبًا من أيام كوكب الأرض؛ ولهذا السبب ترتفع درجات الحرارة على سطح عطارد إلى ٦٥٠ فهرنهايت خلال «النهار»، وتنخفض إلى ٢٧٤ تحت الصفر خلال «ليل» عطارد.
أما كوكب الزهرة فتكتنفه غيومٌ ملتفَّة من حامض الكبريتيك، وغلافه الجوي كثيف، حتى إن الضغط الجوي على سطح الكوكب ثقيل جدًّا؛ إذ يبلغ ١٣٥٠ رطلًا لكل بوصة مربعة؛ هذا أكثر ٩٢ مرة من الضغط الجوي على الأرض البالغ ١٤٫٧ رطلًا لكل بوصة مربعة عند مستوى سطح البحر، وهو في الواقع يُعادل الضغط الذي سيشعر به الغواص عند الغوص نصف ميل تحت البحر. وبسبب «تأثير الاحتباس الحراري الجامح» لغلافه الجوي المشبع بثاني أكسيد الكربون، ترتفع درجات الحرارة على سطح كوكب الزهرة بشكلٍ دائم عن ثمانمائة درجة فهرنهايت، وهي حرارةٌ كافية لإذابة معظم المعادن اللينة، ومن بينها الرصاص والزنك.
وكوكب المريخ أرضٌ قاحلة متجمِّدة من الصخور والغبار حمراء اللون بسبب تركز أكسيد الحديد بها بدرجةٍ مرتفعة. ويصل متوسط درجات الحرارة على سطح المريخ إلى ٨٠ درجة تحت الصفر على مقياس فهرنهايت. الغلاف الجوي للمريخ أرقُّ مائة مرة من الغلاف الجوي للأرض، ويتكون ٩٥ في المائة من هذا الغلاف الجوي من ثاني أكسيد الكربون، مع وجود قدر ضئيل من الأكسجين. وبالإضافة إلى درجات الحرارة القاسية والهواء غير الصالح للتنفُّس، تضرب العواصف الترابية العاتية المريخ بانتظام، وقد تستمر شهورًا مُتتالية، وكثيرًا ما يزيد حجمها فتُحيط بالكوكب بأكمله.
المشتري وزحل ونبتون وأورانوس — «عمالقة الغاز» في نظامنا الشمسي — تتكون من لبٍّ من الجليد والصخور أكبر من الأرض مُغطًّى بغلافٍ جوي سميك من الهيدروجين والهيليوم، ومدفون تحت محيطات مُترامية من الهيدروجين والهيليوم المُسيلين يصل عمقها لآلاف الأميال. ليس لأي من هذه الكواكب أي «أسطح» حقيقية بالمعنى الطبيعي للكلمة، وإنما مناطق طرية حيث تنضغط الغازات فتتحوَّل إلى سوائل، وحيث تنضغط السوائل فتتحول إلى مواد صلبة، وكلها مخفية في ظلامٍ دامس ودائم.
حين نضع في الاعتبار قسوة بيئة الكواكب الأخرى التي في مجموعتنا الشمسية على كل أشكال الحياة المعروفة، نجد أنه لا يوجد بينها مرشَّحٌ مقبول للاستيطان البشري. ولا شك أنه سيكون حلًّا عمليًّا أفضل بكثير — وأسهل — أن نستوطن قارة أنتاركتيكا الشاسعة غير المأهولة، حيث تتراوح درجات الحرارة بين ٢٠ و٥٠ تحت الصفر فحسب، وحيث الهواء قابل تمامًا للتنفس وغني بالأكسجين، وحيث السماء زرقاء. لكن لما كانت خامس أكبر قارات الأرض مفتقرة لعنصر الرومانسية الخيالية الذي يلف الكوكب الأحمر، لم يحدث إقبال لاستيطانها على وجه العموم.
لكن ماذا عن «الكواكب الشبيهة بالأرض» التي اكتشفها علماء الفلك في مجموعاتٍ شمسيةٍ أخرى قريبة؟ هل يُمكن أن يوفِّر أحدها موطنًا ثانيًا لفائض السكان من البشر الذين قد يفيض بهم سطح الأرض قريبًا، مع وضع معدل الزيادة السكانية الحالي في الاعتبار؟
حسب التقديرات يُعادل حجم جليزا ٨٣٢ سي خمسة أضعاف حجم الأرض؛ وبهذا يصل وزن الشخص الذي يزن ١٦٠ رطلًا على سطح الأرض إلى ٨٠٠ رطل على سطح جليزا ٨٣٢ سي؛ مما يجعل من العسير على الشخص العادي أن يقف أو يسير، لكن لنفترض جدلًا أن مشكلة الجاذبية يُمكن حلها بطريقةٍ ما، ربما بربط دعامات معدنية لدعم الجسم تحت وطأة هذا الضغط الهائل، لكن حتى في هذه الحالة سيظلُّ علينا حل مشكلة خطيرة، وهي كيفية بقاء مجموعة من البشر على قيد الحياة طوال رحلة الانتقال الطويلة من مجموعتنا الشمسية إلى هذه المجموعات الشمسية «المجاوِرة».
يفلت الصاروخ الفضائي النموذجي من جاذبية الأرض بالانطلاق بسرعة ١٨ ألف ميل في الساعة تقريبًا. بعثة وكالة ناسا «نيو هواريزونز»، التي صُمِّمت لاكتشاف المنطقة الواقعة خارج مجموعتنا الشمسية، بلغت سرعة انطلاقها ٣٦ ألف ميل في الساعة، وهو ما عزَّز سرعة المركبة الفضائية لتصل إلى ١٠٠ ألف ميل في الساعة، عند اقترانها بسرعة مدار الأرض حول الشمس. رغم أن هذه السرعة كانت كافية للإفلات من جاذبية الشمس، فإن سرعة نيو هورايزونز تراجعت إلى ٣١ ألف ميل في الساعة حين غادرت المجموعة الشمسية فعليًّا.
لنفترض أن إحدى حضارات المستقبل سوف تخترع تقنيةً نجهلها نحن الآن، وتستطيع التغلب على قوانين الفيزياء المعروفة، وتنجح في صنع مركبة فضائية صالحة للعمل وقادرة على السفر بسرعةٍ قريبة من سرعة الضوء، فهل ستستطيع مثل هذه التقنية أن تفتح الكون أمام استيطان البشر للفضاء؟
الحياة من دون الغلاف الحيوي
كان الرجال الأربعة والنساء الأربع الذين تطوَّعوا لهذه المهمة اعتزموا العيش داخل هذه المنطقة لسنتين، متكفِّلين بسبل الإعاشة دون أي موارد خارجية من هواء أو طعام أو مياه، وكان الغلاف الحيوي الثاني مجهَّزًا بالتربة والمياه والزرع والحيوانات، وكذلك ضم بحرًا صغيرًا، وبيئة سافانا، ومستنقع مانجروف، وغابة مطيرة، وصحراء، ومزرعة. كان الهدف أن تتفاعل هذه البيئات المتنوعة وأجواءها لتكون نظام إعاشة مستقلًّا يستطيع البشر أن يعيشوا فيه إلى أجلٍ غير مسمًّى.
طوال العام الأول من المهمة فشلت المزرعة التي أُقيمت داخل الغلاف الحيوي الثاني في توفير غذاء كافٍ للطاقم. خلال الاثني عشر شهرًا الأولى شعر سكان الغلاف الحيوي بجوعٍ مستمر، وسيطر عليهم القلق من ندرة الغذاء، وفقدوا قدرًا كبيرًا من أوزانهم. ومع نهاية العام الأول انقسم سكان الغلاف الحيوي إلى فئتين مُتعارضتَين كان الكلام بينهما شِبه مُنعدم.
رغم انتشار النباتات الخضراء ظلَّت معدلات الأكسجين تنخفض باستمرار داخل المنطقة، حتى وصلت في النهاية إلى المعدل الطبيعي الموجود عند ارتفاع ١٧٥٠٠ قدم. وفي الوقت ذاته ارتفعت معدَّلات ثاني أكسيد الكربون ارتفاعًا بالغًا، مُتذبذبةً بشدة من يوم لآخر. هكذا اضطرَّ مُديرو المشروع إلى ضخِّ الأكسجين في المنطقة المسيَّجة مرةً بعد أخرى، خوفًا على صحة الفريق، منذ الشهر السابع عشر من بدء التجربة.
وبمرور الوقت صار الجو داخل الغلاف الحيوي الثاني مشبعًا بأكسيد النيتروز، حتى وصل أخيرًا إلى معدلات هدَّدت الفريق بتلفٍ دائم في المخ. بالإضافة إلى هذا، أدَّى سكون الهواء داخل المنطقة المسيَّجة إلى ضعف وتقصُّف جذوع الأشجار وفروعها؛ إذ إنها تتقوَّى بحركة الرياح في الظروف الطبيعية، وصارت معرَّضة لما أسماه العلماء فيما بعدُ «انهيارات كارثية خطيرة». في الوقت نفسه، تكاثَر نموُّ لبلاب مجد الصباح ليُضيِّق الخناق على النباتات والأشجار الأخرى، وتطلَّب الأمر اجتثاثه باستمرار.
أما المناطق التي كان يُزمَع أن تكون صحراوات فتحوَّلت إلى غاباتٍ حرشية ومروج، وصارت شبكات المياه مشبعة بالمغذيات الكيميائية، حتى إنه صار من الضروري أن تجري المياه كلها فوق حُصُر طحلبية سميكة كان لا بد أن تُجمَع وتُجفَّف وتُخزَّن دوريًّا داخل المنطقة. وأخيرًا، لم يبقَ على قيد الحياة من الخمسة والعشرين نوعًا من الطيور والثدييات والأسماك والزواحف التي دخلت الغلاف الحيوي الثاني في البداية سوى ستة أنواع مع انتهاء التجربة بعد أربعة وعشرين شهرًا.
لا يوجد سوى عالمٍ واحد نعرفه يُمكنه دعم البشر بسبل الحياة، وهو كوكبنا الأخضر المزرق الذي أذهل رُوَّاد الفضاء وأبهجهم للغاية لدى رؤيته خلال رحلاتهم إلى القمر؛ فليس لدينا وطنٌ آخر، ولا يُمكننا تنفُّس هواء آخر، ولا يُمكن لكوكبٍ آخر أن يمدَّنا بالغذاء. الأرض هي نظام الإعاشة الوحيد على الإطلاق المتاح للنوع البشري، ولا نملك بديلًا آخر للحفاظ على سلامة الغلاف الحيوي وحياته حتى نظلَّ نحن أنفسنا في صحة وأحياءً. وأي شيء آخر هو خيالٌ علمي ووهم.
آلات الحرب وآلات الهلاك
حين اقترنت الأسلحة النارية الحديثة بمركبات وطائرات تعمل بمحركات الاحتراق الداخلي، بلغت آلات الحرب الحديثة قدرة على القتل والتدمير لم يكن القادة العسكريون لجيوش العصور القديمة والوسطى ليتخيَّلوها في أكثر أحلامهم تطرُّفًا؛ فقد مات أكثر من مائة مليون شخص في الحروب خلال القرن العشرين وحده، وهو ما يُعادل على الأقل أربعة أضعاف عدد الناس الذين كانوا يعيشون على كوكب الأرض حين نشأت الحضارات المدنية الأولى، لكن رغم الحال المُرعب الذي وصلت إليه آلات الحرب الحديثة تتضاءل قدرتها التدميرية مقارنةً بالأسلحة النووية؛ آلة الهلاك في الحضارة المعاصِرة.
رغم أننا لم نعُد نفكر إلا نادرًا على ما يبدو فيما يُشكله الدمار النووي الحراري من خطورة، فإنه يُعَد أقرب الأخطار التي تُهدد الأحياء العاقلة في تاريخ نوعنا؛ فهناك الآن مئات القذائف الباليتسية العابرة للقارات والغواصات النووية وقاذفات القنابل المزوَّدة بآلاف الأسلحة الحرارية النووية التي تستهدف المراكز السكانية الرئيسية في العالم بهدف محدَّد، وهو القضاء عليها. إذا استُخدمت هذه الأسلحة بالفعل من أجل الغرض المحدَّد لها فلا شك أنها ستقضي على الحضارة الإنسانية، وربما تُبيد النوع البشري، وقد تُبيد كل أشكال الأحياء الذكية الأخرى التي تشاركنا هذا الكوكب.
تُمثل هذه الأسلحة النووية مجتمعةً إجمالي القوة التفجيرية لمائة وستين مليار طن من مادة ثالث نترات التولوين تي إن تي؛ أي بمعدَّل نحو ثلاثة وعشرين طنًّا من ثالث نترات التولوين لكل إنسان على الأرض، لكن حيث إن ما يُستخدم من هذه الأسلحة في المرة الواحدة لا يتعدى ٢٥ في المائة منها فقط، فإن القوة التفجيرية التي قد تُستخدم في الحال تبلغ نحو ستة أطنان من ثالث نترات التولوين لكل شخص حي اليوم. تُعادل الستة أطنان من ثالث نترات التولوين نحو خمسة عشر ألف قطعة ديناميت، وهو أكثر من كافٍ لقتلك أنت وأفراد أسرتك، وتدمير منزلك، ودكِّ مقر عملك ومدارسك والشركات التي تتعامل معها، وكل الأماكن التي ترتادها من أجل الطعام والترفيه والتأمل والعبادة. باختصار، القوات النووية المستخدَمة في الوقت الحالي أكثر من كافية لتدمير كل ما أقامته البشرية منذ فجر الحضارة.
يُبيِّن لنا التاريخ أن الناس والمجتمعات لا تُقدِم عادةً على التخلص من التهديد الذي يتربص بسلامتها حتى يطرأ حدث ما يُبرهِن على خطورة ذلك التهديد برهانًا حيًّا. من ثَم يبدو من المحتمل أن تبقى البنية التحتية للحرب الحرارية النووية في مكانها حتى تستنفر واقعة ليست في الحسبان ومأساوية الرأي العام، وتجعل العالم يعود إلى صوابه، مثل تفجير سلاح حراري نووي في منطقة حضرية كبرى ليَقتل ملايين الأشخاص. لا شك أن واقعة من هذا القبيل ستؤدي إلى نداءٍ عاجل وقوي بنزع السلاح النووي، لكنه سيكون بالتأكيد ثمنًا فادحًا مقابل إجراء كان لا بد أن يُتَّخذ منذ زمن طويل باعتباره إجراءً منطقيًّا.
من المؤكَّد أن صناعة آلة الهلاك النووية — واستمرار صيانتها وتطويرها طوال السبعين سنةً الماضية — كان أحد أفظع حالات الجنون الجماعي في تاريخ النوع الإنساني؛ فلم توجد قط طوال ملايين السنين التي سكن فيها البشر هذا الكوكب تقنيةٌ قادرة على إلحاق القدر نفسه من الإبادة الذاتية الجماعية من على بُعد. وفيما هو بالتأكيد أكبر مفارَقة في تاريخ البشر، تبنَّت البشرية آلة الهلاك كوسيلة «ضرورية» لتحقيق «الأمن» القومي، وقد عاش المجتمع الحديث طويلًا مع هذا الواقع الغريب حتى صار مُتراضيًا تراضيًا غريبًا مع خطر الإبادة النووية. بيد أن آلة الهلاك النووي واقع؛ فهي نشطة وقابلة للعمل ومستعدَّة لتدمير البشرية جمعاء، وتستطيع أي قوة من قوى العالم النووية تفعيلها في غضون دقائق.
ومع ذلك فقد انخفض فعليًّا احتمال أن يموت أي منا في الحروب بدرجةٍ كبيرة منذ العصر الحجري القديم. والمائة مليون شخص الذين قضوا نحبهم في الحروب خلال القرن العشرين لا يمثلون سوى واحد في المائة من السكان الذين عاشوا على كوكب الأرض خلال فترة المائة عام تلك. على النقيض، تُبيِّن الدراسات الإثنية أنه في أشد مجتمعات الصيد وجمع الثمار ميلًا للقتال يموت نصف الذكور البالغين نتيجة للتقاتل العنيف مع بشرٍ آخرين. ورغم أن معدَّل القتل في الحروب قد يكون فظيعًا في المجتمعات الحديثة، فإن الحروب الحديثة تميل إلى التقطُّع، على عكس الحروب المتواصِلة إلى حدٍّ ما التي شُوهدت في العديد من مجتمعات ما قبل الصناعة. ودائمًا ما تمرُّ بالدول القومية الحديثة عقود من السلام بين حروبها الدامية، كما استطاعت بعض الدول — مثل سويسرا على سبيل المثال — تجنُّب الحرب طوال أجيال مع الدول الأخرى.
قبل وقوع مأساة الحادثة النووية المُروِّعة يُمكن استخدام ترسانة العالم النووية — بما في ذلك القذائف الباليستية المصمَّمة لإرسالها إلى أهدافها — في أغراضٍ أخرى، بل ولا بد من ذلك؛ فبدلًا من توجيه قذائف بعضنا النووية إلى بعض وخلق خطر دمار ذاتي دائم، لا بد أن نُوجِّهها إلى خطرٍ مُتربِّص بحياة كل البشر؛ أحد الكُويكبات الكبيرة المتعدِّدة المحلِّقة في الفضاء. إذا اصطدمت أحد هذه الكويكبات التي يصِل قُطرها لأميال بالأرض في وقتٍ ما في المستقبل — مثلما حدث بالفعل عدة مرات في التاريخ الجيولوجي — فسوف يُثير هذا في الغلاف الجوي غبارًا كافيًا لحجب ضوء الشمس عن سطح الأرض.
رغم أن علماء الفلك أكَّدوا لنا أن الاصطدام بكويكبٍ كبير هو حدثٌ نادر جدًّا غير محتمل الحدوث في المستقبل المنظور، فإن ما حدث من قبلُ من الممكن أن يحدث مرةً أخرى. وسيكون لذلك الاصطدام آثارٌ كارثية على الغلاف الحيوي؛ فمن الممكن أن يُبيد أغلب النباتات الخضراء على الأرض ويُخفِّض مستويات الأكسجين إلى حدٍّ خطير، كما ستظل سُحبٌ هائلة من الغبار سابحة في الغلاف الجوي لسنوات؛ لتحجب الشمس وتؤدي إلى عصرٍ جليدي قد يكون أشد من أي عصر جليدي سابق في التاريخ الجيولوجي الحديث.
لكن من الممكن أن تؤدي سلسلة من الانفجارات في الأوقات المناسبة على سطح الكويكب المتجه نحو الأرض إلى انحرافه عن مساره ومروره دون إيقاع ضرر، أو تحطمه إلى ملايين القطع الصغيرة، يحترق أغلبها في الغلاف الجوي قبل أن يصل إلى الأرض. لا شك أن هذه المهمة ستكون أكثر رشدًا للترسانة النووية من مهمتها الحالية في التعجيل بموعد نهاية الحضارة الإنسانية.
التلوث والبلاستيك
بدأ التلوث الجوي الخطير على يد البشر على نطاقٍ عالَمي منذ ألفَي عام على الأقل، عندما بدأ الرومان في صهر كميات كبيرة من النحاس. ثَمة أدلةٌ أخرى على التلوث الجوي بالنحاس كذلك من العصور الوسطى، عندما كان صهر النحاس مُنتشرًا في كل من أوروبا والصين؛ إذ تُشير التقديرات إلى إطلاق ما يقرب من ألفَي طن من النحاس في الغلاف الجوي كل عام خلال هاتين الفترتين.
بيد أن التلوث الناجم عن نشاط الإنسان تسارعت وتيرتُه بدرجةٍ هائلة مع قدوم الثورة الصناعية؛ فقد تدفَّقت كمياتٌ ضخمة من ثاني أكسيد الكبريت وثاني أكسيد النيتروجين وأول أكسيد الكربون والميثان والبوتادين والبنزين والتولوين والزيلين وسائر المُذيبات النفطية والمنظفات والكلوروفورم والمُبيدات الحشرية ومُبيدات الحشائش والأمونيا والأحماض والنترات والفوسفات والمعادن الثقيلة والمستحضرات الدوائية في الغلاف الجوي للأرض وتربتها ومجاريها المائية ومحيطاتها، وينتهي الحال بالكثير من هذه الملوثات في البحر.
بالإضافة إلى الكميات المُتزايدة من الكيماويات السامَّة، تحتوي المحيطات اليوم على كمية تُقدَّر بمائة مليون طن من البلاستيك، ترسَّبت كلها تقريبًا بدءًا من منتصف القرن العشرين. تحتوي محيطات العالم على مناطق معروفة باسم «الدوامات المحيطية»، حيث تجعل الرياح والتيارات مياه البحار تدور في دواماتٍ حلزونية هائلة، وقد جرفت هذه الدوامات النفايات البلاستيكية العائمة في المحيطات إلى بِركٍ ضخمة للغاية. أكبر هذه البرك هو دوامة نفايات المحيط الهادئ، الواقعة بين جنوب شرق آسيا والساحل الغربي لأمريكا الشمالية. بحلول عام ٢٠١٤م كانت دوامة نفايات المحيط الهادئ قد صارت أكبر حجمًا من الجزء القارِّي من الولايات المتحدة الأمريكية.
الغابات الآخذة في التلاشي
بدأت إزالة الإنسان للغابات في عصور ما قبل التاريخ؛ إذ بدأت أول ما بدأت في وديان أنهار أوروبا منذ عشرة آلاف عام تقريبًا، حين استخدمت شعوب ثقافة الخزف الخطي وشعوبٌ أخرى عاشت في أوائل العصر الحجري الحديث مطارق حجرية مصقولة في قطع الأشجار التي كانت تنمو على امتداد ضفاف الأنهار الكبرى لاستصلاح الأرض من أجل الزراعة.
وقد تسارَعت وتيرة إزالة الغابات خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، حين بدأت المجتمعات المدنية في منطقة الهلال الخصيب قطع غابات الشرق الأوسط القديم لتوفير الأخشاب من أجل بناء المعابد والقصور والسفن العابرة البحار التي صاحبت نشأة الحضارة المدنية. فقد أُهلكت أشجار الأرز اللبنانية المشهورة في الكتاب المقدس من أجل بناء سفن صالحة للإبحار يستخدمها الفينيقيون والإغريق الذين جلبوا الحضارة إلى الأراضي المُتاخِمة للبحر الأبيض المتوسط، وجُردت الأراضي المنخفضة الغرينية في شرق الصين تدريجيًّا من غاباتها مع انتشار الزراعة في أنحاء الأودية العظمى لأنهار الأصفر واليانجتسي واللؤلؤ.
سارع من وتيرة إزالة غابات شمال أوروبا تزايُد استخدام الحديد والصلب خلال أواخر العصور الوسطى، حين أُزيلت غاباتٌ كاملة لتوفير الفحم النباتي للأفران العالية التي كانت تُستخدم في صهر خام الحديد. وعندما اختُرع القارب البخاري في أوائل القرن التاسع عشر، دُمرت مساحاتٌ كبيرة من الغابات التي كانت تنمو على ضفاف نهر المسيسيبي في الولايات المتحدة باستهلاكٍ نهِمٍ للأشجار؛ لتغذية أفران حرق الأخشاب في السفن البخارية المزوَّدة بعجلات التجديف. في واقع الأمر، كانت أغلب الأرض الممتدة شرقيَّ نهر المسيسيبي في أمريكا الشمالية مُغطاة بالغابات قبل مجيء الأوروبيين. أما اليوم فقد أُزيل جزءٌ كبير من هذه الغابات وحُولت إلى أرضٍ زراعية منذ زمن طويل.
ظلَّت الغابات المطيرة المدارية في أمريكا الجنوبية وجنوب شرق آسيا وأفريقيا على حالها بدرجةٍ كبيرة حتى القرن العشرين، لكن منذ عام ١٩٠٠ سقط جزءٌ كبير من غابات العالم المطيرة أمام فأس الحطاب. في البرازيل وحدها اختفى نحو ٣٠٠ ألف ميل مربَّع من الغابات المطيرة — مساحة تُعادل ضعف حجم كاليفورنيا — منذ عام ١٩٧٠م. في الوقت الحاضر يتلاشى أكثر من عشرين ألف ميل مربع من الغابات المدارية سنويًّا. وفي حال استمر هذا المعدل من إزالة الغابات ستكون الغابات المطيرة قد اختفت إلى حدٍّ كبير مع نهاية القرن القادم. إزالة الغابات المدارية المطيرة على الأخص أمرٌ يدعو للانزعاج؛ لأن هذه الغابات هي موطن ما يقرب من نصف جميع الأشكال الحية في الغلاف الحيوي. هذا معناه أن النباتات والحيوانات التي تنقرض بفقدان كل موئل من الغابات المطيرة أكثر من التي تنقرض مع فقدان أي نظام بيئي أرضي آخر.
ومع ذلك لم تبدأ العديد من الدول برامج جادَّة لإعادة التحريج فحسب، بل ما زالت بقايا صغيرة من الغابات البكر باقية أيضًا حتى في أوروبا، حيث تقوم مقام الملاذ الآمن للأنواع التي اختفت من المناطق التي أُزيلت أشجارها. واحدة من أكثر هذه المناطق التي حُوفظ عليها هي غابة بياوفيجا، وهي متنزَّه غابات محميٌّ تبلغ مساحته نحو ١٢٠ ميلًا مربعًا ممتدًّا على الحدود بين بولندا وبيلاروسيا. وعلى الرغم من أن غابة بياوفيجا أصغر مساحةً من العديد من المدن الرئيسية في العالم، فإنها تضمُّ أنواعًا حيةً أكثر من أي بيئة أوروبية أخرى؛ فهي موئل ﻟ ١١٧ نوعًا من الطيور، وتسعة وخمسين نوعًا من الثدييات، من بينها ابن عرس وخز الصنوبر والراكون والغرير والقندس والقضاعة والثعلب والوشق والذئب والحلوف واليحمور والموظ وحيوان الإلكة، وكذلك ثمانمائة بيسون أوروبي.
الانقراض الجماعي السادس
ثاني أقرب التهديدات المتربِّصة بالحياة الذكية، بعد خطر الحرب الحرارية النووية، هو خطر الدمار البيئي الهائل وانقراض أشكال الحياة. يقدر العلماء ما ينقرض من الأشكال الحية في الوقت الحالي سنويًّا بثلاثين ألفًا تقريبًا، ويرتفع معدَّل الانقراض باطراد. علاوة على ذلك، بمجرد انقراض نوع من النبات أو الحيوان، يستغرق الأمر عادةً ملايين السنين قبل أن يتطوَّر شكل حياة جديد ليحلَّ محله.
وقع بالفعل خمس حالات انقراض جماعي سابقة في التاريخ الجيولوجي، وكلها كانت قبل وجود أشباه البشر بفترةٍ طويلة. كان أولها قبل ٤٤٥ مليون سنة تقريبًا خلال العصر الأوردوفيسي؛ عصر المخلوقات البحرية البدائية مثل ثلاثيات الفصوص وبعض الشعاب المرجانية. وحدث الثاني قبل ٣٦٠ مليون سنة خلال العصر الديفوني؛ عصر الأسماك البدائية وأقدم النباتات البرية والحشرات. ووقع الثالث قبل ٢٥٠ مليون سنة خلال العصر البرمي؛ عصر الزواحف البدائية. وحدث الرابع قبل ٢٠٠ مليون سنة خلال العصر الترياسي؛ عصر البرمائيات الكبيرة والزواحف البحرية.
اندثر مع انقراضات العصور الأوردوفيسي والديفوني والترياسي نسبة تتراوح بين ٧٥ إلى ٨٥ في المائة من كل الأنواع الحية، وخلال الانقراض الذي وقع في العصر البرمي هلك ما يقرب من ٩٥ في المائة من كل أنواع النباتات والحيوانات. ويعتقد العلماء أن حالات الانقراض الأربعة هذه وقعت خلال فترات تغيير حادٍّ وسريع في المناخ العالمي. قد يكون السبب الذي أدَّى إلى فترات تغيُّر المناخ هذه اختلالاتٍ في مدار الأرض حول الشمس، أو فترات من النشاط البركاني الحاد والمستمر، أو تفاوتات في النشاط الشمسي، أو اصطدامات مع كويكبات ضخمة، أو أي مجموعة من هذه الحوادث.
وقع الانقراض الجماعي الخامس والأحدث في التاريخ الجيولوجي منذ خمسة وستين مليون عام، في نهاية العصر الطباشيري، عصر الديناصورات والنباتات المُزهرة والأشكال الحديثة من الحشرات وأولى الثدييات. ويُعتقد عمومًا أن هذا الانقراض نتج من آثار اصطدام كويكب يزيد عرضه عن ستة أميال بكوكب الأرض قبالةَ ساحل جنوب المكسيك بسرعة قُدرت ﺑ ٦٧ ألف ميل في الساعة.
يعتقد العلماء أن الحطام الذي أُلقيَ في الغلاف الجوي نتيجةً لهذا التصادم الهائل — وربما أيضًا الناتج عن الثورات البركانية التي من المحتمل أن يكون قد أدَّى إلى اندلاعها الاهتزاز الطبيعي الناتج عن الاصطدام — خلق سحابة غبار كبرى هائلة انتشرت في جميع أنحاء العالم. من المحتمل أن تكون سحابة الغبار هذه حجبت ضوء الشمس من الوصول إلى سطح الأرض لعدة سنوات؛ مما أدَّى إلى برودةٍ كبرى في المناخ العالمي. ولم ينتج عن الانقراض الجماعي الخامس اختفاء الديناصورات فحسب، وإنما ٧٥ في المائة أيضًا من كل الأنواع الحية على الأرض.
إننا الآن في المراحل الأولى مما قد يصير في نهاية المطاف الانقراض الجماعي السادس لأشكال الحياة في التاريخ الجيولوجي، لكن على النقيض من الانقراضات الخمسة السابقة، لن ينتج هذا عن قوًى كونية أو جيولوجية، وإنما عن أنشطةٍ بشرية، منها تلوث البيئة وإزالة الغابات على نطاقٍ واسع، واستنزاف مجموعات النباتات والحيوانات بشدة، وانهيار الأنظمة البيئية البرية والبحرية.
إذا استمر تناقص أعداد الأنواع الحية وانقراضها بمعدله الحالي، فمن المحتمل أن تشهد بيئات الأرض الطبيعية سلسلةً مُتعاقبة من الانهيارات في النظام البيئي على غِرار تلك التي وقعت داخل الغلاف الحيوي الثاني. قد تؤدي تلك الانهيارات في النظام البيئي إلى تزايد أعداد بعض الحشرات والنباتات والفطريات والطحالب والبكتيريا، وأوبئة لأمراض جديدة لم تكن معروفة من قبل، وعجز هائل في المحاصيل، ومجاعة عامة بين المجموعات السكانية من البشر.
يُقدِّر الجيولوجيون الزمن الذي استغرقه تطوُّر أنواع جديدة لتحلَّ محل تلك التي فُقدت في كل من الانقراضات الجماعية السابقة بمدة تتراوح بين خمسة ملايين وخمسة وعشرين مليون عام. وهذا يعني أن النُّظم البيئية للغلاف الحيوي ستستغرق خمسة ملايين سنة على الأقل لتتعافى تمامًا وتستعيد مستوياتها السابقة من التنوع البيولوجي. قبل خمسة ملايين سنة كان أسلافنا قردة رباعية تعيش في الأشجار. وبعد خمسة ملايين سنة من الآن من المحتمل أن نكون نحن البشر قد تطوَّرنا منذ فترة طويلة إلى — أو حل محلَّنا — شكل آخر من الأحياء الذكية، ربما أكثر حكمة منا؛ إذ لا يسعنا إلا تخمين الأثر النهائي الذي سيتركه هذا الانقراض الذي صنعه الإنسان على الأنظمة البيئية الهشَّة المتعدِّدة على الأرض وعلى الغلاف الحيوي ككلٍّ، ولكن فيما يتعلق بحياة الإنسان العاقل وتاريخه فسوف يكون الأثر دائمًا ولا رجعة فيه.
ومع ذلك، لا يزال الانقراض الجماعي الحالي في مراحله المبكرة، وربما ما زال يُمكن مواجهته، وقد أُعيدت عدة أنواع من الطيور والثدييات من حافة الهاوية في السنوات الأخيرة؛ فقد ارتفعت أعداد طائر الكركي بعد أن كانت قد تدنَّت إلى ٢٣ طائرًا في عام ١٩٤١م إلى أكثر من ٦٠٠ طائر في عام ٢٠١١م. ومنذ وقت ليس ببعيد لم يكن في كاليفورنيا سوى تسعة من نسور الكندور لا تزال تعيش في البرية، لكن الآن يوجد نحو ١٧٥ من هذه الطيور الجارحة المهيبة تعيش وتتكاثر في جبال كاليفورنيا والمكسيك (يوجد ١٧٥ أخرى في برامج الاستيلاد في الأَسر). ويعيش الآن أكثر من عشرة آلاف زوج من النسور الصلعاء في الولايات الثمانية والأربعين الدنيا الأمريكية، حيث كاد طائر أمريكا الوطني هذا أن ينقرض قبل ذلك.
علاوة على ذلك، قد يعمل التقدم المستمر في تحديد تسلسل الحمض النووي على تمكين علماء الأحياء في نهاية المطاف من إعادة خلق بعض الأنواع المنقرضة من خلال الدمج بين الحمض النووي المستخرج من عينات المتاحف وخلايا حية من كائنات وثيقة الصلة بها؛ فلدى البشرية آلاف السنين من الخبرة في الاستيلاد الانتقائي، ولدى العلم الحديث عقود من الخبرة في الهندسة الوراثية. من ثَم سيكون تطوير أنواع جديدة من خلال هذه التقنيات أسرع بكثير من معدل إنتاج أنواع جديدة عن طريق العمليات الطبيعية للتطور. حتى الآن لم تُكتب القصة الكاملة للانقراض الجماعي السادس، ولا يزال يَحْدونا أملٌ في نهايةٍ سعيدة.
مخاطر تغيُّر المناخ العالمي
من بين جميع المخاطر التي أصبحت بيئة الأرض معرَّضة لها والتي تشكَّلت في السنوات الأخيرة، ربما لم يُولِّد أيٌّ منها قلقًا عامًّا ودعوات عاجلة للعمل بقدر خطر تغيُّر المناخ العالمي. ويستند هذا القلق إلى حقيقتين بسيطتين. أولًا: هناك كميات مُتزايدة من ثاني أكسيد الكربون تنطلق في الغلاف الجوي من احتراق الوقود الحفري في المجتمعات الصناعية الحديثة. وثانيًا: يحتوي السجل الجيولوجي على أدلةٍ وفيرة على أن الزيادة في تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي للأرض ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بفتراتٍ طويلة من الاحترار في المناخات العالمية.
في عام ١٧٥١م كان يُطلق قرابة ثلاثة ملايين طن من الكربون في الغلاف الجوي للأرض كل عام من حرق أنواع من الوقود الحفري، أغلبه من الفحم. وقد زادت هذه الكمية تدريجيًّا في البداية، ولم ترتفع انبعاثات الكربون إلى أربعة ملايين طن سنويًّا إلا بعد عشرين عامًا، تحديدًا في عام ١٧٧١م، لكن بحلول عام ١٧٧٥م كان جيمس واط قد عدَّل محرِّكاته البخارية الشديدة الكفاءة لأقصى حد، وأصبح الفحم الوقود الرئيسي لصهر خام الحديد وتوفير الطاقة الميكانيكية، وهكذا بدأت انبعاثات الكربون تتسارع وتيرتها.
في عام ١٧٨١م بلغت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية خمسة ملايين طن سنويًّا، وبحلول عام ١٨٠٠م زادت إلى ثمانية ملايين طن سنويًّا. وعلى مدى المائة عام التالية عندما حل المحرك البخاري محل طواحين الهواء والسواقي التي كانت في الماضي تمدُّ مصانع العالم بالطاقة، ومع الثورة التي أحدثتها الباخرة والسكك الحديدية في النقل لمسافاتٍ طويلة، زادت كمية الكربون المُنبعثة في الغلاف الجوي من ثمانية ملايين طن عام ١٨٠٠م إلى ٥٣٤ مليون طن عام ١٩٠٠م، بزيادةٍ قدرها ٦٦٧٥ في المائة.
يُضيف حرق الفحم والنفط والغاز الطبيعي بكمياتٍ متزايدةٍ ثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي للأرض بوتيرةٍ أسرع بكثير مما تستطيع النباتات الخضراء في قارات العالم ومحيطاته امتصاصه واستخدامه لتخليق جزيئات جديدة من الأنسجة الحية. ونتيجةً لذلك زاد محتوى ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي للأرض زيادةً مطَّردة؛ مما زاد من «تأثير غازات الدفيئة» الطبيعي لبخار الماء ومكونات الغلاف الجوي الأخرى التي تحافظ على دفء الأرض بدرجةٍ كافية للحفاظ على الحياة. أجمع علماء المناخ في توقعاتهم بأن يؤدي الاحترار البالغ لسطح الأرض إلى إذابة الكثير من الجليد القطبي، ورفع مستويات البحار في العالم، وزيادة تكرار أحوال مناخية غير معتادة وخطيرة، منها موجات الحر الشديد وأنظمة العواصف الشرسة شراسةً غير مسبوقة.
وقد أُثبتَ بيانيًّا الارتباطُ الوثيق بين مستويات ثاني أكسيد الكربون ومتوسِّط درجات الحرارة العالمية بالاستناد إلى بيانات عن عينات جوفية جليدية أُخذت عام ١٩٩٨م في محطة فوستوك للأبحاث في أنتاركتيكا، التي تقع على بعد ٨٠٠ ميل من القطب الجنوبي. وكشف تحليل عينات فوستوك الجليدية ارتباط ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون وغاز الميثان في الغلاف الجوي ارتباطًا وثيقًا بارتفاع متوسط درجات الحرارة العالمية لمئات آلاف السنوات، وهما «غازا الدفيئة» الرئيسيان اللذان يحتبسان حرارة الشمس في الغلاف الجوي للأرض.
إلا أن تغيُّر المناخ العالمي ليس بظاهرةٍ جديدة في تاريخ الأرض مطلقًا؛ فقد توالت فترات من الاحترار العالمي والتبريد العالمي مرارًا وتكرارًا لمئات ملايين السنين، ليس فقط قبل وجود أشباه البشر، ولكن أيضًا قبل وجود الرئيسيات أو الثدييات أو الطيور أو الديناصورات أو الزواحف أو البرمائيات أو حتى الأسماك. في الواقع، تشكُّ الغالبية العظمى من العلماء أن الانقراضات الخمسة السابقة — وكلها كانت قبل ظهور أي أنواع حديثة من السعادين أو القردة — قد نتجت في المقام الأول عن تغيُّراتٍ رئيسية في المناخات العالمية.
خلال فترات معيَّنة في الماضي البعيد جدًّا، كان تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي أعلى خمس عشرة مرة مما هو عليه في الوقت الحاضر. في الواقع، بلغ تركيز ثاني أكسيد الكربون الجوي ذروته بنحو ٦٠٠٠ جزء في المليون قبل نحو خمسمائة مليون سنة، وبلغ ذروته مرةً أخرى بنحو ٢٥٠٠ جزء في المليون قبل حوالَي مائتَي مليون سنة.
لكن خلال المليون سنة الماضية لم ترتفع تركيزات ثاني أكسيد الكربون عن ٣٠٠ جزء في المليون خلال الفترات بين الجليدية، أو تنخفض لأقل من ١٨٠ جزءًا في المليون خلال الفترات الجليدية. ومع ذلك، خلال الفترة القصيرة التي بدأت منذ مائتَي سنة، أدَّى استخدام البشر للوقود الحفري إلى رفع مستويات ثاني أكسيد الكربون إلى ٤٠٠ جزء في المليون — بنسبة ٣٣ في المائة من حدوده القصوى السابقة — وما زال هذا الارتفاع مستمرًّا في التسارع. وهذا يعني أن الارتفاع الحالي في ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي لن يؤخِّر قدوم العصر الجليدي التالي فحسب، بل قد يمنع بالفعل حدوث عصر جليدي آخر من الأساس.
من المهم أن نُدرك أن مخاطر تغيُّر المناخ العالمي ليست مُقتصِرة على آثار الاحترار العالمي فقط. في الواقع، إذا عاد عصرٌ جليدي آخر مُشابه للأخير، ستنحدر صفائح جليدية ضخمة يبلغ سُمْكها مئات الأقدام وتزِن مئات مليارات الأطنان ببطء من المناطق القطبية؛ لتسحق كل شيء في طريقها. ورغم أن هذه العملية ستستغرق عشرات آلاف السنين — وهي مدةٌ تفُوق تاريخ الحضارة البشرية بأكمله عدة مرات — فإن الآثار المدمِّرة لعصرٍ جليدي جديد ستكون غير مسبوقة.
في أمريكا الشمالية ستؤدِّي عودة الصفائح الجليدية القطبية إلى تدمير دولة كندا بالكامل تمامًا، وتتوغل إلى الولايات المتحدة القارية لتطمر معظم ولاية مينيسوتا وكلًّا من ولايات ويسكونسن وميشيجان وأوهايو بالكامل، والمناطق الشمالية من ولايات إلينوي وإنديانا وبنسلفانيا، ونيو إنجلاند بالكامل جنوبًا وصولًا إلى مدينة نيويورك. وستندثر تحت مئات الأقدام من الجليد مدن فانكوفر وكالجاري ووينيبيج وتورنتو وأوتاوا ومونتريال وكيبك وسياتل ومينيابوليس وسانت بول وشيكاغو وكليفلاند وكولومبوس وبافالو وألباني وبورتلاند وبوسطن وهارتفورد ونيويورك، بالإضافة إلى آلاف المدن والبلدات المُجاورة. في أوروبا سيلحق دمارٌ تام بالدول الاسكندنافية كلها، ومعظم الجزر البريطانية، وأجزاء كبيرة من ألمانيا وبولندا وروسيا، أما مدن دبلن وبلفاست وجلاسكو وإدنبره وأوسلو وستوكهولم وكوبنهاجن وهلسنكي وبرلين ووارسو وسانت بطرسبرج، بالإضافة إلى آلاف المدن والبلدات المُجاورة الأخرى، فستُمحى كليةً من الخريطة.
بالإضافة إلى ذلك ستكون هناك خسارةٌ فادحة في الأراضي الزراعية في جميع أنحاء العالم؛ فسوف تمتدُّ أراضي التندرا القاحلة الخالية من الأشجار والتربة الصقيعية جنوبًا من الصفائح الجليدية القطبية حتى وسط الولايات المتحدة القارية لأقصى الجنوب حتى نيو مكسيكو، وستنتشر التندرا في جميع أنحاء أوروبا حتى الجنوب وصولًا إلى إسبانيا والبرتغال. وجنوبًا من التندرا ستُغطِّي الغابات الدائمة الخضرة جنوب أوروبا، ومعظم كاليفورنيا، وجميع المناطق باستثناء أقصى جنوب الولايات المتحدة. ومن المعلوم أن التندرا وبيئات الغابات الدائمة الخضرة غير قادرتَين على دعم الزراعة البشرية.
علاوة على ذلك، سيكون من الصعب أو المستحيل نقل الإنتاج الزراعي إلى أقصى الجنوب؛ لأن الاستنزاف الهائل لمياه الغلاف الجوي سيجعل صحاري العالم تنمو بدرجةٍ أكبر بكثير عما هي عليه اليوم. فسوف تتوسع الصحراء الكبرى حتى تُغطي أكثر من نصف القارة الأفريقية، وتتوسَّع صحراء آسيا الوسطى من بحر قزوين شمال إيران الحالية لتجتاز آسيا وصولًا إلى المحيط الهادئ. وفي الوقت نفسه سوف تتقلَّص الغابات المطيرة المدارية في وسط أفريقيا وحوض الأمازون إلى جزءٍ صغير من حجمها الحالي. وبما أن كميات كبيرة من مياه الأرض ستتجمَّد في شكل جليد قطبي، فسوف تنخفض مستويات سطح البحر في جميع أنحاء العالم ثلاثمائة قدم عن مستوياتها الحالية، تاركةً كل المدن الساحلية على الأرض عالقة على بُعدِ عشرات — أو مئات — الأميال من مياه البحار المفتوحة.
هذه هي الظروف الفعلية التي كانت سائدةً أثناء العصر الجليدي الأخير منذ ثمانية عشر ألف عام فقط، وهو ليس ببعيد جدًّا حتى في التاريخ القصير نسبيًّا للأنواع البشرية. قبل ثمانية عشر ألف عام كانت ثقافات العصر الحجري القديم العلوي تستخدم بالفعل أشكالًا متطورة من التواصل الرمزي — منها الفن والموسيقى واللغة والنقوش الحجرية والقصص السردية التي ابتكرها الإنسان الحديث — وكان النتوفيون ومُعاصروهم أخذوا يستقرُّون بالفعل في القرى الدائمة التي نتج عنها في نهاية المطاف الثورة الزراعية.
لا بد أن نعترف أيضًا بأن الحملة المستمرة بين أكثر دول العالم تقدمًا للحدِّ من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري أو خفضها، وخاصة ثاني أكسيد الكربون، قد تسبَّبت في انخفاض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في هذه الدول في السنوات الأخيرة. والواقع أن الارتفاع المستمر في حجم انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم يرجع الآن في الأساس إلى النمو السكاني — والترف — في دول العالم النامية، وخاصةً الصين والهند.
علاوة على ذلك، حقَّق المجتمع الحديث تقدمًا بالغًا في تطوير مصادر طاقة جديدة خالية من الكربون، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. ومن الحري ألا ننسى أنه قد مرَّ قرابة قرن بعد اختراع أول محرك بخاري «جوي» لنيوكومين في عام ١٧١٢م قبل إنتاج المحركات البخارية التردُّدية الآمنة والعملية بكمياتٍ كبيرة من أجل الأسواق التجارية، وأن الأمر استغرق خمسة وسبعين عامًا من التجارب قبل أن يصير محرك الاحتراق الداخلي الآمن والمتين جاهزًا للسوق.
وأخيرًا، على الرغم من تطوير تقنيات جديدة لاستخراج الغاز الطبيعي عن طريق التكسير الهيدروليكي واستخراج رمال القطران، فإن إمدادات الوقود الحفري محدودة؛ ففي غضون بضع مئات السنين على الأكثر سيتعيَّن على البشر التوقف عن الاعتماد على الوقود الحفري، وسيضطرُّون إلى استبدال مصادر طاقة بديلة بالوقود الحفري. وعندما يحين ذلك اليوم أخيرًا، من المرجَّح أن تكون العلوم والتقنيات الحديثة قد أمضت عقودًا عديدة بحثًا عن طُرقٍ عملية لاستخراج ثاني أكسيد الكربون الزائد من الغلاف الجوي، مع الحرص على عدم استخراج الكثير لدرجة تؤدي دون قصد منا في حدوث عصر جليدي آخر.
بالنظر إلى التاريخ الماضي لإنجازات نوعنا التقنية المُذهلة، يبدو من الممكن تمامًا أن تنجح البشرية في نهاية المطاف في تحقيق هذين الهدفين. والأهم من هذا وذاك أن ظاهرة تغير المناخ العالمي دليلٌ حي على أن مستقبل الحياة على الأرض يعتمد الآن على تصرفات البشرية؛ فقد استولى نوعنا على هذا الكوكب وجعله ملكًا لنا، أيًّا كانت العواقب المترتبة.
كوكب البشر
ينمو عدد سكان الأرض من البشر الآن بمعدَّلٍ أسرع من أي فترة سابقة في التاريخ؛ إذ أتاح تطوير الزراعة العلمية واستخدام الميكنة في الزراعة إطعام الأعداد المتزايدة من السكان، في حين أدَّت التطورات الحديثة في فعالية العلاج الطبي إلى خفض معدَّلات الوفيات البشرية باطراد. مع انتهاء العصر الجليدي الأخير في بطء، وإطلاق تقنية التواصل الرمزي العنان لقوة التطور الثقافي، ازداد عدد الصيادين وجامعي الثمار من البشر بالتدريج حتى ارتفع إجماليًّا إلى خمسة ملايين شخص تقريبًا.
ومع تبنِّي الزراعة وظهور الحضارة المدنية، ارتفع عدد السكان بنسبة ٣٠٠٠ في المائة — إلى ١٥٠ مليون نسمة — بين عامَي ٥٠٠٠ قبل الميلاد والسنة الأولى ميلاديًّا. حتى مع سقوط الإمبراطورية الرومانية وبدء العصور المُظلمة، تضاعَف عدد سكان العالم مرةً أخرى إلى ٣٠٠ مليون بحلول عام ١١٠٠ ميلاديًّا. وعلى الرغم من الخسائر الهائلة في الأرواح خلال العصور الوسطى، أثناء مذابح الغزو المغولي في القرن الثالث عشر وأوبئة الطاعون أو الموت الأسود في القرن الرابع عشر، تضاعَف عدد سكان العالم مرةً أخرى إلى ما يقرب من ٦٠٠ مليون نسمة سنة ١٦٠٠ ميلادية.
حين بدأت الثورة الصناعية عام ١٨٠٠م انفجر التعداد السكاني من البشر حقًّا، حيث زادوا بنسبة ٦٠٠ في المائة في مائتَي عام من أقل من مليار إلى أكثر من ستة مليارات نسمة. وإذا استمر هذا الانفجار السكاني بمعدله الحالي لن يعود هناك في النهاية على الأرض ما يكفي من الأراضي الزراعية لإطعام جميع الأشخاص الذين سيعيشون على ظهر هذا الكوكب. خلال الخمسين ألف سنة الماضية — التي لا تُمثِّل سوى أحدث نسبة واحد في المائة من تاريخ البشرية — زاد عدد سكان الأرض بمقدار سبعة آلاف مرة عن حجمه الأصلي، ويزيد حاليًّا بنحو ربع مليون شخص يوميًّا.
علاوة على ذلك، بما أن الأعداد الكبيرة من البشر قد انتقلت من المعيشة الزراعية إلى المعيشة المدنية، فقد اختفت إلى حدٍّ كبير المزايا الاقتصادية التي كان الأطفال يوفِّرونها للعائلات المزارعة. في الواقع، أصبح الأطفال فعليًّا مصدر استنزاف اقتصادي محض لثروات الثنائي المتزوج في المدينة، اللذين يتضاءل دخلهما المتاح إلى حدٍّ كبير أمام التكاليف الإضافية التي يحتاجها كل طفل للطعام والملبس والمأوى والرعاية الطبية والتعليم.
لا يساعد إنجاب الأطفال على الاستفادة من الفرص العديدة المتاحة للبشر في المجتمع المعاصر من ترفيه وسفر وتناول الطعام بالخارج، ومتابعة حياتهم المهنية واهتماماتهم الشخصية، بل من المرجَّح أن يتعارض وجود الأطفال مع مثل هذه الأنشطة بدلًا من جعل إقبال الوالدين عليها أسهل. لكل هذه الأسباب انخفضت معدَّلات المواليد في المجتمعات الأكثر ثراءً لدرجة أن بعضًا من أثرى دول العالم وأكثرها تقدمًا، ومنها ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية، تشهد بالفعل انخفاضًا في عدد السكان.
هذا لا يعني أن الناس سيتوقَّفون عن إنجاب الأطفال؛ فالإشباع النفسي الناتج عن إنجاب الأطفال وتربيتهم — والارتباط الذي يوفِّره الأطفال بالمستقبل وبالأجيال المقبلة — يضمَن ألا يتوقَّف النساء والرجال أبدًا عن الرغبة في إنجاب الأطفال؛ لذلك فالأطفال الذين يولدون في عالم اليوم، أكثر من أي وقتٍ آخر في تاريخ البشرية، هم أبناء أشخاص يريدون الأطفال ويقدرون تجربتَي الأبوة والأمومة في حدِّ ذاتهما. وفي حين أنه سيكون هناك دائمًا أفراد يختارون عدم إنجاب أطفال، فلن يُورِّث هؤلاء الأفراد حمضهم النووي ولا اتجاهاتهم أو معتقداتهم الثقافية للأجيال القادمة. وهذه الحقيقة وحدها تضمن أن البشرية لن تتوقف عن التكاثر أبدًا.
وقد تحسَّر بعض الاقتصاديين على معدلات المواليد الراكدة أو الهابطة هذه، واعتبروا هذا نذيرًا لانحدارٍ اقتصادي وثقافي. لكن هذه رؤيةٌ قصيرة النظر؛ فالنمو السكاني اللانهائي غير مُمكن؛ والغلاف الحيوي للأرض محدود الحجم؛ ولا توفِّر الكواكب الأخرى فرصًا واقعية للاستيطان البشري. خلاصة القول، كلما زاد عدد الأشخاص قلَّت مساحة كل شخص وحصته في الموارد المتاحة، لكن كلما قل عدد الناس زادت مساحة كل شخص وحصته في الموارد المتاحة في نهاية المطاف.
التهديدات المتربصة بالغلاف الحيوي حاليًّا ليست مجرد عواقب مترتبة على التقنيات البشرية؛ فهي أيضًا تعبير عن الطبيعة الحيوانية لبشر الهومو سيبيانز. فعلى الرغم من البراعة التقنية لنوعنا فإنه لا يزال يتحرك بغرائز حيوانية قديمة، ومنها الدافع للتوسع والتكاثر لأقصى حدٍّ ممكن. وهذا النوع من المصلحة الذاتية البدائية متوقَّعة من أي شكل من أشكال الحياة، لكننا في رغبتنا في تزويد أنفسنا بكميات دائمة التزايد من النسل والغذاء والكساء والمأوى والطاقة والأسلحة والممتلكات المادية، كثيرًا جدًّا ما تجاهلنا احتياجات أشكال أخرى من الحياة النباتية والحيوانية. فالهومو سيبيانز أو البشر العاقلون، على أي حال، هم النوع الوحيد القادر على فهم جميع أشكال الحياة الأخرى وتلبية احتياجاتها. لذلك، يتعين علينا أن نستخدم وعينا الأسمى ليس فقط من أجل رفاهنا، ولكن أيضًا من أجل رفاهية أكبر لجميع الأنواع الكثيرة التي تشترك معنا في الغلاف الحيوي.
وفي النهاية، حدثت الزيادات الهائلة في عدد السكان لأن الهومو سيبيانز استحوذ فعليًّا على هذا الكوكب وموارده كليةً، وأصبح في خِضمِّ هذا مسئولًا مسئوليةً كاملة عن مستقبله. على الرغم من أننا ربما لم نقصد أن نفعل ذلك متعمِّدين فإننا حوَّلنا الأرض فعليًّا إلى «كوكب البشر». نتيجةً لذلك يجب علينا نحن البشر أن نُدير أمور الأرض بحكمة، ليس فقط لمصلحتنا الخاصة، ولكن لمنفعة جميع الكائنات الحية، الآن وفي المستقبل.
ما وراء الدولة القومية
لكن على الرغم من إعلانات الاستقلال والسيادة الوطنية لم تكن الدول القومية في العصر الحالي مستقلة تمامًا؛ فقد خلقت التجارة العالمية، التي ازدهرت سريعًا خلال القرن التاسع عشر، تكاملًا اقتصاديًّا حيويًّا بين دول العالم منذ فترة طويلة. ومن حقائق الحياة أنه بحلول فجر القرن العشرين، كان قد أُنشئَ بالفعل اقتصادٌ عالمي لا يمكن لأي دولة قومية أو منطقة اقتصادية واحدة أن تزدهر فيه بحق دون الحفاظ على علاقاتٍ اقتصادية قوية مع العديد من الدول الأخرى.
اتضح الواقع الصارخ لهذه الحقيقة على نحوٍ مُذهل، في يونيو عام ١٩٣٠م، عندما أقرَّ الكونجرس قانون تعريفة سموت-هاولي الجمركية في محاولة مُضلِّلة لحماية الصناعة والزراعة الأمريكية من المنافسة الأجنبية خلال التدهور الاقتصادي الذي بدأ عام ١٩٢٩م، لكن عندما ردَّت دولٌ أخرى بالمثل — وخاصةً كندا، أهم شريك تجاري لأمريكا — برفع تعريفاتها الجمركية على السلع الأمريكية، دخل نظام التجارة العالمية بأكمله في تدهورٍ سريع؛ إذ انخفضت واردات الولايات المتحدة من أوروبا من ١٫٣ مليار دولار إلى ٣٩٠ مليون دولار بين عامَي ١٩٢٩ و١٩٣٢م، في حين تقلَّصت الصادرات الأمريكية إلى أوروبا من ٢٫٣ مليار دولار إلى ٧٨٤ مليون دولار خلال السنوات الثلاث نفسها. الواقع أن التجارة العالمية ككلٍّ تراجعت بمقدار الثلثين بين عامَي ١٩٢٩ و١٩٣٤م؛ مما أدَّى إلى إغراق جميع دول العالم الصناعية في حالة الركود الاقتصادي الذي ساد في الكساد الكبير.
ظهور الدولة القومية بصفتها الشكل الغالب للمجتمع البشري كان أعظم اندماج اجتماعي فريد من نوعه في تاريخ البشرية؛ فلم يسبق أن اعتبر ملايين من الناس أنفسهم إخوةً ينتمون إلى الجماعة الإثنية نفسها، وهم يعيشون في آلاف المجتمعات الجغرافية المُتمايزة. من الجدير بالذكر أنه في الوقت نفسه الذي زاد فيه عدد سكان العالم من أقل من مليون نسمة إلى سبعة مليارات نسمة وأكثر، ظلَّ عدد المجتمعات البشرية المستقلة يتقلص بالفعل.
لا يوجد سبب لافتراض أن هذا التاريخ الطويل من الاندماج الاجتماعي قد بلغ نهايته، أو أن البشر سيظلون مقسَّمين دائمًا إلى مائتَي دولة مستقلة؛ فكثيرًا ما أدَّى التقدم الكبير في تقنيات التفاعل إلى اندماجٍ اجتماعي أنشأ جماعاتٍ بشريةً أكبر بكثير من تلك التي كانت موجودة من قبل. وبما أن اختراع تقنية المعلومات قد أوجد الآن أشكالًا جديدة وأقوى من النقل والاتصالات، فمن المنطقي أن نتوقع اقتراب البشرية من عمليةٍ كبرى أخرى من الاندماج الاجتماعي في المستقبل غير البعيد. في الواقع، أُرسيَ بالفعل أساس أول حضارة عالمية بحق للبشرية، وإذا أنعمنا النظر يُمكننا أن نرى بالفعل الخطوط العريضة المؤقَّتة لعالم مستقبلي يتشكَّل خارج حدود دول العالم القومية.
ولادة الحضارة العالمية
إن بذور الحضارة العالمية متعدِّدة، وبعضها قديم جدًّا؛ فقد بدأت قديمًا منذ زمن يسوع الناصري على الأقل، الذي بشَّر بأن كل البشر يتساوون في نظر الله، وأنه بقبول يَهْوه باعتباره الإله الحقيقي الوحيد يستطيع أي شخص، بصرف النظر عن ثقافته الأصلية، أن ينضم إلى جماعة المؤمنين. وبعد ألفَي عام بلغ عدد أتباع يسوع أكثر من مليارَي شخص، وصاروا يُشكِّلون أكبر جماعة دينية على وجه الأرض.
وقد مارَس الرومان نموذجهم العلماني الخاص من التقبل الثقافي والمُساواة الإنسانية، فمنحوا امتيازات المواطَنة الرومانية للحلفاء المفضَّلين، وشيَّدوا الطُّرق والحمامات العامة وشبكات المياه العذبة المعقَّدة، ليس فقط من أجل راحتهم وسلامتهم، ولكن أيضًا لرفاهية شعوبهم، وملئوا مخازن غلال مستعمَراتهم لحماية رعاياهم من الجوع، وأقاموا المدرجات والمسارح الكبرى للترفيه عن الجميع، وكانوا في أغلب الأحيان يمنحون الشعوب التي يغزونها حرية ممارسة طقوسهم الثقافية وعبادة آلهتهم. في الواقع، كان تسامح الرومان تجاه التقاليد الثقافية الأخرى، جنبًا إلى جنب مع شعورهم بالمسئولية عن رفاهية كل شخص يعيش تحت سيطرتهم، هو المسئول إلى حدٍّ كبير عن استقرار المجتمع الروماني واستمرار الحكم الروماني طوال سنوات العالم القديم.
في القرون التي أعقبت سقوط روما انتشرت أديان الهندوسية والزرادشتية والمسيحية والبوذية والكونفوشيوسية والإسلام انتشارًا واسعًا بين ثقافات متنوعة وعبر مناطق جغرافية مُترامية. وقد قامت جميع هذه المعتقدات على مبدأ الإدماج الثقافي، وكانت فلسفاتها الشمولية هي التي مكَّنتها من استيعاب الشعوب الجديدة والأعراق الجديدة، وتجاوز الحدود الثقافية، والصيرورة إلى أديانٍ عالمية بحق.
يجب ألا ننسى أن هذه الديانات الشمولية العظيمة نشأت وازدهرت في وقتٍ لم يكن يُمارس فيه الكتابةَ سوى عدد قليل من أفراد النخبة، عندما كان امتطاء الخيل هو أسرع وسيلة للنقل، حين كانت الطرق بين المدن قليلة ومتباعدة، وعندما كانت السفينة الشراعية عبارة عن سفينةٍ خشبية صغيرة من المرجَّح أن تدفعها المجاديف مع الرياح. وهذا وحده شهادة على قوة فلسفاتها وجاذبية مؤسسيها، الذين بشَّروا جميعًا بعقيدة الاندماج المتعدِّد الثقافات. ويوحي النجاح الكبير لهذه الديانات القديمة بأنه سيكون هناك عملية اندماج ثقافي مُماثلة على الأرجح مصيرًا نهائيًّا لجنسنا.
ظهر في العقود الأخيرة ظرفان يدفعان البشرية الآن نحو هذا الاندماج النهائي. الظرف الأول هو التهديد المُتصاعد بسرعة للبيئة الكوكبية ولجميع المجتمعات البشرية. فلا يمكن لأي دولة بمفردها أو مجموعة دول إقليمية أن تحلَّ مشكلة هذا التهديد العالمي؛ إذ يجب بالأحرى على جميع الدول العمل معًا لحلِّها. الظرف الثاني هو الوسائل المُتاحة — التي أصبحت ممكنة بفضل التقنيات الرقمية — للتفاعل السريع والفعَّال والميسور التكلفة بين سكان جميع المجتمعات والثقافات المختلفة المنتشرة في جميع ربوع العالم. ولا ينبغي التقليل من أوجه التفاعل المحتملة بين هذين الظرفين؛ فالدليل على أن هذه العملية النهائية للاندماج آتية لا محالة يكشف عنه ظهور عناصر اجتماعية وثقافية رئيسية لأول حضارة عالمية للبشرية.
ما لبثت العادات والتقاليد المحيطة بإعداد الطعام — التي يعتبرها اختصاصيو علم الإنسان واحدة من أكثر التعبيرات عن الهوية الإثنية والثقافية تميُّزًا — تمرُّ بعملية اندماج غير مسبوقة؛ فقد انتشرت تقاليد الطهي في أوروبا والأمريكيتين والشرق الأوسط وآسيا الوسطى والشرق الأقصى بعيدًا عن ثقافاتهم الأصلية، وأصبحت مفضَّلة ورائجة في جميع أنحاء العالم.
تمرُّ الموسيقى، وهي تعبيرٌ مميز آخر عن الهُوية الإثنية والثقافية، بعملية عولمة بدأت مع الانتشار العالمي للموسيقى الكلاسيكية الأوروبية وما يتلوه الآن من انتشار لأنواعٍ موسيقيةٍ تقليدية من جميع أنحاء العالم؛ فقد هاجرت أشكال من التناغم والإيقاعات الموسيقية والأنماط المعزوفة من عدد لا يُحصى من الإثنيات بعيدًا عن ثقافاتهم الأصلية وكوَّنت جماهير عالمية عريضة. في الواقع، بدأ كلٌّ من الطعام والموسيقى في دمج تقاليد الثقافات المختلفة في أشكالٍ جديدة من «الامتزاج الغذائي» و«الامتزاج الموسيقي».
إن الاندماج الثقافي الجاري في مجالَي الطعام والفنون واضحٌ بالقدر نفسه في المجالات المادية للعلوم والتجارة والصناعة؛ فقد لاقَت العديد من العلامات التجارية الاستهلاكية، في مجالات الأطعمة والمشروبات والسيارات والمجوهرات والعطور والساعات والملابس والإلكترونيات، اعترافًا عالميًّا، وتتمتَّع الآن بالولاء الشديد من مئات ملايين العملاء في جميع أنحاء العالم. وقد أدَّى صعود الشركات المتعدِّدة الجنسيات — التي تمتلك بعضها اقتصادات يفُوق اقتصاد معظم الدول — إلى ربط الاقتصاد العالمي معًا بإحكامٍ أكثر من أي وقت مضى.
في الوقت نفسه، تتحول مؤسسات التعليم العالي في العالم شيئًا فشيئًا إلى كياناتٍ عالمية، حيث تتكون كلٌّ من هيئات التدريس والهيئات الطلابية على نحوٍ مُتزايد من أفراد من شتَّى دول العالم ومتعدِّدي الثقافات. وأخيرًا تضاعَف عدد المنظمات الدولية أضعافًا مضاعفة خلال العصر الحديث؛ فقد كان هناك في عام ١٩١٠م ما يقرب من مائتَي منظَّمة غير حكومية ذات طابع دولي. وبحلول عام ٢٠١٠م زاد هذا العدد إلى ما يقرب من ستين ألفًا. وكان نمو المنظمات الحكومية الدولية كبيرًا بالقدر نفسه.
لكن حتى مع اندماج الإنسانية في نحو مائتَي دولة قومية، فإن كل الجماعات البشرية القديمة التي تشكَّلت في التحولات السابقة — آلاف لا حصر لها من القبائل والقرى والبلدات والمدن والمناطق التي تُشكِّل نسيج المجتمع البشري — استمرَّت في الحفاظ على هوياتها المستقلة وتدبر ما يُلائمها من أساليب الحياة. وهذا وحده لا بد أن يُطمئننا أن الدول القومية في العالم ليست مهدَّدة بالاختفاء؛ فبزوغ الحضارة العالمية ليس المقصود به أن يحل محل دول العالم، وإنما يهدف إلى تيسير الشعور بالهدف المشترك فيما بينها. أخيرًا، ليست المؤسسات العالمية إلا شبكات من الناس، ومن أعجب السلوكيات البشرية السهولة التي يستطيع بها البشر التعارف في الوقت نفسه مع جماعاتٍ متعدِّدة على مستوياتٍ متعدِّدة.
وأخيرًا، أظهر التاريخ مرارًا أن لا شيء يجمع الناس مثل العدو المشترك؛ فقد كانت مواجهات مع خصمٍ مُعادٍ هي المؤدية، ولو إلى حدٍّ ما على الأقل، إلى كل حالة تقريبًا من حالات الاندماج الاجتماعي والثقافي، التي اندمجت فيها وحداتٌ اجتماعية صغيرة بنجاح في وحداتٍ أكبر. فعندما تضاءلت غابات العالم وموائله البدائية إلى جزءٍ صغير من حجمها الأصلي، وحين استنزفت موارد المحيط إلى حد كبير، وحين أصبحت حتى معجزات الزراعة العلمية غير قادرة على إطعام العدد المُتزايد من البشر، لن يكون «عدو» الحضارة الإنسانية سوى التهديدات الوجودية للغلاف الحيوي للأرض التي تُنتجها التقنيات البشرية. مع استمرار هذه التهديدات في التضاعف ستضطرُّ البشرية للاختيار بين الاستمرار في المسارات التي تؤدي في النهاية إلى النضوب والانقراض والفناء، أو التحوُّل إلى مساراتٍ جديدة تؤدِّي إلى الإصلاح والمصالحة والعلاقة المستدامة بيننا وبين الغلاف الحيوي، من خلال التعاون على نطاقٍ عالمي.
لا يجب أن نتوقع أن يتحقق هذا التحول إلى حضارةٍ عالمية بسرعة أو بسهولة؛ فلم يبدأ الشعور بتأثيرات تقنية المعلومات حتى منتصف القرن العشرين، ولم تندمج التقنيات الرقمية مع عمليات المال والتجارة والاتصالات والنقل المعاصرة الاندماج العميق حتى وقتٍ لاحق. نظرًا لأننا الآن في بداية هذا التحول الأخير لا يمكننا أن نتوقع حقًّا التغييرات التي من المقدَّر له أن يُحدِثها في حياة الإنسان والمجتمع، لكن تاريخ التحولات الماضية يشير إلى استنتاجين. أولهما: أن التحول الذي ستلحقه تقنية المعلومات بالحياة والمجتمع البشري لن يقلَّ عن التحول الناتج عن التقنيات الرئيسية في العصور السابقة. وثانيهما: أن هناك اندماجًا كبيرًا آخر للمجتمع البشري بانتظارنا.
•••
نحن الذين على قيد الحياة في القرن الحادي والعشرين نقف على قمة الإنجاز البشري، بينما نتأمل كارثةً تلوح في الأفق من صنع أيدينا، إلا أن عبقرية الإنسانية لا تشي بأي علامة على اقتراب النهاية؛ فقد أظهرنا، عبر تاريخنا الطويل، قدرةً خارقة على الارتقاء إلى مستوى التحديات التي تُواجهنا، والتغلب على العقبات التي تقف في طريقنا.
خلال كل تاريخنا الفريد والمُتميز استخدمنا نحن البشر التقنيات من أجل إحداث تحولات لأنفسنا، وفي أثناء ذلك غيَّرنا العالم. دفعتنا التحولات في حياة الإنسان والمجتمع التي أحدثتها الأسلحة والنار والملبس والمأوى والتواصل الرمزي والزراعة والحضارة المدنية والآلات الدقيقة وتقنية المعلومات إلى علاقةٍ جديدة وفريدة من نوعها مع الغلاف الحيوي الذي منحنا الحياة في الأصل. لقد أصبحنا خادِميه؛ لقد أصبح مسئوليتنا؛ نحن من يجب أن نُقرر مصيره الآن.