تقنية الحراب وعصي الحفر
ذات يوم، قُرْب الظهيرة، اعترتني دهشةٌ شديدة عندما أبصرت أثر قدم حافية لبشر على الشاطئ، كان واضحًا جدًّا بحيث يسهل تمييزه على الرمل.
في مساء أحد أيام عام ١٩٧٦، خرج عالمان للتنزه سيرًا بعد يوم من العمل في موقع حفريات عمره ٣٫٦ ملايين عام قرب القرية الأفريقية لايتولي في البلد الذي يُعرَف اليوم باسم تنزانيا. كان العالمان يتسلَّيان بإلقاء كتل من روث الفِيَلة أحدهما على الآخر، حين تعثَّر أحدهما وسقط بوجهه على طبقة من الصخور كانت وحلًا بركانيًّا في البداية منذ ملايين السنين، لكنها تجمَّدت منذ زمن بعيد لتصير نوعًا من الملاط الطبيعي. وهناك، على بُعد عدة بوصات من وجهه، كان هناك أثرٌ لا تُخطئه عين لقطرات مطر أحفورية.
عدم وجود دليل ليس دليلًا على عدم الوجود
أظهرت البقايا الأحفورية لأشباه البشر الأوائل أن عظام حوض هذه الأنواع القديمة وساقَيها كانت مُشابهة تمامًا لنظيرتها في تشريح بشر العصر الحديث، وهذا أوحى بأن كل أشباه البشر الأوائل كانوا قادرين على شكلٍ واحد على الأقل من أشكال الحركة على قدمين، لكن إلى أن اكتُشفت آثار الأقدام في لايتولي، كان ثَمة جدلٌ علمي كبير حول ما إذا كان أشباه البشر الأوائل ساروا حقًّا مُنتصبي القامة تمامًا على غِرار بشر العصر الحديث. أزكى هذا الجدلَ الانعدامُ الشِّبه التام لعظام أقدام أحفورية من اكتشافات أشباه البشر الأوائل، والحقيقة التي مفادُها أن أقدم آثار أقدام أحفورية لأشباه بشر عُثِر عليها قبل عام ١٩٧٨م كانت كلها عمرها أقل من مائة ألف عام، وهو الوقت الذي بحلوله كان الجسد البشري قد تطوَّر بالفعل ليتَّخذ شكله الحديث تمامًا.
رغم أنه قد تم التعرُّف على عدة آلاف من آثار الأقدام الأحفورية التي تعود إلى فترات زمنية تُقدَّر بملايين السنين، فإن كل آثار الأقدام هذه قد تركتها حيوانات أخرى، وليس أشباه بشر. في الواقع، العديد من أنواع الديناصورات — التي يتراوح حجمها بين كائناتٍ أضخم من الأفيال وأخرى صغيرة في حجم الفئران — قد تركت الآلاف من آثار الأقدام في سجلِّ الحفريات من فترات زمنية تتراوح بين ٧٥ مليونًا و٢٥٠ مليون سنة خلت، وقد تركت العديد من هذه الديناصورات آثار أقدام أحفورية أكثر من بقايا هياكلها نفسها.
هل كانت الأدلة التشريحية المُستقاة من الجمجمة والعمود الفقري والحوض وحدها كافية لاستنتاج أن أشباه البشر الأوائل قد ساروا حقًّا منتصبي القامة، رغم الغياب المحيِّر لأي آثار أقدام واضحة للسير على قدمَين في سجل الحفريات؟ لقد مُحيت هذه الشكوك تمامًا باكتشاف آثار أقدام في لايتولي؛ فقد أكَّدت آثار الأقدام هذه الحكمة القديمة القائلة بأن «عدم وجود دليل ليس دليلًا على عدم الوجود». بعبارة أخرى، عدم وجود دليل مادي على حدثٍ قديم ليس في حد ذاته دليلًا أن هذا الحدث لم يقع فعلًا. وهذا مرجَّح جدًّا حين يكون الدليل المعني قد أبلاه الدهر.
على غِرار ذلك كان يُعتقد في الماضي أن صناعة الأدوات وتطوير الثقافات والتقاليد مقتصران على البشر، لكن برهن عمل جودول وآخرين الآن بلا شكٍّ أن أنواعًا أخرى من الرئيسيات تُظهر أدلةً واضحة على صناعة الأدوات والثقافة؛ ومن ثَم يمكن بثقةٍ افتراض أن كلتا هاتين القدرتين وُجدتا بين أنواع ما قبل التاريخ التي كانت تعيش قبل ظهور أشباه البشر الأوائل.
أخيرًا، حتى نهاية القرن العشرين، كان مصدر جميع أقدم بقايا الأدوات الخشبية تقريبًا هو البيئات الصحراوية، وكان عمرها أقل من خمسة عشر ألف سنة (الاستثناء الوحيد كان رأس حربة واحدة عُثر عليها عام ١٩١١م في كلاكتون في إنجلترا، وذلك في رواسب تعود إلى أربعمائة ألف عام مضت تقريبًا، لكن كان هذا الاكتشاف مُثيرًا للجدل ولم يلقَ القبول التام)، إلا أنه في عام ١٩٩٧م عُثر في موقع يعود لعصور ما قبل التاريخ، في شونينجين في ألمانيا، على مجموعة من الرماح الخفيفة الخشبية الدقيقة الصنع، يعود تاريخها يقينًا إلى أربعمائة ألف سنة مضت؛ مما يُثبت أن صنع الأدوات الخشبية في عصور ما قبل التاريخ كان أقدم بكثير مما كان يُعتقد على وجه العموم.
«لوسي» وأشباه البشر الأوائل
في عام ١٩٧٤م أُخرج من الأرض هيكلٌ أحفوري شِبه كامل لأنثى أوسترالوبيثيكوس مُنتصبة القامة في أثيوبيا. هذا الاكتشاف لهيكل يعود تاريخه إلى أكثر من ثلاثة ملايين سنة حقَّق شهرةً في الحال باسم لوسي، أقدم هيكل كامل يُعثَر عليه حتى ذاك الوقت، مُنتميًا بلا لبس إلى السلالة البشرية. كانت لوسي أحد أفراد نوع أوسترالوبيثيكوس أفارينسيس، وهو أحد أوائل أنواع أشباه البشر الذين سكنوا أفريقيا في عصور ما قبل التاريخ. وقد أحدث اكتشافها ضجة؛ لأن حوضها وعظام ساقَيها ومفصلَي ركبتَيها كانت جميعها مُشابِهة كثيرًا لمثيلاتها لدينا، في دلالة على أن نوعها كان منتصب القامة تمامًا وقادرًا على التنقل الكامل باستخدام القدمين.
أشباه البشر الأوائل مثل لوسي كانوا كائناتٍ ضئيلةَ الجسم ذات بِنية قوية، تقف وتسير وتعدو منتصبة القامة في يُسْر على الأرض كما نفعل. قد تظنُّهم من بُعدٍ أشخاصًا قصيري القامة جدًّا، لكن عند الاقتراب منهم عن كثب أكثر ستُلاحظ أن رءوسهم تُشبه رءوس القِرَدة — ذات جبهات قصيرة، وأسنان كبيرة، وعظام فك بارزة — وأجسادهم مُغطَّاة بالفراء، وسواعدهم تبدو طويلة بالنسبة إلى أجسادهم، وتبدو أصابع أقدامهم طويلة بالنسبة إلى أقدامهم. بلغ طول الإناث نحو ثلاث أقدام ونصف، وبلغ وزنهنَّ ٧٥ رطلًا تقريبًا، أما الذكور فكان طولهم يزيد قليلًا على أربع أقدام، ويبلغ وزنهم نحو خمسة وتسعين رطلًا. كانوا يصنعون الأدوات والأسلحة، ويصطادون الحيوانات والطيور البرية ويقطعونها، ويعيشون في مجموعات أسرية ربما تُشبه التي لدينا.
رغم أن نوع الأوسترالوبيثيكوس مثل لوسي كان لديهم إصبع القدم الكبيرة المستوية والمتجه باطنها إلى أسفل، كما هو الحال لدى أشباه البشر الحقيقيين، فإن أكتافهم الضيقة وأصابع أياديهم وأقدامهم الطويلة المقوَّسة تُعطي دليلًا واضحًا على أنهم قضَوا جزءًا من حياتهم على الأقل على الأشجار، غير أن التحليل الكيميائي لعظامهم — وكذلك بِنية أضراسهم — يشير إلى أن غذاءهم لم يقتصر على الطعام الموجود على الأشجار، وإنما شمل الموجود على الأرض كذلك، لكن ما داموا لم يعودوا يقتاتون بشكل رئيسي على الأوراق والفاكهة والجوز الموجودة على الأشجار، فلماذا احتفظوا بالعديد من الخصائص الجوهرية لبُنيانهم المناسب لتسلُّق الأشجار؟ الإجابة الأرجح هي أن الأشجار وفَّرت أكثر الأماكن أمنًا للنوم ليلًا، حين كان أشباه البشر الأوائل عُرضة لهجوم الضواري الضخمة في بيئتهم.
كان طول لوسي نحو ثلاث أقدام وست بوصات، ووزنُها سبعين رطلًا تقريبًا، ولديها دماغٌ أكبر من دماغ الشمبانزي قليلًا، وكانت تبدو من فوق الخصر كالقرد، لكن أسفل الخصر بدت مثل البشر، ما عدا أن جسدها بأكمله كان مغطًّى بالشعر على الأرجح. وكان حوض لوسي في طريقه ليتطوَّر إلى التكوين المتين المعهود لدى بشر العصر الحديث والمتَّخذ شكل الحلقة، وهو الشكل المختلف اختلافًا واضحًا عن حوض القردة والسعادين الأكثر تفكُّكًا في تكوينه والأكثر استطالة في شكله.
كانت عظام ساقَي لوسي طويلة ومستقيمة، مثل عظام سيقاننا، بمفصل ركبة مُنعقِل؛ مما كان يمكِّنها من الوقوف لفترات طويلة دون إجهاد عضلات ساقيها، وكانت الأقدام الأحفورية التي استُخلصت من اكتشافات الأوسترالوبيثيكوس الأخرى مثل أقدامنا أيضًا، ذات قوس واضح المعالم ليُعطي قوة دفع عند السير. كانت كل أصابع قدمَي لوسي تأخذ الاتجاه نفسه — على عكس قدم القرد بإصبع قدمه الكبيرة المواجهة للأصابع الأخرى — مما يدل على أن أقدام أشباه البشر الأوائل لم تعُد مُتكيِّفة على التشبُّث بفروع الأشجار، وإنما صارت بدلًا من ذلك مثل أقدام بشر العصر الحديث متكيِّفةً للجر والتحرك للأمام أثناء السير على الأرض. بالإضافة إلى كل هذه التغييرات التشريحية المهمَّة، فقدت لوسي ونوعها تمامًا سلاح الأسنان القوي — الأنياب الطويلة الحادة — الذي لدى ذكور كل أنواع الرئيسيات الأخرى (وبدرجة أقل إناث).
خسارة السلاح البيولوجي الوحيد لدى الرئيسيات — في نوعٍ كان يقضي أغلب وقته على الأرض بين ضوارٍ خطيرة مثل الأسود والنمور والضباع والكلاب البرية — نُوحِي بأن لوسي ومعاصريها، مع عدم قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم دون الأسلحة العضوية، كانوا لينقرضوا منذ زمن طويل إلا إن كان متاحًا لهم نوعٌ آخر من الأسلحة الفتاكة، غير أنه لم يُعثَر على بقايا ذلك السلاح قط من هذه الفترة الزمنية القديمة جدًّا، وأقدم الأسلحة الحجرية التي عُثر عليها حتى الآن تعود لزمن بعد زمن لوسي بأكثر من مليون عام، فكيف لنا أن نفسِّر هذا التباين؟
مع وضع عادات قِرَدة الشمبانزي البرية الموثقة جيدًا في صنع الأدوات في الاعتبار، لم تكن على الأرجح أولى الأدوات والأسلحة مصنوعة من أحجار على الإطلاق، وإنما مركَّبة من فروع وأغصان وأوراق، وموادَّ أخرى ذات قابلية كبيرة للبِلى، والتي لم يكن أيٌّ منها ليستطيع الصمود لأكثر من بضع عشرات السنين — فضلًا عن ملايين السنين — في المناخ المداري الدافئ الرطب في أفريقيا ما قبل التاريخ. وفي هذه الحالة من المتوقَّع تمامًا غياب الأدلة.
علاوة على ذلك، كانت التغييرات التشريحية اللازمة لتطوُّر القامة المنتصبة والحركة على قدمين في المقام الأول هائلة وجذرية وثورية بحق. لا تحدث تغييرات بهذا الحجم ما لم يكن ثَمة مزايا واضحة من أجل البقاء على قيد الحياة للكائن الذي تحدث لديه، ولا بد أن ينتج عنها ارتفاع في معدَّلات البقاء على قيد الحياة حين تحدث هذه التغييرات. رغم ذلك حين تطوَّر أشباه البشر الأوائل إلى انتصاب القامة والحركة على قدمين، كان عليهم مجابَهة بعض المساوئ الواضحة جدًّا التي نجمت عن هذه التغيرات. سنستعرض أهم هذه المساوئ لاحقًا في هذا الفصل.
إعادة تصميم جسم الثدييات بصورة جذرية
ولدعم وزن الجزء العلوي من الجسد بأكمله، كان على الحوض أيضًا أن يخضع لعملية إعادة هيكلة رئيسية. وبما أن عظام الحوض الأكثر طولًا ومرونة والتي تُميِّز كل الرئيسيات الأخرى لم تكن مصمَّمة لدعم وزن الجزء العلوي من الجسد كاملًا لفترات زمنية طويلة، فقد صارت عظام الحوض أقصر وأسمك، والْتحمت معًا في تكوين واحد صلب حلقي الشكل. في الوقت نفسه صارت عظام الساقين الخلفيتين طويلة ومستقيمة، مع القدرة على الانعقال عند مفصل الركبة. أما الرئيسيات الأخرى فحين تقف على ساقيها الخلفيتَين تنحني ركبتاها. تطوُّر مفصلَي الركبتين المنعقلين مكَّن أشباه البشر الذين يتحرَّكون على ساقين من الوقوف بقامة منتصبة تمامًا لفترات زمنية طويلة دون تشكيل ضغط مُستمر على عضلات الساقين.
أخيرًا، تطلَّب الأمر تحوُّل القدمين اللتين تقبضان على الأشياء وإصبع القدم الكبيرة المواجهة لبقية الأصابع، وهو خصيصةٌ مألوفة لدى كل الرئيسيات الأخرى، تحوُّلًا كاملًا. في مرحلةٍ مبكرة جدًّا من تطور الإنسان، بدأ «إبهام» القدم فعلًا تُغادر مكانها من جانب القدم إلى المقدمة. إذا نظرت إلى إبهام القدم الخلفية لدى الشمبانزي أو الغوريلا، سترى أنها واقعة على جانب القدم مواجهةً للأصابع الأخرى، مثل الإبهام في يد البشر. وهذا ضروري للتشبث بالساقين الخلفيتين عند تسلق فروع الأشجار، لكنه غير مناسب للسير على سطح الأرض المستوي. هكذا انتقلت هذه الإبهام القابضة من مكانها الأصلي المواجه لأصابع القدم الأربعة الأخرى إلى مكان جديد حين اصطفَّت مع أصابع القدم الأخرى؛ مما يُتيح لأصابع القدم الخمسة كلها أن تكون في الاتجاه نفسه. في هذه المرحلة صارت إبهام القرد إصبع القدم الكبرى لدى الإنسان.
في الوقت نفسه استطال أخمص القدم مؤديًا في النهاية إلى تطور قوس مميز، وصارت «أصابع» القدمين الخلفيتين أقصر، متحولة في النهاية لأصابع القدم الأربعة القصيرة والصغيرة لدى نوعنا، والتي لم تعُد قادرة على التشبث بأي شيء، لكنها قادرة تمامًا على أداء وظيفتها الجديدة من سير وجري لمسافات طويلة على الأرض المنبسطة.
حين يحدث تطوُّر جذري من الرأس لأخمص القدمين في البنية الأساسية لجسدِ حيوانٍ ما بعد أن ظل يُلبي احتياجات أسلافه لعشرات ملايين السنين، لا سيَّما إن كان التطور في فترة قصيرة من الزمن الجيولوجي، يُمكننا افتراض تدخل عوامل تطور قوية، لكن ظل العلماء يحاولون الوصول إلى اتفاق بشأن ماهية عوامل التطور هذه. في الواقع، طُرح عدد من النظريات المختلفة لتفسير السبب وراء شروع أسلافنا في التطور إلى وضعية القامة المنتصبة والحركة على قدمين غير المسبوقتين تفسيرًا دقيقًا.
سأطرح في هذا الفصل رؤيتي التي مفادها أن تقنية الرماح الخشبية وعِصي الحفر — الابتكار الذي لا بد أنه قد بدأ مع قِرَدة ما قبل التاريخ التي تُمثل أسلاف أشباه البشر — هي التي أعطت مميزاتٍ هائلةً للبقاء على قيد الحياة لدرجةٍ تكفل أن تؤدي إلى التطور لوضعية انتصاب القامة بشكل كامل والحركة الفعلية على قدمين. هذا النهج في التفكير طرحه في الأصل تشارلز داروين، وقد دعَّمه منذ ذلك الوقت العديد من اختصاصيِّي علم الإنسان المعاصرين كما سنرى، لكن أولًا دعونا نستعرض النظريات المتنافسة المتنوعة، ونذكر بإيجازٍ نقاط ضعف كل منها.
فأولًا: كل الأنواع الأخرى التي تعيش على المروج — بما في ذلك الحيوانات العاشبة مثل الظباء والحُمُر الوحشية، وكذلك اللاحمة مثل الأسود والضباع — هي من ذوات الأربع دون استثناء (في الواقع، كل الثدييات التي تعيش على اليابسة ما عدا أشباه البشر هي من ذوات الأربع). وثانيًا: لم يتَّخذ وضعيةَ القامة المنتصبة أيٌّ من الرئيسيات الأخرى التي انتقلت هي الأخرى للحياة على الأرض (من بينها قِرَدة البابون والميمون والفرفت والباتاس)، لكنها بدلًا من ذلك نجحت في التكيف مع الحياة في المروج، وهي ما زالت مُحتفظة بالسير على قوائمها الأربعة.
ثالثًا: أقدَمُ دليل تشريحي على الحركة على قدمين يأتينا من بقايا حفرية لكائنٍ شبيه بالقرد يُدعى أرديبيتيكوس، الذي ظهر منذ ستة ملايين سنة تقريبًا، قبل نشأة لوسي بمليونَي عام. وفي انتكاسة كبرى للفرضية القائمة على السافانا، أُثبتَ بما لا يدع مجالًا للشك أن الأرديبيتيكوس عاش ومات في بيئة حرجية، ولم يسكن قطُّ المروج على الإطلاق.
بسبب مشكلات النظرية القائمة على السافانا، طُرحت في السنوات الأخيرة طائفة من النظريات البديلة التي كثيرًا ما كانت مُتضاربة لتفسير تطور وضعية انتصاب القامة والحركة على قدمين، ولكلٍّ من هذه النظريات داعموها ومنتقدوها من العلماء، والعديد منها يصف آليات تطور معيَّنة لعبت دون شك دورًا في تطور الحركة على قدمين، لكن لا يبدو أن أيًّا من هذه الآليات ينطوي على مزايا البقاء على قيد الحياة، التي كانت ضرورية من أجل إعادة الهيكلة الجذرية لتشريح الرئيسيات الذي اقتضته الحركة على قدمين.
إلا أن الأسود والذئاب والضباع وقردة الشمبانزي والعديد من الأنواع الأخرى التي تتعاون في الصيد لم يحدُث تراجع أو تناقص فيما لديها من أسلحة بيولوجية، كما أن الذكور من البشر قادرون تمامًا على كلٍّ من التعاون عن كثب والتنازع العنيف بعضهم مع بعض، ولم يمنع عدم وجود الأنياب الكبيرة ذكور البشر من الانخراط في صراع عنيف على امتداد التاريخ البشري بأسره، وبدلًا من استخدام أسنانهم في قتل بعضهم بعضًا يستخدمون أسلحتهم الفتَّاكة فحسب.
هكذا يظلُّ السؤال دون إجابة. كيف استطاع أي من أشباه البشر الأوائل العيش لملايين السنين في بيئة مليئة بالضواري الكبيرة والخطيرة دون أي وسيلة فعَّالة للذود عن نفسه؟
اختفاء الأنياب الكبيرة
أنياب الأرديبيتيكوس راميدوس — أقدم نوع يُعطي هيكله دليلًا على الحركة على قدمين — كانت قد تقلَّصت بدرجة كبيرة مقارنةً بأنياب أسلافه. وبحلول زمن لوسي وأشباه البشر الأوائل، كانت الأنياب الكبيرة القاتلة الشبيهة بالأسلحة التي لدى كل أنواع الرئيسيات الأخرى قد اختفت تمامًا، ولم تظهر ثانيةً لدى أشباه البشر.
علاوةً على ذلك، لدى كل من القِرَدة والسعادين قُدراتٌ فائقة على تسلُّق الأشجار تُمكنها من الارتقاء عاليًا لقِمم الأشجار، بعيدًا جدًّا عن متناول أعدائها الطبيعيين مثل القطط الكبيرة، لكن السيقان الطويلة المستقيمة وأصابع القدم المنكمشة لدى الأوسترالوبيثين وأنواع أشباه البشر الأخرى التي أعقبتها ربما أضعفت قدرتها على التسلق هربًا من الخطر؛ مما كان يجعلها أكثر عُرضةً لأعدائها الطبيعية.
لا تختفي آليات الدفاع الطبيعية لدى الأنواع إلا حين تصبح غير ضرورية لبقائها على قيد الحياة؛ فرغم أنه بإمكان الرئيسيات بالطبع إلقاء الأحجار، فإن الحجر الثقيل لدرجةٍ تكفي لإحداث ضرر حقيقي بأحد الضواري الكبيرة سيكون ثقيلًا لدرجة تجعل رميَه من مسافة بدقة كبيرة أمرًا بالغ الصعوبة. كذلك، كم حجرًا يستطيع أحد أشباه البشر رميه خلال الوقت الذي يستغرقه الأسد حتى يشنَّ هجومًا؟ تستطيع الهراوات الغليظة المصنوعة من الفروع الكبيرة أن تُهشِّم جماجم الأعداء، لكن من على مسافة قريبة فقط. وإذا اقتربت بقدر كافٍ من حيوان ضارٍ لتضربه على رأسه بهراوة، فربما يدنو منك بدرجة كافية لينهشك بمخالبه وينشب أنيابه في عنقك، إلا إن كنتَ قد أجهزت عليه بضربة واحدة. كيف استطاع إذن أشباه البشر الأوائل مباراة «طبيعة لا تأخذها رحمة ولا شفقة» دون أسنان أو مخالب لردِّ العدوان، في وقتٍ كان كل ما يمتلكونه للذود عن أنفسهم هو «أياديهم المجرَّدة»؟
لا بد أن الرماح غيَّرت لعبة الصيد والدفاع تمامًا؛ لأن الرماح الطويلة يمكن استخدامها بقوة فتَّاكة مع بقاء الصيادين في أمان بعيدًا عن متناول أسلحة فرائسهم العضوية. فإذا كانت مجموعة من الصيادين تستطيع طعن حيوان برماح يبلغ طولها عدة أقدام، فقد يموت دون أن يقترب مطلقًا بالقدر الذي يكفي لاستخدام أسلحته العضوية مع مُهاجِميه.
لعبت القدرة على حمل واستخدام رمح طويل بدرجة تكفي لمهاجَمة حيوان آخر وقتله بعيدًا عن مدى أسلحته العضوية دورًا كبيرًا في البقاء على قيد الحياة؛ فبمجرَّد أن تبنَّى أسلاف أشباه البشر تقنية الرماح أصبح لدى الأفراد الذين استطاعوا الوقوف بثبات على قوائمهم الخلفية — أثناء الوخز بالرمح بأطرافهم الأمامية ورميه — ميزةً واضحة على مُنافِسيهم. وكلَّما استطاع هؤلاء الأفراد البقاء واقفين لمدةٍ أطول، واستطاعوا السير والعَدْو لمسافاتٍ أبعد، وصارت الأسلحة التي يمكنهم حملها أضخم وأثقل؛ كانت قدرتهم على الدفاع عن أزواجهم وأبنائهم ضد الهجمات من الضواري المحتملة أكثر فاعلية، وزادت كمية اللحم التي يستطيعون العودة بها ليتقاسَموها مع أعضاء آخرين في المجموعة. لكلِّ هذه الأسباب كان دور الرماح المصنوعة في التمكين من البقاء على قيد الحياة كافيًا ليأتي بهذه التغييرات التشريحية الكبرى الضرورية ليتطوَّر حيوانٌ يمشي على أربع إلى حيوانٍ يمشي على قدمين.
رُصدت سلوكيات من النوعية التي قد تكون قد أدَّت إلى استخدام الرماح بين قردة الشمبانزي والغوريلا، من تحطيم فروع الأشجار والتلويح بها كثيرًا أثناء الاستعراض التهديدي، كما أشرنا في الفصل الأول. يمكن سن الخشب المرن للفروع النضرة بسهولة؛ وذلك بحكِّه ببروز صخري أو اللحاء الخشِن لبعض الأشجار المدارية. وقد شُوهدت قردة الشمبانزي البرية، في السنغال في غرب أفريقيا، وهي تصنع رماحًا خشبية بنزع الفروع واللِّحاء عن عود خشب مُستقيم، وتسنُّ أحد طرفَيه بأسنانها، وتستخدمه في قتل حيوانات الجلاجو، بطعنها في فجوات الأشجار وهي نائمة.
لكن إذا كان عددٌ كبير من الأنواع التي عاشت في عصور ما قبل التاريخ قد صنعت الرماح وعِصيَّ الحفر واستخدمتها لملايين السنين، فلماذا لم يُعثَر على بقايا هذه الأدوات والأسلحة الخشبية في المواقع الأثرية التي تعود إلى هذه الفترات الزمنية؟ هذه إحدى الحالات الكلاسيكية التي يكون فيها «عدم وجود الدليل ليس دليلًا على عدم الوجود»، تلك الظاهرة التي ذكرتها في المقدمة.
لفترةٍ طويلة ظلَّ أقدم ما عُثر عليه من الأدوات الأثرية التي صنعها البشر من الخشب لا يتعدى عمرها بضعة آلاف السنوات، واختلف علماء الآثار بشدة حول عمر هذه القطع، لكن لوقتٍ طويل ظلَّت وجهة النظر السائدة هي أن صنع الأسلحة الفتَّاكة من الخشب — واستخدام هذه الأسلحة في التعاون على صيد الحيوانات الكبيرة — لم يبدأ قبل ظهور الإنسان الحديث تشريحيًّا منذ ما يقرُب من ٥٠ ألف عام.
لذلك كانت صدمةً للأوساط العلمية عام ١٩٩٧م، حين استُخرج أخيرًا من أحد السبخات القديمة في شونينجين في ألمانيا عدة رماح خشبية خفيفة دقيقة الصُّنع ومُتوازِنة تمامًا عمرها نحو ٤٠٠ ألف عام، لكن بسبب الطبيعة الشديدة الحمضية لهذه السبخات وانعدام الأكسجين فيها فقد «تخلَّل» الخشب بالمعنى الحرفي للكلمة؛ مما حفظ تلك الرماح من التآكل البكتيري. كانت رماح شونينجين من صنع الإنسان المنتصب القامة، أحد البشر الناشئين، الذي استخدمها فيما يبدو لصيد الخيل البرية قبل ظهور الإنسان الحديث بزمن طويل.
صُنعت رماح شونينجين من خشب أشجار الطقسوس المُعالَج بالنار، ولم تتطلَّب صناعتها قطع أشجار كبيرة الحجم فحسب، وإنما انتزاع الجزء الأكثر مرونةً من جذع الشجرة من الخارج للكشف عن خشب القلب الأكثر صلابةً بالداخل. وكان من الضروري حينذاك أن يُقوَّى طرف الرمح في النار. وكانت هذه عملية دقيقة، ولا بد من إجرائها دون تفحُّم الخشب.
كان من الضروري أيضًا جعل الطرف الأمامي من الرمح الخفيف أسمك وأثقل من الطرف الخلفي، تمامًا مثل الرماح الحديثة التي تُصنَع الآن. ومما يلفت النظر أن مركز الجاذبية في رماح شونينجين يقع عند الثلث الأول من مقدمة الرمح بالضبط، وهي نقطة التوازن الأمثل للإلقاء به، بل ومطابقةً لنقطة التوازن في الرماح الخفيفة الحديثة المستخدمة حتى اليوم. هذا السلاح المعقَّد — الذي يُعطي دليلًا واضحًا على التخطيط المتقدم والمعرفة التقنية الدقيقة في الأعمال الخشبية — صنعه الإنسان الناشئ، الإنسان المنتصب القامة، الذي عاش قبل إنسان النياندرتال بزمن طويل، وكان دماغه أصغر من أدمغتنا بدرجة كبيرة. ولم يكن ذهن الإنسان المنتصب القامة ليتفتَّق عن المعرفة الدقيقة بالأعمال الخشبية، المشتملة على عمليات معقَّدة متعدِّدة الخطوات، فجأةً في أكمل صورها؛ فهي بالأحرى نتاج التراكم البطيء للمعرفة عبر آلاف الأجيال، التي تعود لما قبل ظهور هؤلاء البشر الناشئين إلى فجر أشباه البشر الأوائل.
لقد ثبت أن فقدان كل ثنائيات الأقدام التي عاشت في عصور ما قبل التاريخ سلاح الأسنان كان نهائيًّا؛ فلم يستعدْ أيٌّ من أشباه البشر الأوائل الأنياب الكبيرة الخطيرة التي كانت لدى أسلافهم فيما قبل التاريخ. حين تبنَّت أحد أمم قردة ما قبل التاريخ القديمة تقنية صناعة الرماح واستخدامها، صارت استراتيجية للصيد والدفاع تفوَّقت بنجاح على السلاح العضوي لدى كلٍّ من الضواري والفرائس التي عاشت في تلك البيئات السابقة على التاريخ.
وبمجرَّد أن صارت الساقان الخلفيتان قادرتين على تحمُّل مسئولية الحركة بالكامل، أصبحت الساقان الأماميتان حرَّتَين في تلبية أغراض أخرى؛ فقد أمكن استخدامهما في صنع الأدوات والأسلحة، وأمكن استخدامهما في حمل هذه الأدوات والأسلحة من مكان لآخر. كان أشباه البشر الذين يمشون على قدمين قادرِين على استخدام أياديهم وسواعدهم الحرة في نقل أحمال ثقيلة نسبيًّا — مثل غنائم الصيد أو كمية من الفاكهة الناضجة — من مكان لآخر؛ مما مكَّنهم من جلب الطعام الذي أصابوه في أماكن بعيدة عند العودة إلى مقرِّ الجماعة، كما افترضت فرضية المدد. وكانت التقنية الأساسية نفسها — في شكل عصا حفر — تُستخدم أيضًا في جمع الطعام المدفون في الأرض. في مجتمعات الصيد وجمع الثمار، كانت النساء يستخدمن مثل تلك العصي بصفةٍ دورية في الحفر للوصول إلى الجذور والأبصال والدرنات وأعشاش النمل الأبيض وجحور الحيوانات الصغيرة، وكذلك لإسقاط الجوز والفاكهة من أطراف فروع الأشجار التي كانت نحيلة لدرجةٍ يُستعصي معها تسلقها.
أخيرًا، يبدو أن تقنية الرماح وعِصيَّ الحفر لم تبعث على تطور المشي على قدمين فحسب، وإنما كانت مسئولة في النهاية عن تطوُّر البشرية نفسها. رغم ما قد يبدو عليه هذا الزعم من غرابة، فمن المحتمل جدًّا أن تكون الهيئة البدنية النادرة والمحبَّبة جدًّا والمحتفَى بها كثيرًا للجسم البشري ترجع في أصلها لمجموعة من القردة القديمة — التي ضاعت منذ زمن بعيد في غياهب ما قبل التاريخ — والتي كانت أول مَن أتقن استخدام الإمكانيات الاستثنائية للعصي الطويلة الحادَّة في الهجوم والدفاع وجمع الغذاء.
لكن التحول إلى القامة المنتصبة والحركة على قدمين قد فرض بعض القيود المهمَّة على قدرة إناث بشر ما قبل التاريخ على صيد الحيوانات الكبيرة. ربما كانت هذه القيود ذاتها هي التي نتج عنها ظهور تقسيم فريد للعمل قائم على النوع الجنسي بين البشر، وهو تقسيم العمل الذي لا تجد له وجودًا في أي أنواع أخرى من الحيوانات.
الصيد وأعباء الأمومة لدى إناث أشباه البشر
بمجرَّد أن تبنَّى أشباه البشر الأوائل التقنية التي شملت أدوات وأسلحة مصنوعة من الخشب، بدءوا يستخدمون أسلحتهم الفتَّاكة في صيد حيوانات أخرى وقتلها من أجل لحومها، وبقيامهم بهذا ابتكروا تكيفًا بشريًّا بيئيًّا فريدًا — أسلوب حياة عُرِف بالصيد وجمع الثمار — مارسه كلُّ عضو في النسل البشري حتى بدأ البشر تبنِّي تقنية الزراعة منذ اثني عشر ألف عام تقريبًا، لكن على عكس إناث كل الأنواع الضارية الأخرى تعارضَت مُتطلبات الصيد مع أعباء الأمومة الثقيلة بين أشباه البشر.
في كل الأنواع الضارية الأخرى تُشارك الإناث الذكور على قدم المُساواة في كل جوانب الصيد، وفي بعض الأنواع — منها على وجه الخصوص تلك اللاحمات الشهيرة، الأسود الأفريقية — تتفوَّق الإناث على الذكور في نوعية فرائسها وكميتها؛ فتستطيع اللبؤات فعل ذلك لأن صغارها تكون مخبوءة بأمان في أعشاش وجحور، حيث لا تتدخل في الصيد أو تتعرَّض للإصابة في موقع هجوم قاتل. وينطبق الأمر نفسه على كل إناث الضواري الأخرى، مثل الفهود والنمور والذئاب والدببة والثعالب وابن عرس والحيتان القاتلة وخنازير البحر والفقمات والنسور والصقور والبوم والأبواز، وغيرها.
أما إناث أشباه البشر فيتعيَّن عليهنَّ أن يُراقبن صغارهن عن كثب دائمًا، وليس من المنطقي أن يستخدمن عِصيًّا حادَّة كأسلحة أثناء حمل أطفالهن بين أذرعهن؛ بناءً على ذلك كانت إناث أشباه البشر يستخدمن أدواتهنَّ الطويلة الحادة كعصيِّ حفر ليُخرِجن من الأرض الجذور والدرنات القابلة للأكل التي يستعصي على القردة والسعادين بدرجةٍ كبيرةٍ الوصولُ إليها، بل من المحتمل أن تكون الإناث هنَّ من اخترع تلك العصيَّ الحادة في الأصل لجمع الغذاء الموجود تحت الأرض، ولم يتبنَّها الذكور للصيد إلا لاحقًا. في كلتا الحالتين سمحت هذه التقنية البدائية لكلا الجنسين بتوسيع نطاق الغذاء المتاح لهم بدرجة كبيرة. ومع رسوخ هذه التغييرات تبنَّى أشباه البشر نوعًا آخر غير مألوف مطلقًا من سلوكيات الحصول على الغذاء: كان كلٌّ من الذكور والإناث يُحضِرون شتَّى أنواع الطعام إلى مقرِّهم المشترك في نهاية اليوم، حيث تتقاسَم الإناث ثمرات مجهودها ويتقاسَم الذكور غنائم صيدهم.
«أشباه البشر هم النوع الحيواني الوحيد الذي يصطاد فيه الذكور وتبحث فيه الإناث عن الغذاء، وكلا الجنسين يتقاسمان مختلف أنواع الغذاء التي يحصلون عليها.» علاوة على ذلك، يرتبط هذا النمط الفريد من اقتسام الطعام بين الجنسين ارتباطًا وثيقًا بتوفر العلاقات الجنسية المفتوحة بصفةٍ شِبه مستمرة لدى أشباه البشر. حتى نفهم كيف تطوَّر هذا النمط غير المألوف للغاية، من الأهمية أن نُدرك الأعباء الجسيمة للأمومة المرتبطة بتوالد أشباه البشر؛ فهذه ليست أشق أعباء للأمومة بين كل أنواع الرئيسيات فحسب، لكنها أيضًا الأثقل بين أعباء الأمومة لدى كل إناث الثدييات.
حين تلمِس بإصبعك كفَّ طفل مولود حديثًا، سيقبض على إصبعك بقوة مُدهِشة. مُنعكِس القبض هذا، الذي يختفي في الأسابيع الأولى من العمر، هو بقايا غريزة قوية ورثْناها من أسلافنا من الرئيسيات؛ فقد كان الغرض الرئيسي منه هو ضمان أن يظلَّ كلُّ وليد من الرئيسيات متعلقًا بفراء أمه بإصرار دائم، بما أن الاتصال الجسدي المُستمر بأمه هو الملجأ الوحيد للأمان وشيء مُهم لبقائه على قيد الحياة. هكذا يتعلَّق وليد الرئيسيات بجسد أمه بأطرافه الأربعة خلال الأسابيع الأولى من حياته، مُعلَّقًا بخاصرتها بالمقلوب مثل حيوان الكسلان وهو يتدلى من غصون الأشجار. وحتى بعد انتهاء مرحلة الطفولة، يظل طفل الرئيسيات شهورًا يمتطي ظهر أمه أو كتفَيها — أو سنوات حتى في بعض الحالات — قبل أن يتعلَّم أخيرًا أن يتحرَّك وحده في أمان.
رابطة الأمومة تكون في أقوى حالاتها لدى الرئيسيات لأنها مقدَّر لها أن تعيش على الأشجار، حيث يتعرَّض أطفالها على الدوام لخطر السقوط فتَلقى حتفها؛ لذا لا بد أن تكون أمهات الرئيسيات من لحظة الميلاد على اتصالٍ بدَني وثيق بصغارهن أينما ذهبن. وفي هذا تناقُض صارخٌ مع أغلب الثدييات التي تعيش على الأرض، التي إما تُخفي صغارها في جُحور (مثل الأرانب والثعالب)، وإما تستطيع السير منذ يوم ولادتها (مثل الخيل والأفيال). مُنعكس القبض لدى رضيع الرئيسيات يُتيح لأنثى السعدان أو القرد استخدام الأطراف الأربعة كلها في الحركة وجمع الطعام؛ إذ لا تُضطرُّ لحمل رضيعها لأنه يتشبَّث بها بنفسه. هكذا تستطيع التسلق والقفز وقطف الثمرات والفرار من أعدائها والتأرجح من فروع الأشجار، مستخدمةً أطرافها الأربعة القوية كلها، شاعرةً بالطمأنينة لمعرفة أن طفلها متعلقٌ بها مثل البرنقيل ولن يتركها أبدًا.
هكذا يعيش طفل الرئيسيات في اتصالٍ جسدي حميم مع أمه طوال الشهور أو السنوات الأولى من حياته، والرابط الناشئ بين الأم والطفل في الرئيسيات نتيجة لهذا الاتصال الجسدي المستمر ليس قويًّا فحسب، وإنما تنفرد به الرئيسيات أيضًا. العلماء الذين يدرُسون سلوك القردة والسعادين في الحياة البرية لاحَظوا العديد من العلاقات الممتدة طوال العمر بين الأمهات والأبناء — خاصةً بين أقرب أقربائنا، قِرَدة الشمبانزي — ومثل هذه العلاقات نادرة أو معدومة في الأنواع الحيوانية الأخرى.
أما أطفال أشباه البشر الأوائل فلم يكونوا قادرين على التعلُّق بفراء أمهاتهم بالطريقة نفسها؛ فقد كانت إصبع القدم الكبيرة المواجهة للأصابع الأخرى قد دارت لأسفل من أجل حركةٍ أكثر كفاءة على القدمين، ولم تعُد أقدام رُضَّع أشباه البشر الأوائل قادرة على التشبث بفراء أمهاتهم؛ فبعد أن أصبح لرُضَّع أشباه البشر الأوائل يدان فقط للتشبث بدلًا من أربع زادت عدم قدرتهم على التشبث بأمهاتهم، واحتاجوا بدلًا من ذلك إلى دعمٍ دائم من ذراعَي أمهاتهم.
كذلك زادت القامة المنتصبة كثيرًا من أعباء الحمل؛ فالحمل لدى الحيوانات ذوات الأربع يزيد الوزن، لكنه لا يُغيِّر مركز الجاذبية في جسد الأم، لكن في حالة أشباه البشر المنتصبي القامة يُبدِّل الحمل مركز جاذبية الجسم للأمام، مُتطلبًا من الأم الميل للخلف أكثر فأكثر مع تطور الحمل لتعويض ذلك.
يندُر الصيد بالافتراس نسبيًّا بين السعادين والقِرَدة، لكنه يحدث بين قردة الشمبانزي والبابون، حيث تقوم به عادةً مجموعات من الذكور المتعاونين. تُفيد كل هذه العوامل بأن الصيد بالافتراس كان يُمارسه بين أشباه البشر الأوائل في أغلب الأحيان الذكور البالغون، في حين كانت الإناث البالغات يُمارسن الاستراتيجية الأكثر تقليدية لدى الرئيسيات بجمع الفاكهة والتوت والدرنات والبذور والبَيض والحشرات، إلا أن إناث أشباه البشر وأبناءهن كانوا يحتاجون نظام اللاحمات الغذائي الغني بالبروتين كيفما احتاجه الذكور الصيادون أنفسهم. وهذا يعني أن إناث أشباه البشر اللائي كن يتوصَّلن لغنائم الصيد كن حتمًا يحصلن على تغذية أفضل — وكان احتمال بقاء أبنائهن على قيد الحياة أكبر — من الإناث اللائي لا يُتاح لهن تلك الغنائم.
ورغم أن السعادين والقردة لا يتقاسمون الطعام عادةً — ولا حتى مع أبنائهم — فهم يدأبون على تقاسُم الطعام مع رفاقهم الجنسيين. هكذا، حتى يستفيد كلا جنسَي أشباه البشر لأقصى درجة من هذا التقسيم غير المألوف للعمل، تطوَّر نمط من السلوك الجنسي غير الموجود في أي مكان آخر في مملكة الحيوان. أبرز جانب من جوانب هذا التكيف الجنسي الفريد هو أن أكثر الممارسات الجنسية — بما فيها الجماع — تقع حين لا تكون الأنثى في مرحلة التبويض ولا يوجد احتمال لحدوث حمل.
مع وضع هذه الحقيقة البسيطة في الاعتبار يبدو من الواضح إلى حدٍّ بعيد أن الجزء الأكبر من السلوك الجنسي البشري يُحقق غرضًا آخر غير التكاثر. ورغم أننا ليس في مقدرتنا ملاحظة السلوك الجنسي لأشباه بشر ما قبل التاريخ، فمن المحتمل أن يكون أوائل أشباه البشر أنفسهم قد توصَّلوا للسلوك الجنسي شِبه المتصل الذي يتميَّز به بشر العصر الحديث كطريقة للحفاظ على علاقات قوية — بما في ذلك اقتسام الطعام — بين الذكور والإناث.
دورة شبقية شبه دائمة: أشباه البشر يُحدثون ثورةً في العلاقة الجنسية
تميل أغلب الرئيسيات للأنانية الشديدة حيال الطعام؛ فهي عادةً ما تتناوله في عُزلة، وكثيرًا ما تتجاهل الآخرين بلا اكتراث، وحتى أبنائها الذين قد يستجْدون ويتوسَّلون من أجل لقمة واحدة. بيد أن ثَمة استثناءً جديرًا بالملاحظة يقع حين تمرُّ الأنثى بدورتها الشبقية وتُكوِّن نوعًا من العلاقة الجنسية تُسمى الثنائي المتصاحب مع ذكرٍ بالغ. ينفصل الثنائي المتصاحب المُتآلف حديثًا عن المجموعة ويقضيان أغلب وقتهما معًا؛ يتجامعان، ويُنظف كلٌّ منهما الآخر، ويتقاسمان الطعام، لكن حين تنتهي الدورة الشبقية تفقد الأنثى رغبتها في الجنس، ويفقد الذكر رغبته في الأنثى، وينفصل الثنائي المتصاحب ليمضي كل فرد في حال سبيله. ولا يحدث النشاط الجنسي أو الاقتران للتعاشر أو تقاسم الطعام مرةً أخرى حتى يُولد الطفل الجديد، ويتجاوز فترة الرضاعة، ويصير عمره مناسبًا لفطامه.
هذه مشكلةٌ غير موجودة لدى السعادين والقِرَدة التي لا يُزوَّد نظام غذائها النباتي بدرجة كبيرة باللَّحم إلا أحيانًا، والتي يُتيح صغارها المُتشبِّثون بقوة حرية تكاد تكون كاملة في الحركة لأمهاتهم، لكن بما أن إناث أشباه البشر البالغات لم يكن لهنَّ الحرية للصيد بوجهٍ عام، فقد حُلَّت هذه المشكلة حين خمدت المظاهر الخارجية للدورة الشبقية، وحل محلها استعدادٌ مُمتد للجماع. وبدلًا من الدورات الشبقية التي تُحفِّزها الهرمونات وما تنطوي عليه من علاقات عابرة، نشأ شيء جديد: شهية أعم للجنس امتدَّت مُتعديةً الحدود القديمة للتبويض والخصوبة لتستمر لأطول فترة مُمكنة من الشهر، وامتدَّت حتى أثناء الحمل والرضاع.
ورغم أن دورة الخصوبة لدى البشر ما زالت تحمل سمات التوقيت الشهري المعهودة في الرئيسيات، فإن إناث البشر وحدهنَّ بين إناث الثدييات ليس لديهنَّ فترات محدَّدة من الاستعداد الجنسي؛ فإناث البشر لا تأتيهنَّ دورات من الرغبة الجنسية الخارجة عن السيطرة التي تُثيرها الهرمونات، ولا يبدو عليهنَّ التضخُّم الهائل في الأعضاء التناسلية الذي يتزامن مع التبويض لدى الأنواع غير البشرية من الرئيسيات. لإناث البشر حرية أن يُثاروا جنسيًّا خلال أي جزء تقريبًا من الدورة الإنجابية، ويُشاركن في علاقة جنسية ليس فقط حين تقل خصوبتهن، لكن أيضًا أثناء الحمل والرضاع وبعد انقطاع الطمث. ومع هذه الزيادة الهائلة في استعداد الإناث للنشاط الجنسي، تغيَّر كذلك نمط السلوك الجنسي لذكور أشباه البشر تغيرًا تطوريًّا كبيرًا.
فقد نشأ لدى ذكور أشباه البشر نمط من السلوك الجنسي يبدو أيضًا فريدًا بين الرئيسيات التي تعيش في مجموعات؛ فيرتبط الذكر البالغ العادي من أشباه البشر بقرينةٍ واحدة لديها استعداد للنشاط الجنسي أغلب الوقت، وهو النسق الجنسي الذي نُسميه العلاقة الأحادية. ولاستيعاب الزيادة الكبرى في السلوك الجنسي للأنثى، ازدادت لدى ذكر أشباه البشر النموذجي مدة الجماع زيادةً هائلة؛ فعلى عكس القردة والسعادين التي تجامع لبضع ثوانٍ فقط في المرة الواحدة، أغلب الذكور من البشر يُجامِعون لعدة دقائق قبل أن تنتابهم نشوة الجماع. في الواقع، تطول العلاقة الجنسية النموذجية بين البشر عنها بين الرئيسيات الأخرى بنحو خمسين مرة.
أخيرًا، رغم أن النمط المعهود بين السعادين والقردة أن يتمتَّع أكثر الذكور سطوة باحتكار للعلاقات الجنسية مع الإناث، يتمتع الذكور المُسيطِرون من البشر بحظوة جنسية، لكنها بالكاد تُعدُّ احتكارًا، حيث إن الإناث الناشطات جنسيًّا لسن نادرات في المجموعات البشرية كما بين السعادين والقِرَدة، فحتى حين لا يكون الذكور أكثر أفراد جماعتهم هيمنة، يظل لديهم شركاء جنسيون مُنتظمون، ويستمتعون بحياة جنسية نشطة.
روابط الجنس والأمومة: أسس الأسرة البشرية
ولما كانت الأنثى في فصيلة أشباه البشر هي لب روابط الأمومة والجنس، فقد صارت المرساة العاطفية للمؤسسة الاجتماعية التي لم يسبق لها وجود قط بين الرئيسيات التي تعيش في مجموعات: الأسرة المصغرة الدائمة من أم وأب وابن. في هذه الحالة الفريدة من التكيف تعيش الأنثى في جوٍّ من الألفة مع ذكر واحد ونسلهما لسنوات، مرتبطين في لبنة بناء أساسية للمجتمع مع البقاء في اندماجٍ تام داخل المجتمع الأكبر للجماعة الرحَّالة.
كذلك خلق نمط العلاقات الأحادية لدى أشباه البشر دورًا جديدًا في مجتمع الرئيسيات: دور الأب، المُرتبط بأنثى واحدة وذريتها. على هذا النحو صارت الأسرة البشرية طريقةً فعَّالة لتوزيع موارد وتوجيه طاقات هذا النوع الذي يعيش على الصيد وجمع الثمار. وحيث إن المباشرة الجنسية لم تعُد من الموارد النادرة، فقد حدَّ هذا النظام من النزاع والمنافسة بين الذكور، مُتيحًا لهم تكوين تحالفات مستقرة ومتعاونة مع الذكور الآخرين؛ مما زاد من بأسهم وفعاليتهم صيادين كانوا أو مُحاربين.
في مرحلةٍ ما في تاريخ التطور البشري وقع تغييرٌ آخر غريب جدًّا وفريد تمامًا في التشريح والبيولوجيا العصبية للجنس؛ فقد صار ثدي الأنثى مرتبطًا بالمشاعر والسلوك الجنسي ارتباطًا لا يبدو أنه موجود بين أنواع الثدييات الأخرى؛ فحلماتُ الأنثى من البشر متَّصلة عصبيًّا كمناطق إثارة للشهوة الجنسية، وقد ذكرت النساء حول العالم أن حتى رضاعة الطفل من الثدي من الممكن أن يثير بسهولةٍ مشاعر شهوة جنسية.
بالإضافة إلى هذا يُعَد لمس الثديين ومداعبتهما وتقبيلهما عنصرًا مهمًّا في المداعَبة التي تسبق الجماع لدى البشر. ورغم أننا قد نرى هذه الحقائق بديهية، فمن المُهم أن نذكُر أن الغدد اللبنية، ووظيفتها الرئيسية هي تغذية الطفل الوليد، لا تلعب مثل هذا الدور في السلوك الجنسي للأسود أو النمور أو الكلاب أو الأغنام أو الماعز أو الماشية، أو بالأحرى في السلوك الجنسي لأي رئيسيات أخرى.
من الملاحَظ أن الثديَين في كل الثدييات الأخرى لا يرتفعان ويتضخمان إلا في المراحل المتقدمة من الحمل؛ مما يعكس وظيفتهما الأساسية في توفير اللبن للطفل الوليد، لكن في البشر ينتفخ الثديان ويتضخَّمان عند البلوغ، عادةً قبل أن تصير الأنثى من البشر قادرة على الحمل في طفل. وليست مصادَفةً أن يتزامن تضخم الثديين بالتحديد مع مرحلة من دورة حياة الأنثى حين تقترب من النُّضج الجنسي. لا يلعب ثديا الأنثى هذا الدور المزدوج بصفته مصدرًا لتغذية الأبناء ومصدرًا للجذب الجنسي للجنس الآخر إلا في نوعنا فقط. ما الغرض من هذا الدور المُزدوَج الغريب، ولماذا لم ينشأ إلا في البشر؟ للأسف أشهر نظريتين تُقدِّمان شرحًا لهذه الظاهرة الغريبة تعتريهما نقاط ضعف شديدة.
لقد افتُرض أن الثديَين المرتفعين في الحيوان المنتصب القامة يُحاكيان الأرداف لدى أسلافنا ذوي الأربع؛ ومن ثَم تطوَّرا ليحلَّا محل الأرداف كعلامة جنسية. لكن رغم صحة أن الأرداف لها جاذبية جنسية مُعيَّنة، فإن الوقوف بقامة منتصبة لا يكاد يخفيها أو ينزع عنها صفتها كمُثيرات للرغبة.
ترى نظريةٌ أخرى أن أعضاء الأنثى الجنسية صارت من الأساس مخفية مع تطور الوضع المنتصب، فتولَّى الثديان دور العلامة الجنسية الذي كانت تلعبه الأعضاء الجنسية المنتفخة خلال الدورات الشبقية في السعادين والقردة ذوات الأربع. لكن لما كان ثديا الأنثى منتفخين دائمًا، فلا يُمكن أن يقوما بوظيفة علامات مرئية لحدوث تبويض وإمكانية الحمل. وإناث البشر في كل المجتمعات تقريبًا يبذلن جهدًا كبيرًا لإخفاء أعضائهن الجنسية عن نظر الرجال. وعدم ظهور أعضاء الأنثى الجنسية بشكل واضح بالكاد يُقلِّل من إثارتها للذكر البالغ عادةً.
ثَمة تفسيرٌ أكثر بساطة؛ وهو أن ثديَي الأنثى تطوَّرا ليصيرا أعضاءً ذات أهمية جنسية نتيجة تغيُّرَين مهمَّين طرآ على سلوك أشباه البشر. الأول هو اختفاء الدورات الشبقية وحلول الاستعداد الجنسي المستمر محله لدى الإناث. هكذا صار التضخم الدائم للثديين عند البلوغ علامةً بصرية للاستعداد الجنسي المستمر للمرأة. ووقع التغير الثاني، على امتداد تطوُّر أشباه البشر، حين صارت علاقة ذكر الرئيسيات بأمه — علاقة رعاية أبدية الحب والحماية — مرتبطة على مستوًى عصبي عميق، بعلاقة ذكر أشباه البشر بزوجته.
من المعهود لدى القردة والسعادين الذكور إبداء درجة من الحب والحماية نحو أمهاتهم نادرًا ما يُبدونها تجاه رفيقاتهم في الجماع؛ لذا قد تكون أثداء الإناث البالغات الدائمة الارتفاع قد تطوَّرت كاستراتيجية لإعادة توجيه مشاعر حب الأم لدى الذكور البالغين إلى مشاعر اهتمام برفيقاتهم في الجماع. على أقل تقدير، كانت هذه المشاعر ستُترجَم إلى فُرَص أكثر لاقتسام الطعام بين الأزواج، وكذلك حماية أكثرَ يقظة من تهديدات الضواري وأشباه البشر الآخرين. وهذا كان من شأنه أن يزيد أعمار ونجاح تناسُل أولئك الإناث من البشر اللائي صارت أثداؤهنَّ دائمة الارتفاع منذ البلوغ.
منذ أكثر من ٣٥ ألف سنة، كانت شعوب ما قبل التاريخ تنحت «تماثيل مصغَّرة لجسد المرأة» من الحجر والعاج، مزوَّدة بأثداء وأرداف وفروج هائلة. وهذه التماثيل المصغَّرة تُعَد من بين أقدم التجسيدات الباقية للشكل البشري، وسوف نتناولها بالتفصيل في الفصل الخامس. من الواضح أن الدلالة الجنسية لثدي الأنثى ظاهرةٌ قديمة في التاريخ البشري، لكن تظلُّ نشأة ثدي الأنثى الناهد دائمًا في نوعنا لغزًا قد ينجح علم الأعصاب وعلم نفس التطوُّر في حله في النهاية، لكن أيًّا كان أصله فوظيفته كرابط بين مشاعر الأمومة والمشاعر الجنسية لا يُمكن تجاهلها. وهذا الرابط واحد من العناصر العديدة في الشبكة الفريدة للعلاقات التي تربط كل البشر معًا في المجموعات الشائعة الدائمة التي نُسمِّيها أُسرًا.
الشبكة الخاصة من المشاعر والعلاقات التي تنمو طبيعيًّا بين الذكور والإناث، والآباء والأطفال، والأشقاء الذين يعيشون معًا لسنوات ويصيرون مُرتبطين طيلة العمر، إنما هي ابتكار مُنفرد لأشباه البشر؛ فالأسرة لدى أشباه البشر أكثر من استراتيجية للبقاء على قيد الحياة؛ إنها حجر أساس المجتمع البشري.
خلقت نشأة الأسرة البشرية شبكة من العلاقات الشخصية الراسخة التي تربط الأسر المصغَّرة معًا بالأسر الأكبر الممتدة. مع تطوُّر أشباه البشر الأوائل إلى الإنسان الحديث، نتج عن أنظمة الأسر المُمتدة هذه أنظمة قرابة معقَّدة، وقواعد للزواج والنسب والميراث، وانتقال الثروة والنفوذ بالوراثة من جيل للجيل التالي. العشائر القبَلية والسلالات الملكية التي أعطت هيئة واستقرارًا لمجتمعات الصيد وجمع الثمار والمجتمعات المتحضِّرة على السواء طوال الجزء الأكبر من التاريخ البشري لم تكن لتُوجَد لولا الروابط العاطفية العميقة التي تكوَّنت في بوتقة الأسرة.
•••
حين بدأ أسلاف أشباه البشر صنعَ الرماح وعِصيَّ الحفر وحملها واستخدامها في حياتهم اليومية، بدءوا سلسلة من الأحداث تُوِّجت بتطوُّر حيوان له شكل جسدي جديد جذريًّا، تكيفًا مع البيئة التي تطلَّبت تعاونًا غير مسبوق بين الذكور والإناث، وامتداد السلوك الجنسي بدرجة هائلة، وظهور روابط أُسرية كانت بمنزلة لَبِنات بناء لمجتمعاتٍ أكبر وأكثر تطورًا للإنسان الحديث.
أدَّت تقنية الرماح وعِصي الحفر إلى حدوث نقلة لدى البشرية؛ لأن الأدوات والأسلحة المصنَّعة كانت تفوق نظيراتها البيولوجية. وقد أتاح تفوُّق ما هو تقني على ما هو بيولوجي لأشباه البشر بدء رحلتهم التطورية الممتدَّة صَوْب الهيمنة على كل أشكال الحياة الأخرى. وكما سنرى في الفصل التالي، زادت سطوة السلالة البشرية مرةً أخرى لدرجةٍ هائلة خلال التحول الرئيسي الثاني، حين أتقنت مجموعةٌ مميَّزة جدًّا من أشباه البشر تقنية النار، وأطلقت استراتيجيةً أخرى غيَّرت مجرى التاريخ في الصراع من أجل البقاء.