مدخل

الحاضر يتخلَّق

يتحدث هذا الكتاب عن أثر الصين — مستقبلًا — في الميزان الكوكبي للثروة والقوة خلال القرن الحادي والعشرين. ونحن معنيون هنا، بوجه خاص، بكيفية التفاعل بين الولايات المتحدة والصين، ليس فقط خلال الأعوام القليلة المقبلة، بل وعلى مدى العقود الطويلة التالية، مثلما نحن معنيون أيضًا بدلالات هذه التفاعلات بالنسبة للاقتصاد والأعمال والنظام العالمي.

وفي تقديرنا أن الصين مهيَّأة، إذا ما سارت الأمور رخاءً كما هي الآن، لكي تصبح حوالَي العَقْد الثالث من القرن الواحد والعشرين أكبرَ اقتصاد قومي في العالم. والملاحظ أنه على الرغم من النكسات التي اقترنت بالأزمة المالية الآسيوية الراهنة، وحالة الاضطراب السائدة الآن في الأسواق العالمية، وتباطؤ نمو الناتج الاقتصادي والاستثمار الأجنبي في الصين، إلا أننا نؤمن بأن الصين سوف تعود إلى الظهور ثانيةً، اقتصادًا نابضًا بالحياة في مستهل القرن الواحد والعشرين، وسوف تكشف أكثر فأكثر عن نفسها كقوة عظمى في كل المجالات: الاقتصاد والسياسة والقوة العسكرية، وفي الثقافة والتكنولوجيا.

بَيْد أن الصين، مع ذلك، ستكون مختلفةً عن أي قوة عظمى عرفها العالم؛ ذلك أن النظام الاقتصادي السياسي، الذي تعمل على تطويره — وهو هجين فريد يضم آثارًا كثيرةً تجمع بين عناصر من الاشتراكية والرأسمالية على السواء — سوف يكون مختلفًا أيضًا عن أي نظام يعرفه العالم اليوم.

وتتباين كثيرًا المحاذير التي تواجه مشروعات الأعمال الأمريكية؛ ذلك أن السوق الصينية يمكن أن تمثل لعالم الصناعة النهم الذي لا يشبع أبدًا، ما كان يعنيه العالم الجديد بالنسبة إلى أوروبا منذ بضعة قرون مضت: أرضًا جديدة شاسعة تتميز بقدرات نمو دينامية وفرص واسعة وربح وفير. ويمكن كذلك أن تصبح نقطة ارتكاز المنافسة العالمية؛ حيث تتنافس الشركات من أجل حصتها في السوق، والسيطرة على القوى الدافعة بمنحنيات التكاليف إلى الهبوط، وبفوائد الاستهلاك إلى الصعود. ولعل المشاركة مع توافر قدرٍ من الريادة في السوق الصينية قد تكون شرطًا تفترضه جميع الشركات، لكي تصبح شركة كوكبية حقًّا، موحدة ومتداخلة في شبكة واحدة.

ولقد بدا واضحًا — منذ قرابة عقدَين — أن تدفُّقات التجارة ورأس المال وما ينجم عنهما من قوةٍ وثروةٍ أخذت في الانتقال من العالم القديم المتمركز حول الأطلسي، إلى عالمٍ آخذٍ في التزايد باستمرارٍ حول الباسيفيكي. والشيء الذي أصبح أكثر وضوحًا، منذ عهد قريب جدًّا، أن الصين تحتل مكان القلب من هذا التحول الآسيوي. وطبعيٌّ أن الولايات المتحدة ومشروعات الأعمال الأمريكية تتمتعان بمركز قوي، وأحيانًا تمثلان قُوًى مهيمنة في النظام الجديد المتأثر بالوضع في الباسيفيك. وتعيش الصين حالةً من التغيرات المثيرة، ويتوقَّع الأمريكيون أن يجنوا فائدةً هائلةً من هذه التغيرات، إذا فهمناها وعرفنا كيف نتلاءم معها على النحو الصحيح.

والشيء الحتمي أن الشركات المختلفة ستكون لها تقديراتٌ مختلفةٌ لطبيعة الفرص والمخاطر، خاصةً أن بلدان شرق آسيا الآن تحاول التصدي لمعالجة هزاتٍ اقتصادية مستمرة ومثيرة للمشكلات، هي إرث أكثر من عشر سنوات من الزيادة الكبيرة في النمو والبناء والاستثمار (وغالبًا ما كان هذا في القطاعات الخاطئة)، وكذلك الزيادة الكبيرة في رفع رءوس أموال الشركات بالنسبة إلى رءوس أموالها الكلية.

ولم تكن الصين، كما هو واضح، محصنةً ضد العدوى بالمرض الآسيوي، ذلك أن زلزال الديون المعروفة، والعملات المنهارة، والبنوك المفلسة، وانهيار أسعار الأسهم تلاحقت أصداؤه في ماليزيا وتايلاند وهونج كونج وكوريا الجنوبية، وبدأ يمسك بخناق الاقتصاد الياباني، الذي كان الاقتصاد الأقوى على مدى سنواتٍ طويلة. وأحدث هذا كله ضغوطًا كبيرة لا تُحتمل على الهيكل الاقتصادي الصيني الناشئ حديثًا: وليس بالإمكان الآن حساب الآثار المترتبة على هذا الزلزال بالكامل، سواء بالنسبة للصين التي لم تكن حتى ساعة كتابة هذه السطور قد لفتها عاصفة الأزمة الآسيوية بالكامل، وبالنسبة للبلدان الآسيوية الأخرى التي لا تزال تتفجَّر فيها مشكلات هائلة، ولكن من الجلي أن الكثيرين من رجال استراتيجيات المال والأعمال الأمريكيين باتوا يقضون وقتًا طويلًا للتفكير مليًّا في حماية أنفسهم من أخطاء الكساد الآسيوي، وأزمات المصارف وآثارها في الأرباح وقيمة الأسهم. والملاحظ أن هذه الأخطار تشغل تفكيرهم أكثر من التفكير في استكشاف مجالات استثمارٍ أو فرص جديدة في المنطقة، ولكن لا تزال ثمة أسباب كثيرة تدعو إلى القلق، نذكر من بينها عمليات المنافسة في خفض قيمة العملات الآسيوية، الأمر الذي من شأنه أن يفضي إلى حالة انكماش كوكبي — على طريقة اختر السم الذي تريده — أو فقط عجز قياسي غير مسبوق في التجارة الأمريكية.

ومع امتداد أزمة آسيا إلى أوروبا وبلدان أمريكا اللاتينية، بل وإلى وول ستريت ومين ستريت والولايات المتحدة، فإن الصين بذلت جهدًا مضنيًا لا يكلُّ في سبيل البقاء على الطريق في اتجاه النمو وتحديث اقتصادها. وتتابعت الأحداث، فظهرت اليابان عاجزةً عن تشكيل الحكومة (ناهيك عن إصدار تشريعٍ ذي قيمةٍ يصحِّح أوضاع المصارف فيها)، وعزل سوهارتو في إندونيسيا، وقدمت ماليزيا مهاتير محمد للمحاكمة، التي قد تنتهي بإعدامه، وغرق بيل كلينتون في وحل الفضيحة، وظهر بوريس يلتسين عاجزًا عن الحكم، واقترع الناخبون في ألمانيا ضد هيلموت كول. ومع هذا كله، وعلى الرغم منه، نجد النقاد في مجلة نيويورك تايمز يخلصون إلى أن فريق القيادة في الصين برئاسة الرئيس جيانج زيمين، ومعه رئيس الوزراء جو رونجي يبدون في صورة نظام الحكم الأكثر استقرارًا واتساقًا في العالم.

واعتاد رجال الاقتصاد والرسميُّون في إدارة كلينتون عَقْد اجتماعات منظمة خلال عام ١٩٩٨م، لتدبُّر الأزمة المثيرة للقلق والآخذة في الامتداد.

لتشكِّل أكبر خطرٍ يتهدد الاقتصاد العالمي على مدى نصف القرن الأخير. ولكن الصين، مع هذا كلِّه، بدت أمام العالم في صورة ممثل له دور حاسم، إن لم يكن الممثل صاحب الدور الحاسم؛ ذلك لأنها، من ناحية، واصلت طريق النمو الاقتصادي، حتى إن بدا أبطأ مما كان عليه في السابق. ورفضت، من ناحية أخرى، بإصرار الانضمام إلى الركب الآسيوي في لعبة خفض قيمة العملة.

وهكذا، قيل إن الصين تعمل من أجل الحفاظ على النادي الآسيوي من الانهيار التام. وساد من ناحية أخرى خوف من أن تفشل الصين وتخفض عملتها وتغرق في الأزمة الآسيوية، وبهذا يكون الوضع مهيأً لأسوأ السيناريوهات عن الأخطار التي ستُصيب اقتصاد بقية بلدان العالم، بما فيها الولايات المتحدة.

وهكذا، وعلى الرغم من النقد الحاد السابق على مرحلة كلينتون لزيارة الصين، في يوليو ١٩٩٨م (وهو النقد الذي تركز على موضوع حقوق الإنسان وانعدام الديموقراطية في الصين، علاوة على سياستها تجاه التبت وتايوان، وغير ذلك من أمورٍ ومسائل معنويةٍ وأيديولوجية)، فإن غالبية القيادات الأمريكية أيَّدوا جهود الإدارة من أجل تدفئة وتحسين العلاقات الصينية-الأمريكية. والمعروف أن الصين أبدَت استعدادًا لعمل ما تراه صوابًا إزاء الأزمة الآسيوية؛ ولهذا بدت الصين في عيون الكثيرين عند مقارنتها بعزوف اليابان و/أو عجزها عن عمل الشيء ذاته، أنها شريك أمريكا الأكثر منطقيةً في آسيا، حتى إن كان إجمالي اقتصادها لا يزال أصغرَ كثيرًا من اقتصاد اليابان.

وليست الصين حتى الآن بمنجاةٍ من هذا الخطر؛ إذ ليس واضحًا ما إذا كان بإمكان قادة بكين الوفاء بالتزامٍ كثيرًا ما أعلنوه، وهو عدم خفض قيمة عملتهم. وليس واضحًا أيضًا ما إذا كان بإمكان جو رونجي أن ينجز بسرعة كافية وبالكامل، طريقته الصائبة وحسنة النية من أجل الاستثمار المحلي وإصلاح المشروعات المملوكة للدولة؛ بحيث يواصل عزل الصين عن أخطار الكساد الآسيوي والأزمة الطاحنة للائتمان الدولي، وانكماش أسعار الأصول وغير ذلك من اتجاهاتٍ خارجيةٍ تسبب عدم الاستقرار، ناهيك عن التحديات الاقتصادية الداخلية المتعاظمة.

والملاحظ أن فائض تجارة الصين مع الولايات المتحدة يتزايد ليصل إلى مستويات سياسية خطرة، حتى وإن لم تحدث سوى أضرار اقتصادية حقيقية ضئيلة. وتصدر عن بكين سلسلة جديدة من المراسيم الوقائية، من شأنها أن تثير غضب رجال الأعمال الأمريكيين، حتى وإن جاءت تحديًا للمنطق الغربي: لماذا يعمدون إلى وضع العراقيل في طريق الشركات الأجنبية لإدارة أعمالهم هناك في الصين، في نفس اللحظة التي هم في مسيس الحاجة إلى استثمار أجنبي جديد؟ بَيْد أن هذه الإجراءات لها أثرها في دعم السلام السياسي الداخلي في الصين؛ لذلك يحق لنا أن نتوقع أن يستمر هذا الاتجاه في خلق الصعاب على طريق الاستثمار والتجارة المتبادلة. وقد ينطوي على احتمالات إثارة توتُّرات في العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، والتي لولاها لتحسنت باطِّرادٍ على جميع المستويات.

لذلك نرى أن ثمة كثيرًا مما يدعونا إلى القلق بشأن مستقبل الصين على المديَيْن القصير والمتوسط، ولكننا نعتقد أن هذه الفكرة الاستثنائية للأزمة الكوكبية سوف تمضي على أي نحو من الأنحاء. ذلك أن اقتصاد الصين وآسيا والولايات المتحدة والعالم كله سوف يعيد ملاءمة نفسه، خلال السنوات القادمة مع الأسعار الجديدة والقيم الجديدة، والحقائق الواقعة الجديدة، ومع إطار اقتصادي كوكبي جديد، ومن المرجح أن تعود ثانيةً، من جديد، حركة التجارة ورأس المال إلى آسيا، بل وسوف تتسارع خلال العقد القادم. وما إن يتحقق ذلك حتى يغدو المسرح مهيأً لاندفاعة جديدة للصين.

وترى بعض الشركات الكوكبية المغالية في رؤيتها الحالمة أن البيئة الراهنة فرصة إيجابية على المدى الطويل لشراء أصول، وللاستثمار بالأسعار الانكماشية في المنطقة الآن. وتراها شركات أخرى سببًا لوأد حماسها وتقليص عملياتها، والانتظار لترى ما إذا كانت الاقتصادات الآسيوية سوف تستعيد، ومتى تستعيد مسارها التنموي. وسوف يصل البعض إلى فهم صحيح لهذه القضايا وغيرها من القضايا الأساسية الخاصة بالصين، ولكن سيفشل عدد غير قليل. ونتوقع، على مدى ربع القرن التالي، أن نجاح أو فشل الصين قد يكون الحد الفارق بالنسبة للبعض في مجال المنافسة الكوكبية، بل ربما يكون مؤشرًا رائدًا دالًّا على صواب استراتيجيات النمو الشامل.

وإن المحاذير كبيرة بالنسبة لصناع السياسة الرسمية الأمريكية، وللجمهور الأمريكي بعامة. إن مجرد حجم الصين كقوة عظمى في المستقبل كفيل بالعمل على إعادة التفكير فيما ستكون عليه الحال في الغد، بالنسبة لكل قضية من القضايا العالمية الكبرى. بَيْد أن التحدي لفهم الصين والتعامل معها بكفاءةٍ ليس أمرًا يتعلق بالحجم والنطاق فحسب. إن المصالح المختلفة التي يكشف عنها تاريخ الصين والافتراضات الاقتصادية السياسية المتباينة، كل هذا من شأنه أن يزيد من التحدي زيادة هائلة؛ إذ سوف تستلزم دراسة تحليلية أشد عمقًا مما هو حادث الآن، سواء في المناقشات الإعلامية السطحية بشأن الاستثمار وإقامة المشروعات في الصين، أو بشأن عملية صياغة الاستراتيجية السياسية في واشنطن. ولو أننا تعجلنا وتأملنا الوضع بعد بضعة عقود، فإننا سوف نشهد عالمًا تمثل فيه الصين والولايات المتحدة القوتَين العظميَين، وسوف تستمدان قوتيهما من مصادر مختلفة، كما ستلتزم كلٌّ منهما منهجًا مختلفًا لإبراز قوتها والتأثير في الأحداث. وستكون لهما أهدافهما المختلفة وأسباب مختلفة للقوة أو الضعف. وفي رأينا أن الولايات المتحدة ستظل هي القوة الأقدر من حيث الجوهر، والأكثر فعاليةً بما تملكه من تكنولوجيا أكثر تقدمًا، وآليات أحدث وأكثر تعقدًا؛ لكي تفرض نفوذها على نطاق كوكبي اقتصاديًّا وعسكريًّا. ومع هذا، فإن حاصل جمع حجم واقتصاد الصين، مضافًا إلى موقعها المركزي في آسيا، علاوة على نفوذها السابق في بلدان العالم النامي، سوف يجعل منها قوةً عظمى هائلةً وفريدةً بحكم واقعها الذاتي. وسوف يتهيأ، كما هو واضح، لكلٍّ من الولايات المتحدة والصين إمكان الشراكة البناءة. ولكن الشيء الأهم هو أن الأخطار بالنسبة لكلٍّ من الطرفَين — وبالنسبة للعالم — ستكون هائلةً جدًّا، إذا ما سادت سياسة المواجهة على العلاقة بينهما.

ولسوء الحظ، فإن ما بدا في مطلع العقد التاسع من القرن العشرين، وكأنه استهلال لعلاقة سعيدة، أفسدته رياح السموم التي هبت من نشوب حرب باردة جديدة خلال السنوات الأربع الأولى من إدارة حكومة كلينتون؛ إذ على الرغم من الناتج الإيجابي لإعادة تقييم الإدارة لسياستها تجاه الصين في عام ١٩٩٧م، وعلى الرغم من رحلة كلينتون الناجحة في صيف ١٩٩٨م، إلا أن التحسن في العلاقات لا يزال هشًّا ضعيفًا، بحيث لا يطمئن المرء عن يقين إلى أي مدًى سوف يطول؛ إذ إن كلينتون — الذي لاحقته فضيحته الخاصة، حتى وهو في رحلته عبر الصين — ظل عاجزًا عن أن يوليَ اهتمامًا كبيرًا لموضوع إقامة علاقة بناءة أضحت ضرورةً لتجاوز الهُوَّة الفاصلة بين الصين والولايات المتحدة. وبات مألوفًا الآن في بعض الأوساط داخل واشنطن، خاصةً بعد أن انزلقنا الآن إلى فترة شكوك اقتصادية، أن نطرح مسألة الخطر الصيني، ويقال إنه الخطر الذي يتعيَّن على الأمريكيين أن يُهيِّئوا أنفسهم لمواجهته واحتوائه. بَيد أننا نرى رؤيةً أخرى مغايرةً أكثر مدعاةً للأمل. إن الصين سوف تتحدَّى مجتمعنا بوسائل عميقة، وسوف تفرض مشكلاتٍ تثيرنا، لكننا نتوقَّع، في المقابل، أن الولايات المتحدة والصين، وهما كما نتوقع، الدولتان العظميان خلال القرن الواحد والعشرين، سوف تلتمسان سبيلًا مشتركًا للمناقشة وللتعاون وللتعايش في سلام.

والصين التي نكتب عنها هي البلد الذي تابعناه عن كثب، وعايناه بشكلٍ مباشرٍ منذ أن كنا في العشرينيات من العمر. وعلى الرغم من أن كلًّا منا لم يكن يعرف الآخر، إلا أن كلًّا منا بدأ أولى رحلاته إلى الصين منذ مطلع العَقد السابع. وقتما كانت الصين لا تزال غارقةً في دوامة ثورتها الثقافية. وحدَّدت العقيدة المادية وعواطفها الأيديولوجية كل المظاهر الخارجية لما يشاهده ويعاينه الزائر.

لقد كان كلٌّ منا — مستقلًّا عن الآخر وبدرجات متفاوتة — أسير رومانسية الخطاب المادي والحلم الذي اقترن بالثورة الثقافية بخلق مجتمع طوباوي جديد في الصين. جاء كلٌّ منا لكي يفهم كيف اختلف دافع الصين في أواخر الستينيات وخلال السبعينيات عن الخط الذي رسمه لها الحزب الرسمي في بكين (وكيف ثبت للشعب الصيني خطل الحلم الماوي في التطبيق)، والذي انطوى على دروس في الحياة جد قيمة ومريرة في آن، ولكننا تعلمنا — من بين أمور كثيرة مفيدة — أن ننظر تحت سطح المجتمع الصيني، إذا شئنا أن نفهم القوى العميقة والمركبة التي صاغته. ويقتضي هذا مهارة كبيرة، كما أنه يمثل نقطة انطلاق حاسمة عند النظر إلى صين اليوم، على الرغم من أن مجتمع الصين أضحى الآن أكثر حداثةً وانفتاحًا.

وهيأ لنا السفر إلى الصين — خلال هذه الفترة — فرصة لكي نشاهد على الطبيعة عملية خلق «مشروعات الأعمال» الصينية الحديثة، واقتصاد السوق الصيني الحديث. وعلى الرغم من حالة التشوش والتطرف التي سادت الثورة الثقافية، إلا أن حجج وآراء دنج هسياو بنج، التي ساقها خلال مطلع السبعينيات بشأن بناء الاقتصاد كانَت قد بدأت تتسرَّب إلى الآذان وراء جدران زونجنانهاي Zhongnanhai، مركز بكين، حيث يقيم كبار قادة الحزب الشيوعي الصيني. وعقب معارك سياسية هائلة، وبعد وفاة ماو، انعقد لواء السيطرة السياسية للمرتد الصلب دنج، وبدأ يضع نهايةً لكابوس الصراع الضروس، الذي كان جاثمًا على خيال البلاد. وبدأت القيادة السياسية الصينية — لأول مرة منذ الخمسينيات — تحدد مهامها ومستقبل الأمة، وفقًا لحاجات النمو الاقتصادي على قاعدة واسعة، بدلًا من الحملات السياسية والعقائد الأيديولوجية الجامدة.

وهكذا، كنا خلال فترة سفرياتنا في أواخر السبعينيات (من القرن العشرين)، نأكل «النودلز» في بعض أوائل المطاعم الصغيرة التي افتتحت في الصين. وقصدنا المزارع والتقينا العديد من السيدات اللاتي يعكفن على تربية الأرانب والدجاج، واستطعْنَ تحقيق ثرواتٍ خاصة مشروعة، بفضل تربية هذه الحيوانات وزراعة بعض المحاصيل وبيعها مباشرةً في السوق الصغيرة خارج النظام التابع للدولة. وتحدثنا إلى مديري باكورة المشروعات القليلة، الذين اكتشفوا (على طريقة وجدتها … وجدتها، في حالة العصف الذهني)، قوة وأهمية الإعلان والتسويق، بل وأيضًا الممتلكات والاندماجات التجارية.

وشهدنا تحول التجارة بين الصين والولايات المتحدة من تجارة «مع العدو» إلى ميلاد علاقة بلغت اليوم ١٠٠٠ بليون دولار في السنة، وفي سبيلها لأن تصبح من العلاقات الاقتصادية المحورية في العالم. وسألتنا الشركات الصينية النصيحة، بشأن كل شيء، ابتداءً من جذب السياح الأجانب، إلى شراء مصانع أجنبية لصناعة الصلب، ونصحنا الشركات الأمريكية وغيرها من شركات أجنبية، عندما حاولت دخول السوق — لأول مرة — بمنتجاتها وخدماتها ابتداءً من سيارات الأجرة ومن أدوات التجميل. وشاركنا في وقتٍ أكثر قربًا في عديدٍ من الاستثمارات المهمة وفي بداية مشروعات تشغيل رأس المال لشركات صينية.

ولا تزال الذكرى حيةً في أذهاننا عن عبور جسرٍ صغيرٍ في مطلع السبعينيات، يبدأ عند لو وو Lo Wu، ويصل بين أراضي هونج كونج الجديدة وقرية تقع على الجانب الصيني، ومعروفة آنذاك باسمها الكانتوني شمشون. كانت المنطقة الحدودية يسودها توتر شديد، شأن أي منطقة حدودية في العالم، وكأنك تعبر من غرب برلين إلى شرقها، عند نقطة التفتيش المعروفة باسم شارلي، وقتما كانت الحرب الباردة في ذروتها. وكنا نجد عند أحد الجانبين رجال المخابرات الأمريكية والبريطانية يركزون أبصارهم، يتفرسون القادمين والذاهبين. ووجدنا على الطرف الآخر الحرس «الأحمر» الصيني يقظًا شاكي السلاح، متأهبًا دائمًا. وكان المعتاد في تلك الأيام أن يحمل كل شخصٍ أمتعته ليعبر الجسر إلى الصين. وسبق أن أشار ماو في كتاباته إلى فضيلة البروليتاريا، التي تتمثل في أن يحمل المرء حقائبه. وهكذا كان العثور على حمالين أمرًا شديد الصعوبة. وإذا تصادف أن عثرت على واحدٍ منهم، فليس لك أن تمنحه بقشيشًا؛ ذلك لأن منح البقشيش كان أمرًا موضع ازدراء في كل أنحاء الصين، حسبما يقضي روح شعار «اخدم الناس»، الذي كان سائدًا — آنذاك — في كل أنحاء الصين.

وبينما تعبر الجسر سيرًا على الأقدام، يكاد يتناهى إلى سمعك صوت الاقتصاد العالمي، وقد أغلقت الأبواب دونه من ورائك، وتلمح أمامك لافتات حمراء كبيرة، مكتوبًا عليها أقوال الزعيم ماو تسي تونج، وتبصر فلاحي شمشون يحرثون حقول الأرز، مثلما كانوا يفعلون منذ قرون. وأضحت شمشون معروفة اليوم باسمها القديم شنجين. وترى الآن المسافرين — من رجال الأعمال — قادمين من هونج كونج عبر طريق فائق السرعة، في سيارات المرسيدس أو سيارات ليكزس، إن لم يستخدموا طائرات الهليوكوبتر. وتحوَّلت شنجين إلى مدينة يسكنها أكثر من مليون نسمة، كما أصبحت موطنًا للمئات من مشروعات الأعمال الأجنبية، واختفَت حقول الأرز لتحل محلها ناطحات السحاب والمتاجر وساحات حضرية، تشمل هذه المنطقة الاقتصادية التجريبية الخاصة.

واختفت أقوال الكتاب الأحمر لماو تسي تونج، وحلت محلها إعلانات تضاهيها من حيث الحجم والوضوح؛ للإعلان عن سجائر مارلبورو وغيرها من السلع الغربية الاستهلاكية. وترى أمام فندق شنجين شانجاري — لا الكثير من الحمالين الذين يتسابقون إلى حمل الحقائب، وأكثرهم فتيان لم يقرءوا كتابات ماو عن هذا الموضوع، وجميعهم يتلهفون على «البقشيش». وتقع العين على لوحة إعلانات سياسية وحيدة تطل من فوق التلال المحيطة بوسط مدينة شنجين. إنها صورة للزعيم دنج هيساو بنج، الذي يَعِد بأن الصين لن تحيد عن سياستها الأساسية للإصلاح الاقتصادي والانفتاح على مدى مائة عام.

ربما لن نجد من يتخيل الصورة التي ستكون عليها الصين بعد مائة عام، ويذهب به الظن إلى أنه يقدم صورةً دقيقةً تمامًا؛ لذلك فإن أقصى مدًى زمني ذهبنا إليه في كتابنا هذا هو ثلاثة عقود. وتكاد هذه الفترة توازن العقود الثلاثة الماضية التي تابعنا خلالها — بهمةٍ ونشاط — تطورات الأحداث في الصين خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة. وزوَّدتنا خبرتنا هذه بإطارٍ شخصيٍّ يهيئ لنا إمكان الحكم على مدى ونطاق التغيير المحتمل خلال الثلاثين عامًا القادمة.

لقد حاولنا، ونحن في زهرة العمر، أن نفكر فيما ستئول إليه الصين، نحن نقترب من المراحل الأخيرة من حياتنا؛ تخيلنا طبيعة التفاعلات المحتملة بين الصين والولايات المتحدة، وكذا مع بقية العالم عندما يبلغ أبناؤنا، الذين لم يشبوا عن الطوق بعد، زهرة عمرهم. حاولنا بإيجاز أن نفعل ما فعله الصينيون على مدى قرون: أن نفكر على مدًى بعيد، على مدى عقودٍ بدلًا من شهور، على مدى الحقبة التالية بدلًا من السنة القادمة.

أحداث مهمة وقعت منذ صدور الطبعة الأولى من كتابنا «التنين الأكبر» في مارس ١٩٩٨م. وكان لهذه الأحداث أثرها في الصين وآسيا، وفي العلاقات بين الولايات المتحدة والصين. بَيْد أننا لا نجد — حتى الآن — تحولاتٍ أساسية تؤثر في الإطار العام للتحليل، الذي أوضحناه في هذا الكتاب. وكانت غالبية التطورات الجديدة توقعات تنبأنا بها، أو ألمحنا إليها بطريقة أو بأخرى في الطبعة السابقة. ومع هذا فقد يرغب قراؤنا في معرفة أفكارنا، بشكل محدد أكثر، عن بعض هذه التطورات الحاسمة.

(١) أزمة في إطار النظام المالي العالمي

لمسنا هذه المسألة في عجالة منذ مستهل المدخل، ونظرًا لأن هذه ظاهرة متقلبة، دائمة التغير، فسوف يكون من الحمق أن نحاول عرض توقع يتصف بالدقة والتحديد، ولكن من المهم طرح بعض الملاحظات:

  • يعاني النظام الصيني أعراضًا تشبه أعراض الأزمة الآسيوية؛ من ذلك — مثلًا — نقص الشفافية، وتدخُّل الحكومة على نحو مبالغ فيه، ونقص آليات السوق. ومع هذا، فإن مشكلات النظام المالي الصيني ليست بالضرورة وليدة المصادر ذاتها التي تولد عنها مشكلات البلدان الآسيوية الأخرى، وليست لها أيضًا بالضرورة الحلول ذاتها؛ إذ لا تزال الصين تملك قدرًا كافيًا من السيطرة السياسية إزاء عددٍ من المسائل التي يمكن حلُّها سياسيًّا. إن قيمة العملة خير مثال على هذا؛ إذ نظرًا لأن العملة الصينية غير قابلةٍ للتحويل بحرية، وليس باستطاعة الأجانب التلاعب بسوق العملة الصينية، إلا بوسائل شديدة الغموض، فإنه من المستحيل تقريبًا خفض قيمة العملة بفعل ضغوط خارجية، على نحو ما حدث في إندونيسيا أو ماليزيا، ولكن يمكن أن تقرر بكين خفض عملتها في المستقبل. بَيد أنها لن تتخذ مثل هذا القرار للأسباب التي يراها الخبراء الأجانب (مثال ذلك: أن تظل منافسةً فيما يتعلق بكلفة التصنيع مع البلدان الآسيوية الأخرى، التي خفضت قيمة عملاتها بدرجةٍ كبيرةٍ جدًّا). وفي رأينا أن كلفة اليد العاملة في الصين، وهي كلفة منخفضة بصورةٍ لا تصدَّق (والكفاءة النسبية التي تتميَّز بها الصناعة الأجنبية في الصين بمقارنتها بالأقطار الآسيوية الأخرى) من شأنها أن تجعل الصادرات الصينية على درجةٍ تنافسية عالية بوجه عام — ويشهد على هذا الارتفاع السريع في الفائض التجاري مع الولايات المتحدة الأمريكية — لذلك، فإن الصين ليسَت مضطرةً إلى خفض قيمة عملتها على نحو ما ذهب إليه بعض الخبراء. وإذا حدث وخفضت الصين من عملتها، فإننا نتوقَّع أن ذلك سيحدث أساسًا بهدف جعل الاستثمار الأجنبي في الداخل، الذي تنخفض قيمته الآن سريعًا، أقل تكلفةً؛ ومن ثم أكثر جاذبيةً بحيث يمكن لرأس المال الأجنبي أن يقوم من جديدٍ بدور نشطٍ على نحو ما حدث خلال فترة انتعاش مطلع التسعينيات.

  • إن انهيار روسيا اقتصاديًّا في صيف عام ١٩٩٨م وجه ضربةً قاصمةً لكل من يراوده حلم تشجيع الصين على أن تنهج أسلوب العلاج بالصدمات، والتطرف في التخصيصية (الخصخصة)، أو «المقرطة» السريعة في نظام الانتخابات. وعندما أصبحت روسيا قوة جذب للاستثمارات الأجنبية عام ١٩٩٧م، وعرفت سوق الأسهم الروسية فورة نشاط قصيرة الأجل، أثرى من ورائها بليونيرات، وحققت عوائد مذهلة، ذاعت آنذاك — ولفترة وجيزة — الحجة التي ترددت على مدى العقد كله والتي تقول إن الصين بدورها ستنهج الطريق ذاتها. ولكن فترة التوهج القصيرة التي عرفتها روسيا أفادت فقط في تأكيد صواب قادة الحزب الشيوعي الصيني، الذين أكدوا دائمًا ضرورة أن تسير عملية الإصلاح الاقتصادي في الصين بخطواتٍ وئيدة، وعلى نحوٍ تدريجيٍّ وفي ضوء إصلاحٍ سياسي ملازم لها.

  • المشكلات التي تعاني منها أمريكا أخيرًا بشأن الإفراط في المضاربة داخل أسواق المال، أضعفت من مصداقية حجة واشنطن القائلة إن حل أزمة آسيا يكمن في الاندفاع بسرعة أكبر في اتجاه أسواق المال الحرة والطليقة. ولقد شهد الصينيون أخيرًا أسواق المال في الولايات المتحدة وهي تواجه مضارباتٍ متهورةً في سوق الأسهم ومحاولات لتطويق عمليات الإفلاس المالي، ورأوا في هذا تعزيزًا ودعمًا للحجة القائلة بأن الأجانب لا يملكون معجزة تحقيق الشفاء؛ ومن ثم تعيَّن على الصين أن تهتدي إلى طريقها الخاصة بها.

  • وحتى على افتراض أن الصين بقيَت بمنأًى عن جميع الآثار المترتبة على الأزمة التي طالت الأقطار الآسيوية الأخرى، إلا أنه لا شك في أن الصين تواجه نكسةً كبرى في خططها للتنمية والتحديث. وثمَّة عوامل عديدة أدَّت إلى هبوط مسار النمو في الصين بعد صعوده القوي: من هذه العوامل أن المستثمر الأجنبي بات زاهدًا في البلدان الآسيوية الأخرى، بعد أن أشبع حاجته مع البلدان الآسيوية الأخرى، وكذلك انهيار الطلب على الصادرات الصينية في البلدان الآسيوية الأخرى، والكساد الشديد في هونج كونج، وانحسار رغبة أسواق المال العالمية في استيعاب العروض العامة للشركات الصينية. وعلى الرغم من اعتقادنا بأن الصين سوف تستعيد بعد ذلك معدلات النمو المرتفعة، إلا أن المستثمرين ورجال الأعمال هناك سوف يكون لزامًا عليهم أن يتحلَّوا بالصبر أكثر مما كانت حالهم قبل ذلك، إلى حين تمتصُّ المنطقة كل ما حدث وتُعيد بناء نفسها من جديد.

(٢) الرئيس كلينتون يزور الصين

زار الرئيس كلينتون الصين في يونيو ١٩٩٨م، وحقق بذلك التوصية السياسية رقم واحد للتنين الأكبر (الفصل الثامن عشر)، وأثبت أن سياسة الاشتباك الدينامي يمكن أن تنجز الكثير. وأجرى كلينتون حوارًا بشأن حقوق الإنسان مع جيانج زيمين على الهواء مباشرةً، عبر شاشات التليفزيون، علاوة على خطاب ألقاه كلينتون أمام طلاب جامعة بكين (وأعقبته دورة أسئلة وأجوبة مع الطلاب).

وأوضح هذا كله حقيقة ما يمكن أن تنجزه العلاقة الطبيعية وسياسة التعاون. معنى هذا أن الولايات المتحدة والصين بإمكانهما أن تتعاونا على نحو وثيق، وأن تستهلَّا معًا عددًا من المبادرات المشتركة البناءة، مع استمرار اختلاف الرأي بينهما بشأن عددٍ من المسائل الرئيسية.

ولقد كان كلينتون على حقٍّ في الذهاب إلى بكين؛ ذلك أن الأفكار الأمريكية عن الديموقراطية وحقوق الإنسان باتَت مسموعةً هناك بسبب زيارته تلك، وليس بسبب التطبيل والتزمير لها على لسان دعاة العزلة الجدد الموجودين في واشنطن البعيدة. أثمرت رحلة كلينتون إلى بكين هدنة في الحرب الباردة، التي كانت تختمر في السابق، وهي الحرب الباردة التي نصفها تفصيلًا في هذا الكتاب، على الأقل تراجعت المدرسة التي ترى أن النزاع مع الصين أمرٌ وشيكٌ إلى حين. وإذا لم يكن النقاش العام بشأن الصين في وسائل الإعلام قد حجبته تمامًا الاهتمامات الاقتصادية والخلافات السياسية الأمريكية المحلية، فإنه — على الأقل — أصبح أقل حدةً واشتعالًا (وأفاد هذا أيضًا بطبيعة الحال في أن خصوم كلينتون السياسيين، الذين رأوا في السابق أن سياسة الصين واحدة من المسائل التي تضعف موقف الرئيس، وجدوا الآن مسائل أخرى أفضل شأنًا يمكن الانغماس فيها؛ وفاءً لأغراضهم الحزبية).

وإذا كانت الحرب الباردة بين واشنطن وبكين بدأت تخبو، إلا أن الخطر الماثل هو أن سياسة الصين لا تزال واسعة النطاق بغير عمق. وبينما يجري الحوار البنَّاء مع شيوع مناخ عام ودي واحترام متبادل، إلا أن ثمة مشكلاتٍ تحت السطح من دون حل؛ من ذلك أن العجز التجاري المتوقع مع الصين، وقدره ٦٠ بليون دولار سنويًّا، سيكون يقينًا تحديًا سياسيًّا خلال انتخابات عام ٢٠٠٠م، خاصةً إذا ما اقترن هذا بانكماشٍ في اقتصاد الولايات المتحدة. ويشكو المصدِّرون في الولايات المتحدة من أن بكين شرعت في إغلاق أبوابها عن طريق ما تفرضه من قيودٍ على الاستيراد والتصدير في المجالات الرئيسية، مثل توليد الطاقة والصناعات الدوائية والآلات والاتصالات عن بعد. وقد يدفع هذا الكثير من الشركات المتضررة — وبعضها من أكبر الشركات وأكثرها نفوذًا في أمريكا — إلى أن تعيد التفكير في حماسها السابق من أجل علاقات أفضل بين الولايات المتحدة والصين. وإذا وقعت في الصين مرةً أخرى أحداثٌ كبرى «مناهضة لحقوق الإنسان» أو «مناهضة للديموقراطية»، أو إذا ما نشب نزاع جديد بشأن تايوان، فإن مناخ الحرب الباردة سرعان ما سيعود ثانيةً، وربما على نحوٍ يُنذر بوقوع كوارث.

(٣) هونج كونج

مضى قرابة العام — حتى الآن — منذ أن عادت هونج كونج إلى الحكم الصيني. وزالت بعض المخاوف، التي عبَّر عنها المتشائمون من حكام هونج كونج السابقين، بشأن تقييد الحقوق والحريات. والملاحظ أن حياة هونج كونج كإقليم إداري خاص تابع للصين منذ الأول من يوليو ١٩٩٧م، تميزت بقدر كبير من النجاح بشأن الموضوعات التي شغلت اهتمام الأجانب والنقاد. ومن دواعي السخرية أنه في الوقت الذي حافظَت فيه الصين بوجهٍ عامٍّ على الوضع السياسي كما هو، فقد واجهت هونج كونج عددًا من الأحداث غير المتوقعة، التي أثرت في حياتها الاقتصادية. ولم تأتِ هذه الأحداث نتيجة مضاربين صينيين بشعين أو طامعين في السلطة، بل نتيجة الأزمة الآسيوية التي وقعت بتأثير النظام الرأسمالي. ولم تشأ الصين التدخل، والتزمت ضبط النفس — على الأقل — حتى الآن، على الرغم مما واجهته هونج كونج من تحدياتٍ اقتصاديةٍ غير مسبوقة. وفي رأينا أنه ثبتت صحة النظرية الإيجابية التي عبرنا عنها بشأن هونج كونج، عندما كتبنا الفصل الخامس عشر، على الرغم من أننا بطبيعة الحال معنيُّون بكل المشكلات السياسية حتى أقلها شأنًا، والتي احتلَّت مكان الصدارة.

ولعل من السذاجة أن نظن أن التحدي إزاء هونج كونج قد انحسر أو حسم؛ إذ بات لزامًا على هونج كونج أن تصارع لغزًا محيرًا؛ إذ من المسلَّم به بوجهٍ عام أنها ستكون واحدةً من أكثر الأسواق حريةً في العالم، وإن كانت قيمة عملتها — تأسيسًا على نظام تثبيت سعر الدولار الأمريكي — تتحدد بناءً على أمرٍ سياسي. ونحن نشك في أن دولار هونج كونج بحاجةٍ إلى خفض قيمته كثيرًا وفاءً للمصالح الاقتصادية قصيرة الأمد، التي تهدف إلى إعادة انتعاش الاقتصاد المحلي، ولكن كثيرين يخشون من أن أي تغيير في مستوى السعر الثابت للدولار الأمريكي قد يكون علامةً على التخلِّي عن الوضع القائم لهونج كونج، ولكن محاولة تربيع الدائرة؛ — أي السماح بخفض قيمة دولار هونج كونج؛ ليصل إلى قيمة سوقية أكثر معقولية مع الحفاظ على الاستقرار والوضع الراهن كما هو دون مساس — سوف تمثل تحديًا ضخمًا خلال الفترة القادمة.

(٤) تسريع الإصلاح الاقتصادي الداخلي

كان اختيار جو رونجي رئيسًا للوزراء في عام ١٩٩٨م علامةً إيجابيةً للغاية؛ ذلك أن كبار الرسميين الأمريكيين الذين التقوا به، وكذلك أغلب كبار رجال المصارف ورجال الأعمال، خرجوا بانطباع أنهم التقوا قائدًا سياسيًّا صينيًّا لديه الشجاعة والرؤية والخبرة التقانية والمهارة لمعالجة التحديات الاقتصادية، التي تواجهها الصين، والتحرك قدمًا بالبلاد إلى الأمام خلال القرن الواحد والعشرين. ويعني اختياره رئيسًا للوزراء — بالنسبة لنا — أن الزعامة الصينية تعرف أنه يتعين عليها التخلي عن «الطريق السهلة»، التي تقضي بإغفال المشكلات الأساسية والهائلة التي تواجه الاقتصاد. وإذا كان هناك مَن يمكنه أن يحول دون الصين ومواجهة مشكلاتٍ من نوع مشكلات الأزمة الآسيوية، فإنه جو رونجي على الأرجح. بَيد أننا، وكما لاحظنا غالبًا في حواراتنا مع القادة وصناع السياسة الأمريكيين، فإن من الأهمية بمكانٍ أن نتذكر أنه ليس سوى فردٍ — وهو يقينًا شخصية تتمتع بالقدرة والأهمية إلى أقصى حد — ولكنه لا بد أن يعمل داخل إطار القيادة الجماعية، وتوافق الآراء الاقتصادي والسياسي القائم، وفي إطار القيود الكثيرة التي تفرضها مرحلة التنمية التي تمرُّ بها الصين. وعلى الرغم من قابليته للأفكار الجديدة وبياناته الجريئة عن النمو السنوي بمعدل ٨ في المائة، والإصلاح الشامل لمنظومة المشروعات المملوكة للدولة، إلا أنه لن يتمكَّن من إنجاز هذا كلِّه ما لم تتوافر له الظروف المواتية، التي ظهر قصورها بغتةً.

وإذا نظرنا على صعيدٍ أكثر عمومية، نلحظ وجود نوعٍ من «ربيع بكين» الجديد آخذًا في التنامي أخيرًا في الصين؛ إذ ثمة مؤشرات إيجابية موحية بالأمل آخذة في التزايد باطِّراد: من ذلك اتساع نطاق الأفكار التي تُجرى مناقشاتها علانية، وصدور مجموعات كبيرة متنوعة ومتباينة من الكتب والمجلات، وكذلك رواج التعامل مع الشبكة الفضائية «الإنترنت»، وغيرها من وسائل الإعلام (الميديا). وتشهد الصين جدالًا ثقافيًّا رفيع المستوى، وعلى نطاقٍ آخذ في الاتساع، بشأن قضايا كثيرة تتناول أهم الموضوعات عن المستقبل السياسي والاقتصادي للصين (ويروق لنا أن نرى أن إصدار طبعة صينية من كتابنا «التنين الأكبر»، بعد مناقشةٍ قصيرة بين كبار الناشرين الصينيين، ثم ترجمته ونشره خلال فترةٍ قياسية، بحيث يصدر مع زيارة الرئيس كلينتون عام ١٩٩٨م، إنما هو مؤشر بسيط على اتساع نطاق الأفكار التي يمكن نشرها ومناقشتها رسميًّا). وإذا كانت لا تزال هناك، للأسف، أمور كثيرة لا يمكن الإفصاح عنها داخل الصين، ووجهات نظرٍ لا يمكن التعبير عنها بحرية، إلا أننا نقف مذهولين إزاء كم الانفتاح العظيم الذي شهدته الصين خلال العام الماضي، أو نحو ذلك تقريبًا.

المهمة الرئيسية التي يضطلع بها كتاب «التنين الأكبر»، هي تقديم الصين في ضوء أبعادها الكثيرة، وتجنب النقد المتسرع والعمل، بدلًا من ذلك، من أجل استكشاف وقائع حياة الصين، وهي دائمًا وقائع مركبة وغالبًا ما تكون غامضةً، وتبدو متناقضةً. وعمدنا إلى تقسيم الكتاب إلى خمسة أجزاء، ويهيئ لنا كل جزءٍ عدسةً خاصةً مختلفةً عن العدسات الأخرى، وإن كانت جميعها مترابطة، وذلك للنظر من خلالها إلى صين اليوم والغد على السواء.

الجزء الأول «في داخل الحرب الباردة الجديدة»، نحاول فيه النظر إلى الصين عبر نافذة تكشف عن أكثر القضايا الإشكالية المطروحة على بساط البحث، أخطار الانسياق في حرب باردة مدمرة ولا ضرورة لها بين أمريكا والصين. لقد تعرضت العلاقة بين واشنطن وبكين لتحولات عديدة خلال العقد الأخير، وسادَت خلال مطلع التسعينيات فترة مضيئة ومتفائلة. ثم اتسمت البيئة خلال الفترة من ١٩٩٣م إلى ١٩٩٧م بغلبة عديد من المعارك السياسية الأيديولوجية، والنزاعات الخبيثة التجارية والاقتصادية، علاوة على تصور الصين كشيطان يمثل «إمبراطورية الشر»، وسلوك الصين الاستفزازي على عدد من الجبهات، وبخاصة التهديدات العسكرية ضد تايوان. ويناقش الفصل الأول من هذا الباب كيف ولماذا انحدرت كلٌّ من الولايات المتحدة والصين سريعًا جدًّا إلى هذه الحرب الباردة الجديدة، وما المخاطر بالنسبة للأمريكان، وما الذي يتعيَّن عمله بعد ذلك، وكيف يمكن تجنُّب أسوأ الاحتمالات.

الجزء الثاني تحت عنوان «الصين وعلامات ترسيم مميزة»، ونعرض فيه بعض السبل التي يتضافر خلالها الإرث الثقيل، الذي ورثته الصين عن الماضي، وكذا حجمها السكاني الضخم، والخلفية الإقطاعية، والأرضية الشيوعية لنظامها السياسي، وغير ذلك من عوامل، بحيث تكبح وتشكل مسار تحولها في المستقبل في اتجاهات مغايرة للاتجاهات الكلاسيكية التي عرفها اقتصاد السوق الديموقراطي في الغرب. إن الجميع يعرفون أن الصين «مختلفة» عن الغرب. ويعرض هذا الفصل كيف هي «مختلفة».

الجزء الثالث «القفز في البحر»، نعرض فيه نظرةً من الأرض إلى السماء عن هذه الاختلافات مع صورةٍ إجماليةٍ لمنظمي المشروعات الأربعة بحقائبهم، عدد من أغنى وأنجح رجال الأعمال الخاصين في الصين اليوم. ويضفي هذا الفصل وجهًا إنسانيًّا على القضايا المعقدة المقترنة بمفهوم «الملكية» وإنشاء قطاع «خاص» حقيقي في الصين.

الجزء الرابع «التكهن بمستقبل التنين»، وهنا نطرح — تأسيسًا على ماضي وحاضر الصين — توقعاتنا بشأن مسار تطورات الصين مستقبلًا خلال الفترة من عام ٢٠٠٠م إلى عام ٢٠٢٤م. ونحن نتأمَّل مستقبل النظام السياسي وعددًا من القضايا الرئيسية، مثل هونج كونج، وتايوان، وظهور قيم اجتماعية وثقافية جديدة. ونبحث في نشر إطار مرجعي جديد للصين، وما الذي يعنيه هذا بالدقة بالنسبة لمشروعات الأعمال والمال وعلم الاقتصاد.

وفي الفصل الختامي من الجزء الخامس «ما بعد الحرب الباردة»، طرحنا عددًا من المقترحات المحددة لدفع العلاقة بين الولايات المتحدة والصين نحو مزيدٍ من الشراكة، وبعيدًا عن مظاهر سوء التفاهم ذات الخطورة والذم المتبادل، على نحو ما كانت الحال في الماضي القريب. إن الشراكة التي نقترحها من النوع الذي يعترف بالاختلافات، حيث الاشتباك يعني التفاعلية الدينامية، وليس مجرد تعبير مخفف عن التدخل أو النزاع الذي لا يتوقف.

أخيرًا، ثمة بضع ملاحظات خاصة بأسلوب الكتابة: حولنا العملة الصينية إلى دولارات أمريكية بسعر ٨٫٤ يوانات للدولار تقريبًا. أما عن استخدام اللغة الصينية، فقد استخدمنا النظام الحديث في الكتابة بالأحرف اللاتينية عند كتابة أسماء الأشخاص والأماكن، إذا ما كان تاريخهم يرجع إلى الصين بعد عام ١٩٤٩م (ماو تسي تونج وبكين)، ولكننا استعرنا النظام القديم المعروف باسم نظام ويد-جيلز Wade-Giles system، في الكتابة بالأحرف اللاتينية (لاوتسي، أسرة تشنج) عندما تكون الإحالات أكثر ارتباطًا بأسماءٍ وأحداثٍ أو أماكن سابقةٍ على العام ١٩٤٩م. وأفضى هذا إلى قدرٍ ضئيلٍ من مظاهر التضارب، التي نأمل أن ينظر إليها القارئ بعين التقدير، باعتبارها نوعًا من التعليق الضمني عن مظاهر الغموض في اللغة الصينية.
المؤلفان
ويستون – كونيكتيكوت
بولاية ماساشوستس
يناير، ١٩٩٩م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤