الاستراتيجية والإدارة

درجنا على أن يكون لنا عدوٌّ كل سنة، والصين كبيرة، إنها رقعة شاسعة على الخريطة. وهي صفراء؛ لذلك فإن ثمة عنصرية تجاه العرق الثاوي تحت السطح. وهذا ما يتلاءم تمامًا مع حالة ذهنية حصرية. وأتصوَّر أن سيمضي عامان على هذا الوضع؛ لأن الصين كبيرة جدًّا، بحيث تدوم معها حالة الحصر النفسي هذه.

زبيجينيو برزينسكي

كان ذلك في ليلة من ليالي شهر أغسطس الحارة الرطبة في بكين عام ١٩٩٥م، العلاقات بين الولايات المتحدة والصين تعاني من مشكلات عميقة، خاصةً بعد تصاعد حدة المعارك الكلامية بين الطرفَين بشأن قضية تايوان، وكذا على جبهاتٍ أخرى مماثلة. دعونا على الغداء محرِّري مجلة جديدة تحمل اسم «الاستراتيجية والإدارة». واختاروا هم المكان: مطعمًا في فندق «أمة السلام»، ويبدو أنه المكان المفضل لدى الجماعة المتنامية من المحافظين الجدد، والقوميين الثقافيين وغيرهم، ممن يلتمسون تحديد طريق جديدة غير غربية لمستقبل الصين. بدا الفندق رثًّا متهدمًا، فارق السماء والأرض بينه وبين ناطحات السحاب الجديدة، التي تضم أبهاءً ذات ردهات فاخرة، والأسواق التجارية الباهرة التي تملأ أنحاء بكين — الآن — هنا وهناك، وعبارات المجاملة والكياسة عند لقاء المستثمرين الأجانب.

كانت هذه واحدةً من ولائم غداء أخرى كثيرة تناولناها خلال ذلك الصيف في فندق «أمة السلام». وبدا أن المطبخ ذا الطابع المحلي يضرب على وتر الحنين الوطني العميق لدى العملاء الصينيين. بَيْد أننا لمسنا أن لهذا المطعم فضائل يصعب علينا سَبْر غورها. ولا ريب في أن هذا يمثل بادرةً لأشياء سوف تأتي بعد ذلك.

وصفت لنا مجلة «الاستراتيجية والإدارة» بأنها المعادل الصيني لمجلة «هارفارد بيزنس ريفيو»، وأنها تزخر «بأفكار جديدة» واستبصارات رئيسية بشأن الاتجاهات الاستراتيجية على مدى القرن الواحد والعشرين. وذكر أحد الأصدقاء أن هذه المجلة — فيما يبدو — يدعمها مستوًى رفيعٌ في الدولة، وأنه على وجه الخصوص وثيق الصلة بجيش التحرير الشعبي. ولم نجد ضرورةً للتغاضي عن هذا. ووضح أن من بين أهم القصص عن الاقتصاد الصيني الجديد، والتي لا تحتل مكانًا بارزًا، هو دور مؤسسة جيش تحرير الشعب التي يقدر عدد مشروعاتها بحوالي ٢٠ ألف مشروع. وثمة اقتصادي نعرفه، ونعرف أنه كتب ذات يومٍ سيرة ذاتية عسكرية قد أصدر أخيرًا كتيبًا عن تنظيم المشروعات لحساب دار نشر مؤسسة جيش تحرير الشعب، ولعل الشيء المستساغ، على أقل تقدير، أن الجيش لديه حاجة ملحة إلى تطوير نظريةٍ جديدةٍ عن الإدارة تُوازي العقيدة الاستراتيجية الجديدة.

وناولنا المحررون نسخًا من مجلتهم، وهذه طبعة بالإنجليزية تصدر كل شهرين مع الطبعة الصينية: الغلاف أسود صقيل، والطباعة أكثر رونقًا بكثيرٍ من غالبية الوثائق الصينية، ويضم عنوان المجلة عددًا من المستشارين الصينيين ممن يتمتعون بسلطات على أعلى مستوًى، مع عددٍ من الأسماء الشرفية التي تصدر المجلة تحت رعايتهم، من بينهم عديد من كبار رجال الجيش.

تصفحنا محتويات المجلة ونحن نتناول مشروباتنا. وبدا واضحًا أنها مجلة ذات طابع خاص ومميز جدًّا. ولحظنا أن الصورة الأولى المقترنة بالمقالة الأولى هي صورة فريق حرب فيتنامي: الصورة الشهيرة التي نادرًا ما نراها في هذه الأيام، وهي صورة فان تي كيم نوك: فتاة في التاسعة من العمر تعدو عاريةً هربًا من قريتها على إثر هجوم أمريكي بالقنابل الحارقة. وتساوي هذه الصورة أكثر كثيرًا من آلاف الكلمات التي تنطق بها الحكم والأمثال لتحديد موقف هيئة تحرير المجلة. ونرى غرائب أخرى مع هذه الصورة، لعل أكثر ما استعصى منها على الفهم، مقال من ثلاثٍ وعشرين صفحةً بقلم ليندون لاروش، المتطرف السياسي الأمريكي (كان يساريًّا ذات يوم، وأصبح يمينيًّا الآن). ويؤكد المقال أن مسار الصين الآن من أجل الإصلاح الاقتصادي والاستثمار الأجنبي بخاصة سوف يدمر البلاد. ووجدنا في رأيه هذا ما يُثير دهشتنا حقًّا.

وسألنا ونحن نتناول طعام العشاء: قلتم إنكم من بين الجماعات القليلة التي تعمل جاهدةً لحسم عددٍ من القضايا الحرجة المتعلقة بالصين ومستقبلها خلال القرن الواحد والعشرين، ترى ما نوع المفاهيم الجديدة التي تدرسونها؟ هل من أمثلة لبعض أفكاركم الجديدة؟ آتونا بمثالٍ عن الاتجاهات المتعلقة بالمستقبل الذي حددتم معناه؟

كانت الإجابة مباشرةً وفورية، وفي صيغة يقينية: «إن الولايات المتحدة ستكون هي عدو الصين».

هل من استبصاراتٍ الآن عن مستقبل الصين؟ النظام السياسي مثلًا؟ النظام الاقتصادي؟ المؤسسات الجديدة؟ كيف سيتمُّ حل مشكلة المشروعات المملوكة للدولة؟ كيف سترسي الصين دعامات سيادة القانون؟ كيف ستتمكنون من رفع مستوى معيشة الألف مليون نسمةً من الفلاحين؟ وماذا عن مستقبل العلاقات الصينية-اليابانية؟ وماذا عن دور الاستثمار الأمريكي والأجنبي في مواصلة دفع وتنشيط التنمية وزيادة الصادرات؟

قُوبلَت الأسئلة جميعها بالصمت أو بتعليقاتٍ ليست في الموضوع تمامًا. كل شيء يعود إلى نهج «جديد» بارز في الاستدلال: قرَّرت أمريكا أنها لن تسمح بقيام صين قوية مستقلة وناجحة اقتصاديًّا؛ لذلك فإن الولايات المتحدة ستعمد إلى تقويض الصين وإعاقة نموها وتدمير جهود التطوير، واحتواء الصين عسكريًّا واستراتيجيًّا. لقد اختفى الاتحاد السوفييتي؛ ولذلك قرَّرت أمريكا أن تتخذ الصين عدوًّا لها. حسن، إذا ما اتخذت أمريكا الصين عدوًّا لها، فلا بد أن تستجيب الصين على نحوٍ ملائمٍ وبالطريقة نفسها؛ ومن ثَم سيشهد القرن الواحد والعشرون الصدام الناجم عن هذا.

هذا هو الحد البارز أو «الفكرة الجديدة» خلال التسعينيات، كما أوضح لنا هؤلاء المثقفون الصينيون، ولم تصدِّمنا بقدر ما أحزنتنا. وأخيرًا انحلَّت، وعلى نحوٍ واضح، العلاقات الأمريكية-الصينية، التي اتصل نسجها على مدى ربع قرن، منذ زيارة هنري كيسنجر السرية لبكين عام ١٩٧١م. ولمحرري مجلة «الاستراتيجية والإدارة» داخل الولايات المتحدة مَن يماثلهم الرأي، فثمة مدرسة فكرية متنامية ومؤثرة بين رجال الاستراتيجية السياسية في أمريكا. ويؤكد هؤلاء أن الصين هي التي قرَّرت — عن وعي — أن تصبح عدو الولايات المتحدة الأمريكية، وأن الصين قررت تهديد الاستقرار الآسيوي، والسلطة الأمريكية الكوكبية، وأن الولايات المتحدة هي التي ليس أمامها خيارٌ سوى أن تستجيب بالطريقة ذاتها، وتصبح عدوانيةً مع الصين، وتستعد للقرن الواحد والعشرين، قرن النزاع والصدام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤