إلماحة شنغهاي

وسط ضجيج وصخب المعركة تخال الفوضى سائدة، بينما لا فوضى على الإطلاق.

صن تسو

لا شيء أكثر زيفًا من الحكم على الصين بمعايير أوروبية.

لورد ماكارتني (١٧٩٤م)

بكين، يوم قارس البرودة من أيام نوفمبر ١٩٩٥م، دُعينا لمقابلة قياو شي، وهو واحد من أقوى الرجال في الصين آنذاك، يشغل منصب رئيس اللجنة الدائمة لمؤتمر الشعب القومي ذات النشاط المتزايد، وجعل منه منصبه هذا المعادل الصيني لنيوت جنجريتش، بيد أنه كان أقوى كثيرًا من جنجريتش، وأكثر دهاءً في استخدامه السلطة، وعلى الرغم من أن قياو في مطلع السبعينيات من عمره، إلا أن البعض يشبهه بالحصان الأسود المرشح لقيادة الصين، إذا ما تعثر وكبا جيانج زيمين. وقليلون من الخبراء الأجانب هم الذين التقوا قياو، لقد كان شخصية مكبوتة موضوعة في الظل، ولكن بعض المراقبين للصين يرحبون به؛ إذ يرونه شخصية عملية براجماتية، يعمل على بناء مؤتمر للشعب أكثر استقلالًا، ويدافع عن فكرة «سيادة القانون» في الصين. ورآه البعض أسلوبًا قديمًا، وشخصية فعالة صعدت من وراء كواليس الحزب إلى السلطة، ليكون رئيسًا لجهاز الأمن الداخلي في الصين، ولكنه من الدهاء بحيث تجنب التصويت في المكتب السياسي على القرار، الذي سمح بفرض الحكم العسكري، أثناء تظاهرات ميدان تيان آن مين في العام ١٩٨٩م.

صغنا مسودة أسئلتنا، وأعدنا صياغتها ثانية بما يسمح لنا بأن نستنبط استبصارات خافية، دون أن نسبب إزعاجًا، وسلمناها للمسئولين قبل اللقاء. لم نكن نلتمس إجابات عن ماضي الصين القريب المملوء بالأحداث المتداخلة المتضاربة (وقياو واحد من قلة من المحاربين القدماء في الحزب، الذين لا يزالون على قيد الحياة، ويعرفون ما الذي جرى بالفعل في اللحظات الحاسمة من التاريخ الشيوعي الصيني). بل كنا نلتمس إجابات عن المستقبل: دور مؤتمر الشعب القومي، التوازن بين المصالح القومية والإقليمية، وما التغيرات الاقتصادية والتشريعية التي يتنبأ بها خلال ربع القرن القادم.

وصلنا مبكرًا عن الموعد المحدد، رأينا جنود جيش التحرير الشعبي بكامل أسلحتهم، يحرسون المدخل المؤدي إلى قاعة الشعب الكبرى، وقال الحرس لمرافقنا الشاب (الذي كان يحمل هاتفًا خلويًّا لا يكف عن الرنين)، إن علينا الانتظار في السيارة. كنا تركنا السيارة في ساحة إسمنتية ملاصقة لمنطقة التقاء شارع شانجان بميدان تيان آن مين، على بعد بضع مئات من الأمتار من المكان الذي أعلن فيه ماو تسي تونج جمهورية الصين الشعبية عام ١٩٤٩م، ويقع المكان أيضًا قريبًا من الموقع الذي سحقت فيه دبابات جيش التحرير الشعبي، بعنف وقسوة، حشود المتظاهرين عام ١٩٨٩م.

قضينا فترة طويلة، ونحن نروح ونجيء فوق ساحة موقف السيارات، في انتظار موعد دخولنا قاعة الشعب الكبرى، قطعنا المسافة بطولها فوق المدارج الإسمنتية الباردة للسلم الخارجي، ثم دلفنا عبر مدخل مهيب إلى بهو كبير، وجدنا أنفسنا أمام مشهد منسق بعناية فائقة، يذكر المرء بتقاليد عريقة عن فن إدارة الحكم ونظام البروتوكول في الصين. وأضيفت إلى هذه العراقة مستلزمات العصر الحديث من مصوري وكتبة البلاط، الذين يتابعون كل كلمة وحركة. ووجدنا أنفسنا مدفوعين إلى مدخل قاعة اجتماعات مزدانة بالزخارف، وقادنا المسئولون عن التشريفات عبر صف من المستقبلين، ونظموا أماكن جلوسنا وفق نظام طقسي، وجلسنا فوق كراسي ذات حشيات شديدة الثراء. وبعد بعض من كلمات المجاملة، سألنا الرئيس قياو عما نريد أن نسأله فيه، ثم قال: ولكن قبل أن تبدءوا، دعوني أحدثكم عن تاريخ البناء الاشتراكي.

بدأ بعد ذلك، حديث ممتد من جانب واحد، استهله بالحديث عن اجتماع تسوني الشهير في الثلاثينيات، عندما أحكم ماو زعامته للحزب الشيوعي، واستطرد في الحديث عن نجاح الثورة والنموذج الاقتصادي الاشتراكي القديم، الذي تبناه الحزب أول الأمر، ثم لاءم بينه وبين نموذج الاتحاد السوفييتي. وتتبع قياو تاريخ الحزب الشيوعي من الخمسينيات، واستعاد أحداث الصراع الصيني-السوفييتي، والصدامات المسلحة على الحدود بين الهند والصين. ومضى في حديثه ليحكي لنا عن حركة إنشاء المزارع الجماعية في الريف، وعندما وصل إلى الحديث عن الثورة الثقافية، وجدناه يركز اهتمامه بشدة على أنشطة «عصابة شنغهاي». وهي عصابة الأربعة ذات التوجه اليساري المتطرف، والتي رأى أنها المسئولة عن أسوأ مظاهر التطرف للثورة الثقافية، وكيف حاولت بعد ذلك اغتصاب السلطة عقب وفاة ماو. واستعرض قياو بتفصيل شديد التاريخ الشخصي لكل عضو من أعضاء العصابة — ونادرًا ما يذكر أحدٌ أسماءهم اليوم في الصين — وأكَّد قياو على علاقة كل واحد منهم بمدينة شنغهاي.

لم يحاول قياو، مرة واحدة، أن يتناول بشكل جدي الأسئلة التي سلمناها، وحاولنا مرتين، بحذر، أن نقاطع وننقل موضوع الحديث، بيد أن جهودنا أزيحت كأنما التنين يزيح بضع حشرات من فوق جلده. وكانت المدة المحددة للقاء قد أوشكت أن تنتهي عندما أنهى هو حديثه، ودعانا إلى أن نسأل «في حدود ما يسمح به الوقت». مرة أخرى، حاولنا أن نحثه على الحديث عن المستقبل، ولكن الرئيس قياو مقل في كلماته، علاوة على أنها ملتبسة غير واضحة، وقال: «يمكن تحقيق حياة مريحة للغالبية العظمى من الشعب، خلال عشر سنوات، وسوف يكون لدى الصين، على مدى خمسين عامًا، اقتصاد متوسط المستوى، ولكن ليس يسيرًا بلوغ مستوًى معيشي مريح نسبيًّا»؛ وهنا بدأت أجهزة التصوير والمتابعة تتحرك من مكانها، وأغلق الكتبة كراساتهم.

وخرجنا حيث الابتسامات والمصافحات، وأضحت المملكة الوسطى، مرة أخرى، سالمة من تنبؤات الغربيين الفضوليين، وعدنا إلى مطعم قريب لتقييم كل ما حدث. لقد بدا واضحًا أن قياو شي لديه الكثير المهم الذي يمكن أن يقوله، ولا ريب في أن انفراده بالحديث أول اللقاء، لم يكن أمرًا لا يحكمه منطق خفي، ولكن ما هو؟ طرق عدة للتأويل يمكن أن تقودنا إلى اتجاهات عديدة مختلفة أو إلى لا شيء، حيث جميع الاختيارات متعادلة الصواب، هذه الورطة التي نحن فيها هي ذاتها استعارة مكنية تعبر عن الصين تمامًا.

أدلى إلينا قياو بحديث، هو جزء من تاريخ الحزب (ترى هل كان يشغل ذهنه به لمجرد أن لديه موعدًا في الصباح ذاته مع رئيس الحزب الشيوعي الفيتنامي؟)، وجزء من رواية تحذيرية (إذ أكد إمكانات الخطأ عند ماو في آخر حياته والمشكلات المقترنة «بسيادة رجل» بدلًا من سيادة القانون)، وجزء ثالث هو أنشودة تقدير لدنج هسياو بنج (هل انطوى حديث قياو على معنًى شديد العمق في إشارته إلى رغبة دنج في التعلم من الأخطاء، ومساندته للتطور السريع للقانون؟).

ولكن الشيء الأهم، في رأينا، هو تعليقات قياو بشأن «عصابة شنغهاي»، ومحاولاتهم لاغتصاب السلطة، وما ألحقوه بالصين من دمار، خلال الستينيات والسبعينيات، ونعرف اليوم أن الزعيم جيانج زيمين مولود في شنغهاي، وشغل منصب عمدة شنغهاي في الثمانينيات، قبل أن يستدعيه دنج هسياو بنج للعمل معه في بكين. وحدث في السنوات الأخيرة أن اتهم النقاد جيانج، بأنه حشد الوزارات والإدارات المركزية بالموالين والمؤيدين له من شنغهاي. وسرت شائعات تقول إن قياو وجيانج مختلفان بشأن عديد من القضايا السياسية الرئيسية، ولكن ما مدى جدية هذه الاختلافات الآن؟ أو ما القضايا موضوع الاختلاف بينهما؟ فهذا ما لا تسمع عنه إجابة محددة واضحة. وبدا واضحًا أكثر فأكثر، خلال الشهور السابقة على الإعداد لمؤتمر الحزب في سبتمبر عام ١٩٩٧م، أن جيانج وقياو خصمان سياسيان وأيضًا غريمان، وتكشف خلال المؤتمر ذاته، أن جيانج نجح في إزاحة قياو من اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب الشيوعي، وبذلك أصبح خارج القيادة، ولكن في نوفمبر العام ١٩٩٥م، لم تكن هناك شواهد عامة تكشف عن هذه المنافسة، ولا خلافات سياسية صريحة، ولم تكن هناك ملاحظات نقدية عامة ومباشرة من جانب هذا ضد ذاك، ترى هل كان قياو في حديثه إلينا، يتبع سنة التقليد الصيني العريق في انتقاد الخصوم دون ذكر أسمائهم؟ ترى هل انتزع القناع عن الحوار الراهن، ولكن على نحو غير مباشر، حين استعاد الخبرة التاريخية؟

حدث بعد ذلك أن استمعَت إلى تقريرنا، بشأن هذا الاجتماع، صديقةٌ صينية تربطها علاقة وثيقة بكبار القادة، وقالت بعد سماعها التقرير: «سرت رجفة في ظهري»، بدا واضحًا لها أن قياو ما كان له أن يبدي ملاحظاته هذه، لو لم تكن هناك خلافات حادة تهدد وضع جيانج وقياو، وكان هذا الاحتمال ذاته مثيرًا لقلق بعض الصينيين.

ولا ريب في أن الاعتراضات التي سمعناها بشأن تفسيرنا لتصدع العلاقة بين جيانج وقياو، يمكن أن نسمعها بشأن روايات أخرى عديدة، ترويها مصادر ذات أهمية ومكانة، كان أصحابها يأملون في أن يروا قياو باقيًا في السلطة لإيمانه الواضح بسيادة القانون، أو يريدون تصديق أسطورة القيادة الموحدة بعد دنج. أولًا: نزح قياو شي بداية من شنغهاي حين كان طالبًا ومنظمًا ثوريًّا خلال الأربعينيات، وعلى الرغم من أنه لم يكن جزءًا من مجموعة شنغهاي التي أتى بها جيانج من شنغهاي لتحتل المناصب الكبرى في بكين، فإن علاقته بشنغهاي، جعلت انتقاده لشعب شنغهاي أمرًا غامضًا. ربما يقول البعض إن تعليقات قياو بشأن شنغهاي ينبغي النظر إليها، باعتبارها ليست أكثر من نوع من الملاحظات، التي تتسق مع حالة المنافسة طويلة المدى بين بكين وشنغهاي، وولع شعب كل مدينة في استكشاف وتصيد أخطاء الشعب الآخر.

ثانيًا: إن محاولة ربط شخص ما بعصابة الأربعة، حتى ولو بطريقة غير صريحة ومباشرة، إنما تتجاوز الحدود المتوقعة للتعبير عن بعض الخلافات السياسية، خاصة إذا جاء هذا الحديث مع أجانب. لقد ارتبطت عصابة الأربعة بقضايا توصف بخيانة الثورة الصينية، واغتصاب السلطة على نحو غير مشروع، والفساد على نطاق واسع، والتطرف السياسي والتعذيب والقتل والانتهاك الاستبدادي للسلطة؛ ولهذا فإن من المؤكد أن قائدًا صينيًّا لن يقارن بسهولة بين قائد وآخر، وبين عصابة الأربعة.

ولكن بدا أن هذا هو القصد من الإشارة إلى شنغهاي. حاول قياو شي أن يبلغنا تحذيرًا بشأن جيانج زيمين، وبعض كبار قادة الحزب والدولة من المحيطين به، ولقد جاءت الإشارة إلى عصابة الأربعة بناءً على اختيار حذر للغاية.

لقد خرجنا من الاجتماع الطويل مع واحد من كبار القادة الصينيين، دون أن نحظى إلا ببعض أوراق الشاي لنقرأها، ولم نصل إلى أي حقائق واضحة عما يعنيه، ويمكن القول إن هذا هو أقوى تعبير عن الصين اليوم وفي المستقبل، وأكثر من هذا، أنه بعد ثلاثين عامًا من ثورة شيوعية جذرية سعت لتحطيم جميع الروابط التي تربط الصين بماضيها الإقطاعي، ثم عشرين سنة بعد ذلك الإصلاح والانفتاح على العالم، لا تزال الصين، إلى حد كبير، مجتمعًا منطويًا على نفسه؛ لذلك فإن المطلعين على بواطن الأمور من أصحاب السلطة، هم وحدهم من يفهمون، على نحو صحيح، الديناميات السياسية.

وفي ضوء ما سلف نرى أن «صين» التسعينيات لا تزال هي المجتمع الصيني التقليدي تمامًا، مثلما كان قياو شي زعيمًا صينيًّا تقليديًّا يعبر عن نفسه بوسائل تقليدية غامضة. وسوف تظل الصين، على مدى سنوات قادمة، محكومة بخبرات وتقاليد الماضي، التي يستقر أغلبها في اللاوعي الجمعي للناس، والتي لا يمكن أن تغيرها لا الحروب والثورات ولا صخب وفوضى الأسواق الحديثة، وبالتأكيد لن تتغير بسرعة كبيرة.

والنتيجة أن الصين لديها أفكار كثيرة متناقضة عن نفسها، إنها تريد أن تعامل كقوة عظمى، ولكنها لا تزال تنتظر الاعتبارات الخاصة، التي تحظى بها البلدان الفقيرة والنامية. وتحتفظ الصين بقبضة حديدية إزاء المنشقين، ولكنها تسمح بدرجة مذهلة من الحرية في المجالات الاجتماعية والاقتصادية، وبدأت تمارس انتخابات حرة مفتوحة على المستوى المحلي، واتخذت خطوات فعالة لتعزيز سيادة القانون، ولكنها لا تزال تعقد محاكمات عامة لإدانة معارضي السلطة. ونجد أن بعض أهم وأقوى أفلام وروايات أواخر القرن العشرين، أبدعها مثقفون صينيون، ولكن ما يمكن مشاهدته أو قراءته، يختلف باختلاف المزاج السياسي مع الزمن. وحدث في فترة من الفترات أن روج الزعماء لشعار «دع مائة زهرة تتفتح»، ولكن في فترة أخرى نجد من أكدوا ضرورة أن يتبع الفن أوامر الدولة ونظرة الزعماء الراهنة بشأن «الحضارة الروحية». وتبدو الصين عند نقطة ما مندفعة بقوة في اتجاه أساليب الحياة الأمريكية، والرخاء والنزعة الاستهلاكية، وفي فترة أخرى تعلن الصين أن أمريكا هي العدو، وتعلو نغمة القومية الصينية، وأن كل ما هو أمريكي، تقريبًا، غريب.

ويبدو واضحًا أن الغرباء الراغبين في فهم حاضر الصين ومستقبلها، من الأفضل لهم أن يطرحوا جانبًا، عند الباب، جميع افتراضاتهم الثقافية الخاصة بهم، وأكثر من هذا أن من الخير لهم أن يلتزموا، وهم لا يزالون عند المدخل، بقدر كبير من التسامح إزاء ما يرونه مبهمًا غامضًا، مع تقدير كبير لحقيقة واقع الصين المتعدد الشرائح، إن التطور الشامل للصين، لا يمكن تصنيفه على أساس قادة «إما … وإما …». وحري أن نتصور، بدلًا من ذلك، نموذجًا متحركًا من نماذج نحت الفنان كالدير المؤلف من أجزاء قابلة للتحرك، والذي يضم مستويات من التاريخ والجغرافيا والأيديولوجيا والثقافة، وتدور جميعها بحرية بعضها حول بعض. ومع الزمن سينتقل أحد هذه العناصر إلى المقدمة، وسوف تؤثر ألوانها وأحجامها المختلفة في الشكل العام وفي توازنها، مثلما تؤثر في إدراك المشاهد لها. والحقيقة أن الرئيس قياو ذكرنا، على نحو رمزي، أن انشغالنا بجانب أو بآخر من المستقبل معناه أننا نلتزم نظرة ثباتية أو سكونية (إستاتيكية) في النظر إلى الأمور. إن الصين لم تظهر ببساطة كلوحة بيضاء فارغة من أي علامات، خلال الربع الأخير من القرن، ومستعدة للتحديث الاجتماعي؛ إذ ليست هناك لوحة بيضاء فارغة تنتظر تعليماتنا الجيدة.

وإن قيام علاقات أمريكية ناجحة مع الصين يعتمد على فهم مظاهر الصعود والهبوط على المدى القصير، في سياق عملية المدى البعيد الجارية. ولدى الصين الآن سجل لفترة زمنية طولها عقدان، هي فترة المجاهدة على طريق التحديث. وإنها لعملية مشوشة لا تنطوي على رؤية واضحة، فضلًا عن أن زعماءها ليسوا من النوع الذي ترتاح إليه أمريكا. وهي مرحلة زاخرة بالتناقضات والنكسات. ولعل السبيل التي استنتها الصين للتحديث ليست هي السبيل التي يراها فريق من السياسيين ورجال الأعمال ورجال الاقتصاد الأمريكيين، كفيلة بمهمة تحديث الصين، ومع هذا ففي رأينا أن عملية تحديث الصين جارية ومثمرة على الرغم من التحديات التي فرضها التاريخ والجغرافيا والثقافة، وأنها تجري في ظروف لم تقدم بشأنها النظرية الغربية أي إجابة.

ونحن إذا ما عرفنا كيف نقيم ونحدد موقع الصين على طريق عملية التحديث، نستطيع الوصول إلى فهم أفضل، وإلى الوجهة التي من المرجح أن تصل إليها. ونعرض على مدى الجزء الثاني من الكتاب، استبصارات وسبلًا للنظر إلى ضروب متباينة من المؤثرات التاريخية، والوقائع الراهنة والقضايا والمشكلات. وتوضح لنا هذه جميعها قضيتين أساسيتين؛ الأولى: مدى اختلاف التجربة الصينية عما يتوقعه بالضرورة الأمريكيون، تأسيسًا على تاريخنا الخاص، وقيمنا وتجاربنا في نظام رأسمالي ديموقراطي ليبرالي ناجح ومطبق. ثانيًا: وهو شيء غاية في الأهمية، في ضوء الحوار السياسي الراهن بشأن العلاقات الأمريكية-الصينية: كيف أن النظام الذي تعمل الصين على تطويره، وعلى الرغم من اختلافه عن نظامنا، لن يكون بالضرورة متناقضًا مع المصالح الأمريكية، والمصالح العامة للاقتصاد الكوكبي، في القرن الواحد والعشرين.

إننا لكي نضع سياسة ذكية في تعاملنا مع الصين، علينا أولًا أن نفهمها؛ إن جميع الاتجاهات السياسية ابتداءً من معسكر الصقور، وكذا افتراضات دعاة التشابك ورؤيتهم المتفائلة الصريحة، إنما تعكس فقط فهمًا سطحيًّا للتجربة الصينية، ونحن لن نستطيع تقديم تقييم شامل لكل قضية من القضايا المهمة، ولكن نستطيع أن ننظر من خلال عدسات كثيرة من الماضي والحاضر، والتي وجدنا أنها جديرة بأن تكون في حوزتنا، ونستعين بها في دراسة العملية الجارية في الصين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤