الفصل الأول

حرب باردة جديدة تتشكل دون مبرر

من الخطأ الادعاء بأن الصين لاعبٌ آخر كبير. إنها اللاعب الأكبر في تاريخ البشرية.

لي كوان يو
رئيس وزراء سنغافورة

تمثِّل الصين الآن ١٪ فقط من مبيعاتنا، ولكنها أسرع الأسواق نموًّا.

بيل جيتس
رئيس مجلس إدارة
مايكروسوفت

(١) نهاية التاريخ ومطاعم الهامبورجر في بكين

لم يكن متوقعًا أن تسير الأمور على هذا النحو.

يبدو أن الأمر الآن أشبه بالتاريخ القديم، ولكن على مدى ثمانينيات القرن العشرين، بل وحتى عامَي ١٩٩٣-١٩٩٤م، لم يهيمن الحديث عن النزاع والصدام والأخطار والعداوة على الحوار العام بشأن الصين، بل كانت الهيمنة لتنبؤات متفائلة عن فرصة اقتصادية ضخمة متاحة لمشروعات الأعمال الأمريكية. إن حافز الصينيين للتحرك في اتجاه الحداثة والأسواق والديموقراطية بدا حافزًا عنيدًا في إصرار، والحركة حماسية للغاية. وبدَت تجربة الصين كأنها تُصحِّح الرؤية الأمريكية عن عالم ما بعد الحرب الباردة؛ نظرًا لأن الصينيين، شأنهم شأن أي مجتمعٍ آخر، يتطلَّعون الآن إلى السلع الاستهلاكية الأمريكية وأسلوب الحياة الأمريكي، إلا أنهم على استعدادٍ لعمل ما يتعيَّن عليهم — من جانبهم — للتلاؤم مع النظام العالمي الخاضع للنفوذ الأمريكي، أو الذي أثمر ثمارًا طيبة لأولئك الذين التزموا قواعده.

لم يكن ثمة نقصٌ في أصحاب الخبرة والعلم؛ لكي يذكرونا دائمًا وأبدًا بأن عولمة مشروعات الأعمال والاقتصادات، هو الاتجاه المحدد للمستقبل. وها نحن نرى السرعة التي تتحول بها الصين إلى عامل رئيسي في مشروعات الأعمال الدولية، تمثل أبرز حالة تؤكد صدق هذا الرأي. لقد ساد على نطاق واسع، الرأي القائل بأن السياسة والأيديولوجيا والنزعة القومية والقوة العسكرية، هي قُوًى ذات سطوة، قد بلغت ذروتها القصوى خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وبات لزامًا أن تنحسر وتتراجع قليلًا إلى ما وراء المسرح؛ لكي نجد في الصدارة منطق القرن الواحد والعشرين عن النزعة الاستهلاكية، والأسواق والتكنولوجيا والاقتصاد الكوكبي القائم على المعرفة.

ورأى هذا الفكر المبني على المعلومات، أن المناقشة الاقتصادية حلَّت محل النزاع العسكري، وأصبحت هي الصيغة الأساسية للتنافس بين القوى العظمى. بدت الحروب «الساخنة»، وكذا الحروب الباردة، شيئًا من تراث الماضي بين الأقطار العظمى؛ ومن ثم، فإن مشكلة الصين، على نحو ما، نسترجعها الآن أقرب إلى أن تكون مشكلةً اقتصاديةً أكثر منها سياسية أو عسكرية. ترى هل ستهاجر الوظائف الصناعية الأمريكية إلى الصين لتفيد من رخص الأيدي العاملة؟ كيف ستتدارك الولايات المتحدة الموقف عندما تتجاوزها الصين، وتصبح أكبر اقتصاد في العالم (ابتداءً من العام ٢٠١١م).

والملاحظ أن كبار رجال الأعمال والقادة السياسيين في الولايات المتحدة قد استوعبوا وامتصوا الفرضية التي طرحها عالم الاجتماع فرنسيس فوكوياما: «بلغ العالم نهاية التاريخ» إذ مع سقوط حائط برلين ونهاية الحرب الباردة، انتهى البحث البشري، على الطريقة الداروينية، عن نظامٍ اقتصاديٍّ سياسي، هو الأمثل كفاءةً وفعالية. إن ما يريده كل إنسان، وما يحتاج إليه كل فرد، وما يجاهد من أجله الجميع على سطح الأرض؛ هو تحقيق نظامٍ رأسماليٍّ ديموقراطيٍّ ليبرالي.

نعم، لا يزال الصينيون يصفون أنفسهم بأنهم شيوعيون، ولا يزال الحزب الشيوعي يحكم الصين بقبضة من حديد، ولكن إلى أي مدًى سوف يستمر هذا في مواجهة معدلات النمو الاقتصادي، التي تزيد عن ثلاثة أو أربعة أمثالها في الولايات المتحدة، وكذا في مواجهة موجة من أقوى موجات طاقة تنظيم الأعمال شهدها العالم؟ وسبق أن أعلن مدير أمريكي لصندوق نقد صيني في عام ١٩٩٤م: «ربما لا يرغبون في تسميتها رأسمالية لأسباب سياسية يعرفونها، بَيْد أنني، ويا للعجب، كلما تأملت ما يجري في الصين اليوم، فإن عينيَّ لا تريان فقط نظامًا رأسماليًّا نشطًا، بل أرى نظامًا رأسماليًّا صرفًا وشديد الحمية والحماس.»

ولم تختفِ تمامًا النزاعات السياسية داخل واشنطن بشأن الصين، حتى هذه اللحظة التي يسودها التفاؤل؛ إذ لا تزال دماء ميدان السلام السماوي «تيان آن مين» لم تجفَّ بعد. ونذكر من عواقب الحملة الانتخابية عام ١٩٩٢م، أن بيل كلينتون اعتاد أن ينتقد جورج بوش؛ لأنه «يدلل الحكام الدكتاتوريين»، مؤكدًا أنه إذا ما انتخب، فسوف يلتزم خطًّا متشددًا مع بكين، وأثبت كلينتون أنه، كرئيس، كان عمليًّا أكثر مما أوحت به خطبه الانتخابية، وتحولت النزاعات في هذا الشأن إلى أخبار مثيرة عن توسع التجارة والاستثمار الأمريكيين، وعن تبنِّي الصينيين آليات السوق، والقول بأن معدلات النمو الفائقة الارتفاع تحول المجتمع الصيني، الذي ظل مجتمعًا مغلقًا ومتخلفًا زمنًا طويلًا.

كان مطلع التسعينيات فترة انكماش بالنسبة للغالبية العظمى من الشركات في أمريكا، واقترن هذا باطراد حالة الانتعاش، وإعادة توفيق الأوضاع لدى كثيرين من المنافسين الجدد في العالم. وغرق الاقتصاد الأمريكي المحلي في حالة ركود، أو نمو بطيء على أحسن الفروض، مثلما كانت الحال في أوروبا واليابان. وبدت السوق الصينية كأنها هبة أرسلتها السماء إلى الشركات الكوكبية، التي تتضور جوعًا للنمو في الداخل. وقال رئيس بنك استثماري في نيويورك، موضحًا أسباب الرغبة الشديدة للاستثمار في الصين، وهي الرغبة التي ظهرت فجأةً: «إذا أردت أن تكون شركةً ناميةً فخير لك أن تعمل في أسواق نامية».

ونذكر هنا جاك ويلش Welsh، رئيس مجلس إدارة شركة جنرال إليكتريك، وهي أكبر شركة من حيث رسملة سوق الأسهم؛ إذ أشار إلى أن سوق الصين يمكن أن تصبح مركز الجذب لشركته، في ضوء استراتيجية النمو المرسومة لها خلال القرن الحادي والعشرين، ونذكر أيضًا روبرت إلن Allen رئيس مجلس إدارة شركة آتي آند تي AT & T، وهي من أكبر الشركات الأمريكية؛ إذ أوضح في حديث معه، أنه، وعلى مدى الأربعين عامًا القادمة، ستكون الصين السوق التي تشهد نصف النمو العالمي، في مجال مشروعات أو أعمال خطوط وتحويلات الهاتف، وأضاف قائلًا: «بعد الصين ستبدو جميع الفرص الأخرى فرصًا ضعيفةً شاحبةً.» ورأى ويليام وارويك Warwick، الذي تولَّى إدارة أعمال شركة آتي آند تي داخل الصين، أنه من المتوقع أن تحقق شركات الهاتف العالمية عوائد من الصين، تفوق كثيرًا عوائدها من سوقها المحلية، ولقد استثمرت موتورولا أكثر من بليون دولار في الصين، بينما سرعان ما هيمنت على سوق أجهزة النداء الآلي pagers، والهاتف المحمول، وهي السوق التي تشهد نموًّا سريعًا، وبعد بضع سنواتٍ قال المديرون التنفيذيون لشركة موتورولا، إن عملياتهم في الصين أكثر ربحًا من عملياتهم في اليابان؛ حيث كانت شركتهم تعمل منذ أكثر من ثلاثين عامًا.

إن رجل الأعمال الأمريكي الذي يزور بكين، التي تعجُّ بالنشاط الاقتصادي والتجاري الآن، يمكنه أن يجلس في أضخم محلات ماكدونالد في العالم؛ ليتناول وجبةً سريعةً، ويسرح مع أحلامه القديمة، من أجل أن يبيع واحدةً من جميع السلع لكل واحدٍ من الصينيين. وبوسعك وأنت تشاهد فتًى وفتاةً على موعدٍ وهما ينفقان ما يقرب من أجر أسبوع؛ لتناول وجبة ماكدونالد مع شراب الكوكاكولا والبطاطس، أن تتخيَّل القيم الأمريكية وكأنها قد أضحت قيمًا عالميةً حتى هنا، حيث كان البلد، ومنذ عهد قريب، أكثر مجتمعات العالم حماسًا للشيوعية.

وتتهافت على الصين بجنون الآن، ليس فقط منافذ بيع الوجبات السريعة، بل وأيضًا مجمعات التسوق، وناطحات السحاب المتألقة، والطرق السريعة، وأسواق الأسهم، وبنوك الاستثمار. ويصف المراسلون الغربيون هذا الوضع بعبارة مجازية تقول اندفاعة أو حمى الذهب. وظهرت كتب تؤكد أن الصين سوف تصبح سريعًا أعظم اقتصاد عالمي، وأن الاقتصاد الأمريكي سوف يحظى بدفعة قوية، تحفزه إلى نموٍّ جديد بفضل استثمارات وتجارة الولايات المتحدة مع الصين. وتضيف: إن التقاء الغرب مع آسيا، التي تشكل الصين قوة الدافع لها، سوف يُفضي إلى حالة ربح متبادل لجميع الأطراف. إن ربع سكان العالم يصنعون الآن النظام الاقتصادي الكوكبي الجديد بكل ما يقتضيه من أفكار عن المشروعات الخاصة، ورأس المال المشترك، والتكنولوجيا العالمية والنمو المرتفع وخدمات العملاء والاستثمار الأجنبي والتجارة الحرة. وصيحة الدعاء المقدسة الآن هي «السوق السوق السوق». ويعتبر بارتون بيجز Biggs، أهم استراتيجي في شركة مورجان ستانلي، هو الوحيد دون غيره، الذي أدرك حقيقة هذه الحالة المزاجية، حين صرح بنفسه عام ١٩٩٣م، بأنه «الفائز الأعظم» في الصين.

وعلى الرغم من هذا المناخ المتفائل، فإن خبرتنا الطويلة مع الصين دلَّتْنا على ضرورة البحث عن نظرةٍ أكثر حذرًا. ولقد أثار قلقنا أن عددًا كبيرًا جدًّا من الأمريكيين العاملين في قطاع الأعمال وفي السياسة العامة، أخفقوا في إدراك الفارق بين الخبرة الصينية وخبرتنا بنيويًّا وتاريخيًّا وثقافيًّا، وحفزتنا الرغبة في أن نؤكد: أن نعم، سوف تحقق الشركات الأمريكية عوائد وأرباحًا، وسوف تحقِّق مبيعاتٍ هائلةً من وجبات ماكدونالد وشراب الكوكاكولا للصينيين، ولكن في عالم الاقتصاد السياسي، ليست بالضرورة تجسيدًا وصدًى لما تأكله، إن تناول هذه الثمار المحرمة، منذ زمنٍ طويل، ليس من شأنه بالضرورة أن يحول الصينيين إلى شعب يصر على إقامة أسواق حرة حقيقية، أو مجتمع حر بمعنى الكلمة.

نعم، كانت المحاذير كثيرةً وهائلةً أمام الشركات الأمريكية، التي قد تزدهر بعضها أو يخفق، في مجال المنافسة الكوكبية المحتملة، خلال القرن الواحد والعشرين، بشأن كفاءة استراتيجية هذه الشركات إزاء الصين أو عدم كفاءتها. واعتقدنا أن الاستراتيجيات الصحيحة، هي التماس توطين وملاءمة المنتجات والعمليات الأمريكية، وتقنيات الإدارة الأمريكية داخل إطار الخبرة الصينية الفريدة.

واعتقدنا، ولا نزال، أن الصين سوف تخلق لنفسها إطارها الأساسي الاقتصادي السياسي الجديد، الذي يحتل موقعًا وسطًا بين الرأسمالية التقليدية والاشتراكية التقليدية، ويتألف من عناصر مشتركة من القيم الآسيوية والغربية؛ ولهذا سيكون الإحباط والإخفاق نصيب أولئك الذين يتوقعون أن تتحول بسرعةٍ وبالضرورة، القوى الأولية للسوق الحرة التي أطلقت لها الصين العنان إلى مجتمعٍ حر، يمارس التجارة الحرة، وإلى مؤسسات ديموقراطية تامة وكاملة.

لقد كان دنج هسياو بنج يعتقد أن الخطأ الأكبر الذي وقع فيه جورباتشوف في الاتحاد السوفييتي، أنه سمح بالحرية السياسية قبل أن يجدد الاقتصاد، وكان من رأي دنج، أن يبدأ التحديث الاقتصادي أولًا، ثم يأتي الإصلاح السياسي بعد ذلك بزمن طويل — إذا كان له أن يأتي. ولعلنا نجد ما يؤكد، على الأقل، الصواب الموضوعي في حكمة الطريق الصيني، إذا عرفنا أن إجمالي الناتج المحلي للصين زاد ثلاثة أمثاله منذ العام ١٩٨٥م (وتسود نظرة جادة الآن تفيد أن الصين تتوافر لديها إمكانات أن تصبح أكبر اقتصاد في العالم). هذا بينما نجد مجموع إجمالي الناتج المحلي لجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، قد انخفض إلى النصف.

وحيث إننا تصورنا أن الصين تستن لنفسها نموذجًا اقتصاديًّا سياسيًّا مختلفًا جد الاختلاف عن الغرب، وحيث إننا كنا متفائلين تمامًا بالنسبة للصين، واعتقدنا أنها سوف تنجح في مسارها هذا، فقد راودنا إحساس بأنه سوف تثور نزاعات شديدة الأهمية، وتستمر بين الصين والولايات المتحدة. إن النزاعات التي شهدتها التسعينيات التي امتدت عبر سلسلة طويلة، ابتداءً من تايوان، وقضية الانتشار النووي، والوصول إلى الأسواق، لن يتسنى حلها وحسمها في وقت قريب، بل سوف تنشأ نزاعات جديدة غير منظورة. والجدير ذكره أننا حين أدركنا النتائج العاصفة لاحتمال ظهور قُوًى عظمى جديدة على المسرح العالمي، تنبأنا بحدوث نزاع مطرد مع ظهور الصين كقوة عظمى ثانية، في عالمٍ أضحت فيه الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة بعد سقوط حائط برلين.

لقد رسمنا خطة هذا الكتاب، ليكون رؤيةً نقديةً لكثير من أنواع الفكر الأمريكي الخاطئ والمتصلب عن الصين. ورأينا تحديدًا أنه سوف يفيد كعامل تحذير ضد التفاؤل المفرط والمدرسة الفكرية، التي تسود أوساط رجال الأعمال الأمريكية. وأردنا أن نقول، إن الصين مختلفة تمامًا، كما أن الصينيين لن يكونوا أبدًا مثلنا. بَيْد أننا إذا عرفنا ما فيه الكفاية عن الصين، وفهمنا كيف تختلف عنا، واستطعنا أن نستحدث وسائل ابتكارية لإدارة اختلافاتنا، فإن مشروعات الأعمال الأمريكية يمكنها في هذه الحالة، أن تغير من الفرصة الجديدة المتاحة، كما يمكن للولايات المتحدة، أن تفيد هي الأخرى على المدى الاستراتيجي من شراكتها مع الصين.

لقد رأينا الصين آنذاك — ولا نزال نراها في ضوء كل ما حدث بينما نحن عاكفون على كتابنا هذا — فرصة في غاية الأهمية، أتيحت للولايات المتحدة من خلال سبيلَين مختلفَين:

  • الأولى: حتى لو لم تتطوَّر الصين على نحو ما يأمل المتفائلون المسرفون في تفاؤلهم، فإن اقتصادها سوف يبقى، من حيث إمكاناته، سوقًا واسعة جدًّا للشركات الأمريكية، ومصدرًا لأرباح طائلة، وسببًا لنشوء وظائف أمريكية رفيعة المستوى والجودة. ويكفي أن نذكر أنه يوجد الآن ما يقرب من ٢٠٠ ألف وظيفة مرتبطة مباشرة بتجارة الصين (وأكثر من هذا العدد مرتبط بطريقة غير مباشرة). وإذا كان رخص الأيدي العاملة والصناعة في الصين، ربما يهدد بعض الوظائف الأمريكية ذات المستوى المنخفض، إلا أنه سيستمر في تحقيق وفرة هائلة الكلفة لمصلحة المستهلك الأمريكي والصناعة الأمريكية، مما يسهم في رفع مستوى المعيشة الأمريكية، ويضعف من احتمالات الضغوط التضخمية العالمية. جملة القول: إن الصين ستصبح ميدانًا قويًّا جديدًا للنمو العالمي، حيث يمكن لمنظمي المشروعات الأمريكيين أن يقسموا لأنفسهم إمبراطوريات جديدة، والتي يتعين على كثير من الشركات الأمريكية الكبرى أن تُسهم فيها؛ لكي تظل قادرةً على المنافسة كوكبيًّا.
  • ثانيًا: إن دخول الصينيين الناجح إلى الاقتصاد الكوكبي والنظام العالمي، سوف يكون ذا قيمة كبيرة للمصالح الأمريكية، على الرغم من التحديات الخطرة التي يتعين التغلب عليها. وإذا ما عقدنا موازنةً سيتبين لنا أن الصين المتنامية والمزدهرة والناجحة سوف تسهم في تضافر العديد من العوامل الحميدة الراهنة، التي جعلت النظام الأمريكي رائدًا وزعيمًا قويًّا وديناميًّا للعالم. ونرى من ناحية أخرى أن الصين، إذا ما أخفقت، ستجعل العالم مكانًا شديد الخطر للغاية. وسوف ينتهي الأمر بأن يتحول اهتمام أمريكا بالضرورة إلى أغراض الدفاع السلبية، وربما شديدة التكلفة، بدلًا من الاتجاه إلى المنافع التي تغرسها وتدعمها المنافسة الاقتصادية على الصعيد الكوكبي، والحصول على نصيبٍ من الفطيرة الكوكبية الضخمة.

ونحن في هذا الكتاب، ندعم أولئك الذين يفكرون في موضوع استراتيجيات الأعمال وقضايا السياسة في الصين، ونقدم لهم ما نعتقد أنه رؤية متوازنة ومتعددة الألوان ومركبة العناصر، عن الأحداث التي يمكن أن تُكتشف فيما بعد. ونحذِّر القراء مقدمًا بأن ما سوف نشهده في الصين، قد يصادف اعتراضًا بالنظر إلى قيمنا الجمعية كأمريكيين. ولكن حري بنا أن نصون رأسمالنا السياسي الأمريكي، ونحرص على تحديد واختيار معاركنا التي نحاربها ومتى نحاربها. وأن مَن نحاربهم سوف نحاربهم دون هوادة أو تردد، مع وضوح الهدف. ولكن ثمة آخرين لن نحاربهم أبدًا. وقد نكتشف بالنسبة للبعض أننا لسنا فضلاء على نحو ما نظن، ونلح في الدعوة إلى المزيد من التواضع إزاء مَن يشغلهم الحوار السياسي؛ إذ لا الجزرة ولا العصا سوف تحسم شكل المستقبل بالنسبة للصين، وإنما القوة الحاسمة هي العملية الداخلية، التي لا يمكن لمن هم خارجها أن يؤثروا فيها موضوعيًّا، ولن يتجاوز تأثيرهم الهامش فقط.

(٢) قفزة كبرى إلى الخلف

من الانتعاش الصيني إلى الخطر الصيني

تحرك بندول التفكير الأمريكي بشأن الصين حركةً واسعةً، خلال السنوات القليلة الماضية؛ من التفاؤل إلى التشاؤم، ومن الأمل إلى الخوف، ومن الفرصة السانحة إلى خطر التهديد، ومن انتعاش الصين قريبًا إلى النزاع القريب مع الصين. وعلى الرغم من أن زيارة كلينتون الناجحة إلى الصين عام ١٩٩٨م كانت مؤشرًا إلى انتصار «الوسط» الأكثر عقلانية، إلا أن القلق والشك والغضب والانزعاج والاشمئزاز، بل وصورة متجددة عن «الخطر الأصفر» القديم، لا يزال كل هذا موجودًا تحت السطح في الحوار العام؛ ومن ثم، فإن البندول يمكن أن يتحرك ثانيةً في اتجاه الحديث عن الخطر، والذي يفضِّله الجدد من دعاة الحرب الباردة.

والملاحظ أنه بعد خمس سنواتٍ فقط من البيان الذي أعلنه بارتون بيجس Biggs، نكاد لا نجد مَن لا يزال يشعر بأقصى قدرٍ من التفاؤل في رواج السوق بشأن الصين، لقد أصبح المزاج السائد الآن أقرب ما يكون إلى المزاج الذي عبرت عنه صحيفة «الإيكونومست» في ردها على بيجس: «أقصى حدٍّ من المضاربة بالصعود». أما عن بيجس نفسه، فإنه مع خريف عام ١٩٩٩م، تحول إلى شخصٍ فظٍّ للغاية بشأن المنطقة إلى حد أنه كان يلحُّ على العملاء أن يفرغوا حوافظهم بالكامل من أسهم هونج كونج والصين. وقد كانت نصيحة شديدة الوضوح وسط الأسباب العديدة لانهيار السوق، الذي بدأ في هونج كونج في أواخر أكتوبر عام ١٩٩٧م، وانتشر انتشار النار في الهشيم من هناك إلى جميع أسواق العالم.

وعشية الكوابيس الاقتصادية والمالية العديدة، التي جثمت على آسيا مع مطلع عام ١٩٩٨م — حيث تزايدت المضاربات على العملة، وانخفضت قيمة العملات بشكل قياسي، وماتت أسواق الأسهم، وترنحت المصارف تحت وطأة جبال من الديون المعدومة، وخيم شبح الانكماش على كل المنطقة — هنا أكد خبراء كثيرون أن المسألة مسألةُ وقتٍ فقط، حتى تغرق الصين، هي الأخرى، في كل هذه الأحداث السلبية التي سيطرت على الإقليم. وعمَّ القلق آسيا خوفًا من الكساد ومن الآثار غير المتوقعة؛ بسبب التقلبات المالية في الأسواق الآسيوية، التي لا تزال أسواقًا جديدةً لم تستقرَّ بعد.

ووجد كبار رجال الأعمال العالميين في هذا فترةً للتأمل والتفكير، بشأن الاستثمارات الجديدة. وفجأةً تلقَّت الشركات الأمريكية ذات المصالح المهمة من أعمال ومشروعات في آسيا العقاب على يد سوق أسهم الولايات المتحدة، مثلما تلقت الجزاء مقابل استثمار رءوس أموالهم لمصلحة النمو الآسيوي، خلال السنوات السابقة.

وأدَّى الاهتمام بحيوية وإمكان استدامة أنماط النمو الآسيوية والصينية إلى الحذر، وهو أمر مشروع، من جانب الكثير من مشروعات الأعمال عام ١٩٩٨م. ولكن هذه الواقعية الجديدة في مجال مشروعات الأعمال، كانَت حركةً واحدةً فقط من بين حركتَين مهمتَين للبندول في اتجاهات أمريكا نحو الصين. وتمثَّلت البداية في عامَي ١٩٩٥-١٩٩٦م، حين أبدت الصين موقفًا متشددًا باطراد في مسألة تايوان، وبلغ الموقف الذروة عام ١٩٩٧م في صورةٍ تشكل جماعة ضغط «لوبي» جديدة وقوية مناهضة لبكين، ضمت قُوًى من اليسار ومن اليمين. وظهرت هنا الصين في صورة نوع جديد من أدوات الاختبار المعنوي والسياسي في السياسة العامة الأمريكية. ولعل حركة البندول، في هذه المرة، بلغت أقصى مداها، وربما بدأنا الآن في التحرك، قليلًا، في الاتجاه العكسي لحركة البندول. ويبدو هذا واضحًا، إذا ما قارنا مزاج وخطاب واشنطن حوالَي عام ١٩٩٨م بعام ١٩٩٧م، ولكن القوى ذات النفوذ لا تزال مؤثرةً في النظام السياسي الأمريكي، في محاولةٍ منها لاستثارة أعماق عصب التكوين النفسي الأمريكي؛ حيث يمكن تصوير الصين في صورة إمبراطورية الشر الجديدة، والعدو القومي الجديد.

ومثلما نعارض الموقف الفج المفرط في تفاؤله، كذلك نرفض هذه النزعة السوداوية، ذلك أننا لا نعتقد أن الصين تشكل اليوم تهديدًا للولايات المتحدة الأمريكية، كما لا نعتقد أن ثمة ما يبرر رسم السياسة الأمريكية على أساس المواجهة مع الصين؛ بغية إجهاض الخطر المحتمل ظهوره بعد عقدٍ أو عقدَين. طبعًا ثمة بوادر تثير القلق، من بينها: احتمال أن تصبح الصين عدوًّا، على المدى الاستراتيجي، للولايات المتحدة في المستقبل، ولكن سوف تمضي سنوات طويلة من الآن وحتى وقوع هذا الاحتمال، مما يهيئ فرصةً لصناع السياسة الأمريكية، للحيلولة دون هذا الخطر المحتمل، ولا يزال هناك وقت كافٍ تمامًا للاستعداد، إذا لم نجد النهج الوقائي.

إن الاستراتيجية السياسية ومشروعات الأعمال التي تتصرَّف بذكاءٍ تجاه الصين، لا بد أن تضرب بجذورها عميقًا، تأسيسًا على عمليات تقييم دقيقة واقعية، تحدد من أين تتحرك الصين وإلى أين تتجه. لقد أخطأ المتفائلون المفرطون في تفاؤلهم؛ إذ افترضوا أن الصين سوف تتطوَّر بشكلٍ طبيعي لتصبح مجتمعًا ليبراليًّا ديموقراطيًّا رأسماليًّا. ويبدو واضحًا اليوم أن الصقور على صوابٍ إلى الدرجة التي يقرُّون فيها اختلاف النظام والقيم في البلدَين. بَيْد أنهم مخطئون في اعتقادهم بأنه نظرًا لأن الصينيين لن يصبحوا ديموقراطيين على طريقتهم الخاصة، فإن المصالح الأمريكية يمكن خدمتها، إذا ما حاولنا أن نحتوي ونقيد الصين، ونجبرها على قبول طريقنا، أو حتى الظن بإمكان استخدام هذه الوسائل لجَعْل الصين تتحول وتصبح أكثر شبهًا بنا.

لنكن واضحين: لن يكون ثمة حوارٌ مهمٌّ عن «الخطر الصيني»، إذا ما كان خطاب الصين وفعلها لا يثيران روع الناس. إن «الخطر الصيني»، وكما يحلو لمحرِّري «الاستراتيجية والإدارة» أن يصدقوا، ليس ابتكارًا أمريكيًّا خالصًا بقضِّه وقضيضه. وإذا ما تأملنا سلوك الصين، ابتداءً من قمع بكين للمنشقين وحتى سياسة التنمر إزاء تايوان، وكذا مزاعمها عن شركات تهريب الأسلحة والمساهمات في دعم حملة كلينتون الانتخابية، سوف يثبت لنا مدى خطر التناقض بين النظام الصيني وقِيَمنا، وأسلوب عمل المسئولين في نظامنا.

وتوضح الشواهد، من وجهة نظر أمريكا، وعلى نحو يصل عندها إلى درجة اليقين، أن الصين باعت معدات نووية لباكستان، وصواريخ بعيدة المدى لإيران، وأنها احتلت جزرًا متنازعًا عليها في جنوب بحر الصين. وترى أيضًا أن مصانعها تحوز بصورة غير مشروعة أجهزة فيديو وأقراصًا مدمجةً أمريكيةً مهربةً، وعمدت شركات الصين إلى الحصول على تكنولوجيا مزدوجة الاستعمال من الولايات المتحدة، تحت غطاء أنها للاستخدام المدني، ثم تسليمها مباشرة إلى المؤسسة العسكرية. ووعدت الصين بالإبقاء على الوضع في هونج كونج كما هو، ثم تتحرَّك مباشرةً لتقليص الحريات المدنية. وها نحن نشهد النزعة القوية داخل الصين في صعود مطرد، مع بروز أصوات متباينة تعلن أن واشنطن «عدو»، وتحث المواطنين على رفض كل ما هو أمريكي.

وتأسيسًا على هذه الصورة، يبدو ملائمًا وواقعيًّا تمامًا أن يشعر الأمريكيون بالقلق، غير أن عددًا من جماعات المصالح الأمريكية وجدوا أن من النافع والمفيد لمشروعاتهم المتباينة أن يحولوا ما نراه — على نحوٍ مشروع — تحديًا؛ ومن ثَم كيف نتعامل مع القوة العظمى الصينية البازغة، إلى إحساسٍ بخطر وشيك. كذلك فإن السؤال عن كيف يمكن أن تتطور الصين على المدى الطويل، حولته بعض الأصوات ذات النفوذ إلى إجابةٍ حاسمة، قائلة إن الصين ستكون دولةً فاشيةً توسعيةً مهيمنةً ومعاديةً بكل جوارحها للولايات المتحدة.

ويبدي ستيفن إيرلانجر Erlanger، المحرر في صحيفة نيويورك تايمز، ملاحظة يؤكد فيها أن ثمة فارقًا كبيرًا بين الاعتراف بأن الحكومة الصينية تسيء السلوك، والاعتقاد بأنها تمثل خطرًا راهنًا واضحًا. بيد أن الفارق توارى أكثر فأكثر وراء سلسلة متوالية من المقالات والكتب والأنباء والتصريحات، التي تؤكد أن الصين أضحت بالفعل، أو لا محيص لها عن أن تصبح عدوًّا استراتيجيًّا للولايات المتحدة. ويقال إن حضارتَينا ذاتهما تحفزهما مثل هذه الدوافع المتعارضة، والتي مآلها إلى أن تتصادم.

ولقد بدا من المثير في أواخر الثمانينيات، أن نجد من يتنبأ بالصراع بين الولايات المتحدة والصين. ومع التسعينيات تعادل هذا مع التنبؤ بما يجري الآن، وسرعان ما تحولت العلاقة بين واشنطن وبكين من الصداقة إلى العداوة.

  • إذ نادرًا ما نجح زعماء البلدين وعلى مدى التسعينيات، في عقد لقاء رسمي ناجح، مثال ذلك أن لقاءً قصيرًا بين بيل كلينتون والرئيس الصيني جيانج زيمين، تم خلال اجتماع قمة لزعماء آسيا في سياتل، تحول إلى لحظة ذائعة الصيت للغضب المشترك، والاتهامات المتبادلة. وتحول المناخ السياسي خلال عام ١٩٩٠م — في واشنطن — إلى ما يشبه جحيم المناهضة للصين، حتى إن بيل كلينتون آثر ألَّا يلتقي جيانج زيمين في البيت الأبيض، على الرغم من أن كلينتون التقى، خلال الشهور التالية، اثنين من أشهر منتقدي جيانج وهما مارتن لي، زعيم حركة الديموقراطية في هونج كونج، والدلاي لاما، الزعيم الروحي في التبت. وأخيرًا استؤنف في أكتوبر من عام ١٩٩٧م لقاء قمة رفيع المستوى، عندما وافق كلينتون في النهاية على الترحيب بجيانج زيمين في البيت الأبيض. وبذل الجانبان جهودًا لاستغلال هذه الزيارة لإشاعة الدفء في العلاقة بينهما، وتحقق قدر من التقدم الموضوعي بالفعل. ولكن، على الرغم من هذا، كان جدول الأعمال محدودًا جدًّا، ولوحظ أن بعض القوى ذات النفوذ في الكونجرس، ومن مراكز التأثير ذات المصالح الخاصة، سعَتْ إلى تحويل الزيارة إلى منبرٍ لانتقاد السياسات الصينية بشأن التبت وحقوق الإنسان، ومعارضة تحسين العلاقات بين البلدَين بوجهٍ عام. وأثارت الاحتجاجات خارج البيت الأبيض وفي الطرقات والأماكن التي ظهر فيها جيانج انتباه وسائل الإعلام، أكثر مما أثار اهتمامها الخطوات الإيجابية التي اتفق عليها الزعيمان.

  • ولا تفتأ الأصوات تتعالى داخل الكونجرس، داعيةً من أجل وقف التعامل التجاري مع الصين، عقابًا لها على خطاياها السياسية. وكاد الأمر يصل إلى حد الخطر من حيث إمكان موافقة الأغلبية في مجلس الشيوخ العام ١٩٩٧م على رفض معاملة الصين معاملة الدولة الأولى بالرعاية؛ حيث تتمتع بالمزايا التجارية العادية، التي تمنحها الولايات المتحدة لجميع البلدان تقريبًا. وذاعت داخل الكونجرس مذكرات متطرفة، تطالب باعتبار الصين العدو القومي لأمريكا، والتحايل ضد سلطات الرئيس الدستورية في تحديد السياسة الخارجية بشأن المسائل المتعلقة بالصين، وتطالب إحدى هذه المذكرات، كمثال، بأن يلتزم الرئيس بأن تكون للكونجرس حصانة خاصة عند السماح لزعيم صيني بزيارة الولايات المتحدة.

  • الشركات الأمريكية التي استثمرت أموالًا طائلةً في الصين ينظرون إليها هناك نظرة تقدير وإكبار، وتوشك على أن تجني الثمار المتوقعة في السوق الضخمة، تشهد الآن ضياع الفرص الأولى للمشروعات، حيث إن بكين تتخذها هدفًا للتنفيس عن مشاعر الإحباط مع واشنطن.

  • اعتادَت وزارة الخارجية الأمريكية، وبشكل رتيب، أن تدرج الصين ضمن قائمة أسوأ بلدان العالم انتهاكًا لحقوق الإنسان.

  • أرسلت الولايات المتحدة سفنها الحربية، للإبحار على بعد ٢٠٠ ميل من الساحل الصيني عام ١٩٩٦م؛ لتذكير بكين أن الولايات المتحدة يمكن أن تتدخل عسكريًّا، إذا ما حاولت الصين أن تستولي على تايوان بالقوة.

ولم يخفت صوت دعاة المواجهة الساخنة مع الصين، على الرغم من تحرك إدارة الرئيس كلينتون في اتجاه تحسن حقيقي في العلاقات مع بكين، بل وعلى الرغم من أن التحسن المطرد لا يزال هدف كثيرٍ من رجال الأعمال الأمريكيين، دون اعتبارٍ لمظاهر القلق الاقتصادية التي تبدَّت أخيرًا. ولا يفتئون يسوقون الحجج بغية تحديد شروط الحوار. ونشهد الآن تصدعًا جديدًا داخل الدوائر القيادية الأمريكية، حيث تتردد أصداء التقسيم المألوف بين «الصقور» و«الحمائم»، والجدل بشأن مختلف أشكال «الاحتواء» مقابل التعاون. وبعد انتهاء الصراع الذي امتد زمنًا طويلًا بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، انتقلت الحرب الباردة شرقًا لتنذر وتهدد بين الحين والآخر بتقويض أي إمكان لعلاقات طيبة مع الصين.

وكان عام ١٩٩٨م عامًا ممتازًا؛ إذ بدا أن بيل كلينتون يؤمن بالعمل على تضييق شقة الخلافات بين الولايات المتحدة والصين، وتوسيع نطاق العلاقة بينهما على عكس موقف بيل كلينتون ذاته فيما بين عامَيْ ١٩٩٣–١٩٩٦م، وقتما سعَت إدارته لمواجهة بكين بشأن كل مسألة يمكن تصورها. وتحدَّث أخيرًا كلينتون، وأفاض في بلاغة الحديث بشأن أهمية العلاقة الإيجابية مع الصين، وشرع في استخدام بلاغته ليروج لكلامه عن منافع تعزيز العلاقات الاقتصادية والتفاعل الثقافي بين البلدَين. وأفادت زيارة كلينتون للصين في العام ١٩٩٨م في تحسين الديناميات اليومية، ولكن اضطر كلينتون، نظرًا لضعف موقفه السياسي، إلى أن يتجنَّب أي مبادرةٍ من شأنها أن تعزز موقف الصقور المناهضين للصين.

وثمة مَن لا يزالون، في هذه الأوقات العصيبة، يدركون قيمة اتخاذ خطواتٍ إيجابيةٍ وبناء جسور وارتباطات مع الصين، ويلتزم هؤلاء بالمفهوم الأساسي الذي تقوم عليه سياسة «التعاون البناء»، والتي عبرت عنها يومًا ما إدارة الرئيس كلينتون، ولكن هناك مَن يعتبر أصحاب هذا الرأي بلهاء وسذجًا، على أحسن الفروض، ويضعونهم على أسوأ الفروض، موضع سخرية؛ إذ يرونهم دعاةً تهدئةً أو مدافعين عن الصين، و«مدللين للدكتاتوريين» الذين يخونون الشعب الصيني، مثلما يخونون المصلحة القومية لأمريكا.

وتركز الصقور اليوم على تقديم اقتراحات بفرض عقوبات على بكين المارقة، التي ترفض أن تسلك وفقًا لما يريده منها الأمريكيون، يضاف إلى هؤلاء من يفرضون نظرياتٍ تلو أخرى عن أفضل الوسائل لعزل الصين واحتوائها والإطاحة بحكومتها. ويضع هؤلاء، وقد أصبحوا الشخصيات المعبودة لجماهير واشنطن، الخطط لاستثارة وتغذية السعار السياسي اليوم.

وها هو جورج ويل Will، كاتب العمود الصحافي ذائع الصيت، يكتب، على سبيل المثال، تشخيصًا سيئًا يقول فيه: «الهدف الاستراتيجي لسياسة الولايات المتحدة هو، ويتعين أن يكون، تخريب النظام الحاكم في الصين.» ويُضيف آرثر والدرون Waldron من كلية الحرب البحرية قائلًا: «إن السياسة الأمريكية الراهنة تجاه الصين ليسَت أكثرَ من تهدئة العدوان، وإن ما ينبغي على الولايات المتحدة أن تفعله هو محاصرة الصين بحلفاء عسكريين، وسحب الأرض من تحت زعمائها المتشردين.» ويقول أيضًا والدرون إن الحل بعيد المدى إزاء الخطر الصيني هو «تغيير النظام الحاكم في اتجاه الديموقراطية.»

معنى هذا، بعبارةٍ أخرى، أن فكرة بناء شراكة استراتيجية بين الولايات المتحدة والصين، وهي الفكرة التي ظلت تمثل القلب من حوارات السياسة العامة مع الصين على مدى العقدَين الأخيرين، أضحت أمرًا باليًا، لقد عمل الزعماء الأمريكيون على مدى خمس وعشرين سنةً منذ أيام نيكسون وكيسنجر من أجل التوافق مع حقيقة الصين، والاعتراف بمشروعية حكومتها، وتعلم كيف يفهمونها وفقًا لوضعها الخاص والتماس أرض مشتركة معها، وتقدير تقدُّمها الاقتصادي ونجاحها في توفير السلع لشعبها، ولكن باتت «الموضة» الجديدة الآن هي، الإعلان عن أن ما يتعين أن تفعله أمريكا مع الصين هو الإطاحة بحكومتها.

(٣) مفارقات التاريخ

تحذر حكمة صينية قديمة قائلة: «حذارِ مما تراودك الرغبة فيه؛ إذ ربما يصبح حقيقة.» وها هو الغرب الآن يجد في الصين الحلم الذي راوده على مدى مائتَيْ عام: سوقًا ضخمة نشطة مزدهرة، واقتصادًا بازغًا واسع الأرجاء، زاخرًا بالفرص، ومجالًا جديدًا في عالمٍ يلتمس في نهم نموًّا ديناميًّا، ولكن في واحدةٍ من مفارقات التاريخ الكبرى، يبدو أن واشنطن كانت أكثر ارتياحًا لوضع الصين خلال السبعينيات، وقتما كانت لا تزال دولة عقائدية متطرفة، وتنهج سياسة شيوعية على عكس واقع الولايات المتحدة الآن، بعد أن أصبحت الصين بلدًا حديثًا أكثر انفتاحًا، وتتجه لسياسة السوق.

وعلى الرغم من أن الصين ليست، يقينًا، مجتمعًا ديموقراطيًّا تمامًا، بالمعنى الأمريكي للكلمة، إلا أنها — بحق — أكثر ديموقراطيةً من أي وقتٍ في تاريخها على مدى خمسة آلاف عام، كذلك فإن سوقها أكثر انفتاحًا للتجارة والاستثمار من بعض البلدان الأخرى في الإقليم. والملاحظ أن الصين، وعلى مدى عشرين عامًا هي فترة استثنائية في تاريخها السابق، سجلت نجاحاتٍ مهمةً في التنمية وفي التغيير والتحديث، بل إنها تجاهد، في حذرٍ وعلى مهل، لتدخل تحت هالة الضوء الغربي للديموقراطية والأسواق، ولكن بعد هذا كلِّه تُعامل واشنطن الصين اليوم معاملةً تنطوي على قدر من الامتهان أكثر من السابق، وقتما كانت بكين دكتاتورية ماوية خلال السبعينيات. وتدرج واشنطن بكين ضمن حوارات المستوى الأدنى للزعامات.

ونذكر، بهذه المناسبة، أن التردِّي إلى المواجهة والحرب الباردة، لن يكون بأي حالٍ من الأحوال عملًا بلا ثمن بالنسبة لمجتمع أمريكي، يواجه بالفعل عصر الحدود والقيود، إزاء ما يمكن لحكومةٍ ما أن تعمله، بل إننا نجد مَن بدأ بالفعل في تقدير التكلفة الاقتصادية والعسكرية، كما سنرى في هذا التحليل:

إن نشوب حرب باردة حقيقية مع الصين إنما يعني، على الأقل، مزيدًا من النفقات الدفاعية للإنفاق على قوات أمريكية مرابطة في الخارج. ويعني تعطُّل جانبٍ ضخمٍ من الاقتصاد والتجارة، وأزمة مع حلفاء أمريكا في آسيا، وقدرًا أكبر بكثيرٍ من النزاعات داخل مجلس الأمن، وربما يعني مزيدًا من الانتشار النووي، أو أنه يعني بإيجازٍ عالمًا أكثر خطرًا، وأقلَّ قدرةً على التنبؤ بمستقبله.

(٤) من أجل حسم الحرب الباردة

لا يوجد بلدٌ آخر مثل الصين يفرض على جدول الأعمال الأمريكي — طوال القرن الواحد والعشرين — مثل هذه المسائل المهمة في مجالات الأعمال والاقتصاد والسياسة والاستراتيجية. ويصل الإغواء — واسع النطاق — إلى حد الخطر في بعض الدوائر عند الحكم على طبيعة الخطر الصيني، خاصة في ضوء تلك المحاذير الشديدة: ذلك أن الشركات، التي مقرُّها الولايات المتحدة، يمكنها أن تكون شريكًا للصين في تطوير وتحديث اقتصادها؛ إذ إن الصينيين معجبون بالبراعة الفائقة للأمريكان في مجال الاقتصاد، ويجدون الأمريكيين أكثر مودةً وأيسر عند التعامل معهم، عما هي الحال مع اليابانيين، فضلًا عن أنهم أكثر حسمًا ووضوحًا من الأوروبيين. وتقف مشروعات الأعمال الأمريكية بالفعل على بعد خطواتٍ داخل بوابة السوق الصينية، التي حاول الأجانب جهدهم النفاذ إليها على مدى مائتَي عام، ولكن أي محاولةٍ لإعادة شبح الحرب الباردة، ستؤدي إلى تقييد قدرة الشركات الأمريكية على استثمار رءوس أموالها بفضل الفرص التي يسيل لها اللعاب، وقد حان الوقت لقطف ثمارها.

وكلما زاد الاعتقاد السياسي بأن الصين هي خصمنا، قلَّت احتمالات إطلاق المبادرات الجديدة للقطاعين العام والخاص، اللازمة لإعادة العلاقات إلى مسارها الإيجابي. زِدْ على هذا، أنه كلَّما بدا السلوك والسياسة الأمريكيان كأنهما تصميم استراتيجي سافر لاحتواء الصين والسيطرة عليها، أضحت الصين أكثر تشددًا وأقل تعاونًا. وهكذا، فإن التفكير في الصين باعتبارها عدو أمريكا مستقبلًا، إنما هو تفكير ينطوي على مخاطرة؛ إذ قد يصبح أشبه بالنبوءة التي تهيئ المناخ لكي تحقِّق ذاتها.

ويدفع بعض الباحثين والخبراء الأمريكيين بأن الحرب الباردة ليسَت هي أسوأ الاحتمالات؛ إذ صدرت أربعة كتب على الأقل خلال العامَين الماضيَين لكتابٍ موضع ثقة كبيرة، يعرضون فيها تفاصيل سيناريوهات محتملة لحرب شاملة بكل أنواع الأسلحة، بين الولايات المتحدة والصين، خلال القرن الواحد والعشرين. بَيْد أننا نرى أن هذه السيناريوهات تمثل مجموعة أفكارٍ متشائمة، لا مبرر لها، عن النزاعات الحربية لدى الصين. ونرى أنها تمثل أيضًا تحذيرًا مفيدًا لكلا الطرفَين، ليكون أكثر حرصًا وحذرًا عند التفاعل فيما بينهما. وملاحظة أن هناك عقيدة تؤمن بأن أفضل وسيلة لترويج الكتب عن هذه العلاقة المركبة، هي التنبؤ بنشوب حرب بين الولايات المتحدة والصين. وحري ألَّا نغفل أي سيناريو في كتاب عن العلاقات بين قُوًى عظمى، ونحن لن نغفل احتمال حسمٍ عسكريٍّ لقضايا متنازع عليها بين الولايات المتحدة والصين في المستقبل. بيد أننا لم نشأ الحديث عن مثل هذا الاحتمال في كتابنا هذا، وإن كنا قد عرضنا فيه الكثير من السيناريوهات المحتملة في المستقبل، والسبب بسيط للغاية: إننا لا نؤمن بأن هذا سوف يحدث.

وإنها لمأساة حقًّا أن يفضي النزاع والمواجهة الباردة إلى ضياع فرص هائلة. ونذكر أن احتمال التساوق والتعاون بين الأمريكيين والصينيين يمكن استثماره في مناخٍ مغاير، لإنجاز أهدافٍ كثيرة جديدة، خاصة أن الشعبَين يشعران — بوجهٍ عام — بإعجابٍ ومودة متبادلَين، على الرغم مما بينهما من فروقٍ ثقافية.

وقد نجد، على امتداد الطريق الإيجابي البنَّاء لحركة تقدُّم الصين، إجابةً عن السؤال الخاص: أين ستحصل البلدان النامية في العالم على قُوى الدفع لطاقاتها ونموها خلال النصف الأول من القرن الواحد والعشرين؟ خاصة أنها جميعًا تقريبًا تملك اقتصادات بطيئة النمو وزيادة سكانية سريعة. ونلاحظ اليوم أن أقلَّ من واحدٍ من بين كل أربعة من السكان يعيشون حياةً اقتصاديةً موسرة؛ مما يجعل أغنياء العالم أقلية شديدة، يحاصرها محيط من المعدمين الأشقياء في حياتهم. وإغناء الصين ودمجها في النظام العالمي، سيؤدي إلى زيادة تلقائية في عدد الموسرين، ليصل إلى نصف سكان العالم، وسوف تكون مثالًا يحتذى للبلدان والشعوب الأخرى.

ولكن الحوار العام بشأن الصين تحوَّل خلال بضع سنواتٍ قليلةٍ من النظر إليها باعتبارها شريكًا محتملًا، وقوةً داعمة للتحول الإيجابي في العالم، إلى التركيز على كيفية عزلها واحتواء أخطارها. ونذكر هنا ملاحظةً ساقها أخيرًا دبليو فريمان W. Freeman, Jr. مساعد وزير الدفاع السابق، والمختص بشئون الصين:

يتركَّز الحوار بشأن العلاقات الصينية-الأمريكية في كلٍّ من بكين وواشنطن على النتائج المعاكسة لحالة التباعد والعداء الاستراتيجي، أكثر مما يتركز على مزايا الصداقة وسياسة التهدئة. ويبدو أن لا أحد تقريبًا يتصوَّر إمكان تحقيق تعاون أوسع خلال العقود القريبة القادمة. ويتجلَّى التباين واضحًا بين الفترة منذ عام ١٩٧١م وحتى عام ١٩٨٩م، عندما عملت الإدارات الأمريكية الخمس المتعاقبة والإدارات الصينية؛ من أجل إنجاز رؤيةٍ إيجابيةٍ عن العلاقات الصينية-الأمريكية.

إن السؤال الملح الآن، ليس هل سيحدث نزاع صيني أمريكي في المستقبل، بل كيف نطرح النزاع وراء ظهرنا دائمًا وأبدًا، مهما كانت الشواهد؛ لنرى غالبية الأحداث التي وقعت أخيرًا، وكأنها تتحرَّك في اتجاهٍ إيجابي. وكيف لنا أن نحدَّ ونقيِّدَ عوامل هذا النزاع، بدلًا من أن نتركه يتوسع ويتعمق ويتصاعد مستقبلًا؟ كيف نحسم ونبدِّد احتمال الحرب الباردة مع الصين، ونهيئ مسارًا إيجابيًّا يحقق منفعة متبادلة خلال القرن الواحد والعشرين؟ هذا هو السؤال الحاسم الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤