الفصل العاشر

عبور النهر عن طريق تلمس مواقع الأحجار

الصين قلعة العصور الوسطى التي عاشت زمنًا طويلًا في معزل الجغرافيا والأعراف والعادات، وعاش شعبها متدثرًا بعباءة الإقطاع، مهيأ للدفاع عن أسوارها، ولكن الصين اليوم مهيأة للانفتاح لعملية التحديث بألوان طيفها المتعددة والمضطربة، ولكن ترى ما المستقبل الآن عندما نطلُّ إلى الماضي البعيد عبر الخندق المائي؟ وماذا عسى أن يكون شكل المملكة بعد أن تتحول وتندمج في العالم المحيط بها؟

يوجد داخل الصين ذاتها عدد قليل ممن لديهم رؤية عن «الجهة التي تنطلق إليها الصين»، على نحو يمكن بيانه تفصيلًا، ولعل عدم انشغالهم في وضع خطة شاملة لمستقبلهم يعتبر علامة إيجابية عن المدى الذي بلغته الصين في تحولها من دولة تخطيط إلى دولة سوق. وعلى الرغم من أن الصين لا تزال تضع خططًا خمسية وتصدر من حين إلى آخر مسودات لخطط شاملة، إلا أن هذا جميعه لم يعُد من قبيل الأمور التي يجري التشديد عليها، وإذا استخدمنا تعبيرًا صينيًّا قديمًا اقتبسه ماو والتزم به دنج، نقول إن الصين بصدد «عبور النهر عن طريق تلمُّس الأحجار»؛ ولهذا فإن قادتها لا يملكون خطةً رئيسيةً مرجعيةً توضح كيف يتعاملون مع التيارات الجارفة. إنهم لا يكادون حتى يروا الجانب الآخر بوضوحٍ عبر الضباب، وبدأت مياه النهر تعلو وترتفع بصورةٍ تنذر بالخطر.

إن التجريب الحذر والمحكوم — حتى وإن بدا مضببًا غير يقيني — أصبح هو المفضل على القرارات الفورية كأقل وسيلة لعكس اتجاه آلاف السنوات من الثقافة، وقرنين من الفوضى، وأربعة عقود من التخطيط المركزي. وإذا ما ثبت نجاح الأسلوب فلنتوسَّع فيه، وإذا ما أخفق، نلغيه ونستبدله، وما عليك إلا أن تشذب الزوائد حين تطول أكثر من اللازم وتصبح بعيدةً عن متناول اليد. ونجح أسلوب التدريب، بينما يسود خوف من العلاج بالصدمات.

ومن دواعي السخرية، وما أكثرها، التي تتعلق بتجارة الصين، أن الغربيين اشتهروا بالحنين إلى أيام الشيوعية الخالية، وقتما بدت الصين «منظمة» وكانت سطوة السلطات والمؤسسات المركزية مطلقة، ونجد أولئك الذين مارسوا أعمال التجارة في الصين منذ خمس عشرة سنة مضَت أو أكثر، يتذكرون زمنًا يستطيع فيه أي رسمي مهم أن يغير بإشارة من يده سياسة مرسومة، وأن ينفذ صفقة بكلمة منه، أو أن يحدد بثقة وبسلطة مطلقة كيف ستستجيب السوق الصينية لأحد مشروعات الأعمال الأجنبية، ولا شيء أكثر من ذلك.

يكفي أن تنظر إلى صين اليوم في أي لحظةٍ زمانية، أو أن تنظر إلى أي مرحلة من عملية الإصلاح، حتى يكون يسيرًا أن تشعر بالإحباط واليأس، ذلك أن كل شيء يجري إنجازه على نحوٍ خاطئ، أو على أحسن الفروض، يجري إنجازه جزئيًّا دون أن يكتمل. كل شيء مقام على أسس موضع شكٍّ وارتياب، ذلك أن منظومة العقيدة الشيوعية لم تصادف نقدًا عميقًا أو رسميًّا، ومع هذا يجري بناء السوق على هذه الصخرة. إن الصين هي «المملكة غير المحددة المعالم»، بنظامها «اشتراكية السوق» الهجين المتناقض.

وإن أي عضو بمجلس إدارة إحدى الشركات الغربية، وأي رجل اقتصاد أو رجل سياسة أو مفكر يمكن أن يقول للصينيين ألف طريقة وطريقة لتحسين عملية الأداء عندهم، ولكن الصينيين لديهم إزاء كل اقتراح سبب خاص وصائب في سياق تطورهم، لماذا هذا الاقتراح لن يجدي أو سوف يتسبب في حدوث نتائج غير مستهدفة وغير مرغوب فيها. ويحكي رجل أعمال من هونج كونج القصة التالية: في لقاء على غداء غير رسمي وصريح، ندد أحد كبار القادة الصينيين بحالة الريف وما يعانيه من تخلف وأمية ونقص فرص التعليم. واقترح رجل الأعمال من هونج كونج أن يقدم ١٠ آلاف طبق لاقط من الأقمار الصناعية (الدش) مجانًا، لاستخدامها في منطقة نائية حتى يتسنى إجراء تجربة للتعليم عن بعد. وتأمل القائد الصيني الاقتراح، غير أنه رفضه في كياسة ولباقة: إن إدخال الأطباق اللاقطة من الأقمار الاصطناعية، سيجعل الفقير الريفي من أبناء المقاطعة يرى أشياء كثيرة جدًّا عن العالم الخارجي، مما يضاعف من توقعاته. وهذا سيكون سببًا في إثارة مشكلات أخرى كثيرة جدًّا؛ ومن ثم فالأفضل ألَّا تعمل شيئًا، بدلًا من أن نفتح الباب لمثل هذه المشكلات.

وتكررت قصص مماثلة عشرات المرات كل يوم، ونتيجة لذلك، فإن الصورة الجزئية «المايكرو» تبدو مثيرة للإحباط إلى ما لا نهاية؛ إذ يبدو أن صناع القرار في الصين عاجزون يأسًا عن العمل، بيد أننا إذا ما ألقينا نظرة واسعة النطاق لا نملك إلا أن نتأثر إعجابًا بما يبدو اليوم القوة الحتمية للتاريخ، التي تطلق الطاقات الاقتصادية لربع سكان العالم.

إننا إذا تأملنا ابتداءً من المفهوم القديم عن اليانج والين، وحتى جهود ماو الفلسفية التأسيسية، «وإضفاء الطابع الآسيوي» على جدل هيجل-ماركس، نجد أن منظومات الفكر الآسيوي أقدر من مثيلتها في الغرب على تقبل مظاهر الغموض والتلاقي بين الأفكار والحقائق، فنحن لا نجد السياسة الصينية ولا واقع المنظومات السياسية أو الاقتصادية الصينية، تتخذ دائمًا مواقف «إما … وإما …»، وهذا على نقيض المنظومات المماثلة لها في الغرب؛ لذلك فإن الصين لن تكون، ولزمنٍ طويل، شمولية بالكامل ولا ديموقراطية تمامًا، ولن يكون اقتصادها اقتصادًا خاضعًا للأوامر العليا ولا اقتصاد سوق حرة. كذلك، وفي ضوء علاقات الصين مع الولايات المتحدة واليابان والبلدان الأخرى والنظام المؤسسي العالمي في شموله، لن تكون الصين مجرد فرصة اقتصادية كبرى فقط، ولا مجرد تحدٍّ استراتيجي وإقليمي مشئوم؛ لذلك فإن الإجابة عن سؤال: أيهما؟ وعلى مدى المستقبل البعيد، هي: كلاهما.

(١) نهر اليانجتسي ليس نهر المسيسبي

ولكنَّ ثمة شيئًا واحدًا واضحًا وضوحًا مطلقًا: إن النهر الذي يحاول الصينيون عبوره وهم يتلمسون بأقدامهم أحجاره ليس هو نهر المسيسبي، إنه نهر صيني وأحجار صينية.

لقد أصبحت عادة تاريخية أن نفرض على الصين أحلامنا المؤوَّلة وفقًا لتكويننا النفسي والسياسي، وغالبًا ما تكون أحلامًا بعيدة الشبه عن الأحلام الصينية، إلا في النادر القليل. لقد حدث ذات يومٍ أن فتًى من أصدقائنا الصينيين جعل الدمع يملأ مآقي وفد من عتاة القادة السياسيين ورجال الأعمال الأمريكيين، في ختام وليمة صاحبها شراب الماوتاي الصيني، وذلك في مطلع الثمانينيات. وسبب ذلك أنه حكى بطريقة مثيرة للمشاعر وبإنجليزية رائعة خطاب لنكولن جيتسبرج، ولم يدُر بخلد أحد من هؤلاء الأمريكيين ذوي المشاعر الرقيقة، أنه بعد سنوات قليلة سيكشف هذا الشاب الصيني عن قدر محدود من التعاطف مع الطلبة المتظاهرين في ميدان تيان آن مين؛ إذ كان الفتى يعتقد أن التظاهرات، وليست الإجراءات الصارمة، تسيء إلى صورة الصين، وتسيء لمشروعات الأعمال، بل ويمكن أن تسيء إلى جميع الارتباطات الخاصة بحكومته.

ونحن نفترض أن الناس الذين تعلَّموا أن يتحدثوا بكلمات بذاتها — على نحو ما نفعل نحن — سوف يوجهون مجتمعهم في الاتجاه ذاته؛ ومن ثم فإن كل ما عدا ذلك هو أمر غير عقلاني. وقيل لنا إننا بلغنا نهاية التاريخ، بحيث إن الفكر الغربي العقلاني — حسبما يتجلَّى في الديموقراطيات السياسية الليبرالية للغرب، وفي اقتصادات السوق الحرة — هو طريق التقدم، الذي انتُخب طبيعيًّا تأسيسًا على النزعة الداروينية الاجتماعية على مدى القرون الأخيرة، ولكن الشيء الذي لم نضعه في اعتبارنا هو ما يثبته تاريخ الصين: إذ إن الهدف، ومن منظور صيني، ليس هو أن يتوافر لديك نظام ديموقراطي، بل أن تحرك مجتمعًا ضخمًا إلى الأمام في تلاحم. إن ما ينشده قادة الصين ليس الرأسمالية، بل التحديث؛ ومن ثم فإن الشيء العقلاني تمامًا هو أن نؤمن بالاثنين معًا: السوق والاشتراكية، «وبمزيد من الانفتاح»، وبأنواع معينة من الحرية، وأن نؤمن كذلك بقمع المنشقين سياسيًّا، وأن نؤمن بالسلم العالمي وبالاستقرار، مثلما نؤمن بسياسة خارجية تقوم على أساس المناورة والالتزام بمصلحة الصين قبل كل شيء.

(٢) النظر في المرآة

إذا ما وضع المرء قائمة كاملة بمشكلات الصين الكبرى، فسوف تثير القائمة مشاعر الإحباط، ولكن هذا أيضًا هو حال أي بلد آخر بما في ذلك الولايات المتحدة. والحقيقة أن المشكلات التي يواجهها كلٌّ من المجتمعَين: الصيني والأمريكي هي مشكلات تتعلق بأهم مجالات الروح الجماعية المشتركة بيننا:

  • لديهم فساد في المراكز العليا، ومشكلة اجتماعية خطيرة مع الجريمة، وكذلك نحن.

  • لديهم مجتمع كان لا يزال — حتى عهد قريب جدًّا — مجتمع عدالة ومساواة، ولكنه اليوم يزداد تباينًا واستقطابًا بين ملاك ومعدمين، ونحن أيضًا لدينا مجتمع — كان حتى عهد قريب جدًّا — لديه أكبر وأقوى طبقة وسطى، ولكنه الآن يعاني من أوسع فجوة بين الغنى والفقر، لا مثيل لها في أي اقتصادٍ متقدم.

  • نظام المشروعات المملوكة للدولة عندهم شبه مفلس، وسبب ذلك أساسًا التزاماته بالرعاية الصحية ومعاشات العمال المتقاعدين، ونجد أن نظام الضمان الاجتماعي وبرامج الرعاية الطبية الحكومية في بلادنا منطلق في طريقه إلى الإفلاس للأسباب ذاتها.

  • النسيج الاجتماعي عندهم بدأ يهترئ منذ أن فقدت الأيديولوجيا الشيوعية قبضتها، وكذلك نسيجنا الاجتماعي آخذ في الاهتراء؛ نتيجة انهيار المؤسسات العامة الكبرى، ابتداءً من الكنيسة وحتى علاقات الجوار والمدارس العامة.

  • إنهم يعانون مضاعفات التحول إلى وضعٍ أكثر فعالية عن طريق كسر سلطانية الأرز المعدنية، ونحن مضطرون إلى التعامل مع مشكلات مماثلة وليدة الانكماش وزيادة الشك والمخاطرة، وهي مظاهرة قرينة الفرص الجديدة.

  • إنهم يواجهون تحديًا خطيرًا فيما يختص بالتعامل مع شعوب الأقليات عندهم والحفاظ على اندماجهم في الصين، ولا يزال تحدي دمج الأقليات في مجتمعنا هو المشكلة الاجتماعية رقم واحد في أمريكا.

  • هناك من يرى كبار قادتهم الحاليين من أمثال جيانج زيمين، ولي بونج ضعافًا وغير أَكْفاء، بالمقارنة بقادة الصين العظام في الماضي القريب، وبالآباء المؤسسين للأمة ابتداءً من صن يات-صن Sun Yat-Sen وحتى ماو ودونج. ونجد بالمثل القادة الأمريكيين مثل بيل كلينتون يخفقون عند مقارنتهم بزعماء من أمثال فرانكلين وروزفلت والآباء المؤسِّسين لأمريكا.
  • إنهم لا يملكون خطة مستقبلية، وكذلك نحن. وهم يتبعون نصيحة دنج والشعار القائل «اعبر النهر وأن تتحسس مواقع الأحجار»، بينما نحن نقيم «جسرًا إلى المستقبل» غير محدد المعالم مثلهم، وهو موضوع كثيرًا ما تكرَّر في خطابات بيل كلينتون الانتخابية السياسية عام ١٩٩٦م.

والملاحظ أنه عند مناقشة حال البلدان — خصوصًا ما يمر منها بعملية تحول سريع — إنما نناقشها كأنها كائنات بشرية سوف تمرض أو تصيبها نوبات قلبية أو تموت، ما لم تتهيَّأ لها سياسات صحيحة، ولكن، وكما ذكر أخيرًا عالم الاقتصاد بول كروجمان في حديثه إلى المعلقين على المسائل الاقتصادية، فإن الدول — الأمم ليس شأنها شأن الأجسام البشرية. حقًّا أن ثرواتها الاقتصادية وثقلها العالمي أمور تزيد وتنقص، ترتفع وتهبط، وتواجه فترات صحة ومرض، بيد أنها، فيما عدا استثناءات معينة، لا تموت بوجه عام.

وتواجه الصين أكثر من سواها مخاطر السقوط في فوضى، أو تحطم هيكلها الراهن، بيد أننا لا نعتقد أن هذه السيناريوهات تحتوي على احتمالات عالية. وإن الاحتمال الذي نتكهن به هو في الحقيقة العكس تمامًا: صين أقوى ومطردة النمو على مدى العقود التالية، ولكن جميع السيناريوهات — تقريبًا — ترى أنه سيكون هناك دائمًا بلدٌ يحمل اسم الصين. وسواء نفذ القادة أم لم ينفذوا السياسات الصائبة، وسواء استطاعت أم لم تستطع بعض الأقاليم أو المقاطعات أن تحصل على منافع جانبية لنفسها من قلب المملكة الوسطى، فإن الصين، على الرغم من هذا كله، ستكون قوة يعمل لها الجميع حسابًا خلال القرن الواحد والعشرين، وهو ما لم يكن في القرن العشرين.

(٣) هل هناك انفجار محتمل الوقوع؟

ومع هذا، فمن المشروع أن نسأل إلى أي حد سيكون نمو الصين مستدامًا في غياب نموذج اقتصادي سياسي واضح المعالم والتفاصيل، نذكر هنا القول المأثور: «عبور النهر عن طريق تحسس مواقع الأحجار»، وغيره من مأثورات دنج («التنمية هي النظرية الأهم على الإطلاق» أو «إن ما يحقق نتيجة لنا هو ما سوف نسميه اشتراكية، وما يفشل سوف نسميه رأسمالية» أو القول الشهير «لا يهم ما إذا كان القط أسود أم أبيض، ما دام أنه يصطاد الفئران»)، فإن مثل هذه الأقوال هي التي يمكن أن تمضي بالصين بعيدًا على الطريق. ومع أهمية هذه الأقوال المأثورة لحجج قوية للدفاع عن البراجماتية والأسواق ووضع حلول عالمية واقعية — وأهميتها كسهامٍ موجهةٍ إلى قلب الأيديولوجية المادية القديمة — إلا أن فائدتها أخذت تقلُّ أكثر فأكثر كعوامل إرشادية تهدي إلى حل مشكلات الصين الراهنة. وكما لاحظ ويلي وو-لاب لام Willy Wo-Lap Lam الصحافي من هونج كونج عند تأمله لسجل أعمال الحزب الشيوعي الصيني بقيادة دنج «لقد تجاوز طريقة منتصف الليل بحثًا عن هذه السندريلات التي تعاني حالة متقدمة من مرض الشلل الرعاش، ونعرف أن القطاع الرئيس من الحزب منذ عام ١٩٩٤م، لم يبرهن فقط على «نفاد صبره»، بل بلغ به الأمر حد التوقف عن أي محاولة تفيد بأنه قادر على وضع «حلول جديدة».»

وتتجمَّع نذر أزمة مستقبلية تتمثل فيما يمكن أن يسميه الماويون التناقض بين «القاعدة» في الصين والبناء الفوقي. وهذه القاعدة — الأسس الاقتصادية الرئيسية للمجتمع والعلاقات بين الناس ونظام الملكية — يطرأ عليها الآن تغير قوي، وإن كان غير متكافئ، ولكن البناء الفوقي — المؤسسات الحكومية والقوانين والأفكار والقيم وطرق الإدارة ومنظومات المعتقدات والفلسفة الأخلاقية — بدأ يصدر عنها صرير، وآخذة في الضمور. وتؤمن النظرية الكلاسيكية الماركسية اللينينية المادية بأن مثل هذه الظروف تخلق شروط الثروة.

ونحن من أنصار الرأي القائل بأن هذه الأزمة التي تتجمع نذرها سوف تصل إلى غايتها آخر الأمر، وليس من المحتمل أن يحدث هذا في القريب العاجل، ولكن، وهو الأرجح، خلال السنوات الأولى من العقد التالي. ولا سبيل إلى التنبؤ بشكل الانفجار، ولكنه في جميع الأحوال سوف يشتمل على عنصر من الطلب التلقائي العام للتغيير، وكذلك تغيير بعض القيادات بعناصر من الحزب قادرة على الاستجابة لمثل هذه المطالب.

وليس مطلوبًا أن يكون الانفجار شاملًا، بل إننا نشكُّ في أنه سيكون تكرارًا لأحداث ميدان تيان آن مين، ونتوقع أن النتيجة لن تكون بالضرورة تحولًا جذريًّا عن الوضع القائم، ولكن، أيًّا كان شكل الانفجار، فإنه سيكون رسالة تشجع على أن تبدأ القيادة بتشجيع التجديدات اللازمة لإصلاح البناء الفوقي، وثمة احتمال بأن تقع الصين أسيرة لجاذبية السوق العالمية، والنهج الغربي إزاء الديموقراطية والحرية الشخصية. لقد كانت الديموقراطية أحد المبادئ الثلاثة التي أرسى دعائمها صن يات-صن في مطلع القرن العشرين، ولا يزال الحافز الديموقراطي حاضرًا، حتى وإن بدا غامضًا، بين المثقفين والقطاعات الأخرى من السكان. ونحن لن نختلف مع من يروق لهم عقد الأمل في حدوث تحول سياسي ويقظة ديموقراطية بإيقاع أسرع في الصين.

ولكن الأمل غير الاعتقاد، وفي رأينا أن الصين ستتبع على الأرجح الضرورات اللازمة التي تفرضها ثقافتها وتاريخها، لقد تمت — في النهاية — إزاحة صن يات-صن، وإزاحة رجل عسكري قوي قطع على نفسه عهدًا بأن يستعيد النظام ويحافظ على الاستقرار، وارتفعت رايات الديموقراطية ثانية في ميدان تيان آن مين عام ١٩٨٩م، حيث كانت «الديموقراطية» شعارًا أكثر منها عقيدة، على الأقل بين صفوف المتظاهرين.

ويتمثل موقف الحكومة الراهنة من الديموقراطية في أنه سبق محاولة تجربتها، ولكنها فشلت. وتحدث إلينا لي لانكنج Li Lanqing نائب رئيس الوزراء، ودهشنا إذ قال في معرض الإشارة إلى الثورة الثقافية: «حاولنا في الستينيات تجربة ما يسمَّى «الديموقراطية الواسعة» big democracy، وهذا مثال لما يتعذر على الغربيين أن يعتبروه تجربة في الديموقراطية»، واستطرد قائلًا: «كان لدينا آنذاك مئات الآلاف من الأحزاب، على غير ما هو حادث في البلدان الأخرى، حيث يوجد بها فقط حزبان، وقاد هذا الصين إلى طريق الفوضى العارمة، كما خسرت الصين عشرين عامًا.» وعقب وانج ريوشوي Wang Ruoshui النائب السابق لرئيس تحرير «بيبولز ديلي» فقال: «إن أجهزة الدعاية تفرض الاقتتال بين الأعضاء داخل برلمان تايوان، أو تعرض صور الفلاحين الروس الفقراء وتقول للناس: هذه هي الديموقراطية، وأدَّى هذا إلى تضليل الناس بحيث باتوا يعتقدون أن الديموقراطية تعني الفوضى في الشوارع.»

إن منظومات الصين والغرب ستظل على مدى عقود عديدة قادمة أكثر إدراكًا للخلافات بينهما من إدراكها لأوجه التماثل، وإن التغير على مدى أجيال … سوف يحتاج إلى عدة أجيال. ولعل الأفضل أن نصل إلى فهمٍ واقعي لهذا بدلًا من أن نظل سادرين في الحلم الأمريكي عن الصين، التي ستتطور على صورتنا وشاكلتنا. إن الواقعية هي الأساس للحيلولة دون تصاعد عمليات سوء الفهم والتصورات الخاطئة والتوقعات الفاشلة، وجميعها لن تؤدي إلى شيء سوى تفاقم النزاع بين القوتين العالميتين العظميين مستقبلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤